ramialsaiad
18-11-2010, 05:42 PM
حديث الطير في فضيله من فضائل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام
يقول الترمذي في صحيحه(1) عن أنس بن مالك: كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».
(1) صحيح الترمذي 5 / 595 باب مناقب علي بن أبي طالب.
رواة حديث الطير وأسانيده
نبدأ بأسماء الصحابة الذين وصلتنا رواياتهم لهذا الحديث الشريف وهم:
أولاً:
علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويوجد حديثه عند ابن عساكر(1) ، وغيره من كبار المحدّثين، وأشار إليه الحاكم النيسابوري في المستدرك(2) .
ثانياً:
سعد بن أبي وقّاص، وحديثه يوجد في حلية الاولياء(3) لابي نعيم الاصفهاني.
____________
(1) ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2/106 رقم 613 ـ مؤسسة المحمودي ـ دار التعارف ـ بيروت.
(2) المستدرك 3/130 ـ 131.
(3) حلية الاولياء 4 / 356.
ثالثاً:
أبو سعيد الخدري، وحديثه يوجد في تاريخ ابن كثير(1) ، وغيره، وأشار إليه الحاكم في المستدرك(2) .
رابعاً:
أبو رافع، وحديثه يوجد عند ابن كثير(3) .
خامساً:
أبو الطفيل، وأخرج حديثه ابن عقدة، والحاكم النيسابوري(4) ، وغيرهما.
سادساً:
جابر بن عبدالله الانصاري، ويوجد حديثه عند ابن عساكر، وابن كثير(5) .
سابعاً:
حبشي بن جنادة، ويوجد حديثه عند ابن كثير(6) .
ثامناً:
يعلى بن مرّة، ويوجد حديثه عند الخطيب البغدادي، وابن كثير(7) .
تاسعاً:
عبدالله بن عباس، وحديثه عند الطبراني(8) .
____________
(1) البداية والنهاية 7 / 354.
(2) المستدرك 3/131.
(3) البداية والنهاية 7 / 354.
(4) أنظر: كفاية الطالب للحافظ الكنجي: 368.
(5) ترجمة الامام علي (عليه السلام) لابن عساكر 2/105 رقم 612.
(6) البداية والنهاية 7 / 354.
(7) تاريخ بغداد 11/376 ـ دار الكتب العربي ـ بيروت.
(8) المعجم الكبير 10/343 رقم 10667.
عاشراً:
سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوجد حديثه عند أبي يعلى الموصلي(1) ، وأشار إليه الحاكم النيسابوري(2) .
الحادي عشر:
عمرو بن العاص، ويوجد حديثه في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان، روى ذلك الكتاب الخطيب الخوارزمي في كتاب المناقب(3) .
الثاني عشر:
أنس بن مالك، وهو المشهور برواية هذا الحديث، لانّه صاحب القصّة.
وهذا الحديث الشريف وارد من طرق أصحابنا، عن الائمّة الاطهار (عليهم السلام)، وعن بعض الاصحاب، حتّى أنّ أبا الشيخ الحافظ الاصفهاني روى هذا الحديث عن الامامين الباقر والصادق (عليهما السلام) في كتابه، وهو من كبار حفّاظ أهل السنّة.
فهؤلاء رواة هذا الحديث من الصحابة.
وأمّا رواته من التابعين، فإنّ التابعين الرواة لهذا الحديث عن أنس بن مالك فقط يبلغون حدود التسعين رجلاً.
ورواه من أئمّة المذاهب:
1 ـ أبو حنيفة.
2 ـ أحمد بن حنبل.
3 ـ مالك بن أنس.
4 ـ الامام الاوزاعي، ذلك الفقيه الكبير الذي كان يعدّ مذهبه مذهباً مستقلاً من بين المذاهب، إلى أن حصروا المذاهب في الاربعة المشهورة.
ومن رواته جماعة كبيرة من مشايخ البخاري ومسلم.
وكثير من رواته من رجال الصحاح الستّة عند أهل السنّة.
ولنذكر أسماء أشهر مشاهير رواة هذا الحديث من أئمّة الحديث وكبار الحفّاظ في القرون المختلفة:
1 ـ شعبة بن الحجّاج، أمير المؤمنين في الحديث، كما يلقّبونه.
2 ـ الاوزاعي، الامام المعروف.
3 ـ مالك بن أنس، إمام المذهب.
4 ـ أبو حنيفة، صاحب المذهب.
5 ـ أحمد بن حنبل، صاحب المذهب.
6 ـ أبو عاصم النبيل، شيخ البخاري.
7 ـ أحمد بن حنبل.
8 ـ عبد الرزاق الصنعاني، شيخ البخاري.
9 ـ البخاري نفسه، يروي هذا الحديث، لكن لا في صحيحه، بل في تاريخه الكبير، وسنذكر نصّ حديثه فيما بعد.
10 ـ البلاذري، صاحب أنساب الاشراف.
11 ـ أبو حاتم الرازي، الذي هو من أقران البخاري ومسلم.
12 ـ الترمذي، صاحب الصحيح.
13 ـ أبو بكر البزّار، صاحب المسند.
14 ـ النسائي، صاحب الصحيح.
15 ـ أبو يعلى الموصلي، صاحب المسند.
16 ـ محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين.
17 ـ ابن أبي حاتم، صاحب التفسير، والمحدّث الكبير الذي يعدّونه من الابدال.
18 ـ ابن عبد ربّه، في العقد الفريد.
19 ـ أبو الحسين المحاملي، صاحب الامالي.
20 ـ أبو العباس ابن عُقدة، له كتاب في حديث الطير.
21 ـ المسعودي المؤرخ، صاحب مروج الذهب.
22 ـ أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.
23 ـ أبو الشيخ الاصفهاني، صاحب كتاب طبقات المحدّثين بإصفهان.
24 ـ ابن السقا الواسطي، هذا الحافظ الكبير من علماء القرن الرابع، سنذكر قصّته في حديث الطير.
25 ـ أبو حفص ابن شاهين، له كتاب في حديث الطير.
26 ـ أبو الحسن الدارقطني، صاحب كتاب العلل.
27 ـ أبو عبدالله الحاكم النيشابوري، صاحب المستدرك، وله كتاب بطرق حديث الطير.
28 ـ أبو بكر ابن مردويه، له كتاب في طرق حديث الطير.
29 ـ أبو نعيم الاصفهاني، صاحب حلية الاولياء وغيره من الكتب، له كتاب في طرق حديث الطير.
30 ـ أبو طاهر ابن حمدان الخراساني، المحدّث الكبير، له كتاب في طرق حديث الطير.
31 ـ أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبرى.
32 ـ ابن عبد البر، صاحب الاستيعاب.
33 ـ الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.
34 ـ محي السنّة البغوي، صاحب مصابيح السنّة.
35 ـ رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصحاح الستّة.
36 ـ أبو القاسم ابن عساكر، صاحب تاريخ دمشق.
37 ـ ابن الاثير الجزري، صاحب جامع الاُصول.
38 ـ وأيضاً أخوه ابن الاثير الاخر، صاحب أُسد الغابة.
39 ـ الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.
40 ـ أبو الحجّاج المزّي، صاحب تهذيب الكمال وكتاب تحفة الاشراف.
41 ـ شمس الدين الذهبي، صاحب المؤلفات المعروفة المشهورة.
42 ـ ابن كثير الدمشقي، صاحب التفسير والتاريخ.
43 ـ أبو بكر الهيثمي، صاحب مجمع الزوائد.
44 ـ شمس الدين ابن الجزري، صاحب المؤلفات.
45 ـ ابن حجر العسقلاني، صاحب المؤلفات، شيخ الاسلام، والفقيه المحدث الرجالي المعروف.
46 ـ جلال الدين السيوطي، أيضاً صاحب المؤلفات المشهورة.
47 ـ ابن حجر المكي، صاحب الصواعق.
48 ـ شاه ولي الله الدهلوي، محدّث الهند.
وكما عرفتم في خلال ذكر أسماء الرواة هؤلاء: إنّ جماعة من الاعلام ومن كبار المحدّثين ألّفوا كتباً خاصة تتعلّق بطرق حديث
الطير، وهؤلاء هم:
1 ـ الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.
2 ـ ابن عقدة.
3 ـ الحاكم النيسابوري.
4 ـ ابن مردويه.
5 ـ أبو نعيم.
6 ـ أبو طاهر ابن حمدان.
