عاشق داحي الباب
06-03-2011, 01:19 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
يسألونك عن الدليل على الولاية في القرآن الكريم
الكثير من الناس يتساءلون عن الدليل على الولاية من القرآن الكريم.. والسؤال يوجه إلى الشيعة من قبل الصديق والعدو؛ نظراً إلى أن الشيعة يعدون الولاية من أركان الدين المقدس.. ومن المؤسف أن تدني المستوى الثقافي عند بعض أهل الولاية يجعلهم مترددين في الإجابة، مما قد يوحي إلى ضعفاء العقول بأن القرآن ليس فيه أدلة صريحة تدل على الولاية التي يعتقد بها الشيعة..
ولأهمية ذلك فتحت هذا الموضوع لأدلي بدلوي القاصر في هذا المجال، وأقدم وجهة نظري في الموضوع.. سائلاً الله عز وجل أن يؤيدني بتوفيقه وتسديده.
فلنبدأ على بركة الله.
أولاً: ما هو المقصود بالولاية في عقيدة شيعة أهل البيت عليهم السلام؟
إن الولاية يقصد بها معنى عام تارة، ويقصد بها معنى خاص تارة أخرى.
والولاية بالمعنى العام تعني الانقياد لحجة الله في الأرض، سواء كان نبياً، أو وصي نبي، أو فقيهاً يحرس علم الوصي. فمن كان يجسِّد حكم الله تعالى فإنه يجب اتباعه والانقياد له.
وأما الولاية الخاصة فيقصد بها انطباق تلك الولاية العامة في أشخاص معينين بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهم المطهرون من أهل بيت النبوة. وبعبارة أخرى: إن الولاية بهذا المعنى الخاص تعني أن سلسلة الحُجج لم تنقطع بعد وفاة النبي، بل استمرت في الخاصة المصطفاة من أهل بيته عليهم السلام.
إذا فهمنا الفرق بين معنيي الولاية، وعرفنا أن عقيدة الولاية التي ينادي بها شيعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تتركب من عنصرين، وتتألف من بعدين، وتتقوم بشعبتين: الولاية العامة والولاية الخاصة.. إذا عرفنا ذلك وفهمناه جيداً؛ حان لنا أن نتطرق إلى دليل كل من الولايتين في القرآن الكريم؛ ليتكون بذلك بناء الولاية من القرآن الكريم. وهو ما نتطرق له ثانياً وثالثاً، فاقرأ وافهم واغتنم وتبصَّر، واسأل الله أن يرزقني وإياك البصيرة التي ندرك بها نورانية الحق.
ثانياً: ما هو الدليل على الولاية العامة من القرآن الكريم؟
إن الولاية العامة، وهي الانقياد لحجة الله في الأرض، هي من ضروريات الدين الإسلامي، والتي لا يختلف فيها مسلم مع مسلم.. فالسنة والشيعة والزيدية والإباضية ووو... جميعهم يعتقدون بأن الله تبارك وتعالى يحتج على عباده بمجموعة من المصطفين فيجعلهم حججاً على العباد، ويوجب على البقية التبعية والانقياد..
والدليل على هذه الولاية العامة ـ التي هي بمعنى وجوب الانقياد لحجة الله ـ من القرآن الكريم، هي الآيات التي تتحدث عن الأنبياء والحجج الإلهيين وتتضمن الدلالة الصريحة على لزوم الانقياد لحجة الله .
وهذا غني عن التوضيح والبيان.. ومع ذلك نذكر بعض الآيات التي تدل على ذلك:
قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء: 64)
وقال تعالى حكاية عن أقوال عدة أنبياء قص خبرهم في القرآن الكريم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) .
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 31 ـ 32)
فجعل الاتباع هو مناط محبة الله ومغفرته.
وجعل علامة الإيمان قول العباد: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285)
وأكد ذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51)
وجعل السر في ضلال أهل النار عدم الانقياد لطاعة حجة الله، وكونهم انقادوا لطاعة أئمة الضلال، فقال: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: 66 ـ 67)
إلى غير ذلك من الآيات التي جعلت الاتباع والاقتداء بحجج الله، مناطاً للإيمان وشرطاً لمحبة الله تعالى.
فإن قلتَ: لعل هذا خاص بالأنبياء.
أجبتك:
إنَّه تخصيص بغير دليل.. والتخصيص يحتاج إلى موجب له بدليل يدل عليه، ودعوى التخصيص بغير دليل لا يُسمع إليها.
أضف إلى ذلك أنّ الآيات التي تحدثت عن ولاية الأنبياء لا يفهم منها اختصاصها بعنوان النبوة، بل الملاك فيها إحاطة الحجة بحكم الله والعلم بكتابه، فكل من كان ملماً بحكم الله، مستنداً فيه إلى كتابه، منطلقاً فيه من ذكره؛ كان حجة ومرجعاً.. وهذا التعميم للملاك يُفهم بالتحليل العقلي، كما يُفهم من العديد من التعابير القرآنية الواضحة في العديد من الآيات التي ذكرناها في الاستعراض آنف الذكر.
وأضف إلى ذلك أنّ الآيات القرآنية التي تحدثت عن الولاية والحُجج، لم تكتف بالحديث عن الأنبياء، ولا جعلتهم المصداق الوحيد، بل تحدث القرآن الكريم عن ولاية طالوت، وتحدث عن ولاية ذي القرنين، وتحدث عن الحُكم في آل إبراهيم (وليس من المعلوم كونهم جميعاً أنبياء) ، كما تحدث عن الربانيين والأحبار من بني إسرائيل.. إلى غير ذلك من الدلائل التي يمكن أن يكتشفها المتدبر لكلام الله تعالى، مما يدل على اتساع قاعدة الولاية وشمولها لغير الأنبياء عليهم السلام.
ومن هنا نفهم السر في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)
فبعد أن كان التعبير (اتقوا الله وأطيعوني) ، صار التعبير (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ؛ ليدل القرآن الكريم بذلك على أن النكتة الموجبة للاتباع والطاعة هي صدق الأنبياء، فكل من كان مستوى صدقه في مستوى صدق الأنبياء، يكون اتباعه واجباً.
ومن هنا أيضاً نجد التعبير بالاصطفاء لم يتعلّق بعنوان (النبوة) ، بل جعله عاماً في الآل؛ ليدل بذلك على أن القضية ليست متوقفة على النبوة، بل متوقفة على مستوى من الصدق والاصطفاء، وذلك في قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33)
وهكذا أيضاً نجد التعبير غير متوقف على عنوان النبوة في قوله تعالى:
(فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)
فإن قلتَ: إن الكتاب هو كناية عن النبوة.
