لبيك يابحرين
20-03-2011, 02:40 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
دور فاطمة الزهراء في خارج المنزل
نرى أن سيدة النساء قد سجّلت عناوين مهمة وآفاق جديدة لدور المرأة المسلمة في مجمل النشاطات الاجتماعية والسياسية والحربية وغيرها ، ممّا يتناسب مع واقع وحاجات وظروف ذلك العصر .
فقد كانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية الضرورية ، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها (1) ، ويبدو أن بيتها كان المدرسة النسائية الاُولى في الإسلام ، حيث تقبل عليها النساء طالبات للعلم ، فيجدن فاطمة العالمة وهي تستقبلهنّ بصدر رحب لا يعرف الملالة والسأم .
عن الإمام العسكري عليه السلام قال : « حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة ، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء ، وقد بعثتني إليك اسألك ، فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك ، فثنّت فأجابت ، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت : لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله . فقالت عليها السلام : هاتي وسلي عمّا بدا لك . . . إنّي سمعت أبي يقول : إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله ، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور . . . » (2) .
وعنه عليه السلام قال : « قالت فاطمة عليها السلام وقد اختصمت إليها امرأتان ، فتنازعتا في شيء من أمر الدين ، إحداهما معاندة ، والاُخرى مؤمنة ، ففتحت على المؤمنة حجتها ، فاستظهرت على المعاندة ، ففرحت فرحاً شديداً ، فقالت فاطمة عليها السلام : إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك ، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها . . . » (3) .
ومما وصل إلينا من خطبها للنساء ، خطبتها بنساء المدينة في مرض موتها ، وهي غاية في الفصاحة والمعرفة ، وسنوردها في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى .
ولم تقتصر في تعليمها على النساء ، بل كانت عليها السلام تطرف القاصدين إليها بما عندها من العلم والمعرفة ، فعن ابن مسعود ، قال : جاء رجل إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا ابنة رسول الله ، هل ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندك شيئاً تطرفينيه ، فقالت : « يا جارية ، هاتي تلك الحريرة » فطلبتها فلم تجدها ، فقالت : « ويحك اطلبيها ، فانها تعدل عندي حسناً وحسيناً » فطلبتها فإذا هي قد قمّتها في قمامتها ، فإذا فيها : « قال محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت . إنّ الله يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش الضنين السَّئآل الملحف . إنّ الحياء من الإيمان ، والايمان في الجنة ، وإن الفحش من البذاء ، والبذاء في النار » (4) .
وكان للزهراء عليها السلام مشاركة فعّالة ومؤثّرة في الدعوة إلى الله تعالى في مواقع مختلفة أهمها المباهلة مع النصارى ، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة ( ونساءنا ونساءكم )
(5)
فكانت سيدة النساء عليها السلام هي المختصة بهذا الفضل ولم يشركها فيه أحد من نساء الاُمّة .
وكانت الزهراء عليها السلام معيناً للمحتاجين من أبناء المجتمع الإسلامي آنذاك ، تنفق في سبيل الله وتعتق الرقاب وتعين الضعفاء ، فقد توافق أغلب المفسرين على نزول قوله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )
(6) في أهل البيت عليهم السلام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام حينما تصدقوا رغم خصاصتهم على المسكين واليتيم والأسير (7) .
أخرج ابن شهرآشوب عن ابن شاهين في (مناقب فاطمة عليها السلام ) وأحمد في مسند الأنصار عن أبي هريرة وثوبان أنّها عليها السلام نزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ـ أي سواريها ـ ونزعت ستر بيتها ، فبعثت به إلى أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : « اجعل هذا في سبيل الله » فلمّا أتاه قال صلى الله عليه وآله وسلم : « قد فعلت فداها أبوها ـ ثلاث مرات ـ ما لآل محمد وللدنيا ، فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » وفي رواية أحمد : « فإنّ هؤلاء أهل بيتي ، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » (8) .