7 ـ الذهبي نفسه يذكر في كتابه تذكرة الحفّاظ بترجمة الحاكم النيسابوري: أنّ له كتاباً ـ أي الذهبي نفسه ـ في طرق حديث الطير(1) .
فهؤلاء رواة هذا الحديث بنحو الاجمال من الصحابة، وأشرنا إلى أنّ عدد التابعين الرواة لهذا الحديث من أنس بن مالك وحده يبلغون حدود التسعين رجلاً، وذكرنا أشهر مشاهير علماء الحديث في القرون المختلفة الرواة لحديث الطير، وذكرنا من ألّف في خصوص حديث الطير كتاباً.
وحديث الطير موجود في عدّة من الصحاح، كصحيح الترمذي، وصحيح النسائي، وصحيح ابن حبّان، وأيضاً موجود في المختارة للضياء المقدسي، وفي المستدرك للحاكم، وفي الجمع بين الصحيحين، وفي الجمع بين الصحاح.
كما أنّ لهذا الحديث أسانيد صحيحة هي أكثر من عشرين سند موجودة في خارج الصحاح.
ولا أظن أنّ من يقف على هذه الاسامي، وهذه الاسانيد، يشك في صدور هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الحديث المتفق عليه بين المسلمين، وحينئذ ننتقل إلى الجهة الثانية.
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 3/1042 ـ 1043 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
دلالة حديث الطير على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)
إنّ حديث الطير يدلّ على إمامة أمير المؤمنين بالقطع واليقين، وذلك، لانّ القضيّة التي تتعلّق بحديث الطير، هذه القضية قد أسفرت عن كون علي (عليه السلام) أحبّ الناس إلى الله وإلى الرسول، فكأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتهز فرصة إهداء طير إليه ليأكله، انتهز هذه الفرصة للاعلان عن مقام أمير المؤمنين وعن شأنه عند الله والرسول، هذا الشأن الذي سنرى أنّ عائشة تمنّت أن يكون لابيها، وحفصة تمنّت لان يكون لابيها، وأنس بن مالك ـ صاحب القصّة ـ حال دون أن تكون هذه المرتبة وأن يكون هذا الشأن والمقام لامير المؤمنين، زاعماً أنّه أراد أن يكون لاحد من الانصار، وربّما سعد ابن عبادة بالخصوص، بل سنقرأ في بعض ألفاظ هذا الحديث أنّ الشيخين، وفي سند أنّ عثمان أيضاً، جاؤوا إلى الباب ولم يتشرّفوا
يقول الترمذي في صحيحه(1) عن أنس بن مالك: كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».
هذا لفظ الحديث بهذا المقدار في صحيح الترمذي، فلا يذكر فيه دور أنس في القضيّة هذه كما سنقرأ، ولا يذكر مجيء غير علي ورجوعه من باب رسول الله.
وجاء في كتاب مناقب علي لاحمد بن حنبل(2) ما نصّه: عن سفينة خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي هو أحد رواة هذا الحديث يقول: أهدت امرأة من الانصار إلى رسول الله طيرين بين رغيفين، فقدّمت إليه الطيرين، فقال (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، ورفع صوته، فقال رسول الله: «من هذا ؟» فقال: علي.
____________
(1) صحيح الترمذي 5 / 595 باب مناقب علي بن أبي طالب.
(2) فضائل الامام علي (عليه السلام) لابن حنبل: 42 رقم 68، تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي.
لاحظوا نصّ الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل، وقارنوا بينه وبين رواية الاخرين.
ولكم أن تقولوا: لعلّ الاخرين تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة «ورفع صوته» فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، إنّ معنى «رفع صوته» أنّه عندما كان يدعو كان يدعو بصوت عال، لنفرض أنّ هذا معنى الحديث إلى هنا «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته» لكن الحقيقة إنّ لفظ أحمد محرّف، لانّا سنقرأ في بعض الالفاظ: إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الاُولى فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول، وفي المرّة الثانية كذلك، في المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته فقال رسول الله: من هذا ؟
فمن هنا يظهر معنى «ورفع صوته» ويتبيّن التحريف، وإلاّ فأيّ علاقة بين قوله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، وقوله: فقال رسول الله من هذا ؟ فقال: علي، أي: قال سفينة: الذي خلف الباب هو علي، قال: افتح له، ففتحت، فأكل مع رسول الله من الطيرين حتّى فنيا.
فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً، والتلاعب في هذا اللفظ باد بكلّ وضوح.
أمّا الهيثمي صاحب مجمع الزوائد، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي(1) :
عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً [ يقتضي أنْ يكون: فقُدّم فرخ مشويّ، أو فقدّم رسول الله فرخاً مشويّاً ] فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ» فجاء علي ودقّ الباب، فقال أنس: من هذا ؟ قال: علي، فقلت ـ أي أنس ـ يقول: النبي على حاجة، وفي بعض الالفاظ: النبي مشغول، أي لا مجال للدخول عليه، والحال أنّ النبيّ كان مازال يدعو: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، قال: النبي على حاجة، فانصرف علي. عاد رسول الله مرّة أُخرى يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ»، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «يا أنس من هذا ؟» قال: علي، قال: «أدخله»، فدخل فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لقد سألت الله ثلاثاً أنْ يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ»، فقال علي: وأنا يا رسول الله، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس، فقال رسول الله: «يا أنس، ما حملك على ما صنعت ؟» قال: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي، فقال رسول الله: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».
____________
(1) مجمع الزوائد 9/125 ـ دار الكتب العربي ـ بيروت ـ 1402 هـ.
في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلاً: رسول الله على حاجة، في المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً.
وفي بعض الالفاظ: رفع صوته فسمع رسول الله صوت علي وقال لانس: «إفتح الباب ليدخل علي»، ثمّ اعترض عليه رسول الله، أي على أنس، واعتذر أنس كما في الخبر: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي.
لكن الحديث في مسند أبي يعلى كما يلي: حدّثنا قطن بن نسير، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عبدالله بن مثنّى، حدّثنا عبدالله بن أنس عن أنس قال: أُهدي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجل مشويّ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام»، فقالت عائشة: اللهمّ اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي، قال أنس: فقلت أنا: اللهمّ اجعله سعد بن عبادة، قال أنس: سمعت حركة الباب، فإذا علي، فسلّم، فقلت: إنّ
رسول الله على حاجة، فانصرف، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي، فسمع رسول الله صوته، أي رفع علي صوته [ أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف ]فسمع رسول الله صوته فقال: «أُنظر من هذا ؟» فخرجت، فإذا علي، فجئت إلى رسول الله فأخبرته، فقال: «ائذن له»، فأذنت له، فدخل، فقال رسول الله: «اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ».
هذا لفظ أبي يعلى.
ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي، ثمّ لفظ الترمذي، ولفظ أحمد بن حنبل.
أمّا في الخصائص للنسائي(1) [ الذي نصّ الحافظ الذهبي على أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن، راجعوا سير أعلام النبلاء(2) وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ] فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح، مضافاً إلى أنّ كتابه داخل في السنن الكبرى للنسائي الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين:
عن أنس بن مالك: إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان عنده طائر، فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له.
____________
(1) الخصائص للنسائي: 29 رقم 10 ـ مكتبة المعلا ـ الكويت ـ 1406 هـ.
(2) سير أعلام النبلاء 14/133 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1404 هـ.
وفي مسند أبي يعلى بنفس السند، ترون مجيء الشيخين ومجيء عثمان أيضاً، قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له(1) .
لاحظوا الفوارق بين الالفاظ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّى تلتفتوا إلى أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم، كيف يتلاعبون باللفظ، وكيف ينقصون من القصة، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحر المنصف في تحقيقه عن سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي فحصه عن القول الحق من بين الاقوال.
(1) مسند أبي يعلى 7/105 رقم 4052 ـ دار المأمون للتراث ـ دمشق ـ 1406 هـ.
أقول:
سند النسائي كما أكّدت سند صحيح، وهو نفس السند في مسند أبي يعلى، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الاخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلى، يحاول أنْ يناقش في هذا السند، ونحن نرحّب بالمناقشة، وأيّ مانع لو كانت المناقشة مناقشة علميّة، على كلّ منصف أن يسلّم، وأيّ مانع لو كانت المناقشة واردة، وحينئذ لرفعنا اليد عن هذا الحديث وتمسّكنا بغيره من الالفاظ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الاحاديث، وأيّ مانع ؟ لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان، واضحة التعصّب !!
يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند، وهو السُدي، والسُدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن، ربّما يناقش فيه بعض، لكنّه من رجال مسلم، من رجال الترمذي، من رجال النسائي، من رجال أبي داود، ومن رجال ابن ماجة.
ويقول أحمد بترجمته: ثقة.
ويقول غيره من كبار الرجاليين: ثقة.
حتّى أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول: هو مستقيم الحديث صدوق، بل إنّه من مشايخ شعبة.
وقد ذكرنا أنّ شعبة أمير المؤمنين عندهم، وهو لا يروي إلاّ عن ثقة هكذا يقولون، يقولون شعبة بن الحجّاج لا يروي إلاّ عن ثقة، وممّن يعترف بهذا المعنى أو يدّعي هذا المعنى هو ابن تيميّة، وينقل السبكي كلامه في كتابه شفاء الاسقام(1) .
فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة، ويوثّقه أحمد، ويوثّقه العجلي، ويوثّقه ابن عدي، ويوثّقه الاخرون من كبار الرجاليين(2) ، فأيّ مناقشة تبقى في السُدي ليطعن الطاعن عن هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ على فضيلة لامير المؤمنين، يدلّ على ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين ؟
وهناك قرائن داخل الحديث وقرائن في خارج الحديث لا نحتاج إلى ذكرها كلّها، بل نكتفي بالاشارة إلى بعض القرائن الداخليّة وبعض القرائن الخارجيّة فقط.
في بعض ألفاظ هذا الحديث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك»، وهذه الاضافة موجودة في بعض الالفاظ.
وفي بعض الالفاظ: «اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الاوّلين والاخرين».
وربّما يدلّ هذا الحديث بهذا اللفظ على أفضليّة أمير المؤمنين من الاوّلين والاخرين، أمّا الاخرون فالامر فيهم سهل. أمّا الاوّلون فإنّه يشمل الانبياء أيضاً، يشمل حتّى أُولي العزم منهم، ويكون هذا الحديث بهذا اللفظ من أدلّتنا على أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الانبياء إلاّ النبي والرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس: فإذا علي ـ أي فتحت الباب فإذا علي ـ فلمّا رأيته حسدته.
وفي بعض ألفاظ الحديث: فلمّا نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام قائماً فضمّه إليه وقال: «يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ، ما أبطأ بك ياعلي ؟».
وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات: «ما أبطأ بك يا علي ؟» قال: يا رسول الله قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس، قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول الله، وقال: «يا أنس ما حملك على ردّه ؟» قلت: يا رسول الله سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الانصار.
وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول الله !! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر، حتى أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا اعتذر هذا العذر قال: لست بأوّل رجل أحبّ قومه !!
____________
(1) شفاء الاسقام في زيارة خير الانام: 10.
(2) تهذيب التهذيب 1 / 313.
وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام من رسول الله مفتعل عليه في حديث الطير: «لا يلام الرجل على حبّ قومه» أو «لست بأوّل رجل أحبّ قومه»، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين.
لكنْ لو سألتم بأيّ دليل تعتقد ؟
ليس عندي الان دليل، وإنّما أقول: كيف غضب رسول الله ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي ؟ بل يعتذر له رسول الله مرّةً أُخرى، ويبدي له عذراً !! ألم يكن يعلم رسول الله بهذا: لا يلام الرجل على حبّ قومه ؟ فلماذا غضب عليه إذن ؟ بل قاله له رسول الله وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد، كما في هذا الحديث: «لست بأوّل رجل أحبّ قومه، أبى الله يا أنس إلاّ أنْ يكون ابن أبي طالب».
وهذه قرائن داخليّة في الالفاظ، ولو أردت أن أُعيد عليكم الالفاظ بكاملها من أوّلها إلى آخرها لطال بنا المجلس، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها ـ كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث ـ هذه القرائن انتخبتها واستخرجتها بهذا الشكل.
مضافاً: إلى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجّ بحديث الطير في يوم الشورى.
ولماذا احتجّ ؟ وعلى من احتجّ ؟
احتجّ على كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر، لانْ يستشيروا فيما بينهم، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد.
إذن، احتجّ علي على هؤلاء، ومن المحتج ؟ علي أمير المؤمنين، وهل يحتج علي بما ليس له أصل ؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع ؟ فالمحتج علي، والمحتج عليه أُولئك الاصحاب المنتخبون من قبل عمر لان يعيَّن من بينهم خليفة عمر، واحتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير.
وأيضاً: سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي، فأبى سعد من أن يسب، وسأله معاوية عن السبب، فاعتذر بأنّه سمع من رسول الله خلالاً أو خصالاً لعلي، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً، هذا الحديث الذي قرأناه من قبل، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت لكم في ذلك المجلس.
في بعض ألفاظ هذا الحديث: إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال، فذكر الخصال ومنها حديث الطير، الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي: حديث الراية، وحديث الطير، وحديث الغدير، وهذه الرواية موجودة في حلية الاولياء لابي نعيم، ومن شاء فليراجع(1) .
هذا، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى الله وإلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره، تلك القرائن كثيرة لا تحصى، والله يشهد على ما أقول، وأنتم أيضاً تعلمون، فلا نطيل المجلس بذكر تلك الشواهد.
بل في الاحاديث التي بحثنا عنها، والايات التي درسناها فيما سبق، والتي سنذكرها فيما سيأتي، كفاية لان تكون شواهد لهذا الحديث.
وما معنى الاحبيّة إلى الله وإلى الرسول ؟ وأيّ علاقة بين الاحبيّة وبين الامامة والولاية ؟ أي إرتباط بين الامرين ؟
أتتصوّرون أنْ تكون الاحبيّة إلى الله وإلى الرسول، أن يكون الشيء أحب الاشياء إلى الله والرسول، أو يكون شخص الاحب إلى الله وإلى الرسول، أن تكون الاحبيّة اعتباطيّة ليس لها معيار، ليس لها ملاك، ليس لها ضابط، أيمكن هذا ؟ أتتصوّرون هذا ؟ أتحتملون هذا ؟ وأنتم بأنفسكم، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، وجعله أحبّ الاشياء إلى نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ
____________
(1) حلية الاولياء 4 / 356.
الناس إلى نفسه، يُسأل لماذا ؟ ولابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالاحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً، الانسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحب كلّ شيء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحب فكيف الاحبيّة ؟ أن يكون شيء أحبّ الاشياء إلى الانسان من كلّ الاشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الاشخاص إلى الانسان من كلّ أفراد الانسان وبني آدم، ويكون هذا بلا حساب وبلا سبب من الاسباب ؟ أيمكن هذا ويعقل ؟
نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلاّ لعلّة، إلاّ لحساب، إلاّ لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب، لا يكون عندك جواب معقول.
الله سبحانه وتعالى يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه أحبّ الخلائق إلى نفسه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أترى يكون هذا بلا حساب وهل يعقل ؟
فأحبيّة شخص إلى رسول الله لا يمكن أن تكون لميل نفساني ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول الله، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الاخر والاخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه أقرب الناس، تلك الضوابط لابدّ وأن تكون هكذا، وإلاّ فليس بنبي مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، يفعل ويترك وما يفعل وما يترك إلاّ عن وحي من الله سبحانه وتعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(1) .
(1) سورة النجم: 3 ـ 4.
الحسد لامير المؤمنين (عليه السلام)
ومن فوائد حديث الطير أنّه كان هناك بين أصحاب رسول الله حتّى المقرّبين منهم، من كان في قلبه حسد بالنسبة لامير المؤمنين (عليه السلام)، وأنس بن مالك خادم رسول الله يكذب، لا مرّةً ولا مرّتين، يكذب مرّات لاجل الحسد الذي في قلبه على علي أمير المؤمنين، لكن أنساً كشف عن واقع حاله أكثر فأكثر، عندما ناشده أمير المؤمنين (عليه السلام) بحديث الغدير فأبى أن يشهد، وكتم الشهادة، وكتمان الشهادة ذنب كبير من كبائر المعاصي، حتّى أنّ أمير المؤمنين دعا عليه، وابتلي بالبرص.
إنّه لابدّ أنْ نعرف حقائق الاشخاص من خلال السنّة النبويّة، قبل أن نقرأ تراجمهم وأحوالهم في كتب التراجم، ففي السنّة وفي الاحاديث الواردة في المصادر المعتبرة ما يستكشف به حقائق حالات الاشخاص أكثر بكثير، وهذا ممّا لا يخفى على المتضلّعين بمثل هذه البحوث.