أجبتك: ليس كناية عن النبوة، فقد استعمل التعبير بميراث الكتاب بعد النبي صلى الله عليه وآله، وذلك في قوله تعالى:
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) . والمفسرون يصرحون بأن المقصود بذلك أناس بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ومن المعلوم بالضرورة انقطاع النبوة بوفاة النبي صلى الله عليه وآله، فعُلم بذلك أن الكتاب ليس تعبيراً وكناية عن النبوة.
ويؤكِّد هذا المعنى من الولاية صريحُ قوله تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة: 44)
فإن هناك تقسيماً ثلاثياً لحجج الله على الناس في بني إسرائيل: الأنبياء، والربانيون، والأحبار.
ومن الواضح أن الله يعطي لحكمهم الحجّية على أساس أنّهم يحكمون بالتوراة التي فيها حكم الله..
ولو فكّرت في السر في هذا التقسيم الثلاثي؛ لن تجد أفضل مما قلنا آنفاً من أنّ الحجَج ثلاثة درجات: النبي، والوصي، والعالم.
ومن الملفت للانتباه أن المفسرين من علماء أهل السنة (في حدود ما طالعت) لا يقدّمون تبريراً مقنعاً لهذا التقسيم، ويفسرون الربانيين والأحبار بمعنى واحد.
ومما يزيدنا اطمئنان بصحة ما فهمناه من أن الحجية في القرآن الكريم تتعدى الأنبياء إلى حُجج آخرين: قوله تعالى الذي قرأناه آنفاً: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51) ؛ فإن الآية تتحدث عن دعوة إلى الله والرسول.. وهذا يعني أن هناك داعياً غير الله وغير الرسول؛ لأنه يدعو إلى الله والرسول، وهذا يعني أن الله تعالى يجعل الحجية ولزوم الانقياد لأشخاص دعاة إلى الله والرسول، وليس لله وللرسول فحسب.
وهكذا نكون قد عرفنا أن القرآن يؤكد على الولاية العامة، أي الانقياد والتبعية لحجج الله تعالى في الأرض.
وهذا ـ كما أسلفنا ـ أمرٌ لا يختلف فيه اثنان، ولكن قد يتوهم البعض اختصاصه بالأنبياء، وهو ما قد نبهنا على عدم صحته.
==
وقبل أن نلج في استعراض أدلة الولاية الخاصة من القرآن الكريم؛ نرى من المناسب أن نسرد مجموعة من الآيات الأخرى على الولاية العامة فيما يلي:
قال الله العظيم:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30) .
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 29 ، ص: 72) .
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (الحجر: 30 ، ص: 73) .
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (الحجر: 31) .
(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (ص: 74) .
(وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 31)
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة: 247 ـ 248) .
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص: 26) .
(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص: 20) .
(وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة: 251) .
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 30) .
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ . وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ) (ص: 35 ـ 40) .
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف: 4)
(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف: 5)
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6)
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 21 ـ 22)
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 37 ـ 38)
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 56)
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)
(رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101)
(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) (الفرقان: 35)
(وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 142)
(قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (طـه: 85)
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طـه: 90)
(قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طـه: 94)
(قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 150)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا . قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) (الكهف: 83 ـ 88) .
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128) .
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 28) .
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (العنكبوت: 27) .
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33 ـ 34)
نكتفي بهذا القدر من آيات الولاية العامة..
====
ثالثاً: ما هو الدليل على الولاية الخاصة من القرآن الكريم؟
ومعنى الولاية الخاصة: أنّ حُجَج الله تعالى بعد النبي هم أناس من ذريته وأهل بيته؛ لهم مقام وجوب الطاعة لأنّهم يجسّدون حكم الله قولاً وعملاً وتقريراً، أي أنّهم معصومون على حد عصمة النبي، ويتحمّلون المسؤوليات الهدائية التي قام بِها النبي.
تمهيد:
بعد أن عرفنا أنّ القرآن الكريم طرح وبكلّ وضوح الولايةَ العامة، والتي كانت تعني مرجعية وقيادة مجموعة من النبيين والربانيين والأحبار، على أساس ما لديهم من علم الكتاب، بما جعلهم مؤهلين لأنّ يكونوا حُكاماً في الأرض، وأصحاب مُلك وولاية.. بعد أن عرفنا ذلك آن لنا أن نتطرق إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن الولاية الخاصة، والتي تعني استمرار طراز المصطفين في ذرية النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم حُجج الله الذين يتكفلون بممارسة الدور الهدائي.
والقرآن الكريم لم يثبت الولاية الخاصة بآية واحدة تتكفل برسم ملامح الصورة جميعها وبصورة واضحة جلية، بل تكفل القرآن بذلك عن طريق نسيج من الآيات تكمل بعضها بعضاً.. وهذا لا يعني أن كل آية لا تصلح لوحدها للدلالة، بل يعني أن غير المتدبر ممن على قلبه بعض الأقفال (الكبيرة أو الصغيرة) ؛ لن يحسن فهم الولاية بآية واحدة.. ولعل السر في ذلك أنّ هذا النحو من الهداية عبارة عن هداية اختبارية؛ لأنه لا يسهل لكل أحد أن يهتدي إليها، بل لا بد من صفاء في النفس واستقامة وتوبة، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في مدلول (هدى للمتقين) مع ضمها إلى (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .. ولعل السر الآخر في هذا النمط من الهداية القرآنية إلى الولاية هو حفظ القرآن الكريم من التحريف؛ فلو أنه كانت في القرآن الكريم آية جلية نَصّية تحدد مفهوم الولاية وأصحابها؛ لكان ذلك مدعاةً لأهل الباطل لأن يعملوا على محاربة القرآن الكريم..
وبِهذا تعرف السر فيما يرتكبه الذين على قلوبهم أقفالٌ؛ حيث يطلبون في مثل هذه البحوث آية واحدة.. فإنهم إنما يلجؤون إلى هذه الحيلة لإدراكم أو إدراك شياطينهم أن الولاية الخاصة في القرآن الكريم لم يتم طرحُها بصورة نصية في آية واحدة، بل في نسيج من الآيات.
ولكنها حكمة الله تعالى، حيث قدّر أن يكفر كفّار الولاية بآيات عديدة، لا بآية واحدة فحسب..!
