نووورا انا
12-02-2011, 03:59 PM
اللهم صل على محمد وآل محمد
الإمام الحسن العسكري عليه السلام
التحديات المحسوبة في ظل نظام مهزوم
السيد محمد علي الحلو/ رئيس تحرير مجلة الإنتظار
لم تبدأ فترة إمامة الحسن العسكري عليه السلام ، حتّى نشطت السلطة العباسية بالحد من تحركاته وانتهاج سياسة (التغييب الجسدي) وذلك بإيداعه في عدّة سجون، ولعــل تعرضه للسجون المتكررة من قبل النظام يذكّرنا بمحنة الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام الذي تعرّض من ذي قبل إلى نفس السياسة والاجراءات التعسفية التي انتهت بتصفيته عليه السلام في أحد سجون الرشيد وكما هو معروف.
وإذا كانت سياسة الرشيد حيال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قائمةً على الحد من نشاطه ومطاردة قواعده الشعبية التي توجّس منها الرشيد الخيفة، فإن سياسة المعتمد العباسي حيال الإمام الحسن العسكري عليه السلام أخذت منحىً آخر من سياسة البطش والتصفية على صعيد التغييب الفكري والجسدي، لذا فقد عانى الإمام العسكري عليه السلام حالات سجنٍ عدة، وكان يصاحب فترات تغييب الإمام عليه السلام في سجنه عدد من أصحابه وخاصته أمثال أبي هاشم الجعفري الذي كان حاملاً لسر الإمام وأحد حوارييه المقربين، فكان النظام يلقي عليه القبض ويودعه السجن كحالة احترازية يتصوّر النظام ضرورة اتخاذها في هذا الظرف المتشنج، وكذا الحال بالنسبة لأصحاب الإمام الآخرين مثل القاسم بن محمّد العباسي ومحمد بن عبيد الله ومحمد بن إبراهيم العمري وغيرهم، والجدير بالذكر أن هؤلاء أودعوا السجن بسبب حادثة اغتيال عبد الله بن محمّد العباسي أحد أعوان النظام، مما يدلل على أن النظام بات مهزوزاً من داخله نتيجة الصراعات المستمرة داخل البيت العباسي والتي كادت تقوّض أركانه، والنظام في حالاتٍ كهذه يحاول أن يحمّل مسؤولية هذه الاغتيالات التي تحدث على أيدي أجنحة النظام المتنافسة، أن يحمّلها المعارضة، ولمّا كانت القواعد الموالية للإمام العسكري عليه السلام معارضةً قويةً في نظر النظام فهي المرشحة بالتالي لتلقي ضغوطات النظام يوم يشعر العباسيون بخطر التحركات المضادة للنظام والمتنافسة بينها.
اذن تُعد ظاهرة تعرض الإمام العسكري عليه السلام وقواعده الشعبية كذلك لحالات الحبس المتكررة مؤشراً على ضعف النظام وشدة التجاذبات المتعاكسة داخل البيت العباسي التي تُعدُ حالةً مستجدة يشهدها بنو العباس أبان ملكهم.
هذه هي احدى دواعي تعرّض الإمام العسكري عليه السلام لمضايقات السلطة وايداعه في سجونها لمرات متكررة.