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : « أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذينك السوارين فكسّرا فجعلهما قطعاً ، ثمّ دعا أهل الصُّفّة ـ وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال ـ فقسّمه بينهم قطعاً ، ثم جعل يدعو الرجل منهم العاري الذي لا يستتر بشيء ، وكان ذلك الستر طويلاً ، ليس له عرض ، فجعل يؤزّر الرجل ، فإذا التقيا عليه قطعه حتى قسّمه بينهم أُزراً . . . ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله فاطمة ، ليكسونّها الله بهذا الستر من كسوة الجنة ، وليحلّينها بهذين السوارين من حلية الجنة » (9) .
وفي صحيفة الإمام الرضا عليه السلام عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال : « حدثتني أسماء بنت عميس ، قالت : كنت عند فاطمة جدتك ، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقها قلادة من ذهب ، كان علي بن أبي طالب عليه السلام اشتراها لها من فيءٍ له ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا يغرّنك الناس أن يقولوا : بنت محمد ، وعليك لباس الجبابرة؛ فقطعتها وباعتها ، واشترت بها رقبة فاعتقتها ، فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك » (10) .
وفوق ذلك فالمتصفح للسيرة والتاريخ يجد أنّها كانت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزوات الإسلام الكبرى تمسح الدم عن وجهه الكريم وتضمد جراحه .
أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عبدالعزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، أنّه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد ، فقال : جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسرت رباعيته وهشمت بيضته على رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يسكب عليها بالمجَنّ ، فلمّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلاّ كثرة ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً ، ثم ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم (11) .
وقال الواقدي في حديثه عن معركة أُحد : خرجت فاطمة عليها السلام في نساء ، وقد رأت الذي بوجهه صلى الله عليه وآله وسلم فاعتنقته ، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « اشتدّ غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله » وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس ، وقال لفاطمة عليها السلام : « أمسكي هذا السيف غير ذميم » فأتى بماءٍ في مِجَنّهِ . . . فمضمض منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاه للدم الذي في فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها (12) .
وجاء في أغلب التواريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناول سيفه ابنته فاطمة عليها السلام بعد غزاة أُحد ، وقال لها : « اغسلي عن هذا دَمَهُ يا بنية » وناولها علي عليه السلام سيفه وقال :
« أفاطم هاك السيف غيـر ذميـمِ * فلسـت بـرعـديـد ولا بلئيــمِ
أفاطم قـد أبليت في نصـر أحمدٍ * ومـرضـاة ربّ بـالعبـاد رحيـمِ
أميطي دمـاء القـوم عنه فانّـه * سقى آل عبدالدار كأس حميم » (13)
وكانت لها إسهامات في حروب الإسلام المصيرية تناسب شخصيتها وقدراتها ، ففي وقعة أُحد كانت قد جاءت مع أربع عشرة امرأة يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ، ويسقين الجرحى ويداوينهم (14) .
وعندما أُصيب سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب عليه السلام كانت الزهراء عليها السلام من المبادرات إلى مصرعه مع صفية بنت عبدالمطلب ، وكانت تبكي وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي لبكائها (15) .
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، لم تنس ابنة الرسالة دور الشهداء في بناء صرح الإسلام وتشييد عزّته واكتساب ديمومته وسرّ بقائه ، قال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ فاطمة عليها السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت ، فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له » (16) .
وفي مغازي الواقدي : كانت الزهراء عليها السلام تأتي قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة ، فتبكي عندهم وتدعو (17) ، واتخذت من تربة حمزة عليه السلام مسبحة على عدد التكبيرات تديرها بيدها فتكبّر وتسبّح بها ، وعملت بعدها التسابيح فاستعملها الناس (18) .
ولمّا استشهد جعفر بن أبي طالب عليه السلام في مؤتة أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تتخذ لاَسماء بنت عميس طعاماً ثلاثة أيام ، فجرت بذلك السُنّة ، وأمرها أن تقيم عندها ثلاثة أيام هي ونساؤها لتسليها عن المصيبة (19) .
وخرجت مع أبيها وبعلها يوم فتح مكة ، وقد ضُرِبَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خِباء بالبطحاء ، وجلس فيه يغتسل وكانت فاطمة عليها السلام تستره ، وقيل : أمرها فسكبت له غسلاً فاغتسل (20) .