محاولات القوم في ردّ حديث الطير
فننتقل الان إلى محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله، وفي المنع عن نقله وانتشاره وما صنعوا.
تتلخّص محاولاتهم في وجوه:
الاول: المناقشة في سند الحديث
فإذا راجعتم كتاب العلل المتناهية في الاحاديث الواهية لابي الفرج ابن الجوزي، تجدونه يذكر هذا الحديث بسند أو ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الاسانيد الاُخرى(1) .
لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ
____________
(1) العلل المتناهية 1/228 من رقم 360 ـ 377.
معروف بالتسرّع بالحكم، لا بالتضعيف فقط بل حتّى الحكم بالوضع، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث موجودة في الصحاح، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلى التحذير من الاعتماد على حكم ابن الجوزي، في أي حديث من الاحاديث، وأنّه لابدّ من التثبّت.
والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات، راجعوا كتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري(1) وبعض الكتب الاُخرى، ينسب إلى ابن الجوزي أنّه حكم على هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات.
والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات، نعم، موجود في كتاب العلل المتناهية، لكنّه ببعض أسناده، وإنّما يتكلّم على بعض رجال هذا الحديث في بعض الاسانيد ـ ونحن لا ندّعي أنّ كلّ أسانيده صحيحة ـ ويسكت عن البعض الاخر.
ويأتي من بعده ابن كثير، فيذكر في تاريخه(2) حديث الطير، ويرويه عن عدّة من الائمّة الاعلام، يرويه عن الترمذي،
____________
(1) مرقاة المفاتيح 10/465 رقم 6094 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1414 هـ.
(2) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء السابع: 350 ـ دارالفكر ـ بيروت.
و عن أبي يعلى، وعن الحاكم، وعن الخطيب البغدادي، وعن ابن عساكر، وعن الذهبي، وعن غيرهم، إلى أنْ قال:
وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم: أبو بكر ابن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبدالله الذهبي يقول: ورأيت مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لابي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ، ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم.
ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلاً: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.
أقول:
فدليل ابن كثير على ضعف هذا الحديث أنّ قلبه لا يساعد، قلب ابن كثير لا يساعد على قبول هذا الحديث، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد على قبول القرآن والاسلام، فليكنْ، وأيّ مانع ؟ قلبه لا يساعد، لا يقول: إنّه موضوع، لا يقول: إنّه حديث مكذوب، لا يقول: في سنده كذا وكذا، لا يقول: الراوي ضعيف لقول فلان، لنصّ فلان على ضعفه، وأمثال ذلك، فإنّها مناقشات علميّة تسمع، إنّها مناقشات علميّة قابلة للبحث، قابلة للنظر، وأيّ مانع ! يقول: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.
الرجوع إلى القلب من جملة أساليبهم في ردّ بعض الاحاديث، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط، وإلاّ لطال بنا المجلس.
عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الاشكال، يلجأون إلى القَسَم أحياناً، كقولهم: والله إنّه موضوع، وأيّ دليل أقوى من هذا ؟! أوْ يلتجئون إلى قلوبهم: والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط.
في مستدرك الحاكم حديث عن علي (عليه السلام): أخبرني رسول الله: «إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين»، قلت: يا رسول الله فمحبّونا ؟ قال: «من ورائكم». يقول الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه(1) .
هذا حديث الحاكم، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته، نحن المحبّون لاهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت، هم يدخلون ونحن وراءهم، لانّنا نحبّ أهل البيت، وهذا لا يمكن لاحد إنكاره.
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/151 وذيل الصفحة.
فيقول الذهبي في تلخيصه للمستدرك في ذيل هذا الحديث: الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه(1) .
ليته ناقش في سند الحديث، بضعف راو من رواته، يشهد القلب بوضعه !! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث ؟ الحديث يقول: إنّ أوّل من يدخل الجنّة رسول الله وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم، أيّ مانع من هذا ؟ وأيّ ضير على الذهبي حتّى يشهد قلبه بأنّ هذا الحديث موضوع ؟ ولماذا ؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث ؟ أو يشُك في أنّ رسول الله وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة ؟ أيشُك في هذا ؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه ؟ فتأمّلوا في هذا.
إذن، كانت المحاولة الاُولى، المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث، لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا، وله أسانيد صحيحة، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها على ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل وهي في خارج الصحاح.
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/151 وذيل الصفحة.
الثاني: تحريف اللفظ
وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث، قد قرأنا بعض الالفاظ، وعرفتم كيف يكون التحريف.
أمّا أحمد بن حنبل، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتاب فضائله أو مناقبه، فلنقرأ لفظ الحديث في مسنده فلاحظوا:
قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أُهديت لرسول الله ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائراً، فلمّا كان من الغد أتت به ـ كلمة الخادم تطلق على المرأة والرجل ـ فقال لها (صلى الله عليه وسلم): «ألم أنهك أن ترفعي شيئاً، فإنّ الله عزّوجلّ يأتي برزق كلّ غد».
هذا هو الحديث في مسند أحمد(1) .
ولك أن تقول: لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخرى لا علاقة لها بحديث الطير.
لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتى به أحمد، وفيه ما يتعلّق بعليّ (عليه السلام)وكونه أحبّ الخلق إلى الله إلى آخره، نعم، كنت أتصوّر أنّ هذا
____________
(1) مسند أحمد 4/52 رقم 12631.
الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نحن نبحث عنه، هذا تبادر إلى ذهني لاوّل وهلة، لكنّني دقّقت النظر في الاحاديث فوجدت الحديث حديث الطير، إلاّ أنّه جاء به بهذا الشكل، وهل الذي جاء في مسند أحمد من أحمد نفسه أو النسّاخ أو الطابعين لكتابه ؟ الله أعلم.
وأبو الشيخ الاصفهاني الذي ذكرناه مراراً، يروي هذا الحديث وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين (عليه السلام)، إلاّ أنّ ما يتعلّق بأنس، وكذب أنس، وخيانة أنس، هذا محذوف ومحرّف، لاحظوا:
عن أنس بن مالك قال: أُهدي لرسول الله طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير»، فجاء علي فأكل معه، ثمّ هو يقول: فذكر الحديث انتهى(1) . وكأنّه يريد أنْ يحفظ الامانة فلا يخون يضع كلمة: فذكر الحديث.
ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس، فأسقط كلتا الفقرتين وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية:
عن أنس عن النبي قال: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».
____________
(1) طبقات المحدّثين باصبهان 3 / 454.
الثالث: تأويل الحديث وحمل مدلوله على خلاف ما هو ظاهر فيه
فيحملون أوّلاً لفظ الحديث الذي يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، يحملونه على أنّ المراد اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك، فحينئذ لا اشكال، لانّ مشايخ القوم أحبّ الخلق إليه أيضاً، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه. «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، أي اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك.
راجعوا شروح مصابيح السنّة، راجعوا شروح المشكاة(2) وكتاب التحفة الاثنا عشرية(3) لوجدتم هذا التأويل موجوداً في كتبهم حول هذا الحديث.
وهل توافقون عليه ؟ وهل هناك مجال لقبول هذاالتأويل بلا
____________
(1) لسان الميزان 5 / 58.
(2) المرقاة في شرح المشكاة: 212.
(3) التحفة الاثنا عشرية: 212.
أيّ دليل ؟
وقال صاحب التحفة الاثني عشرية: إنّ القضيّة إنّما كانت في وقت كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة، فلذا لم يحضرا فحضر علي.
راجعوا كتاب التحفة الاثنا عشرية(1) ، وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الامامة، أو في أبواب العقائد كلّها، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة.
أقول:
هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة ؟ والله لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي كلام، فنحن ما عندنا أي غرض في إثبات شيء أو في نفي شيء، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي، مع حديث أبي يعلى: إنّه جاء أبو بكر فردّه، جاء عمر فردّه، وأضاف صاحب المسند فقال: بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه ؟! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة، وأيّ ذنب لنا لو كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم في المدينة كاذبين عليهم ؟!
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية: 212.
لقرائة المزيد : حديث الطير للسيد علي الحسيني الميلاني
http://www.aqaed.com/book/145/nadwe13.html#bmw03 (http://www.aqaed.com/book/145/nadwe13.html#bmw03)
يقول الترمذي في صحيحه(1) عن أنس بن مالك: كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».
(1) صحيح الترمذي 5 / 595 باب مناقب علي بن أبي طالب.