الا أن ذلك لم يُعد سبباً مباشراً، فإن تحضيرات أمنية تشهدها الساحة السياسية عند تسلّم الإمام العسكري عليه السلام مقاليد الإمامة وتحركاً مشوباً بالحذر يبدو على فاعليات مفاصل السلطة العباسية، وتوجساً يُلفت الانتباه يصاحب تعاطي السلطة مع الإمام عليه السلام يُثير تحفظات القواعد الموالية للإمام عليه السلام ، وكل هذه التحولات الجديدة في سياسة النظام _ وان كانت لم تختلف عن سابقتها إبّان حياة الإمام الهادي عليه السلام _ الا أن في عهد الإمام العسكري عليه السلام تتخذ الاجراءات الأمنية شأناً آخر ومساراً يتّسمُ بالعنف والتنكيل والحذر حيال الإمام العسكري عليه السلام وقواعده الموالية. هذه الاجراءات تنطلق من قناعات السلطة العباسية بخطورة عهد الإمام العسكري وحساسية مهمته التي من شأنها أن تثير هواجس النظام الذي بدا واضحاً على تحركاته القلق والفزع من تنامي شعبية الإمام العسكري عليه السلام _ وهي صفة امتاز بها أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلى مختلف مستويات الأمة وطبقاتها وتوجهاتها الفكرية _ الا أن الذي يُميز الإمام العسكري عن غيره من آبائه الطاهرين عليهم السلام لدى السلطة العباسية هو أن الإمام العسكري والد المهدي الموعود الذي سيملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وولادته تعني دق ناقوس الخطر وبداية الثورة والتغيير الاصلاحي العام الذي سيكون من ضمن أهدافه تغيير الأنظمة غير الشرعية، وبنو العباس هم المشمولون بهذا التغيير القادم على يد المهدي الموعود، هذه أهم الأسباب التي شاركت في تكوين هاجس الخوف والانهزام، إذ باتت الشخصية العباسية الحاكمة مهزوزةً تجاه الحدث الجديد _ تولي الإمام العسكري مقاليد الإمامة _ والتي تعني فيما تعني أخيراً حتمية ولادة المهدي الموعود الذي سيكون نهاية النظام على يديه.
هذه خلاصة الفكرة التي تطارد النظام مما دفعه بالسعي إلى استباق الأحداث وذلك بالضغط على الإمام العسكري عليه السلام للسعي في تخفيف وطأة الهاجس الذي بات يصاحب النظام، وهو أمرٌ ممكن في نطاق الاجراءات الأمنية التي يجب أن تتخذها السلطة، الا أن دواعي القلق والخوف لم تكن محسوبة على أساس الاعتبار الغيبي الذي سيشارك في توقيت حركة الإمام المهدي الاصلاحية على خلفيات سقوط النظام الحاكم، والجدير بالذكر أن تحسبات النظام لهذا الخطر القادم يكشف عن قناعته باكتمال مسلسل الأئمة الاثني عشر الذين آخرهم المهدي من آل محمّد، وهذه القناعة ناشئة من وجود الكم الهائل لأحاديث المهدي فضلاً عن أن الخلفاء بعد النبي حقيقةً، إثنا عشر خليفة، فقد روى البخاري بسنده عن شعبة بن عبد الملك قال سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يكون إثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: أنه قال كلهم من قريش.(1)
مما يعني أن اكتمال عدد الخلفاء الذين يقصدهم الحديث قد اكتمل بولادة المهدي الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يملكون القناعة الكاملة في انطباق مصاديق الحديث على أئمة أهل البيت عليهم السلام دون غيرهم، وان كان الرأي العام مأخوذاً بالاعلام الرسمي للنظام الذي أسبغ على الخلفاء العباسيين صفة الخلافة، مع أن هذه الجهود تتراجع في حقيقتها أمام الواقع الذي يعيشه العباسييون من الصراعات السياسية والتنافسات التي أثقلت الذهنية العامة بتساؤلات تفرضها التجربة العباسية المريرة واجراءات التعسف والتنكيل الذي سلكه النظام من أجل الحصول على شرعيةٍ مفتعلةٍ.
ان الذي يعزز فزع النظام العباسي قناعته التامة بأن المهدي الموعود هو الوليد الذي يولد من الحسن العسكري عليه السلام ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماثلةٌ أمام النظام بكل مفاهيمها ومصاديقها، ومن تلك الأحاديث نماذج تؤكد حقيقةً أن المهدي من عترة الرسول ومن ولد فاطمة عليها السلام ، وأن المهدي حقيقة ثابتة في المفهوم الاسلامي يؤكده التراث النبوي.
ففي سنن أبي داود عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة.(2)
وفيه عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً.(3)
وفي اعتقادنا أن هذا السبب هو أهم الأسباب التي دعت السلطة العباسية لاتخاذ اجراءات المضايقة وأسلوب السجن والتغييب لشخص الإمام العسكري عليه السلام .