ولنبدأ ببيان نسيج بل أنسجة الولاية الخاصة في القرآن الكريم.. وفي نهاية المطاف سوف نقوم بجمع المضامين لتشكل عناصر ركنية تتكون منها الصورة المتكاملة للولاية الخاصة في أحلى وأجلى وأوضح وأمتن وأكمل وأتم صورة ومظهر.. (وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُو الأَلبَابِ) .
والآن مع نور الهداية وآيات القرآن الكريم..
الأئمّة في هذه الأمّة هم الْمُصطفَون من ذُرّية إبراهيم عليه السلام:
بعد أن بين الله تعالى أنه هو الذي يجعل الخليفة، وهو الذي يجعل الْمُلك (الشرعي) حيث يشاء، ذكر القرآن الكريم أن استمرار الولاية والإمامة في ذرية إبراهيم يخضع لشرط انتفاء الظلم، فقال تعالى:
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)
فإبراهيم ـ عليه السلام ـ طلب من الله أن تستمر الولاية والإمامة في ذريته. وسوف نرى أن دعاءه قد تكلل بالإجابة من الله تبارك وتعالى.
وبما أنّ الله تعالى بين أن الولاية لا تكون في الظالم من ذريته، كان هناك تطوير من قبل إبراهيم وإسماعيل في صياغة الدعاء، فعبرا عن الذرية التي يطلبون فيها الإمامة بـ (أمة مسلمة لك) ، فقال تعالى:
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128) .
أي أن إبراهيم طلب من الله تعالى الإسلامَ والإمامةَ في ذريته.. فهل استجاب الله له دعاءه؟
قال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 28) .
أي أن الله تعالى جعل التوحيد والإخلاص في ذرية إبراهيم عليه السلام، وهذا ما يؤكد بقاء التوحيد في آباء وأجداد رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لأنهم ذرية إبراهيم، وليس كما يتصوّر بعض الخاطئين من أنَّ آباء النبي كانوا كُفّاراً والعياذ بالله تعالى. هذا في خصوص الإسلام وبقائه في ذرية إبراهيم عليه السلام.
وأمَّا الإمامة والولاية في ذرية إبراهيم عليه السلام، فقد قال الله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (العنكبوت: 27) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 26) .
فالله تعالى جعل النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم عليه السلام، وذلك بعد استثناء الظالمين منهم كما تفيد الآية 124 من سورة البقرة بقوله تعالى: (قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) .
وعبر القرآن الكريم عن الإسلام والإمامة في ذرية إبراهيم بالاصطفاء، فقال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33 ـ 34)
ولم يكتف القرآن الكريم بالإخبار باستجابة دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بإبقاء الإسلام والولاية في ذريتهما، بل أخذ القرآن الكريم يخاطب الذرية المصطفاة بقوله:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143) .
وهذه الآية الكريمة تخاطب أناساً من أمّة محمد صلى الله عليه وآله، وتصفهم بالأمّة الوسط، وتعطيهم مقام الشهادة على أعمال العباد في الدنيا والآخرة.. وسوف ترى كيف أن هذه المضامين تم تأكيدها بأنحاء ووجوه عديدة في القرآن الكريم.
ولو فكّرتَ في ابتداء الآية بـ (وكذلك) ستفهم أنّها إشارة إلى أمر تريد الآية تشبيه المخاطبين به، وهذا الأمر المشبَّه به ليس إلاّ ما ذكر في الآية التي قبلها مباشرة، وهو الصراط المستقيم؛ لأنّ الآيات بهذا النسق:
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...) (البقرة: 142 ـ 143)
فالآية تقول إنَّ المخاطبينَ هم بمثابة الصراط المستقيم، ولذا تم الربط بـ (كذلك) ليكون المعنى: أنَّ الله جعلكم أمَّةً وسطاً بمنزلة الصراط المستقيم الذي يهدي إليه الله من يشاء. ويجدر بنا الانتباه إلى الاتحاد في المعنى بين (الصراط المستقيم) و(الوسط)، فإن السبيل الوسط هو المستقيم دون ما عداه من السبُل.
وإذا كانوا هم الوسط ؛ فلا ريب أنهم الأئمة؛ لأن الوسط هو المعيار لقياس الاستقامة بالنسبة إلى جميع المسارات..
وقد أعاد القرآن الكريم مخاطبة هؤلاء المصطفين من ذرية إبراهيم في هذه الأمّة بقوله:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110)
و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تعبير عن إمامتهم.
فإن قلتَ: فما يمنع أن يقال بأن الآية عامة في جميع الأمّة الإسلامية؟
أجبتك: إن هذا يتنافى مع وصف (خير أمّة) ؛ فإنّ الأمة الإسلامية كغيرها من الأمَم ، بل ورد في العديد من النصوص الإسلامية أنّ كل ضلالة وهدى كان في الأمم السالفة، يكون مثله في هذه الأمة.. فلا وجه للحكم بخيرية الأمّة على علاّتها. أضف إلى ذلك أنّ الآية تدل على أن السر في الخيرية هو التميز بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الواضح أنّ هذه الوظيفة العظيمة لا يمارسها جميع الأمّة ولا نصفها.. بل أقل القليل منهم. ومما يؤكد لك صحة أنّ المراد بهذا الخطاب بعض الأمة وليس جمعها: قوله تعالى:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)
فإنّ المرتبة التي تحقق حقيقةَ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست إلا لطراز خاص من هذه الأمّة، وليس لجميع الأمة، وهم هؤلاء الأئمة المخاطبون بهذه الآيات.
ولعلك تسأل: ما الدليل على أن هؤلاء المخاطبين هم من ذرية إبراهيم عليه السلام؟
سأجيبك: إنّ هذا يفهم من مقارنة الآيات المذكورة بعضها ببعض، ويزيدها وضوحاً أن الله أضاف في خطاب قرآني آخر:
(هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج: 78) .
فهذه الآية تخاطب أناساً يمثِّل إبراهيم ـ عليه السلام ـ أباً لهم، ومن الواضح أنّ الأمّة الإسلامية جميعها ليست من ذرية إبراهيم . إضافة إلى أن الآية تعبر عن المخاطبين بأنّهم مجتبَون، وهذا يربط الآية بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33) . كما تعطيهم مقام الشهادة على أعمال العباد، وهذا ما يجعل الآية ترتبط بكل وضوح مع الآية السابقة التي جاء فيها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143) ، إضافة إلى أنّ (هو سماكم المسلمين) إشارة إلى قول إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة: 128) ، وحصيلة هذا أنّ المخاطبين بـ (هو اجتباكم...) هم ذرية إبراهيم الذين كان دعاء إبراهيم أن يكونوا أئمة وأمة ومسلمة.