رواة حديث الطير وأسانيده
نبدأ بأسماء الصحابة الذين وصلتنا رواياتهم لهذا الحديث الشريف وهم:
أولاً:
علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويوجد حديثه عند ابن عساكر(1) ، وغيره من كبار المحدّثين، وأشار إليه الحاكم النيسابوري في المستدرك(2) .
ثانياً:
سعد بن أبي وقّاص، وحديثه يوجد في حلية الاولياء(3) لابي نعيم الاصفهاني.
____________
(1) ترجمة الامام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 2/106 رقم 613 ـ مؤسسة المحمودي ـ دار التعارف ـ بيروت.
(2) المستدرك 3/130 ـ 131.
(3) حلية الاولياء 4 / 356.
ثالثاً:
أبو سعيد الخدري، وحديثه يوجد في تاريخ ابن كثير(1) ، وغيره، وأشار إليه الحاكم في المستدرك(2) .
رابعاً:
أبو رافع، وحديثه يوجد عند ابن كثير(3) .
خامساً:
أبو الطفيل، وأخرج حديثه ابن عقدة، والحاكم النيسابوري(4) ، وغيرهما.
سادساً:
جابر بن عبدالله الانصاري، ويوجد حديثه عند ابن عساكر، وابن كثير(5) .
سابعاً:
حبشي بن جنادة، ويوجد حديثه عند ابن كثير(6) .
ثامناً:
يعلى بن مرّة، ويوجد حديثه عند الخطيب البغدادي، وابن كثير(7) .
تاسعاً:
عبدالله بن عباس، وحديثه عند الطبراني(8) .
____________
(1) البداية والنهاية 7 / 354.
(2) المستدرك 3/131.
(3) البداية والنهاية 7 / 354.
(4) أنظر: كفاية الطالب للحافظ الكنجي: 368.
(5) ترجمة الامام علي (عليه السلام) لابن عساكر 2/105 رقم 612.
(6) البداية والنهاية 7 / 354.
(7) تاريخ بغداد 11/376 ـ دار الكتب العربي ـ بيروت.
(8) المعجم الكبير 10/343 رقم 10667.
عاشراً:
سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوجد حديثه عند أبي يعلى الموصلي(1) ، وأشار إليه الحاكم النيسابوري(2) .
الحادي عشر:
عمرو بن العاص، ويوجد حديثه في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان، روى ذلك الكتاب الخطيب الخوارزمي في كتاب المناقب(3) .
الثاني عشر:
أنس بن مالك، وهو المشهور برواية هذا الحديث، لانّه صاحب القصّة.
وهذا الحديث الشريف وارد من طرق أصحابنا، عن الائمّة الاطهار (عليهم السلام)، وعن بعض الاصحاب، حتّى أنّ أبا الشيخ الحافظ الاصفهاني روى هذا الحديث عن الامامين الباقر والصادق (عليهما السلام) في كتابه، وهو من كبار حفّاظ أهل السنّة.
فهؤلاء رواة هذا الحديث من الصحابة.
وأمّا رواته من التابعين، فإنّ التابعين الرواة لهذا الحديث عن أنس بن مالك فقط يبلغون حدود التسعين رجلاً.
ورواه من أئمّة المذاهب:
1 ـ أبو حنيفة.
2 ـ أحمد بن حنبل.
3 ـ مالك بن أنس.
4 ـ الامام الاوزاعي، ذلك الفقيه الكبير الذي كان يعدّ مذهبه مذهباً مستقلاً من بين المذاهب، إلى أن حصروا المذاهب في الاربعة المشهورة.
ومن رواته جماعة كبيرة من مشايخ البخاري ومسلم.
وكثير من رواته من رجال الصحاح الستّة عند أهل السنّة.
ولنذكر أسماء أشهر مشاهير رواة هذا الحديث من أئمّة الحديث وكبار الحفّاظ في القرون المختلفة:
1 ـ شعبة بن الحجّاج، أمير المؤمنين في الحديث، كما يلقّبونه.
2 ـ الاوزاعي، الامام المعروف.
3 ـ مالك بن أنس، إمام المذهب.
4 ـ أبو حنيفة، صاحب المذهب.
5 ـ أحمد بن حنبل، صاحب المذهب.
6 ـ أبو عاصم النبيل، شيخ البخاري.
7 ـ أحمد بن حنبل.
8 ـ عبد الرزاق الصنعاني، شيخ البخاري.
9 ـ البخاري نفسه، يروي هذا الحديث، لكن لا في صحيحه، بل في تاريخه الكبير، وسنذكر نصّ حديثه فيما بعد.
10 ـ البلاذري، صاحب أنساب الاشراف.
11 ـ أبو حاتم الرازي، الذي هو من أقران البخاري ومسلم.
12 ـ الترمذي، صاحب الصحيح.
13 ـ أبو بكر البزّار، صاحب المسند.
14 ـ النسائي، صاحب الصحيح.
15 ـ أبو يعلى الموصلي، صاحب المسند.
16 ـ محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين.
17 ـ ابن أبي حاتم، صاحب التفسير، والمحدّث الكبير الذي يعدّونه من الابدال.
18 ـ ابن عبد ربّه، في العقد الفريد.
19 ـ أبو الحسين المحاملي، صاحب الامالي.
20 ـ أبو العباس ابن عُقدة، له كتاب في حديث الطير.
21 ـ المسعودي المؤرخ، صاحب مروج الذهب.
22 ـ أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.
23 ـ أبو الشيخ الاصفهاني، صاحب كتاب طبقات المحدّثين بإصفهان.
24 ـ ابن السقا الواسطي، هذا الحافظ الكبير من علماء القرن الرابع، سنذكر قصّته في حديث الطير.
25 ـ أبو حفص ابن شاهين، له كتاب في حديث الطير.
26 ـ أبو الحسن الدارقطني، صاحب كتاب العلل.
27 ـ أبو عبدالله الحاكم النيشابوري، صاحب المستدرك، وله كتاب بطرق حديث الطير.
28 ـ أبو بكر ابن مردويه، له كتاب في طرق حديث الطير.
29 ـ أبو نعيم الاصفهاني، صاحب حلية الاولياء وغيره من الكتب، له كتاب في طرق حديث الطير.
30 ـ أبو طاهر ابن حمدان الخراساني، المحدّث الكبير، له كتاب في طرق حديث الطير.
31 ـ أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبرى.
32 ـ ابن عبد البر، صاحب الاستيعاب.
33 ـ الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.
34 ـ محي السنّة البغوي، صاحب مصابيح السنّة.
35 ـ رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصحاح الستّة.
36 ـ أبو القاسم ابن عساكر، صاحب تاريخ دمشق.
37 ـ ابن الاثير الجزري، صاحب جامع الاُصول.
38 ـ وأيضاً أخوه ابن الاثير الاخر، صاحب أُسد الغابة.
39 ـ الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.
40 ـ أبو الحجّاج المزّي، صاحب تهذيب الكمال وكتاب تحفة الاشراف.
41 ـ شمس الدين الذهبي، صاحب المؤلفات المعروفة المشهورة.
42 ـ ابن كثير الدمشقي، صاحب التفسير والتاريخ.
43 ـ أبو بكر الهيثمي، صاحب مجمع الزوائد.
44 ـ شمس الدين ابن الجزري، صاحب المؤلفات.
45 ـ ابن حجر العسقلاني، صاحب المؤلفات، شيخ الاسلام، والفقيه المحدث الرجالي المعروف.
46 ـ جلال الدين السيوطي، أيضاً صاحب المؤلفات المشهورة.
47 ـ ابن حجر المكي، صاحب الصواعق.
48 ـ شاه ولي الله الدهلوي، محدّث الهند.
وكما عرفتم في خلال ذكر أسماء الرواة هؤلاء: إنّ جماعة من الاعلام ومن كبار المحدّثين ألّفوا كتباً خاصة تتعلّق بطرق حديث
الطير، وهؤلاء هم:
1 ـ الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.
2 ـ ابن عقدة.
3 ـ الحاكم النيسابوري.
4 ـ ابن مردويه.
5 ـ أبو نعيم.
6 ـ أبو طاهر ابن حمدان.
7 ـ الذهبي نفسه يذكر في كتابه تذكرة الحفّاظ بترجمة الحاكم النيسابوري: أنّ له كتاباً ـ أي الذهبي نفسه ـ في طرق حديث الطير(1) .