ولم يكن السبب الذي ذكرناه وحيداً في تشنج النظام حيال الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، فإن اخفاقات السلطة العباسية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً دعاها إلى أن تغطي فشلها هذا بالقاء اللائمة على الآخر، أي على المعارضة المتمثلة بشخص الإمام العسكري عليه السلام بل بعنوانه فقط، فقد بات أئمة آل البيت عليهم السلام يشكلون المعادلة الأصعب رقماً في التحديات التي تهدد وجود النظام المفتقر للشرعية الدينية فضلاً عن الشرعية التي يمنحها الشارع العام آنذاك.
فــالتنــافســات التــي حـــدثـت بين أطــراف الصراع داخل البيت العباسي ساعدت في حالة عدم الاستقرار، فضلاً عن شعور البيت العباسي بالانهزامية التي يعاني منها جرّاء هذه النزاعات، ولعل الذي زاد في إرباك المعادلة السياسية وزعزعة ثقة النظام بنفسه هو تولّي التيارات المتنافسة شأن النزاع والتغيير للخليفة الذي لا يتّفق ومصالحها الشخصية، ومما عقّد في الوضع العام هو أن هذه التيارات غير العربية تنطلقُ من منطلقٍ قومي _ تنافسي يحاول ترجيح قوميته على الآخرين وفرض رؤيته السياسية على الواقع العام، حتّى انتهى الأمر أن تكون (الخلافة الإسلامية المدعاة) بإدارة فريق عمل البلاط التركي تارة والفارسي أخرى والرومي في بعض الأحيان، ومعلوم أن التنافس التركي _ الفارسي كان على أشدّه يوم ذاك لتغليب العنصر الأقوى، الا أن العنصر التركي كان صاحب القرار بل صاحب المبادرة كذلك، فمثلاً عند موت المنتصر بالله بن المتوكل _ وإن كنّا نثير الشكوك والتساؤلات عن موت المنتصر المفاجئ بعد ستة أشهر من اغتيال المتوكل على يده، الا أن تكون تصفية المنتصر عملية مدبّرة بعد الانقلاب على سياسة سلفه في إحسانه للعلويين _ فقد قرر الأتراك تعيين المستعين بالله وهو أخو المتوكل، إلا أن ذلك لم يتم حيث تنكّر له الأتراك بعد قتله لوصيف وبغا التركيين اللذين كانا يديران دفة الحكم باسم الخليفة، وكان من ضعف المستعين أمام هذين التركيين أن قيل فيه:
خليفة في قفصٍ بين وصيفٍ وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
حتّى انتهى الأمر بهروب المستعين خوفاً من الأتراك وتعيين المعتز بالله خليفة له، مما دعى المعتز أن يجهّز جيشاً لمحاربة المستعين (استعد أهل بغداد للقتال مع المستعين، فوقعت بينهما وقعات، ودام القتال أشهراً، وكثر القتل، وغَلت الأسعار، وعظم البلاء، وانحل أمر المستعين، فسعوا في الصلح على خلع المستعين نفسه في أول سنة اثنين وخمسين، وأشهد عليهم القضاة وغيرهم..).(4)
ولم يجد المعتز بداً من خلع أخيه المؤيد من العهد نتيجة الصراعات القائمة بينهما، بل حاول تصفيته حيث (ضربه وقيده فمات بعد أيام)(5) إلا أن المعتز كان ضعيفاً تجاه تزايد الشأن التركي في البلاط، وكانت نهاية تصفيته على يد أتراك البلاط بحالٍ يُرثى لها بعد أن لم يستطع تنفيذ مطالبهم باعطائهم أرزاقهم للتبعات المادية التي أثقلت كاهل خزينة الدولة، حتّى أنها لم تعد تسد حاجة رواتب خدم البلاط ورجالاته، فلما لم يستجب المعتز لمطاليب الأتراك هجموا عليه وسحبوه من رجله وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في يوم صائف وهم يلطمون وجهه ويقولون اخلع نفسك، ثم احضروا القاضي ابن أبي الشوارب والشهود وخلعوه، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة _ وهي يومئذ سامراء _ محمّد بن الواثق ـ وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد ـ فسلّم اليه الخلافة وبايعه.. ذكر ذلك السيوطي في تاريخه.