وبهذا نكون قد عرفنا بكل وضوح أنّ المصطفين من ذرية إبراهيم ـ عليهم السلام ـ الذين دعا إبراهيم أن تكون الإمامة فيهم، قد تمت مخاطبتهم في هذه الأمّة، وتمّ في هذا الخطاب بيان أنّهم مُجتبون وأمّة وسط من ذرية إبراهيم، وشهداء على الناس، وأنّهم يمارسون مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثمّ إنّ آية سورة الحج 78 : (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، وكذا آية سورة البقرة 143 : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ، قد أعطتا هؤلاء المخاطبين مقامَ الشهادة على العباد، ومقام الشهادة هو المقام التالي لمقام الأنبياء في قوله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الزمر: 69) ،
فيظهر أنّ لهؤلاء الشهداء في موقف القيامة دوراً في حساب الناس نظراً إلى أنهم يُحضرون أوّلاً مع الأنبياء عليهم السلام، مع أنّه لا ينبغي توهّم أن يكون للأمّة الإسلامية (بالمعنى العام) مقام الشهادة على الأُمَم الأخرى؛ كيف وهذه الأمّة فيها ما فيها من أهل المعاصي، وحسبهم أنّه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه أخبر بكون معظم أقسام الأمّة في النار، وذلك في حديث افتراق الأمّة إلى نيف وسبعين فرقة؛ فلا بدَّ من التفريق بين المعنى المقصود بالأمّة في الآية التي نحن بصددها، وبين الأمّة في المعنى العام.
وقد تصوّر بعض المفسِّرين، كالطبري في تفسيره، أنّ الأمّة الإسلامية ستشهد بتبليغ أنبياء الله السابقين حين تُنكر أُمَمُهم يوم القيامة، وهو كلام واضح البطلان؛ إذ ما هو الداعي لإعطاء أهل المعاصي هذا المقام؟ ثم كيف تدلي الأمّة الإسلامية بشهادة على أمر لم تشهده؟! فإن قيل ـ وقد قيل ـ : إنهم يشهدون بمعنى التصديق بما جاء به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، وهو يتضمن تبليغ الأنبياء السابقين، قلنا: هذا تحصيل حاصل؛ لأنهم رووا ـ كما في تفسير الطبري ـ أنّ الأُمَم ليست كلّها كافرةً مُنكرة، بل فيها المصدِّق وفيها المكذِّب، فإذ حصل التصديق من أُمّة نفس النبي السابق، وهو تصديق مع شهادة حسية، فما الحاجة إلى شهادة الأُمّة الإسلاميّة؟!
أضف إلى ذلك أنّ تفسير (الشهادة) بـ (مُجرّد التصديق) هو نوع من التصرّف والتأويل بغير مُوجب ودليل.
بل الصحيح أنّ الشهادة مقامٌ المخلَصين الذين ورثوا الكتاب من ذرية إبراهيم بعد رسول الله صلى الله عليه، وخير دليل عليه قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...) (التوبة: 105) فإن الآية تخاطب جميع المكلفين وفي مقدِّمتهم: الأمّة الإسلاميّة، فمن ذلك يتّضح أنّ الذين يرون، هم طراز خاص من المؤمنين، بل لا يزعم مقامَ الرؤية غيرُ المصطفين؛ للفرق بين النظر والرؤية، فإنه لا يرى العمل إلا من له اطلاع على باطنه كما له اطلاع على ظاهره، وأمّا من ينظر فلا يرى إلا الحركات والسكنات، فهذا لا يرى العمل حقيقة، بل لا يرى إلا القسم الأضعف منه، فكيف يصح له أن يشهد، بل كيف يصح له أن يُسمّي نظره رؤيةً.
وهذه الرؤية التي تمّ ذكرُها في سورة التوبة هي التي تصلح أن تكون تمهيداً للشهادة يوم القيامة.
ثم كيف يسوغ تفسير (الأمّة) بجميع الأمّة بعد الذي نوّه به القرآن الكريم من أنّ الأمّة المخاطبة عبارة عن أشخاص مصطفين مجتبين، فقال: (هو اجتباكم) (الحج: 78) ، وكيف يسوغ ذلك بعد تصريح القرآن أن المخاطبين هم من ذرية إبراهيم بقوله من نفسه الآية (ملة أبيكم آدم) .
ومن المعلوم أنَّ الأمَّة الإسلامية ليست جميعها منتميةً إلى إبراهيم بالنسب، وينبغي ألاّ تغفل عن تجاوز كبار المفسرين ـ كالطبري في تفسيره ـ لهذه النقطة وعدم بيانه لها، كما فعل ابن كثير أيضاً، وحاول ابن عاشور في تفسيره أن يحلّ هذه الإشكالية بحمل ذلك على الأغلب، أو التأويل بالحمل على معنى اعتباري للأبوة..!
وهذه محاولة غير سديدة؛ لأنّ حمله على الأغلب دعوى تفتقر إلى دليل على كون أغلب المسلمين في زمن النزول كانوا منتسبين إلى إبراهيم عليه السلام، على أنه يستلزم حصر الآية لجيل خاص من المسلمين يغلب فيهم المنتسبون إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا لازم باطل. وأمّا التأويل فهو أيضاً بغير مقتض بعد وجود وجه آخر للتفسير، وهو الذي نقوله من حمل الآية على خصوص المصطفين من ذُرّيّة إبراهيم الذين ورثوا الكتاب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وحصيلة الدلالات الواضحة ـ كما رأيت ـ أنّ الأئمّة الولاة في هذه الأمّة هم الذين اجتباهم الله من ذرية إبراهيم عليه السلام، وقد جُعلوا شهداء على الناس، وأُوكلت إليهم مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأبرز مهمة يمكن أن تناط بالإمام وتُذكر كعنوان لوظائفه الجسيمة ومهامّه العظيمة، وهم بمثابة الصراط المستقيم، ولهذا هم الأمّة الوسط.. وهذا كله بجعل من الله واصطفاء منه.
