بنت كربلاء المقدسة
10-09-2010, 05:40 PM
أبو غريب
"مالهذا الحصان الجميل يهرول في ذاكرتي؟ مابه هذا الثعلب، يقف إلى جانب فراشي، ويتأملني بعينيه الجميلتين. من هؤلاء الذين يهرولون حفاة داخل رأسي؟ "..
أخذ يردد هذه العبارات عشرات المرات يوميا لمن يصادفه من الأصدقاء والجيران. كان لم يمض على خروجه من السجن إلا عدة أيام. نظر أهل الحي إليه باستغراب.لم يفهم أحدهم تلك العبارات التي أخذ يرددها منذ ذلك اليوم. سئموا منه ولم يعد أحد يتحمله، أو يصغي إليه. لكنه ظل يردد باستمرار وبعناد عباراته عن الحصان الجميل، والثعلب ذي العينين الجميلتين، والحفاة الذي يهرولون داخل رأسه، تلك العبارات التي اجتاحت عقله، بعد خروجه من سجن أبو غريب الذي دخله شابا وسيما، وودعه وهو حطام إنسان لم يعد يهمه الزمان والمكان.
تحقيق
هبط غراب أسود ضخم على ذاكرته، وبدأ يلتهم فيها رسائله، وصور من أحبّ، وشوارع المدينة، ونوافذها، وشرفاتها، ومقاهيها، وأرصفتها، وسينماتها، ورسالة الحب الأولى التي تلقاها في حياته.
كان المحقق يقف أمامه كاللعنة ساخرا منه:
ـ ها أنت عار أمامنا كما ولدتك أمك.. فعلام الإنكار ياكلب!
حين سمع اسم أمه.. سقطت دمعتان من عينيه. ولم يعد يحس بالصفعات وهي تنزل على وجهه مثنى وثلاث ورباع.
المصور
كان معتادا أن يرى المصور الشمسي العجوز يوميا، جالسا إلى جانب آلته الخشبية التي تتدلى من نهايتها قماش أسود، يضع فيه رأسه، ليلتقط صورا لأناس مسرعين نحو الدوائر لإكمال معاملتهم الرسمية. لم يكن يرى شخصا يلتقط صورة شمسية إلا نادرا.
استغرب أن يجلس أمام هذه العدسة التي تبدو كعين مريضة، مصابة بالرمد. وأي تفاصيل تلتقطها من وجوه أناس منسيين مثلها؟ وهل بقيت ثمة دوائر رسمية، تقبل بالصور الشمسية؟..
كان المصور العجوز، يبدو واهنا وتعبا، كحصان عاجز ينتظر نهايته.
اللقلق
يعيش مع لقلق منسي في بيتهم، سقط من فوق منارة الجامع.لم يعد يستطع بعده أن يصفق بجناحيه، ويرتفع رويدا رويدا نحو السماء. أصبح رغم عنه طائرا ارضيا.
الطفل منذ أن وعي وهو يرى اللقلق الحزين في بيتهم مثل طائر داجن. في يوم ما صحا من نومه ولم يره بل رأى ريشه المنتوف على مسافة قريبة من باب البيت. كان ذلك إيذانا بنهاية اللقلق الحزين الذي انتظر التحليق والطيران دون جدوى.
انطلق الصغير نحو الباب الخارجي صارخا دون وعي: لصوص..حرامية!
زجره أبوه وهو يسحبه إلى الداخل صارخا في وجهه:
ـ أُدخل..قبل أن تنفجر قنبلة تأخذك، وتأخذنا معك إلى حيث ذهب اللقلق!
عزيزة
اسمها عزيزة، وهي عزيزة حقا من الرأس حتى أخمص القدمين. لم يكن يهم أن يكون بين ذراعيها، أو تكون هي بين ذراعيه. سيف وغمد، طائر شريد وعشه، ضوء باهر يدخل النفق المدلهم. كم شتما الصباح.. كم شتما الشمس لأنها كانت تنهي ليلتهما المترعة بالحب!.
كان يحب النهايات العاطفية العاصفة، المزمجرة كهدير البحر، كالموت في أحضان نهر أليف كنهر دجلة، بدلا من الاستسلام للتقاليد التي تصديء الروح.
كانا يواجهان أعداء الحب بالمزيد من الحب، والقبل الدافئة، وبإرسال اللعنات إلى ( سنسفيل) أجداد الذين يريدون اقتطاف زهرة الحب من بستان الحياة.
كان يؤمن بأن العشاق يجب أن يلتقوا كما في الأفلام المصرية ذات النهايات السعيدة؟
الأم
حينما عاد من عمله كانت أمه قد ماتت. ليلة أمس شهدا معا فيلما كوميديا وضحكا معا طويلا. مع تعالي إحساسه بالوحدة، أخذ يسمع أصوات وحديث الأشياء في البيت. سمع الصالون يشكو من قدم الأثاث، المطبخ يقول دون توقف وباستمرار: متى تنظفونني.. متى؟.. الكلب يعوى وهو يقول: أنا أيضا أشيخٌ مثلكم. التلفزيون يقول متبرما: دعوني استريح يوما أو يومين..حرام عليكم. الشباك يقول بصوت سعيد: ما أجمل الشارع والأطفال. بل سمع حتى حديث الكرسي للمنضدة: لن يستطيع أحد تعكير صفونا.
