حوزة الهدى
01-07-2007, 11:50 PM
مشروعية التبرُّك (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد
السؤال: يذكر البعض أن التبرُّك بآثار النبي (ص) وأهل بيته (ع) من الشرك، بل إنَّ التبرُّك بالنبي (ص) نفسه من الشرك لأنَّ الله عز وجل هو النافع والضار، فماذا تقولون؟
الجواب: لا مجال عندي لإفاضة الحديث حول هذه المسألة إلا أني سوف أنقل لكم بعض الروايات الواردة من طرق العامة وفي أصحِّ كتبهم سندًا، وستجدون أنها تعبِّر عن منافاة هذا القول مع ما هو ثابت عن النبي الكريم (ص) وما هو مسلَّم عند الصحابة.
1- روى البخاري في صحيحه قال: " كان الصحابة يتبرَّكون بيديه الشريفتين، فعن أبي جحيفة: خرج رسول الله (ص) بالمهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلَّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين إلى أن قال: وقام الناس يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، قال: فأخذتُ بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك(1).
2- روى البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: جاء رسول الله (ص) يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصبَّ عليَّ من فضل وضوئه فعقلت(2).
3- روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع قال: وهو الذي مجَّ رسول الله (ص) في وجهه وهو غلام من بئرهم، وقال عروة عن المسوَّر وغيره يُصدِّق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وإذا توضأ النبي (ص) كادوا يقتتلون على وضوئه(3).
قال ابن حجر في شرحه فتح الباري على صحيح البخاري وفِعْلُ النبي (ص) مع محمود إما مداعبةً أو ليُبارك عليه به كما كان ذلك شأنه مع أولاد الصحابة(4).
4- روى البخاري بسنده عن أبي جحيفة قال: أتيت النبي (ص) وهو في قبَّةٍ حمراء من أدم ورأيت بلالاً أخذ وضوء النبي (ص) والناس يتبادرون الوضوء فمن أصاب شيئًا تمسَّح به ومن لم يُصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه(5).
5- روى مسلم في صحيحه أن رسول الله (ص) أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ثم قال للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يُعطيه الناس(6).
6- روى مسلم بسنده عن أنس قال: رأيت رسول الله (ص) والحلاَّق يحلقه وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل(7).
7- روى البخاري بسنده عن ابن سيرين قال: قلت لعبيدة: عندنا من شعر النبي (ص) أصبناه من قبل أنس أو من أهل أنس. قال: لإنْ تكون عندي شعرة منه أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها(8).
8- روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: "إنَّ أم سليم كانت تبسط للنبي (ص) نطعًا فيُقيل عندها على ذلك النطع قال: فإذا نام النبي (ص) أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك. قال: فلمّا حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أنْ يُجعل في حنوطه مِن ذلك السُّك، قال فجُعل في حنوطه".
قال ابن حجر: في شرحه فتح الباري: " وفي ذكر الشعر غرابة في هذه القصة، وقد حمله بعضهم على ما ينتشر من شعره (ص) عند الترجُّل، ثم رأيت في رواية محمد بن سعد ما يُزيل اللبس فإنه أخرج بسندٍ صحيح عن ثابت عن أنس أن النبي (ص) لمَّا حلق شعره بمنى أخذ أبو طلحة شعره فأتى بها أم سليم فجعلته في سكِّها.
قالت أم سليم: وكان يجيء فيقيل عندي على نطعي فجعلت أسلت العرق(9).
9- روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي موسى قال دعا النبي (ص) بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجَّ فيه ثم قال لهما: "اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما"(10).
قال ابن حجر: والغرض من ذلك – يعني المج – إيجاد البركة فيه(11).
10- روى البخاري بسنده عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة قالت: يا رسول الله (ص) إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله (ص) محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها لإزاره، فجسَّها رجل من القوم، فقال يا رسول الله اكسنيها؟ قال نعم، فجلس ما شاء الله في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت سألتها إياه وقد عرفت أنّه لا يردُّ سائلاً، فقال الرجل: والله ما سألتُها إلا لتكون كفني يوم أموت، قال سهل فكانت كفنه(12).
قال ابن حجر في كتابه فتح الباري: وفي رواية أبي غسان، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي (ص)، وقال في الشرح ما يستفاد مِن الحديث وفيه التبرُّك بآثار الصالحين(13).