===
اللهم صل على محمد وآل محمد
يسألونك عن الدليل على الولاية في القرآن الكريم
الكثير من الناس يتساءلون عن الدليل على الولاية من القرآن الكريم.. والسؤال يوجه إلى الشيعة من قبل الصديق والعدو؛ نظراً إلى أن الشيعة يعدون الولاية من أركان الدين المقدس.. ومن المؤسف أن تدني المستوى الثقافي عند بعض أهل الولاية يجعلهم مترددين في الإجابة، مما قد يوحي إلى ضعفاء العقول بأن القرآن ليس فيه أدلة صريحة تدل على الولاية التي يعتقد بها الشيعة..
ولأهمية ذلك فتحت هذا الموضوع لأدلي بدلوي القاصر في هذا المجال، وأقدم وجهة نظري في الموضوع.. سائلاً الله عز وجل أن يؤيدني بتوفيقه وتسديده.
فلنبدأ على بركة الله.
أولاً: ما هو المقصود بالولاية في عقيدة شيعة أهل البيت عليهم السلام؟
إن الولاية يقصد بها معنى عام تارة، ويقصد بها معنى خاص تارة أخرى.
والولاية بالمعنى العام تعني الانقياد لحجة الله في الأرض، سواء كان نبياً، أو وصي نبي، أو فقيهاً يحرس علم الوصي. فمن كان يجسِّد حكم الله تعالى فإنه يجب اتباعه والانقياد له.
وأما الولاية الخاصة فيقصد بها انطباق تلك الولاية العامة في أشخاص معينين بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهم المطهرون من أهل بيت النبوة. وبعبارة أخرى: إن الولاية بهذا المعنى الخاص تعني أن سلسلة الحُجج لم تنقطع بعد وفاة النبي، بل استمرت في الخاصة المصطفاة من أهل بيته عليهم السلام.
إذا فهمنا الفرق بين معنيي الولاية، وعرفنا أن عقيدة الولاية التي ينادي بها شيعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ تتركب من عنصرين، وتتألف من بعدين، وتتقوم بشعبتين: الولاية العامة والولاية الخاصة.. إذا عرفنا ذلك وفهمناه جيداً؛ حان لنا أن نتطرق إلى دليل كل من الولايتين في القرآن الكريم؛ ليتكون بذلك بناء الولاية من القرآن الكريم. وهو ما نتطرق له ثانياً وثالثاً، فاقرأ وافهم واغتنم وتبصَّر، واسأل الله أن يرزقني وإياك البصيرة التي ندرك بها نورانية الحق.
ثانياً: ما هو الدليل على الولاية العامة من القرآن الكريم؟
إن الولاية العامة، وهي الانقياد لحجة الله في الأرض، هي من ضروريات الدين الإسلامي، والتي لا يختلف فيها مسلم مع مسلم.. فالسنة والشيعة والزيدية والإباضية ووو... جميعهم يعتقدون بأن الله تبارك وتعالى يحتج على عباده بمجموعة من المصطفين فيجعلهم حججاً على العباد، ويوجب على البقية التبعية والانقياد..
والدليل على هذه الولاية العامة ـ التي هي بمعنى وجوب الانقياد لحجة الله ـ من القرآن الكريم، هي الآيات التي تتحدث عن الأنبياء والحجج الإلهيين وتتضمن الدلالة الصريحة على لزوم الانقياد لحجة الله .
وهذا غني عن التوضيح والبيان.. ومع ذلك نذكر بعض الآيات التي تدل على ذلك:
قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء: 64)
وقال تعالى حكاية عن أقوال عدة أنبياء قص خبرهم في القرآن الكريم: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) .
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 31 ـ 32)
فجعل الاتباع هو مناط محبة الله ومغفرته.
وجعل علامة الإيمان قول العباد: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة: 285)
وأكد ذلك في قوله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51)
وجعل السر في ضلال أهل النار عدم الانقياد لطاعة حجة الله، وكونهم انقادوا لطاعة أئمة الضلال، فقال: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب: 66 ـ 67)
إلى غير ذلك من الآيات التي جعلت الاتباع والاقتداء بحجج الله، مناطاً للإيمان وشرطاً لمحبة الله تعالى.
فإن قلتَ: لعل هذا خاص بالأنبياء.
أجبتك:
إنَّه تخصيص بغير دليل.. والتخصيص يحتاج إلى موجب له بدليل يدل عليه، ودعوى التخصيص بغير دليل لا يُسمع إليها.
أضف إلى ذلك أنّ الآيات التي تحدثت عن ولاية الأنبياء لا يفهم منها اختصاصها بعنوان النبوة، بل الملاك فيها إحاطة الحجة بحكم الله والعلم بكتابه، فكل من كان ملماً بحكم الله، مستنداً فيه إلى كتابه، منطلقاً فيه من ذكره؛ كان حجة ومرجعاً.. وهذا التعميم للملاك يُفهم بالتحليل العقلي، كما يُفهم من العديد من التعابير القرآنية الواضحة في العديد من الآيات التي ذكرناها في الاستعراض آنف الذكر.
وأضف إلى ذلك أنّ الآيات القرآنية التي تحدثت عن الولاية والحُجج، لم تكتف بالحديث عن الأنبياء، ولا جعلتهم المصداق الوحيد، بل تحدث القرآن الكريم عن ولاية طالوت، وتحدث عن ولاية ذي القرنين، وتحدث عن الحُكم في آل إبراهيم (وليس من المعلوم كونهم جميعاً أنبياء) ، كما تحدث عن الربانيين والأحبار من بني إسرائيل.. إلى غير ذلك من الدلائل التي يمكن أن يكتشفها المتدبر لكلام الله تعالى، مما يدل على اتساع قاعدة الولاية وشمولها لغير الأنبياء عليهم السلام.
ومن هنا نفهم السر في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)
فبعد أن كان التعبير (اتقوا الله وأطيعوني) ، صار التعبير (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ؛ ليدل القرآن الكريم بذلك على أن النكتة الموجبة للاتباع والطاعة هي صدق الأنبياء، فكل من كان مستوى صدقه في مستوى صدق الأنبياء، يكون اتباعه واجباً.
ومن هنا أيضاً نجد التعبير بالاصطفاء لم يتعلّق بعنوان (النبوة) ، بل جعله عاماً في الآل؛ ليدل بذلك على أن القضية ليست متوقفة على النبوة، بل متوقفة على مستوى من الصدق والاصطفاء، وذلك في قوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33)
وهكذا أيضاً نجد التعبير غير متوقف على عنوان النبوة في قوله تعالى:
(فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54)
فإن قلتَ: إن الكتاب هو كناية عن النبوة.