هذه هي تداعيات الصراع السياسي المحموم من أجل تحقيق المصالح الشخصية والأهداف السياسية، ويجد الباحث أن منطق الانقلاب والتسابق السياسي قد أخذ مأخذه ـ ولم يكن القرار حينئذ إلا بيد التيارات الموالية لهذا الخليفة أو الساخطة على ذاك، وكانت المعادلات السياسية تُدار من قبل الأتراك مرة أو الفرس أخرى، أي صارت سامراء العاصمة أو بغداد مرتعاً للتحزّبات الفكرية المناهضة للخليفة أو المؤيدة له، وهذا يعني أن الخلافة العباسية تتعرض الى حالات الضعف والاهتزاز بما يجعل الخليفة يشعر بالانهزام والاخفاق على كل الصُعد، وهذه الحالة تدفع بالخليفة إلى الانصياع لأهواء التيارات المتصارعة منفّذاً لرغباتها، ويبدو أنه يتّفق معها في أن الجميع يشعرون بعد هذه الاخفاقات _ بالهزيمة الحقيقية، فينعكس ذلك على تعاملهم مع الإمام العسكري ومن قبله والده الإمام الهادي عليهما السلام .
اذن حالة الاخفاق السياسي لاطراف النزاع تتدخل في تحقيق رغبة التضييق على الإمام العسكري عليه السلام ليعبّروا عن هذه الهزيمة بالسجن المتكرر لشخص الإمام.
ولعل حادثة المعتضد العباسي حينما عزم على تغيير مساره الفكري وتوجهاته العقائدية، وذلك بعزمه على لعن معاوية على المنابر وإظهار فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ، كانت سبباً في توجس الجهاز العباسي وخشيته أن يكون لآل علي شأنٌ في الاحداث، فعملوا على ثني المعتضد عن عزمه بتخويفه من اضطراب العامة فأمسك المعتضد عن ذلك، قال ابن جرير: وفيها _ أي في سنة مائتين وأربع وثمانين _ عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوّفه عبيد الله الوزير اضطراب العامة فلم يلتفت، وكتب كتاباً في ذلك ذكر فيه كثيراً من مناقب علي ومثالب معاوية فقال له القاضي يوسف: يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه، فقال: إن تحركت العامة وضعتُ السيف فيها، قال: فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت عليهم السلام كانوا إليهم أميل، فأمسك المعتضد عن ذلك.
فنصيحة هذا القاضي في افتعال الأزمات المفترضة عند اعلان المعتضد لعقيدته علناً تدفعه إلى الحذر من أهل البيت عليهم السلام وكون الناس إليهم أميل _ حسب تعبير القاضي _ الا أن القاضي يتجاهل الواقع فيخفي في نفسه ما الله يبديه من توهج أهل البيت عليهم السلام وألق مكانتهم في قلوب الناس، الا أن القاضي حاول تأجيج مخاوف المعتضد وتهويل هواجس ما يؤول الأمر إليه، وهذه الحالة تُظهر تعاطي حاشية البلاط وأتباع النظام مع أئمة أهل البيت عليهم السلام بشكل يوحي إلى خطورة وجودهم وكان التعامل مع الإمام الحسن العسكري عليه السلام الموحي إلى مخاوف النظام ينعكس على علاقته بالإمام عليه السلام حيث ايداعه المتكرر في السجن ومحاولة تغييبه ومن ثم تصفيته.
هذه بعض دواعي تعرّض الإمام الحسن العسكري عليه السلام _ فيما نحسب _ للاضطهاد والتنكيل، ويبقى الإمام مهما حاولوا من تغييب شخصه الشريف، فإن نوره يسطع في آفاق الدنيا وأرجاء الزمان.
الهوامش
(1) صحيح البخاري باب الأحكام.
(2) سنن أبي داود: ح4: 101.
(3) سنن أبي داود: ح4: 101.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 331.
(5) المصدر السابق: 333.