11- روى مسلم في صحيحه أن الصحابة كانوا يأتون بصبيانهم إلى النبي (ص) للتبرُّك والتحنيك، قال " إن رسول الله (ص) كان يؤتى بالصبيان فيُبارك عليهم ويحنِّكهم"(14).
12- روى الحاكم في المستدرك قال: أقبل مروان يومًا فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر، فأخذ برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟
فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال إنّي لم آت الحجر وإنما جئت رسول الله (ص)، سمعتُ رسول الله (ص) يقول: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله"(15).
13- روى البخاري في صحيحه بسنده عن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرَّى أماكن من الطريق فيصلِّي فيها ويحدِّث أنَّ أباه كان يصلِّي فيها، وأنه رأى النبي (ص) يصلِّي في تلك الأمكنة، وحدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلِّي في تلك الأمكنة.
وسألت سالمًا فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء(16).
قال ابن حجر في كتابه فتح الباري في مقام شرحه للحديث: "عُرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي (ص) والتبرُّك بها"(17).
هذه بعض الروايات الصحيحة بحسب موازين أبناء العامة، ونحن وإن كنَّا لم نستقصِ كلَّ ما ورد في هذا الشأن خشية الإطالة إلا أن فيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
التبرُّك بأهل البيت (ع):
وأمّا التبرُّك بأهل بيت النبي (ص) فلأنهم أعظم آثاره، فإذا ساغ التبرُّك بقدحٍ شرب منه النبي (ص) أو بماءٍ توضأ به أو بموقع صلَّى فيه أو دُفن فيه أو ببُردةٍ اشتمل بها أو نطع جلس أو نام عليه، وإذا ساغ التبرُّك بشعره وريقه وعرقه فإن التبرُّك بأهل بيته يكون أجدر وأولى.
خصوصًا وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا(18) وباهَلَ بهم نصارى نجران وأنزل فيهم آية المباهلة(19)، وأثنى عليهم أحسن الثناء في قرآنه في سورة الدهر(20)، وجعل مودَّتهم أجرًا للرسالة(21)، ثم إنّهم الثقل الثاني بعد القرآن خلَّفهما رسول الله (ص) في أمّته، وأفاد أن التمسُّك بهما أمان من الضلال، وأنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض(22)، وأفاد أن عليًا بمنزلة هارون من موسى(23)، وأنّه مع القرآن والقرآن معه(24)، وأنَّ فاطمة بضعة منه يؤذيه ما يؤذيها ويرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها(25)، وأنَّ الحسن والحسين ريحانتاه وحبيباه(26)، وأنّهما منه وهو منهما(27)، وأنّهما إمامان وسيّدا شباب أهل الجنة(28)، وقد أورثهما علمه وحلمه وحكمته وسؤدده وكلَّ سجاياه ومكارم أخلاقه(29).
فلماذا يصحّ ويسوغ التبرُّك بريق رسول الله (ص) وبردته ويكون التبرُّك بأهل بيته (ع) – الذين ورد فيهم ما ذكرناه وكثير مما لم نذكر – شِركًا وخروجًا عن التوحيد؟!!
التبرُّك بآثار أهل البيت (ع)
وأمَّا دعوى أن التبرُّك بآثار أهل البيت (ع) من الشِرك فأرى أن نجيب عنها في محاورَ ثلاثة:
المحور الأول: إنَّ التبرُّك بآثار أهل البيت (ع) إذا كان من الشرك فالتبرُّك بآثار النبي (ص) أيضًا من الشرك، وإذا لم يكن التبرُّك بآثار النبي (ص) من الشرك فكذلك التبرُّك بآثار أهل البيت (ع).
ومنشأ الملازمة هو أنَّ مناط دعوى الشرك في الموردين واحد، فالتبرُّك بالشيء يعني جعله طريقًا ووسيلة للبركة والنماء والخير أو قل جعله طريقًا لجلب منفعة ودفع مضرَّة، فإذا كان هذا من الشرك لأن الله وحده هو النافع والضار فلا فرق بين التبرُّك بآثار النبي (ص) والتبرُّك بآثار أهل البيت (ع).
وإذا ثبت أن التبرُّك بآثار النبي (ص) ليس من الشرك كما هو مقتضى ما تقدم من روايات فهذا معناه أنَّ مناط دعوى الشرك ليس تامًّا، وعليه تكون دعوى أنَّ التبرُّك بآثار أهل البيت (ع) من الشرك بلا موجب.