أجبتك: ليس كناية عن النبوة، فقد استعمل التعبير بميراث الكتاب بعد النبي صلى الله عليه وآله، وذلك في قوله تعالى:
(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) . والمفسرون يصرحون بأن المقصود بذلك أناس بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ومن المعلوم بالضرورة انقطاع النبوة بوفاة النبي صلى الله عليه وآله، فعُلم بذلك أن الكتاب ليس تعبيراً وكناية عن النبوة.
ويؤكِّد هذا المعنى من الولاية صريحُ قوله تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة: 44)
فإن هناك تقسيماً ثلاثياً لحجج الله على الناس في بني إسرائيل: الأنبياء، والربانيون، والأحبار.
ومن الواضح أن الله يعطي لحكمهم الحجّية على أساس أنّهم يحكمون بالتوراة التي فيها حكم الله..
ولو فكّرت في السر في هذا التقسيم الثلاثي؛ لن تجد أفضل مما قلنا آنفاً من أنّ الحجَج ثلاثة درجات: النبي، والوصي، والعالم.
ومن الملفت للانتباه أن المفسرين من علماء أهل السنة (في حدود ما طالعت) لا يقدّمون تبريراً مقنعاً لهذا التقسيم، ويفسرون الربانيين والأحبار بمعنى واحد.
ومما يزيدنا اطمئنان بصحة ما فهمناه من أن الحجية في القرآن الكريم تتعدى الأنبياء إلى حُجج آخرين: قوله تعالى الذي قرأناه آنفاً: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51) ؛ فإن الآية تتحدث عن دعوة إلى الله والرسول.. وهذا يعني أن هناك داعياً غير الله وغير الرسول؛ لأنه يدعو إلى الله والرسول، وهذا يعني أن الله تعالى يجعل الحجية ولزوم الانقياد لأشخاص دعاة إلى الله والرسول، وليس لله وللرسول فحسب.
وهكذا نكون قد عرفنا أن القرآن يؤكد على الولاية العامة، أي الانقياد والتبعية لحجج الله تعالى في الأرض.
وهذا ـ كما أسلفنا ـ أمرٌ لا يختلف فيه اثنان، ولكن قد يتوهم البعض اختصاصه بالأنبياء، وهو ما قد نبهنا على عدم صحته.
==
وقبل أن نلج في استعراض أدلة الولاية الخاصة من القرآن الكريم؛ نرى من المناسب أن نسرد مجموعة من الآيات الأخرى على الولاية العامة فيما يلي:
قال الله العظيم:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30) .
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 29 ، ص: 72) .
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (الحجر: 30 ، ص: 73) .
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (الحجر: 31) .
(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (ص: 74) .
(وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 31)
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقرة: 247 ـ 248) .
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص: 26) .
(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص: 20) .
(وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة: 251) .
(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 30) .
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ . وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ) (ص: 35 ـ 40) .
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف: 4)
(قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف: 5)
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6)
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 21 ـ 22)
(قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (يوسف: 37 ـ 38)
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 56)
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)
(رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف: 101)
(وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا) (الفرقان: 35)
(وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف: 142)
(قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (طـه: 85)
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (طـه: 90)
(قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طـه: 94)
(قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 150)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا . قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) (الكهف: 83 ـ 88) .
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128) .
(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 28) .
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (العنكبوت: 27) .
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)
(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33 ـ 34)
نكتفي بهذا القدر من آيات الولاية العامة..
====
ثالثاً: ما هو الدليل على الولاية الخاصة من القرآن الكريم؟
ومعنى الولاية الخاصة: أنّ حُجَج الله تعالى بعد النبي هم أناس من ذريته وأهل بيته؛ لهم مقام وجوب الطاعة لأنّهم يجسّدون حكم الله قولاً وعملاً وتقريراً، أي أنّهم معصومون على حد عصمة النبي، ويتحمّلون المسؤوليات الهدائية التي قام بِها النبي.
تمهيد:
بعد أن عرفنا أنّ القرآن الكريم طرح وبكلّ وضوح الولايةَ العامة، والتي كانت تعني مرجعية وقيادة مجموعة من النبيين والربانيين والأحبار، على أساس ما لديهم من علم الكتاب، بما جعلهم مؤهلين لأنّ يكونوا حُكاماً في الأرض، وأصحاب مُلك وولاية.. بعد أن عرفنا ذلك آن لنا أن نتطرق إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن الولاية الخاصة، والتي تعني استمرار طراز المصطفين في ذرية النبي صلى الله عليه وآله، وأنهم حُجج الله الذين يتكفلون بممارسة الدور الهدائي.
والقرآن الكريم لم يثبت الولاية الخاصة بآية واحدة تتكفل برسم ملامح الصورة جميعها وبصورة واضحة جلية، بل تكفل القرآن بذلك عن طريق نسيج من الآيات تكمل بعضها بعضاً.. وهذا لا يعني أن كل آية لا تصلح لوحدها للدلالة، بل يعني أن غير المتدبر ممن على قلبه بعض الأقفال (الكبيرة أو الصغيرة) ؛ لن يحسن فهم الولاية بآية واحدة.. ولعل السر في ذلك أنّ هذا النحو من الهداية عبارة عن هداية اختبارية؛ لأنه لا يسهل لكل أحد أن يهتدي إليها، بل لا بد من صفاء في النفس واستقامة وتوبة، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في مدلول (هدى للمتقين) مع ضمها إلى (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .. ولعل السر الآخر في هذا النمط من الهداية القرآنية إلى الولاية هو حفظ القرآن الكريم من التحريف؛ فلو أنه كانت في القرآن الكريم آية جلية نَصّية تحدد مفهوم الولاية وأصحابها؛ لكان ذلك مدعاةً لأهل الباطل لأن يعملوا على محاربة القرآن الكريم..
وبِهذا تعرف السر فيما يرتكبه الذين على قلوبهم أقفالٌ؛ حيث يطلبون في مثل هذه البحوث آية واحدة.. فإنهم إنما يلجؤون إلى هذه الحيلة لإدراكم أو إدراك شياطينهم أن الولاية الخاصة في القرآن الكريم لم يتم طرحُها بصورة نصية في آية واحدة، بل في نسيج من الآيات.