اللهم عجل لوليك الفرج
الإمام الحسن العسكري عليه السلام
التحديات المحسوبة في ظل نظام مهزوم
السيد محمد علي الحلو/ رئيس تحرير مجلة الإنتظار
لم تبدأ فترة إمامة الحسن العسكري عليه السلام ، حتّى نشطت السلطة العباسية بالحد من تحركاته وانتهاج سياسة (التغييب الجسدي) وذلك بإيداعه في عدّة سجون، ولعــل تعرضه للسجون المتكررة من قبل النظام يذكّرنا بمحنة الإمام موسى بن جعفر عليه
السلام الذي تعرّض من ذي قبل إلى نفس السياسة والاجراءات التعسفية التي انتهت بتصفيته عليه السلام في أحد سجون الرشيد وكما هو معروف.
وإذا كانت سياسة الرشيد حيال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قائمةً على الحد من نشاطه ومطاردة قواعده الشعبية التي توجّس منها الرشيد الخيفة، فإن سياسة المعتمد العباسي حيال الإمام الحسن العسكري عليه السلام أخذت منحىً آخر من سياسة البطش والتصفية على صعيد التغييب الفكري والجسدي، لذا فقد عانى الإمام العسكري عليه السلام حالات سجنٍ عدة، وكان يصاحب فترات تغييب الإمام عليه السلام في سجنه عدد من أصحابه وخاصته أمثال أبي هاشم الجعفري الذي كان حاملاً لسر الإمام وأحد حوارييه المقربين، فكان النظام يلقي عليه القبض ويودعه السجن كحالة احترازية يتصوّر النظام ضرورة اتخاذها في هذا الظرف المتشنج، وكذا الحال بالنسبة لأصحاب الإمام الآخرين مثل القاسم بن محمّد العباسي ومحمد بن عبيد الله ومحمد بن إبراهيم العمري وغيرهم، والجدير بالذكر أن هؤلاء أودعوا السجن بسبب حادثة اغتيال عبد الله بن محمّد العباسي أحد أعوان النظام، مما يدلل على أن النظام بات مهزوزاً من داخله نتيجة الصراعات المستمرة داخل البيت العباسي والتي كادت تقوّض أركانه، والنظام في حالاتٍ كهذه يحاول أن يحمّل مسؤولية هذه الاغتيالات التي تحدث على أيدي أجنحة النظام المتنافسة، أن يحمّلها المعارضة، ولمّا كانت القواعد الموالية للإمام العسكري عليه السلام معارضةً قويةً في نظر النظام فهي المرشحة بالتالي لتلقي ضغوطات النظام يوم يشعر العباسيون بخطر التحركات المضادة للنظام والمتنافسة بينها.
اذن تُعد ظاهرة تعرض الإمام العسكري عليه السلام وقواعده الشعبية كذلك لحالات الحبس المتكررة مؤشراً على ضعف النظام وشدة التجاذبات المتعاكسة داخل البيت العباسي التي تُعدُ حالةً مستجدة يشهدها بنو العباس أبان ملكهم.
هذه هي احدى دواعي تعرّض الإمام العسكري عليه السلام لمضايقات السلطة وايداعه في سجونها لمرات متكررة.