هذا هو الجواب النقضي على الشبهة، وأما الجواب الحلِّي فهو أنَّ جعل الشيء طريقًا للنفع أو دفع الضرر إنما يكون شركًا بالله تعالى لو كان ذلك باعتقاد استقلاليته دون الله تعالى في تحصيل النفع ودفع الضرر، وأمّا لو كان عن اعتقادٍ بطريقيًّته لتحصيل النفع ودفع الضرر، وأنَّ من ينفع ويدفع الضرر حقيقةً هو الله تعالى وحده فذلك ليس من الشِرك في شيء، فكما أن التوسُّل بعلاج الطبيب لتحصيل الشفاء ليس من الشرك لعدم الاعتقاد بأنَّ العلاج هو الشافي فكذلك التوسُّل بآثار أهل البيت (ع) لتحصيل البركة والخير ليس من الشرك، لأن ذلك ينشأ عن اعتقادٍ بأن الله تعالى قد جعل آثار أهل البيت (ع) طريقًا لتحصيل البركة، فإذا كان ثمة من خير أو بركة في آثارهم فهو من الله وحده.
ولذلك نظائر في القرآن الكريم كثيرة، فعيسى بن مريم كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى ولكن بإذن الله تعالى، فنحن نعتقد بذلك لإخبار القرآن به، قال تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي) المائدة/110.
فهل أنَّ الاعتقاد بذلك من الشرك، وهل الاعتقاد بأن الضرب بعضوٍ من بقرة بني إسرائيل جسدَ قتيلهم فتنبعث بذلك روحه بإذن الله، هل الاعتقاد بذلك من الشرك والحال أن القرآن أخبر به فوجب علينا تصديقه، قال تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة/72.
فإذا لم يكن الاعتقاد بذلك وأمثاله من الشرك فلماذا يكون الاعتقاد بترتُّب النفع على بعض آثار أهل البيت (ع) بإذن الله تعالى من الشرك؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد
السؤال: يذكر البعض أن التبرُّك بآثار النبي (ص) وأهل بيته (ع) من الشرك، بل إنَّ التبرُّك بالنبي (ص) نفسه من الشرك لأنَّ الله عز وجل هو النافع والضار، فماذا تقولون؟
الجواب: لا مجال عندي لإفاضة الحديث حول هذه المسألة إلا أني سوف أنقل لكم بعض الروايات الواردة من طرق العامة وفي أصحِّ كتبهم سندًا، وستجدون أنها تعبِّر عن منافاة هذا القول مع ما هو ثابت عن النبي الكريم (ص) وما هو مسلَّم عند الصحابة.
1- روى البخاري في صحيحه قال: " كان الصحابة يتبرَّكون بيديه الشريفتين، فعن أبي جحيفة: خرج رسول الله (ص) بالمهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلَّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين إلى أن قال: وقام الناس يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، قال: فأخذتُ بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك(1).
2- روى البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: جاء رسول الله (ص) يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصبَّ عليَّ من فضل وضوئه فعقلت(2).
3- روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب قال: أخبرني محمود بن الربيع قال: وهو الذي مجَّ رسول الله (ص) في وجهه وهو غلام من بئرهم، وقال عروة عن المسوَّر وغيره يُصدِّق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، وإذا توضأ النبي (ص) كادوا يقتتلون على وضوئه(3).
قال ابن حجر في شرحه فتح الباري على صحيح البخاري وفِعْلُ النبي (ص) مع محمود إما مداعبةً أو ليُبارك عليه به كما كان ذلك شأنه مع أولاد الصحابة(4).
4- روى البخاري بسنده عن أبي جحيفة قال: أتيت النبي (ص) وهو في قبَّةٍ حمراء من أدم ورأيت بلالاً أخذ وضوء النبي (ص) والناس يتبادرون الوضوء فمن أصاب شيئًا تمسَّح به ومن لم يُصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه(5).
5- روى مسلم في صحيحه أن رسول الله (ص) أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ثم قال للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يُعطيه الناس(6).
6- روى مسلم بسنده عن أنس قال: رأيت رسول الله (ص) والحلاَّق يحلقه وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل(7).