ولكنها حكمة الله تعالى، حيث قدّر أن يكفر كفّار الولاية بآيات عديدة، لا بآية واحدة فحسب..!
ولنبدأ ببيان نسيج بل أنسجة الولاية الخاصة في القرآن الكريم.. وفي نهاية المطاف سوف نقوم بجمع المضامين لتشكل عناصر ركنية تتكون منها الصورة المتكاملة للولاية الخاصة في أحلى وأجلى وأوضح وأمتن وأكمل وأتم صورة ومظهر.. (وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُو الأَلبَابِ) .
والآن مع نور الهداية وآيات القرآن الكريم..
الأئمّة في هذه الأمّة هم الْمُصطفَون من ذُرّية إبراهيم عليه السلام:
بعد أن بين الله تعالى أنه هو الذي يجعل الخليفة، وهو الذي يجعل الْمُلك (الشرعي) حيث يشاء، ذكر القرآن الكريم أن استمرار الولاية والإمامة في ذرية إبراهيم يخضع لشرط انتفاء الظلم، فقال تعالى:
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)
فإبراهيم ـ عليه السلام ـ طلب من الله أن تستمر الولاية والإمامة في ذريته. وسوف نرى أن دعاءه قد تكلل بالإجابة من الله تبارك وتعالى.
وبما أنّ الله تعالى بين أن الولاية لا تكون في الظالم من ذريته، كان هناك تطوير من قبل إبراهيم وإسماعيل في صياغة الدعاء، فعبرا عن الذرية التي يطلبون فيها الإمامة بـ (أمة مسلمة لك) ، فقال تعالى:
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128) .
أي أن إبراهيم طلب من الله تعالى الإسلامَ والإمامةَ في ذريته.. فهل استجاب الله له دعاءه؟
قال تعالى: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 28) .
أي أن الله تعالى جعل التوحيد والإخلاص في ذرية إبراهيم عليه السلام، وهذا ما يؤكد بقاء التوحيد في آباء وأجداد رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لأنهم ذرية إبراهيم، وليس كما يتصوّر بعض الخاطئين من أنَّ آباء النبي كانوا كُفّاراً والعياذ بالله تعالى. هذا في خصوص الإسلام وبقائه في ذرية إبراهيم عليه السلام.
وأمَّا الإمامة والولاية في ذرية إبراهيم عليه السلام، فقد قال الله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (العنكبوت: 27) .
وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 26) .
فالله تعالى جعل النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم عليه السلام، وذلك بعد استثناء الظالمين منهم كما تفيد الآية 124 من سورة البقرة بقوله تعالى: (قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) .
وعبر القرآن الكريم عن الإسلام والإمامة في ذرية إبراهيم بالاصطفاء، فقال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33 ـ 34)
ولم يكتف القرآن الكريم بالإخبار باستجابة دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بإبقاء الإسلام والولاية في ذريتهما، بل أخذ القرآن الكريم يخاطب الذرية المصطفاة بقوله:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143) .
وهذه الآية الكريمة تخاطب أناساً من أمّة محمد صلى الله عليه وآله، وتصفهم بالأمّة الوسط، وتعطيهم مقام الشهادة على أعمال العباد في الدنيا والآخرة.. وسوف ترى كيف أن هذه المضامين تم تأكيدها بأنحاء ووجوه عديدة في القرآن الكريم.
ولو فكّرتَ في ابتداء الآية بـ (وكذلك) ستفهم أنّها إشارة إلى أمر تريد الآية تشبيه المخاطبين به، وهذا الأمر المشبَّه به ليس إلاّ ما ذكر في الآية التي قبلها مباشرة، وهو الصراط المستقيم؛ لأنّ الآيات بهذا النسق:
(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...) (البقرة: 142 ـ 143)
فالآية تقول إنَّ المخاطبينَ هم بمثابة الصراط المستقيم، ولذا تم الربط بـ (كذلك) ليكون المعنى: أنَّ الله جعلكم أمَّةً وسطاً بمنزلة الصراط المستقيم الذي يهدي إليه الله من يشاء. ويجدر بنا الانتباه إلى الاتحاد في المعنى بين (الصراط المستقيم) و(الوسط)، فإن السبيل الوسط هو المستقيم دون ما عداه من السبُل.
وإذا كانوا هم الوسط ؛ فلا ريب أنهم الأئمة؛ لأن الوسط هو المعيار لقياس الاستقامة بالنسبة إلى جميع المسارات..
وقد أعاد القرآن الكريم مخاطبة هؤلاء المصطفين من ذرية إبراهيم في هذه الأمّة بقوله:
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110)
و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) تعبير عن إمامتهم.
فإن قلتَ: فما يمنع أن يقال بأن الآية عامة في جميع الأمّة الإسلامية؟
أجبتك: إن هذا يتنافى مع وصف (خير أمّة) ؛ فإنّ الأمة الإسلامية كغيرها من الأمَم ، بل ورد في العديد من النصوص الإسلامية أنّ كل ضلالة وهدى كان في الأمم السالفة، يكون مثله في هذه الأمة.. فلا وجه للحكم بخيرية الأمّة على علاّتها. أضف إلى ذلك أنّ الآية تدل على أن السر في الخيرية هو التميز بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الواضح أنّ هذه الوظيفة العظيمة لا يمارسها جميع الأمّة ولا نصفها.. بل أقل القليل منهم. ومما يؤكد لك صحة أنّ المراد بهذا الخطاب بعض الأمة وليس جمعها: قوله تعالى:
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)
فإنّ المرتبة التي تحقق حقيقةَ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست إلا لطراز خاص من هذه الأمّة، وليس لجميع الأمة، وهم هؤلاء الأئمة المخاطبون بهذه الآيات.
ولعلك تسأل: ما الدليل على أن هؤلاء المخاطبين هم من ذرية إبراهيم عليه السلام؟
سأجيبك: إنّ هذا يفهم من مقارنة الآيات المذكورة بعضها ببعض، ويزيدها وضوحاً أن الله أضاف في خطاب قرآني آخر:
(هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج: 78) .
فهذه الآية تخاطب أناساً يمثِّل إبراهيم ـ عليه السلام ـ أباً لهم، ومن الواضح أنّ الأمّة الإسلامية جميعها ليست من ذرية إبراهيم . إضافة إلى أن الآية تعبر عن المخاطبين بأنّهم مجتبَون، وهذا يربط الآية بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 33) . كما تعطيهم مقام الشهادة على أعمال العباد، وهذا ما يجعل الآية ترتبط بكل وضوح مع الآية السابقة التي جاء فيها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143) ، إضافة إلى أنّ (هو سماكم المسلمين) إشارة إلى قول إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (البقرة: 128) ، وحصيلة هذا أنّ المخاطبين بـ (هو اجتباكم...) هم ذرية إبراهيم الذين كان دعاء إبراهيم أن يكونوا أئمة وأمة ومسلمة.