دخل الغرفة للنوم فسمع صوت أمه وهي تقول له:
ـ لقد عدت مبكرا اليوم ياولدي!
الضابط
أعتاد في الحي أن تقابله نفس الوجوه بتأفف، وأن يردوا سلامه بفتور ولامبالاة، لم يكن يهتم كثيرا لأنه كان يؤمن بأنه رجل بلا أهمية، فلا هو غني، ولاهو صاحب منصب كبير.
في هذا المساء رجع إلى البيت بعد أن عب عدة كؤوس من الخمر.عاد وهو يردد أغان بغداديه منسية. لم يجد أحدا في البيت. جلس كتمثال بوذي أمام التلفزيون فلم ير مايزيد من نشوته من أغان تؤديها مغنيات بملابس تكشف أكثر مما تستر.
وقعت عيناه على البدلة العسكرية لأخيه عقيد ركن في الجيش، دون تردد وجد نفسه يرتديها.
أوقف سيارة تاكسي سرعان ماوقفت من أول إشارة. جلس في المعقد الخلفي، وطلب من السائق إيصاله إلى مركز المدينة. سمع السائق يقول له باحترام شديد:
ـ تحت أمرك سيدي.
في السوق وجد جنودا يؤدون له التحية العسكرية، ووجد نفسه يرد على تحيتهم كأي عسكري معتاد على هذه الطقوس.
قابله بائع الخضروات بتبجيل، وكذلك الجزار، وزبائن المقهى الذين ردوا على تحيته بصوت واحد:
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. الله بالخير مولانا، الله بالخير..الله بالخير!
وضع النادل قدح الشاي أمامه وهو يشير إلى إحدى الطاولات: انه من الجماعة ياسيدي!
حتى حينما دخل محل بائع الخمور. غاب صاحبه لبرهة داخل المخزن، ثم عاد وهو يقول:
ـ سيدي هذه أفخر أنواع الويسكي لا أبيعها إلا للخاصة من الزبائن.
عاد إلى البيت تعبا، ثم ارتمى على فراشه بملابسه العسكرية التي تحمل رتبة عقيد ركن.
"مالهذا الحصان الجميل يهرول في ذاكرتي؟ مابه هذا الثعلب، يقف إلى جانب فراشي، ويتأملني بعينيه الجميلتين. من هؤلاء الذين يهرولون حفاة داخل رأسي؟ "..
أخذ يردد هذه العبارات عشرات المرات يوميا لمن يصادفه من الأصدقاء والجيران. كان لم يمض على خروجه من السجن إلا عدة أيام. نظر أهل الحي إليه باستغراب.لم يفهم أحدهم تلك العبارات التي أخذ يرددها منذ ذلك اليوم. سئموا منه ولم يعد أحد يتحمله، أو يصغي إليه. لكنه ظل يردد باستمرار وبعناد عباراته عن الحصان الجميل، والثعلب ذي العينين الجميلتين، والحفاة الذي يهرولون داخل رأسه، تلك العبارات التي اجتاحت عقله، بعد خروجه من سجن أبو غريب الذي دخله شابا وسيما، وودعه وهو حطام إنسان لم يعد يهمه الزمان والمكان.
تحقيق
هبط غراب أسود ضخم على ذاكرته، وبدأ يلتهم فيها رسائله، وصور من أحبّ، وشوارع المدينة، ونوافذها، وشرفاتها، ومقاهيها، وأرصفتها، وسينماتها، ورسالة الحب الأولى التي تلقاها في حياته.
كان المحقق يقف أمامه كاللعنة ساخرا منه:
ـ ها أنت عار أمامنا كما ولدتك أمك.. فعلام الإنكار ياكلب!
حين سمع اسم أمه.. سقطت دمعتان من عينيه. ولم يعد يحس بالصفعات وهي تنزل على وجهه مثنى وثلاث ورباع.
المصور
كان معتادا أن يرى المصور الشمسي العجوز يوميا، جالسا إلى جانب آلته الخشبية التي تتدلى من نهايتها قماش أسود، يضع فيه رأسه، ليلتقط صورا لأناس مسرعين نحو الدوائر لإكمال معاملتهم الرسمية. لم يكن يرى شخصا يلتقط صورة شمسية إلا نادرا.
استغرب أن يجلس أمام هذه العدسة التي تبدو كعين مريضة، مصابة بالرمد. وأي تفاصيل تلتقطها من وجوه أناس منسيين مثلها؟ وهل بقيت ثمة دوائر رسمية، تقبل بالصور الشمسية؟..