فهؤلاء رواة هذا الحديث بنحو الاجمال من الصحابة، وأشرنا إلى أنّ عدد التابعين الرواة لهذا الحديث من أنس بن مالك وحده يبلغون حدود التسعين رجلاً، وذكرنا أشهر مشاهير علماء الحديث في القرون المختلفة الرواة لحديث الطير، وذكرنا من ألّف في خصوص حديث الطير كتاباً.
وحديث الطير موجود في عدّة من الصحاح، كصحيح الترمذي، وصحيح النسائي، وصحيح ابن حبّان، وأيضاً موجود في المختارة للضياء المقدسي، وفي المستدرك للحاكم، وفي الجمع بين الصحيحين، وفي الجمع بين الصحاح.
كما أنّ لهذا الحديث أسانيد صحيحة هي أكثر من عشرين سند موجودة في خارج الصحاح.
ولا أظن أنّ من يقف على هذه الاسامي، وهذه الاسانيد، يشك في صدور هذا الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الحديث المتفق عليه بين المسلمين، وحينئذ ننتقل إلى الجهة الثانية.
____________
(1) تذكرة الحفّاظ 3/1042 ـ 1043 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
دلالة حديث الطير على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)
إنّ حديث الطير يدلّ على إمامة أمير المؤمنين بالقطع واليقين، وذلك، لانّ القضيّة التي تتعلّق بحديث الطير، هذه القضية قد أسفرت عن كون علي (عليه السلام) أحبّ الناس إلى الله وإلى الرسول، فكأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد انتهز فرصة إهداء طير إليه ليأكله، انتهز هذه الفرصة للاعلان عن مقام أمير المؤمنين وعن شأنه عند الله والرسول، هذا الشأن الذي سنرى أنّ عائشة تمنّت أن يكون لابيها، وحفصة تمنّت لان يكون لابيها، وأنس بن مالك ـ صاحب القصّة ـ حال دون أن تكون هذه المرتبة وأن يكون هذا الشأن والمقام لامير المؤمنين، زاعماً أنّه أراد أن يكون لاحد من الانصار، وربّما سعد ابن عبادة بالخصوص، بل سنقرأ في بعض ألفاظ هذا الحديث أنّ الشيخين، وفي سند أنّ عثمان أيضاً، جاؤوا إلى الباب ولم يتشرّفوا
يقول الترمذي في صحيحه(1) عن أنس بن مالك: كان عند النبي (صلى الله عليه وسلم) طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».
هذا لفظ الحديث بهذا المقدار في صحيح الترمذي، فلا يذكر فيه دور أنس في القضيّة هذه كما سنقرأ، ولا يذكر مجيء غير علي ورجوعه من باب رسول الله.
وجاء في كتاب مناقب علي لاحمد بن حنبل(2) ما نصّه: عن سفينة خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي هو أحد رواة هذا الحديث يقول: أهدت امرأة من الانصار إلى رسول الله طيرين بين رغيفين، فقدّمت إليه الطيرين، فقال (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، ورفع صوته، فقال رسول الله: «من هذا ؟» فقال: علي.
____________
(1) صحيح الترمذي 5 / 595 باب مناقب علي بن أبي طالب.
(2) فضائل الامام علي (عليه السلام) لابن حنبل: 42 رقم 68، تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي.
لاحظوا نصّ الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل، وقارنوا بينه وبين رواية الاخرين.
ولكم أن تقولوا: لعلّ الاخرين تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة «ورفع صوته» فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، إنّ معنى «رفع صوته» أنّه عندما كان يدعو كان يدعو بصوت عال، لنفرض أنّ هذا معنى الحديث إلى هنا «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك ورفع صوته» لكن الحقيقة إنّ لفظ أحمد محرّف، لانّا سنقرأ في بعض الالفاظ: إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الاُولى فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول، وفي المرّة الثانية كذلك، في المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته فقال رسول الله: من هذا ؟
فمن هنا يظهر معنى «ورفع صوته» ويتبيّن التحريف، وإلاّ فأيّ علاقة بين قوله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلى رسولك ورفع صوته»، وقوله: فقال رسول الله من هذا ؟ فقال: علي، أي: قال سفينة: الذي خلف الباب هو علي، قال: افتح له، ففتحت، فأكل مع رسول الله من الطيرين حتّى فنيا.
فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً، والتلاعب في هذا اللفظ باد بكلّ وضوح.
أمّا الهيثمي صاحب مجمع الزوائد، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي(1) :
عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً [ يقتضي أنْ يكون: فقُدّم فرخ مشويّ، أو فقدّم رسول الله فرخاً مشويّاً ] فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ» فجاء علي ودقّ الباب، فقال أنس: من هذا ؟ قال: علي، فقلت ـ أي أنس ـ يقول: النبي على حاجة، وفي بعض الالفاظ: النبي مشغول، أي لا مجال للدخول عليه، والحال أنّ النبيّ كان مازال يدعو: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، قال: النبي على حاجة، فانصرف علي. عاد رسول الله مرّة أُخرى يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ»، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً، فسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «يا أنس من هذا ؟» قال: علي، قال: «أدخله»، فدخل فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لقد سألت الله ثلاثاً أنْ يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ»، فقال علي: وأنا يا رسول الله، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس، فقال رسول الله: «يا أنس، ما حملك على ما صنعت ؟» قال: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي، فقال رسول الله: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».
____________
(1) مجمع الزوائد 9/125 ـ دار الكتب العربي ـ بيروت ـ 1402 هـ.
في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلاً: رسول الله على حاجة، في المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً.
وفي بعض الالفاظ: رفع صوته فسمع رسول الله صوت علي وقال لانس: «إفتح الباب ليدخل علي»، ثمّ اعترض عليه رسول الله، أي على أنس، واعتذر أنس كما في الخبر: أحببت أن تدرك الدعوة رجلاً من قومي.
لكن الحديث في مسند أبي يعلى كما يلي: حدّثنا قطن بن نسير، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عبدالله بن مثنّى، حدّثنا عبدالله بن أنس عن أنس قال: أُهدي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) حجل مشويّ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام»، فقالت عائشة: اللهمّ اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي، قال أنس: فقلت أنا: اللهمّ اجعله سعد بن عبادة، قال أنس: سمعت حركة الباب، فإذا علي، فسلّم، فقلت: إنّ
رسول الله على حاجة، فانصرف، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي، فسمع رسول الله صوته، أي رفع علي صوته [ أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف ]فسمع رسول الله صوته فقال: «أُنظر من هذا ؟» فخرجت، فإذا علي، فجئت إلى رسول الله فأخبرته، فقال: «ائذن له»، فأذنت له، فدخل، فقال رسول الله: «اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ».
هذا لفظ أبي يعلى.
ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي، ثمّ لفظ الترمذي، ولفظ أحمد بن حنبل.
أمّا في الخصائص للنسائي(1) [ الذي نصّ الحافظ الذهبي على أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن، راجعوا سير أعلام النبلاء(2) وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ] فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح، مضافاً إلى أنّ كتابه داخل في السنن الكبرى للنسائي الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين:
عن أنس بن مالك: إنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان عنده طائر، فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له.
____________
(1) الخصائص للنسائي: 29 رقم 10 ـ مكتبة المعلا ـ الكويت ـ 1406 هـ.
(2) سير أعلام النبلاء 14/133 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1404 هـ.
وفي مسند أبي يعلى بنفس السند، ترون مجيء الشيخين ومجيء عثمان أيضاً، قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له(1) .
لاحظوا الفوارق بين الالفاظ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّى تلتفتوا إلى أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم، كيف يتلاعبون باللفظ، وكيف ينقصون من القصة، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحر المنصف في تحقيقه عن سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي فحصه عن القول الحق من بين الاقوال.
(1) مسند أبي يعلى 7/105 رقم 4052 ـ دار المأمون للتراث ـ دمشق ـ 1406 هـ.
أقول:
سند النسائي كما أكّدت سند صحيح، وهو نفس السند في مسند أبي يعلى، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الاخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلى، يحاول أنْ يناقش في هذا السند، ونحن نرحّب بالمناقشة، وأيّ مانع لو كانت المناقشة مناقشة علميّة، على كلّ منصف أن يسلّم، وأيّ مانع لو كانت المناقشة واردة، وحينئذ لرفعنا اليد عن هذا الحديث وتمسّكنا بغيره من الالفاظ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الاحاديث، وأيّ مانع ؟ لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان، واضحة التعصّب !!
يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند، وهو السُدي، والسُدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن، ربّما يناقش فيه بعض، لكنّه من رجال مسلم، من رجال الترمذي، من رجال النسائي، من رجال أبي داود، ومن رجال ابن ماجة.