7- روى البخاري بسنده عن ابن سيرين قال: قلت لعبيدة: عندنا من شعر النبي (ص) أصبناه من قبل أنس أو من أهل أنس. قال: لإنْ تكون عندي شعرة منه أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها(8).
8- روى البخاري في صحيحه بسنده عن أنس بن مالك قال: "إنَّ أم سليم كانت تبسط للنبي (ص) نطعًا فيُقيل عندها على ذلك النطع قال: فإذا نام النبي (ص) أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة ثم جمعته في سك. قال: فلمّا حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إليّ أنْ يُجعل في حنوطه مِن ذلك السُّك، قال فجُعل في حنوطه".
قال ابن حجر: في شرحه فتح الباري: " وفي ذكر الشعر غرابة في هذه القصة، وقد حمله بعضهم على ما ينتشر من شعره (ص) عند الترجُّل، ثم رأيت في رواية محمد بن سعد ما يُزيل اللبس فإنه أخرج بسندٍ صحيح عن ثابت عن أنس أن النبي (ص) لمَّا حلق شعره بمنى أخذ أبو طلحة شعره فأتى بها أم سليم فجعلته في سكِّها.
قالت أم سليم: وكان يجيء فيقيل عندي على نطعي فجعلت أسلت العرق(9).
9- روى البخاري في صحيحه بسنده عن أبي موسى قال دعا النبي (ص) بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومجَّ فيه ثم قال لهما: "اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما"(10).
قال ابن حجر: والغرض من ذلك – يعني المج – إيجاد البركة فيه(11).
10- روى البخاري بسنده عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة قالت: يا رسول الله (ص) إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله (ص) محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنَّها لإزاره، فجسَّها رجل من القوم، فقال يا رسول الله اكسنيها؟ قال نعم، فجلس ما شاء الله في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت سألتها إياه وقد عرفت أنّه لا يردُّ سائلاً، فقال الرجل: والله ما سألتُها إلا لتكون كفني يوم أموت، قال سهل فكانت كفنه(12).
قال ابن حجر في كتابه فتح الباري: وفي رواية أبي غسان، فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي (ص)، وقال في الشرح ما يستفاد مِن الحديث وفيه التبرُّك بآثار الصالحين(13).
11- روى مسلم في صحيحه أن الصحابة كانوا يأتون بصبيانهم إلى النبي (ص) للتبرُّك والتحنيك، قال " إن رسول الله (ص) كان يؤتى بالصبيان فيُبارك عليهم ويحنِّكهم"(14).
12- روى الحاكم في المستدرك قال: أقبل مروان يومًا فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر، فأخذ برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟
فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري، فقال إنّي لم آت الحجر وإنما جئت رسول الله (ص)، سمعتُ رسول الله (ص) يقول: " لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غير أهله"(15).
13- روى البخاري في صحيحه بسنده عن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبد الله يتحرَّى أماكن من الطريق فيصلِّي فيها ويحدِّث أنَّ أباه كان يصلِّي فيها، وأنه رأى النبي (ص) يصلِّي في تلك الأمكنة، وحدثني نافع عن ابن عمر أنه كان يصلِّي في تلك الأمكنة.
وسألت سالمًا فلا أعلمه إلا وافق نافعًا في الأمكنة إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء(16).
قال ابن حجر في كتابه فتح الباري في مقام شرحه للحديث: "عُرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي (ص) والتبرُّك بها"(17).
هذه بعض الروايات الصحيحة بحسب موازين أبناء العامة، ونحن وإن كنَّا لم نستقصِ كلَّ ما ورد في هذا الشأن خشية الإطالة إلا أن فيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
التبرُّك بأهل البيت (ع):
وأمّا التبرُّك بأهل بيت النبي (ص) فلأنهم أعظم آثاره، فإذا ساغ التبرُّك بقدحٍ شرب منه النبي (ص) أو بماءٍ توضأ به أو بموقع صلَّى فيه أو دُفن فيه أو ببُردةٍ اشتمل بها أو نطع جلس أو نام عليه، وإذا ساغ التبرُّك بشعره وريقه وعرقه فإن التبرُّك بأهل بيته يكون أجدر وأولى.