الا أن ذلك لم يُعد سبباً مباشراً، فإن تحضيرات أمنية تشهدها الساحة السياسية عند تسلّم الإمام العسكري عليه السلام مقاليد الإمامة وتحركاً مشوباً بالحذر يبدو على فاعليات مفاصل السلطة العباسية، وتوجساً يُلفت الانتباه يصاحب تعاطي السلطة مع الإمام عليه السلام يُثير تحفظات القواعد الموالية للإمام عليه السلام ، وكل هذه التحولات الجديدة في سياسة النظام _ وان كانت لم تختلف عن سابقتها إبّان حياة الإمام الهادي عليه السلام _ الا أن في عهد الإمام العسكري عليه السلام تتخذ الاجراءات الأمنية شأناً آخر ومساراً يتّسمُ بالعنف والتنكيل والحذر حيال الإمام العسكري عليه السلام وقواعده الموالية. هذه الاجراءات تنطلق من قناعات السلطة العباسية بخطورة عهد الإمام العسكري وحساسية مهمته التي من شأنها أن تثير هواجس النظام الذي بدا واضحاً على تحركاته القلق والفزع من تنامي شعبية الإمام العسكري عليه السلام _ وهي صفة امتاز بها أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلى مختلف مستويات الأمة وطبقاتها وتوجهاتها الفكرية _ الا أن الذي يُميز الإمام العسكري عن غيره من آبائه الطاهرين عليهم السلام لدى السلطة العباسية هو أن الإمام العسكري والد المهدي الموعود الذي سيملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وولادته تعني دق ناقوس الخطر وبداية الثورة والتغيير الاصلاحي العام الذي سيكون من ضمن أهدافه تغيير الأنظمة غير الشرعية، وبنو العباس هم المشمولون بهذا التغيير القادم على يد المهدي الموعود، هذه أهم الأسباب التي شاركت في تكوين هاجس الخوف والانهزام، إذ باتت الشخصية العباسية الحاكمة مهزوزةً تجاه الحدث الجديد _ تولي الإمام العسكري مقاليد الإمامة _ والتي تعني فيما تعني أخيراً حتمية ولادة المهدي الموعود الذي سيكون نهاية النظام على يديه.
هذه خلاصة الفكرة التي تطارد النظام مما دفعه بالسعي إلى استباق الأحداث وذلك بالضغط على الإمام العسكري عليه السلام للسعي في تخفيف وطأة الهاجس الذي بات يصاحب النظام، وهو أمرٌ ممكن في نطاق الاجراءات الأمنية التي يجب أن تتخذها السلطة، الا أن دواعي القلق والخوف لم تكن محسوبة على أساس الاعتبار الغيبي الذي سيشارك في توقيت حركة الإمام المهدي الاصلاحية على خلفيات سقوط النظام الحاكم، والجدير بالذكر أن تحسبات النظام لهذا الخطر القادم يكشف عن قناعته باكتمال مسلسل الأئمة الاثني عشر الذين آخرهم المهدي من آل محمّد، وهذه القناعة ناشئة من وجود الكم الهائل لأحاديث المهدي فضلاً عن أن الخلفاء بعد النبي حقيقةً، إثنا عشر خليفة، فقد روى البخاري بسنده عن شعبة بن عبد الملك قال سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يكون إثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها فقال أبي: أنه قال كلهم من قريش.(1)
مما يعني أن اكتمال عدد الخلفاء الذين يقصدهم الحديث قد اكتمل بولادة المهدي الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يملكون القناعة الكاملة في انطباق مصاديق الحديث على أئمة أهل البيت عليهم السلام دون غيرهم، وان كان الرأي العام مأخوذاً بالاعلام الرسمي للنظام الذي أسبغ على الخلفاء العباسيين صفة الخلافة، مع أن هذه الجهود تتراجع في حقيقتها أمام الواقع الذي يعيشه العباسييون من الصراعات السياسية والتنافسات التي أثقلت الذهنية العامة بتساؤلات تفرضها التجربة العباسية المريرة واجراءات التعسف والتنكيل الذي سلكه النظام من أجل الحصول على شرعيةٍ مفتعلةٍ.
ان الذي يعزز فزع النظام العباسي قناعته التامة بأن المهدي الموعود هو الوليد الذي يولد من الحسن العسكري عليه السلام ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماثلةٌ أمام النظام بكل مفاهيمها ومصاديقها، ومن تلك الأحاديث نماذج تؤكد حقيقةً أن المهدي من عترة الرسول ومن ولد فاطمة عليها السلام ، وأن المهدي حقيقة ثابتة في المفهوم الاسلامي يؤكده التراث النبوي.
ففي سنن أبي داود عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة.(2)
وفيه عن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً.(3)
وفي اعتقادنا أن هذا السبب هو أهم الأسباب التي دعت السلطة العباسية لاتخاذ اجراءات المضايقة وأسلوب السجن والتغييب لشخص الإمام العسكري عليه السلام .