ويقول أحمد بترجمته: ثقة.
ويقول غيره من كبار الرجاليين: ثقة.
حتّى أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول: هو مستقيم الحديث صدوق، بل إنّه من مشايخ شعبة.
وقد ذكرنا أنّ شعبة أمير المؤمنين عندهم، وهو لا يروي إلاّ عن ثقة هكذا يقولون، يقولون شعبة بن الحجّاج لا يروي إلاّ عن ثقة، وممّن يعترف بهذا المعنى أو يدّعي هذا المعنى هو ابن تيميّة، وينقل السبكي كلامه في كتابه شفاء الاسقام(1) .
فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة، ويوثّقه أحمد، ويوثّقه العجلي، ويوثّقه ابن عدي، ويوثّقه الاخرون من كبار الرجاليين(2) ، فأيّ مناقشة تبقى في السُدي ليطعن الطاعن عن هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ على فضيلة لامير المؤمنين، يدلّ على ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين ؟
وهناك قرائن داخل الحديث وقرائن في خارج الحديث لا نحتاج إلى ذكرها كلّها، بل نكتفي بالاشارة إلى بعض القرائن الداخليّة وبعض القرائن الخارجيّة فقط.
في بعض ألفاظ هذا الحديث يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك»، وهذه الاضافة موجودة في بعض الالفاظ.
وفي بعض الالفاظ: «اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الاوّلين والاخرين».
وربّما يدلّ هذا الحديث بهذا اللفظ على أفضليّة أمير المؤمنين من الاوّلين والاخرين، أمّا الاخرون فالامر فيهم سهل. أمّا الاوّلون فإنّه يشمل الانبياء أيضاً، يشمل حتّى أُولي العزم منهم، ويكون هذا الحديث بهذا اللفظ من أدلّتنا على أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الانبياء إلاّ النبي والرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس: فإذا علي ـ أي فتحت الباب فإذا علي ـ فلمّا رأيته حسدته.
وفي بعض ألفاظ الحديث: فلمّا نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام قائماً فضمّه إليه وقال: «يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ، ما أبطأ بك ياعلي ؟».
وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات: «ما أبطأ بك يا علي ؟» قال: يا رسول الله قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس، قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول الله، وقال: «يا أنس ما حملك على ردّه ؟» قلت: يا رسول الله سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الانصار.
وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول الله !! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر، حتى أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا اعتذر هذا العذر قال: لست بأوّل رجل أحبّ قومه !!
____________
(1) شفاء الاسقام في زيارة خير الانام: 10.
(2) تهذيب التهذيب 1 / 313.
وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام من رسول الله مفتعل عليه في حديث الطير: «لا يلام الرجل على حبّ قومه» أو «لست بأوّل رجل أحبّ قومه»، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين.
لكنْ لو سألتم بأيّ دليل تعتقد ؟
ليس عندي الان دليل، وإنّما أقول: كيف غضب رسول الله ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي ؟ بل يعتذر له رسول الله مرّةً أُخرى، ويبدي له عذراً !! ألم يكن يعلم رسول الله بهذا: لا يلام الرجل على حبّ قومه ؟ فلماذا غضب عليه إذن ؟ بل قاله له رسول الله وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد، كما في هذا الحديث: «لست بأوّل رجل أحبّ قومه، أبى الله يا أنس إلاّ أنْ يكون ابن أبي طالب».
وهذه قرائن داخليّة في الالفاظ، ولو أردت أن أُعيد عليكم الالفاظ بكاملها من أوّلها إلى آخرها لطال بنا المجلس، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها ـ كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث ـ هذه القرائن انتخبتها واستخرجتها بهذا الشكل.
مضافاً: إلى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجّ بحديث الطير في يوم الشورى.
ولماذا احتجّ ؟ وعلى من احتجّ ؟
احتجّ على كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر، لانْ يستشيروا فيما بينهم، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد.
إذن، احتجّ علي على هؤلاء، ومن المحتج ؟ علي أمير المؤمنين، وهل يحتج علي بما ليس له أصل ؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع ؟ فالمحتج علي، والمحتج عليه أُولئك الاصحاب المنتخبون من قبل عمر لان يعيَّن من بينهم خليفة عمر، واحتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير.
وأيضاً: سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي، فأبى سعد من أن يسب، وسأله معاوية عن السبب، فاعتذر بأنّه سمع من رسول الله خلالاً أو خصالاً لعلي، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً، هذا الحديث الذي قرأناه من قبل، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت لكم في ذلك المجلس.
في بعض ألفاظ هذا الحديث: إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال، فذكر الخصال ومنها حديث الطير، الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي: حديث الراية، وحديث الطير، وحديث الغدير، وهذه الرواية موجودة في حلية الاولياء لابي نعيم، ومن شاء فليراجع(1) .
هذا، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة على أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلى الله وإلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دون غيره، تلك القرائن كثيرة لا تحصى، والله يشهد على ما أقول، وأنتم أيضاً تعلمون، فلا نطيل المجلس بذكر تلك الشواهد.
بل في الاحاديث التي بحثنا عنها، والايات التي درسناها فيما سبق، والتي سنذكرها فيما سيأتي، كفاية لان تكون شواهد لهذا الحديث.
وما معنى الاحبيّة إلى الله وإلى الرسول ؟ وأيّ علاقة بين الاحبيّة وبين الامامة والولاية ؟ أي إرتباط بين الامرين ؟
أتتصوّرون أنْ تكون الاحبيّة إلى الله وإلى الرسول، أن يكون الشيء أحب الاشياء إلى الله والرسول، أو يكون شخص الاحب إلى الله وإلى الرسول، أن تكون الاحبيّة اعتباطيّة ليس لها معيار، ليس لها ملاك، ليس لها ضابط، أيمكن هذا ؟ أتتصوّرون هذا ؟ أتحتملون هذا ؟ وأنتم بأنفسكم، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، وجعله أحبّ الاشياء إلى نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ
____________
(1) حلية الاولياء 4 / 356.
الناس إلى نفسه، يُسأل لماذا ؟ ولابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالاحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً، الانسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحب كلّ شيء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحب فكيف الاحبيّة ؟ أن يكون شيء أحبّ الاشياء إلى الانسان من كلّ الاشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الاشخاص إلى الانسان من كلّ أفراد الانسان وبني آدم، ويكون هذا بلا حساب وبلا سبب من الاسباب ؟ أيمكن هذا ويعقل ؟
نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلاّ لعلّة، إلاّ لحساب، إلاّ لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب، لا يكون عندك جواب معقول.
الله سبحانه وتعالى يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه أحبّ الخلائق إلى نفسه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أترى يكون هذا بلا حساب وهل يعقل ؟
فأحبيّة شخص إلى رسول الله لا يمكن أن تكون لميل نفساني ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول الله، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الاخر والاخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه أقرب الناس، تلك الضوابط لابدّ وأن تكون هكذا، وإلاّ فليس بنبي مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، يفعل ويترك وما يفعل وما يترك إلاّ عن وحي من الله سبحانه وتعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(1) .
(1) سورة النجم: 3 ـ 4.
الحسد لامير المؤمنين (عليه السلام)
ومن فوائد حديث الطير أنّه كان هناك بين أصحاب رسول الله حتّى المقرّبين منهم، من كان في قلبه حسد بالنسبة لامير المؤمنين (عليه السلام)، وأنس بن مالك خادم رسول الله يكذب، لا مرّةً ولا مرّتين، يكذب مرّات لاجل الحسد الذي في قلبه على علي أمير المؤمنين، لكن أنساً كشف عن واقع حاله أكثر فأكثر، عندما ناشده أمير المؤمنين (عليه السلام) بحديث الغدير فأبى أن يشهد، وكتم الشهادة، وكتمان الشهادة ذنب كبير من كبائر المعاصي، حتّى أنّ أمير المؤمنين دعا عليه، وابتلي بالبرص.
إنّه لابدّ أنْ نعرف حقائق الاشخاص من خلال السنّة النبويّة، قبل أن نقرأ تراجمهم وأحوالهم في كتب التراجم، ففي السنّة وفي الاحاديث الواردة في المصادر المعتبرة ما يستكشف به حقائق حالات الاشخاص أكثر بكثير، وهذا ممّا لا يخفى على المتضلّعين بمثل هذه البحوث.