كان المصور العجوز، يبدو واهنا وتعبا، كحصان عاجز ينتظر نهايته.
اللقلق
يعيش مع لقلق منسي في بيتهم، سقط من فوق منارة الجامع.لم يعد يستطع بعده أن يصفق بجناحيه، ويرتفع رويدا رويدا نحو السماء. أصبح رغم عنه طائرا ارضيا.
الطفل منذ أن وعي وهو يرى اللقلق الحزين في بيتهم مثل طائر داجن. في يوم ما صحا من نومه ولم يره بل رأى ريشه المنتوف على مسافة قريبة من باب البيت. كان ذلك إيذانا بنهاية اللقلق الحزين الذي انتظر التحليق والطيران دون جدوى.
انطلق الصغير نحو الباب الخارجي صارخا دون وعي: لصوص..حرامية!
زجره أبوه وهو يسحبه إلى الداخل صارخا في وجهه:
ـ أُدخل..قبل أن تنفجر قنبلة تأخذك، وتأخذنا معك إلى حيث ذهب اللقلق!
عزيزة
اسمها عزيزة، وهي عزيزة حقا من الرأس حتى أخمص القدمين. لم يكن يهم أن يكون بين ذراعيها، أو تكون هي بين ذراعيه. سيف وغمد، طائر شريد وعشه، ضوء باهر يدخل النفق المدلهم. كم شتما الصباح.. كم شتما الشمس لأنها كانت تنهي ليلتهما المترعة بالحب!.
كان يحب النهايات العاطفية العاصفة، المزمجرة كهدير البحر، كالموت في أحضان نهر أليف كنهر دجلة، بدلا من الاستسلام للتقاليد التي تصديء الروح.
كانا يواجهان أعداء الحب بالمزيد من الحب، والقبل الدافئة، وبإرسال اللعنات إلى ( سنسفيل) أجداد الذين يريدون اقتطاف زهرة الحب من بستان الحياة.
كان يؤمن بأن العشاق يجب أن يلتقوا كما في الأفلام المصرية ذات النهايات السعيدة؟
الأم
حينما عاد من عمله كانت أمه قد ماتت. ليلة أمس شهدا معا فيلما كوميديا وضحكا معا طويلا. مع تعالي إحساسه بالوحدة، أخذ يسمع أصوات وحديث الأشياء في البيت. سمع الصالون يشكو من قدم الأثاث، المطبخ يقول دون توقف وباستمرار: متى تنظفونني.. متى؟.. الكلب يعوى وهو يقول: أنا أيضا أشيخٌ مثلكم. التلفزيون يقول متبرما: دعوني استريح يوما أو يومين..حرام عليكم. الشباك يقول بصوت سعيد: ما أجمل الشارع والأطفال. بل سمع حتى حديث الكرسي للمنضدة: لن يستطيع أحد تعكير صفونا.
دخل الغرفة للنوم فسمع صوت أمه وهي تقول له:
ـ لقد عدت مبكرا اليوم ياولدي!
الضابط
أعتاد في الحي أن تقابله نفس الوجوه بتأفف، وأن يردوا سلامه بفتور ولامبالاة، لم يكن يهتم كثيرا لأنه كان يؤمن بأنه رجل بلا أهمية، فلا هو غني، ولاهو صاحب منصب كبير.
في هذا المساء رجع إلى البيت بعد أن عب عدة كؤوس من الخمر.عاد وهو يردد أغان بغداديه منسية. لم يجد أحدا في البيت. جلس كتمثال بوذي أمام التلفزيون فلم ير مايزيد من نشوته من أغان تؤديها مغنيات بملابس تكشف أكثر مما تستر.
وقعت عيناه على البدلة العسكرية لأخيه عقيد ركن في الجيش، دون تردد وجد نفسه يرتديها.
أوقف سيارة تاكسي سرعان ماوقفت من أول إشارة. جلس في المعقد الخلفي، وطلب من السائق إيصاله إلى مركز المدينة. سمع السائق يقول له باحترام شديد:
ـ تحت أمرك سيدي.
في السوق وجد جنودا يؤدون له التحية العسكرية، ووجد نفسه يرد على تحيتهم كأي عسكري معتاد على هذه الطقوس.
قابله بائع الخضروات بتبجيل، وكذلك الجزار، وزبائن المقهى الذين ردوا على تحيته بصوت واحد:
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. الله بالخير مولانا، الله بالخير..الله بالخير!
وضع النادل قدح الشاي أمامه وهو يشير إلى إحدى الطاولات: انه من الجماعة ياسيدي!
حتى حينما دخل محل بائع الخمور. غاب صاحبه لبرهة داخل المخزن، ثم عاد وهو يقول:
ـ سيدي هذه أفخر أنواع الويسكي لا أبيعها إلا للخاصة من الزبائن.
عاد إلى البيت تعبا، ثم ارتمى على فراشه بملابسه العسكرية التي تحمل رتبة عقيد ركن.