ولم يكن السبب الذي ذكرناه وحيداً في تشنج النظام حيال الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، فإن اخفاقات السلطة العباسية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً دعاها إلى أن تغطي فشلها هذا بالقاء اللائمة على الآخر، أي على المعارضة المتمثلة بشخص الإمام العسكري عليه السلام بل بعنوانه فقط، فقد بات أئمة آل البيت عليهم السلام يشكلون المعادلة الأصعب رقماً في التحديات التي تهدد وجود النظام المفتقر للشرعية الدينية فضلاً عن الشرعية التي يمنحها الشارع العام آنذاك.
فــالتنــافســات التــي حـــدثـت بين أطــراف الصراع داخل البيت العباسي ساعدت في حالة عدم الاستقرار، فضلاً عن شعور البيت العباسي بالانهزامية التي يعاني منها جرّاء هذه النزاعات، ولعل الذي زاد في إرباك المعادلة السياسية وزعزعة ثقة النظام بنفسه هو تولّي التيارات المتنافسة شأن النزاع والتغيير للخليفة الذي لا يتّفق ومصالحها الشخصية، ومما عقّد في الوضع العام هو أن هذه التيارات غير العربية تنطلقُ من منطلقٍ قومي _ تنافسي يحاول ترجيح قوميته على الآخرين وفرض رؤيته السياسية على الواقع العام، حتّى انتهى الأمر أن تكون (الخلافة الإسلامية المدعاة) بإدارة فريق عمل البلاط التركي تارة والفارسي أخرى والرومي في بعض الأحيان، ومعلوم أن التنافس التركي _ الفارسي كان على أشدّه يوم ذاك لتغليب العنصر الأقوى، الا أن العنصر التركي كان صاحب القرار بل صاحب المبادرة كذلك، فمثلاً عند موت المنتصر بالله بن المتوكل _ وإن كنّا نثير الشكوك والتساؤلات عن موت المنتصر المفاجئ بعد ستة أشهر من اغتيال المتوكل على يده، الا أن تكون تصفية المنتصر عملية مدبّرة بعد الانقلاب على سياسة سلفه في إحسانه للعلويين _ فقد قرر الأتراك تعيين المستعين بالله وهو أخو المتوكل، إلا أن ذلك لم يتم حيث تنكّر له الأتراك بعد قتله لوصيف وبغا التركيين اللذين كانا يديران دفة الحكم باسم الخليفة، وكان من ضعف المستعين أمام هذين التركيين أن قيل فيه:
خليفة في قفصٍ بين وصيفٍ وبغا
يقول ما قالا له كما تقول الببغا
حتّى انتهى الأمر بهروب المستعين خوفاً من الأتراك وتعيين المعتز بالله خليفة له، مما دعى المعتز أن يجهّز جيشاً لمحاربة المستعين (استعد أهل بغداد للقتال مع المستعين، فوقعت بينهما وقعات، ودام القتال أشهراً، وكثر القتل، وغَلت الأسعار، وعظم البلاء، وانحل أمر المستعين، فسعوا في الصلح على خلع المستعين نفسه في أول سنة اثنين وخمسين، وأشهد عليهم القضاة وغيرهم..).(4)
ولم يجد المعتز بداً من خلع أخيه المؤيد من العهد نتيجة الصراعات القائمة بينهما، بل حاول تصفيته حيث (ضربه وقيده فمات بعد أيام)(5) إلا أن المعتز كان ضعيفاً تجاه تزايد الشأن التركي في البلاط، وكانت نهاية تصفيته على يد أتراك البلاط بحالٍ يُرثى لها بعد أن لم يستطع تنفيذ مطالبهم باعطائهم أرزاقهم للتبعات المادية التي أثقلت كاهل خزينة الدولة، حتّى أنها لم تعد تسد حاجة رواتب خدم البلاط ورجالاته، فلما لم يستجب المعتز لمطاليب الأتراك هجموا عليه وسحبوه من رجله وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في يوم صائف وهم يلطمون وجهه ويقولون اخلع نفسك، ثم احضروا القاضي ابن أبي الشوارب والشهود وخلعوه، ثم أحضروا من بغداد إلى دار الخلافة _ وهي يومئذ سامراء _ محمّد بن الواثق ـ وكان المعتز قد أبعده إلى بغداد ـ فسلّم اليه الخلافة وبايعه.. ذكر ذلك السيوطي في تاريخه.