محاولات القوم في ردّ حديث الطير
فننتقل الان إلى محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله، وفي المنع عن نقله وانتشاره وما صنعوا.
تتلخّص محاولاتهم في وجوه:
الاول: المناقشة في سند الحديث
فإذا راجعتم كتاب العلل المتناهية في الاحاديث الواهية لابي الفرج ابن الجوزي، تجدونه يذكر هذا الحديث بسند أو ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الاسانيد الاُخرى(1) .
لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ
____________
(1) العلل المتناهية 1/228 من رقم 360 ـ 377.
معروف بالتسرّع بالحكم، لا بالتضعيف فقط بل حتّى الحكم بالوضع، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث موجودة في الصحاح، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلى التحذير من الاعتماد على حكم ابن الجوزي، في أي حديث من الاحاديث، وأنّه لابدّ من التثبّت.
والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلى ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات، راجعوا كتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري(1) وبعض الكتب الاُخرى، ينسب إلى ابن الجوزي أنّه حكم على هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات.
والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات، نعم، موجود في كتاب العلل المتناهية، لكنّه ببعض أسناده، وإنّما يتكلّم على بعض رجال هذا الحديث في بعض الاسانيد ـ ونحن لا ندّعي أنّ كلّ أسانيده صحيحة ـ ويسكت عن البعض الاخر.
ويأتي من بعده ابن كثير، فيذكر في تاريخه(2) حديث الطير، ويرويه عن عدّة من الائمّة الاعلام، يرويه عن الترمذي،
____________
(1) مرقاة المفاتيح 10/465 رقم 6094 ـ دارالفكر ـ بيروت ـ 1414 هـ.
(2) البداية والنهاية المجلد الرابع الجزء السابع: 350 ـ دارالفكر ـ بيروت.
و عن أبي يعلى، وعن الحاكم، وعن الخطيب البغدادي، وعن ابن عساكر، وعن الذهبي، وعن غيرهم، إلى أنْ قال:
وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم: أبو بكر ابن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبدالله الذهبي يقول: ورأيت مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لابي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ، ثمّ وقفت على مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم.
ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلاً: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.
أقول:
فدليل ابن كثير على ضعف هذا الحديث أنّ قلبه لا يساعد، قلب ابن كثير لا يساعد على قبول هذا الحديث، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد على قبول القرآن والاسلام، فليكنْ، وأيّ مانع ؟ قلبه لا يساعد، لا يقول: إنّه موضوع، لا يقول: إنّه حديث مكذوب، لا يقول: في سنده كذا وكذا، لا يقول: الراوي ضعيف لقول فلان، لنصّ فلان على ضعفه، وأمثال ذلك، فإنّها مناقشات علميّة تسمع، إنّها مناقشات علميّة قابلة للبحث، قابلة للنظر، وأيّ مانع ! يقول: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.
الرجوع إلى القلب من جملة أساليبهم في ردّ بعض الاحاديث، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط، وإلاّ لطال بنا المجلس.
عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الاشكال، يلجأون إلى القَسَم أحياناً، كقولهم: والله إنّه موضوع، وأيّ دليل أقوى من هذا ؟! أوْ يلتجئون إلى قلوبهم: والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط.
في مستدرك الحاكم حديث عن علي (عليه السلام): أخبرني رسول الله: «إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين»، قلت: يا رسول الله فمحبّونا ؟ قال: «من ورائكم». يقول الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه(1) .
هذا حديث الحاكم، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته، نحن المحبّون لاهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت، هم يدخلون ونحن وراءهم، لانّنا نحبّ أهل البيت، وهذا لا يمكن لاحد إنكاره.
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/151 وذيل الصفحة.
فيقول الذهبي في تلخيصه للمستدرك في ذيل هذا الحديث: الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه(1) .
ليته ناقش في سند الحديث، بضعف راو من رواته، يشهد القلب بوضعه !! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث ؟ الحديث يقول: إنّ أوّل من يدخل الجنّة رسول الله وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم، أيّ مانع من هذا ؟ وأيّ ضير على الذهبي حتّى يشهد قلبه بأنّ هذا الحديث موضوع ؟ ولماذا ؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث ؟ أو يشُك في أنّ رسول الله وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة ؟ أيشُك في هذا ؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه ؟ فتأمّلوا في هذا.
إذن، كانت المحاولة الاُولى، المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث، لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا، وله أسانيد صحيحة، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها على ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل وهي في خارج الصحاح.
____________
(1) مستدرك الحاكم 3/151 وذيل الصفحة.
الثاني: تحريف اللفظ
وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث، قد قرأنا بعض الالفاظ، وعرفتم كيف يكون التحريف.
أمّا أحمد بن حنبل، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتاب فضائله أو مناقبه، فلنقرأ لفظ الحديث في مسنده فلاحظوا:
قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أُهديت لرسول الله ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائراً، فلمّا كان من الغد أتت به ـ كلمة الخادم تطلق على المرأة والرجل ـ فقال لها (صلى الله عليه وسلم): «ألم أنهك أن ترفعي شيئاً، فإنّ الله عزّوجلّ يأتي برزق كلّ غد».
هذا هو الحديث في مسند أحمد(1) .
ولك أن تقول: لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخرى لا علاقة لها بحديث الطير.
لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتى به أحمد، وفيه ما يتعلّق بعليّ (عليه السلام)وكونه أحبّ الخلق إلى الله إلى آخره، نعم، كنت أتصوّر أنّ هذا
____________
(1) مسند أحمد 4/52 رقم 12631.
الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نحن نبحث عنه، هذا تبادر إلى ذهني لاوّل وهلة، لكنّني دقّقت النظر في الاحاديث فوجدت الحديث حديث الطير، إلاّ أنّه جاء به بهذا الشكل، وهل الذي جاء في مسند أحمد من أحمد نفسه أو النسّاخ أو الطابعين لكتابه ؟ الله أعلم.
وأبو الشيخ الاصفهاني الذي ذكرناه مراراً، يروي هذا الحديث وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين (عليه السلام)، إلاّ أنّ ما يتعلّق بأنس، وكذب أنس، وخيانة أنس، هذا محذوف ومحرّف، لاحظوا:
عن أنس بن مالك قال: أُهدي لرسول الله طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير»، فجاء علي فأكل معه، ثمّ هو يقول: فذكر الحديث انتهى(1) . وكأنّه يريد أنْ يحفظ الامانة فلا يخون يضع كلمة: فذكر الحديث.
ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس، فأسقط كلتا الفقرتين وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية:
عن أنس عن النبي قال: «لا يلام الرجل على حبّ قومه».
____________
(1) طبقات المحدّثين باصبهان 3 / 454.
الثالث: تأويل الحديث وحمل مدلوله على خلاف ما هو ظاهر فيه
فيحملون أوّلاً لفظ الحديث الذي يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، يحملونه على أنّ المراد اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك، فحينئذ لا اشكال، لانّ مشايخ القوم أحبّ الخلق إليه أيضاً، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه. «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلى رسولك»، أي اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلى رسولك.
راجعوا شروح مصابيح السنّة، راجعوا شروح المشكاة(2) وكتاب التحفة الاثنا عشرية(3) لوجدتم هذا التأويل موجوداً في كتبهم حول هذا الحديث.
وهل توافقون عليه ؟ وهل هناك مجال لقبول هذاالتأويل بلا
____________
(1) لسان الميزان 5 / 58.
(2) المرقاة في شرح المشكاة: 212.
(3) التحفة الاثنا عشرية: 212.
أيّ دليل ؟
وقال صاحب التحفة الاثني عشرية: إنّ القضيّة إنّما كانت في وقت كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة، فلذا لم يحضرا فحضر علي.
راجعوا كتاب التحفة الاثنا عشرية(1) ، وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الامامة، أو في أبواب العقائد كلّها، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة.
أقول:
هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة ؟ والله لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي كلام، فنحن ما عندنا أي غرض في إثبات شيء أو في نفي شيء، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي، مع حديث أبي يعلى: إنّه جاء أبو بكر فردّه، جاء عمر فردّه، وأضاف صاحب المسند فقال: بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه ؟! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة، وأيّ ذنب لنا لو كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم في المدينة كاذبين عليهم ؟!
____________
(1) التحفة الاثنا عشرية: 212.
لقرائة المزيد : حديث الطير للسيد علي الحسيني الميلاني
http://www.aqaed.com/book/145/nadwe13.html#bmw03 (http://www.aqaed.com/book/145/nadwe13.html#bmw03)