خصوصًا وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا(18) وباهَلَ بهم نصارى نجران وأنزل فيهم آية المباهلة(19)، وأثنى عليهم أحسن الثناء في قرآنه في سورة الدهر(20)، وجعل مودَّتهم أجرًا للرسالة(21)، ثم إنّهم الثقل الثاني بعد القرآن خلَّفهما رسول الله (ص) في أمّته، وأفاد أن التمسُّك بهما أمان من الضلال، وأنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض(22)، وأفاد أن عليًا بمنزلة هارون من موسى(23)، وأنّه مع القرآن والقرآن معه(24)، وأنَّ فاطمة بضعة منه يؤذيه ما يؤذيها ويرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها(25)، وأنَّ الحسن والحسين ريحانتاه وحبيباه(26)، وأنّهما منه وهو منهما(27)، وأنّهما إمامان وسيّدا شباب أهل الجنة(28)، وقد أورثهما علمه وحلمه وحكمته وسؤدده وكلَّ سجاياه ومكارم أخلاقه(29).
فلماذا يصحّ ويسوغ التبرُّك بريق رسول الله (ص) وبردته ويكون التبرُّك بأهل بيته (ع) – الذين ورد فيهم ما ذكرناه وكثير مما لم نذكر – شِركًا وخروجًا عن التوحيد؟!!
التبرُّك بآثار أهل البيت (ع)
وأمَّا دعوى أن التبرُّك بآثار أهل البيت (ع) من الشِرك فأرى أن نجيب عنها في محاورَ ثلاثة:
المحور الأول: إنَّ التبرُّك بآثار أهل البيت (ع) إذا كان من الشرك فالتبرُّك بآثار النبي (ص) أيضًا من الشرك، وإذا لم يكن التبرُّك بآثار النبي (ص) من الشرك فكذلك التبرُّك بآثار أهل البيت (ع).
ومنشأ الملازمة هو أنَّ مناط دعوى الشرك في الموردين واحد، فالتبرُّك بالشيء يعني جعله طريقًا ووسيلة للبركة والنماء والخير أو قل جعله طريقًا لجلب منفعة ودفع مضرَّة، فإذا كان هذا من الشرك لأن الله وحده هو النافع والضار فلا فرق بين التبرُّك بآثار النبي (ص) والتبرُّك بآثار أهل البيت (ع).
وإذا ثبت أن التبرُّك بآثار النبي (ص) ليس من الشرك كما هو مقتضى ما تقدم من روايات فهذا معناه أنَّ مناط دعوى الشرك ليس تامًّا، وعليه تكون دعوى أنَّ التبرُّك بآثار أهل البيت (ع) من الشرك بلا موجب.
هذا هو الجواب النقضي على الشبهة، وأما الجواب الحلِّي فهو أنَّ جعل الشيء طريقًا للنفع أو دفع الضرر إنما يكون شركًا بالله تعالى لو كان ذلك باعتقاد استقلاليته دون الله تعالى في تحصيل النفع ودفع الضرر، وأمّا لو كان عن اعتقادٍ بطريقيًّته لتحصيل النفع ودفع الضرر، وأنَّ من ينفع ويدفع الضرر حقيقةً هو الله تعالى وحده فذلك ليس من الشِرك في شيء، فكما أن التوسُّل بعلاج الطبيب لتحصيل الشفاء ليس من الشرك لعدم الاعتقاد بأنَّ العلاج هو الشافي فكذلك التوسُّل بآثار أهل البيت (ع) لتحصيل البركة والخير ليس من الشرك، لأن ذلك ينشأ عن اعتقادٍ بأن الله تعالى قد جعل آثار أهل البيت (ع) طريقًا لتحصيل البركة، فإذا كان ثمة من خير أو بركة في آثارهم فهو من الله وحده.
ولذلك نظائر في القرآن الكريم كثيرة، فعيسى بن مريم كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى ولكن بإذن الله تعالى، فنحن نعتقد بذلك لإخبار القرآن به، قال تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي) المائدة/110.
فهل أنَّ الاعتقاد بذلك من الشرك، وهل الاعتقاد بأن الضرب بعضوٍ من بقرة بني إسرائيل جسدَ قتيلهم فتنبعث بذلك روحه بإذن الله، هل الاعتقاد بذلك من الشرك والحال أن القرآن أخبر به فوجب علينا تصديقه، قال تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة/72.
فإذا لم يكن الاعتقاد بذلك وأمثاله من الشرك فلماذا يكون الاعتقاد بترتُّب النفع على بعض آثار أهل البيت (ع) بإذن الله تعالى من الشرك؟