وبهذا نكون قد عرفنا بكل وضوح أنّ المصطفين من ذرية إبراهيم ـ عليهم السلام ـ الذين دعا إبراهيم أن تكون الإمامة فيهم، قد تمت مخاطبتهم في هذه الأمّة، وتمّ في هذا الخطاب بيان أنّهم مُجتبون وأمّة وسط من ذرية إبراهيم، وشهداء على الناس، وأنّهم يمارسون مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثمّ إنّ آية سورة الحج 78 : (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، وكذا آية سورة البقرة 143 : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) ، قد أعطتا هؤلاء المخاطبين مقامَ الشهادة على العباد، ومقام الشهادة هو المقام التالي لمقام الأنبياء في قوله تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الزمر: 69) ،
فيظهر أنّ لهؤلاء الشهداء في موقف القيامة دوراً في حساب الناس نظراً إلى أنهم يُحضرون أوّلاً مع الأنبياء عليهم السلام، مع أنّه لا ينبغي توهّم أن يكون للأمّة الإسلامية (بالمعنى العام) مقام الشهادة على الأُمَم الأخرى؛ كيف وهذه الأمّة فيها ما فيها من أهل المعاصي، وحسبهم أنّه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه أخبر بكون معظم أقسام الأمّة في النار، وذلك في حديث افتراق الأمّة إلى نيف وسبعين فرقة؛ فلا بدَّ من التفريق بين المعنى المقصود بالأمّة في الآية التي نحن بصددها، وبين الأمّة في المعنى العام.
وقد تصوّر بعض المفسِّرين، كالطبري في تفسيره، أنّ الأمّة الإسلامية ستشهد بتبليغ أنبياء الله السابقين حين تُنكر أُمَمُهم يوم القيامة، وهو كلام واضح البطلان؛ إذ ما هو الداعي لإعطاء أهل المعاصي هذا المقام؟ ثم كيف تدلي الأمّة الإسلامية بشهادة على أمر لم تشهده؟! فإن قيل ـ وقد قيل ـ : إنهم يشهدون بمعنى التصديق بما جاء به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، وهو يتضمن تبليغ الأنبياء السابقين، قلنا: هذا تحصيل حاصل؛ لأنهم رووا ـ كما في تفسير الطبري ـ أنّ الأُمَم ليست كلّها كافرةً مُنكرة، بل فيها المصدِّق وفيها المكذِّب، فإذ حصل التصديق من أُمّة نفس النبي السابق، وهو تصديق مع شهادة حسية، فما الحاجة إلى شهادة الأُمّة الإسلاميّة؟!
أضف إلى ذلك أنّ تفسير (الشهادة) بـ (مُجرّد التصديق) هو نوع من التصرّف والتأويل بغير مُوجب ودليل.
بل الصحيح أنّ الشهادة مقامٌ المخلَصين الذين ورثوا الكتاب من ذرية إبراهيم بعد رسول الله صلى الله عليه، وخير دليل عليه قوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ...) (التوبة: 105) فإن الآية تخاطب جميع المكلفين وفي مقدِّمتهم: الأمّة الإسلاميّة، فمن ذلك يتّضح أنّ الذين يرون، هم طراز خاص من المؤمنين، بل لا يزعم مقامَ الرؤية غيرُ المصطفين؛ للفرق بين النظر والرؤية، فإنه لا يرى العمل إلا من له اطلاع على باطنه كما له اطلاع على ظاهره، وأمّا من ينظر فلا يرى إلا الحركات والسكنات، فهذا لا يرى العمل حقيقة، بل لا يرى إلا القسم الأضعف منه، فكيف يصح له أن يشهد، بل كيف يصح له أن يُسمّي نظره رؤيةً.
وهذه الرؤية التي تمّ ذكرُها في سورة التوبة هي التي تصلح أن تكون تمهيداً للشهادة يوم القيامة.
ثم كيف يسوغ تفسير (الأمّة) بجميع الأمّة بعد الذي نوّه به القرآن الكريم من أنّ الأمّة المخاطبة عبارة عن أشخاص مصطفين مجتبين، فقال: (هو اجتباكم) (الحج: 78) ، وكيف يسوغ ذلك بعد تصريح القرآن أن المخاطبين هم من ذرية إبراهيم بقوله من نفسه الآية (ملة أبيكم آدم) .
ومن المعلوم أنَّ الأمَّة الإسلامية ليست جميعها منتميةً إلى إبراهيم بالنسب، وينبغي ألاّ تغفل عن تجاوز كبار المفسرين ـ كالطبري في تفسيره ـ لهذه النقطة وعدم بيانه لها، كما فعل ابن كثير أيضاً، وحاول ابن عاشور في تفسيره أن يحلّ هذه الإشكالية بحمل ذلك على الأغلب، أو التأويل بالحمل على معنى اعتباري للأبوة..!
وهذه محاولة غير سديدة؛ لأنّ حمله على الأغلب دعوى تفتقر إلى دليل على كون أغلب المسلمين في زمن النزول كانوا منتسبين إلى إبراهيم عليه السلام، على أنه يستلزم حصر الآية لجيل خاص من المسلمين يغلب فيهم المنتسبون إلى إبراهيم عليه السلام، وهذا لازم باطل. وأمّا التأويل فهو أيضاً بغير مقتض بعد وجود وجه آخر للتفسير، وهو الذي نقوله من حمل الآية على خصوص المصطفين من ذُرّيّة إبراهيم الذين ورثوا الكتاب بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
وحصيلة الدلالات الواضحة ـ كما رأيت ـ أنّ الأئمّة الولاة في هذه الأمّة هم الذين اجتباهم الله من ذرية إبراهيم عليه السلام، وقد جُعلوا شهداء على الناس، وأُوكلت إليهم مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأبرز مهمة يمكن أن تناط بالإمام وتُذكر كعنوان لوظائفه الجسيمة ومهامّه العظيمة، وهم بمثابة الصراط المستقيم، ولهذا هم الأمّة الوسط.. وهذا كله بجعل من الله واصطفاء منه.
===