هذه هي تداعيات الصراع السياسي المحموم من أجل تحقيق المصالح الشخصية والأهداف السياسية، ويجد الباحث أن منطق الانقلاب والتسابق السياسي قد أخذ مأخذه ـ ولم يكن القرار حينئذ إلا بيد التيارات الموالية لهذا الخليفة أو الساخطة على ذاك، وكانت المعادلات السياسية تُدار من قبل الأتراك مرة أو الفرس أخرى، أي صارت سامراء العاصمة أو بغداد مرتعاً للتحزّبات الفكرية المناهضة للخليفة أو المؤيدة له، وهذا يعني أن الخلافة العباسية تتعرض الى حالات الضعف والاهتزاز بما يجعل الخليفة يشعر بالانهزام والاخفاق على كل الصُعد، وهذه الحالة تدفع بالخليفة إلى الانصياع لأهواء التيارات المتصارعة منفّذاً لرغباتها، ويبدو أنه يتّفق معها في أن الجميع يشعرون بعد هذه الاخفاقات _ بالهزيمة الحقيقية، فينعكس ذلك على تعاملهم مع الإمام العسكري ومن قبله والده الإمام الهادي عليهما السلام .
اذن حالة الاخفاق السياسي لاطراف النزاع تتدخل في تحقيق رغبة التضييق على الإمام العسكري عليه السلام ليعبّروا عن هذه الهزيمة بالسجن المتكرر لشخص الإمام.
ولعل حادثة المعتضد العباسي حينما عزم على تغيير مساره الفكري وتوجهاته العقائدية، وذلك بعزمه على لعن معاوية على المنابر وإظهار فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام ، كانت سبباً في توجس الجهاز العباسي وخشيته أن يكون لآل علي شأنٌ في الاحداث، فعملوا على ثني المعتضد عن عزمه بتخويفه من اضطراب العامة فأمسك المعتضد عن ذلك، قال ابن جرير: وفيها _ أي في سنة مائتين وأربع وثمانين _ عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوّفه عبيد الله الوزير اضطراب العامة فلم يلتفت، وكتب كتاباً في ذلك ذكر فيه كثيراً من مناقب علي ومثالب معاوية فقال له القاضي يوسف: يا أمير المؤمنين أخاف الفتنة عند سماعه، فقال: إن تحركت العامة وضعتُ السيف فيها، قال: فما تصنع بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت عليهم السلام كانوا إليهم أميل، فأمسك المعتضد عن ذلك.
فنصيحة هذا القاضي في افتعال الأزمات المفترضة عند اعلان المعتضد لعقيدته علناً تدفعه إلى الحذر من أهل البيت عليهم السلام وكون الناس إليهم أميل _ حسب تعبير القاضي _ الا أن القاضي يتجاهل الواقع فيخفي في نفسه ما الله يبديه من توهج أهل البيت عليهم السلام وألق مكانتهم في قلوب الناس، الا أن القاضي حاول تأجيج مخاوف المعتضد وتهويل هواجس ما يؤول الأمر إليه، وهذه الحالة تُظهر تعاطي حاشية البلاط وأتباع النظام مع أئمة أهل البيت عليهم السلام بشكل يوحي إلى خطورة وجودهم وكان التعامل مع الإمام الحسن العسكري عليه السلام الموحي إلى مخاوف النظام ينعكس على علاقته بالإمام عليه السلام حيث ايداعه المتكرر في السجن ومحاولة تغييبه ومن ثم تصفيته.
هذه بعض دواعي تعرّض الإمام الحسن العسكري عليه السلام _ فيما نحسب _ للاضطهاد والتنكيل، ويبقى الإمام مهما حاولوا من تغييب شخصه الشريف، فإن نوره يسطع في آفاق الدنيا وأرجاء الزمان.
الهوامش
(1) صحيح البخاري باب الأحكام.
(2) سنن أبي داود: ح4: 101.
(3) سنن أبي داود: ح4: 101.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 331.
(5) المصدر السابق: 333.
اللهم عجل لوليك الفرج