ولم تنس الزهراء عليها السلام دورها الاجتماعي حتى في عبادتها ، فقد كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها ، متحلية بالخلق النبوي والأدب الإسلامي الرفيع .
عن الإمام الحسن عليه السلام قال : « رأيت أُمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها ، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعوللمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم ، وتكثر الدعاء لهم ، ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا أُمّاه ، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت : يا بني ، الجار ثمّ الدار » (20) .
وكان للزهراء عليها السلام دور رائد في الدفاع عن قضايا الإسلام المصيرية بعد رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الخلود ورضوان ربه ، فقد جهرت بالحق ودافعت عن الإمامة ، وخطبت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة بليغة أعادت إلى الأذهان الخطوط العريضة التي رسمها الإسلام لقيادة الاُمّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ الدعوة وتأصيل مفاهيمها ، وقد كادت خطبتها أن تؤتي أُكلها لولا تسلّط الظالمين وبطش الجبارين . وسنأتي على بعض فقرات هذه الخطبة في آخر هذا البحث .
وعلى رغم المأساة التي تعرضت لها الزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فقد استطاعت أن تؤدي دورها في إلقاء الحجة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الحقائق الناصعة التي طالما نوّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها في حياته .
جاء في خصال الشيخ الصدوق : أن فاطمة الزهراء عليها السلام لمّا منعت فدكاً وخاطبت الأنصار ، فقالوا : يا بنت محمد ، لو سمعنا هذا الكلام قبل بيعتنا لاَبي بكر ماعدلنا بعلي أحداً . فقالت : « وهل ترك أبي يوم غدير خمّ لاَحد عذراً » (21) .
وعن الإمام الباقر عليه السلام : « أنّ عليّاً عليه السلام حمل فاطمة عليها السلام على حمارٍ وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة عليها السلام الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي عليه السلام عليهم السلام أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أُجهزه ، وأخرج إلى الناس أُنازعهم في سلطانه! وقالت فاطمة عليها السلام : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه » (22) .
___________
1) شرح ابن أبي الحديد 9 : 193 .
2) بحار الأنوار 2 : 3 | 3 .
3) بحار الأنوار 2 : 8 | 15 .
4) المعجم الكبير 22 : 413 | 1024 . ودلائل الإمامة : 65 | 1 . وقطعة من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صحيح البخاري 8 : 19 | 48 و 49 . وصحيح مسلم 1 : 68 | 75 و 77 . ومصابيح السُنة | البغوي 3 : 169 دار المعرفة ـ بيروت . والكافي 2 : 667 | 6 . والزهد | الحسين بن سعيد : 6 | 10 ، و 10 | 20 عن الإمام الصادق عليه السلام المطبعة العلمية ـ قم .
5) سورة آل عمران : 3 | 61 .
6) سورة الإنسان : 76 | 8 و 9 .
7) الكشاف | الزمخشري 4 : 670 . وتفسير الرازي 30 : 243 دار احياء التراث العربي . ومعالم التنزيل | البغوي 5 : 498 دار الفكر .
8) المناقب | ابن شهر آشوب 3 : 343 . ومسند أحمد 5 : 275 . وذخائر العقبى : 52 . ومسند فاطمة عليها السلام | السيوطي : 6 . وأمالي الصدوق : 305 | 348 . وبحار الأنوار 43 : 86 .
9) مكارم الأخلاق | الطبرسي : 94 الشريف الرضي ـ قم . وبحار الأنوار 43 : 82 | 6 .
10) صحيفة الإمام الرضا عليه السلام : 256 | 185 طبع مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام ـ قم . وعيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 44 | 61 . وذخائر العقبى : 51 . والمناقب | ابن شهرآشوب 3 : 343 . وبحار الأنوار 43 : 26 | 28 .
11) صحيح مسلم 3 : 1416 | 101 كتاب الجهاد والسير ـ باب غزوة أُحد . وصحيح البخاري 5 : 226 | 113 كتاب المغازي ـ باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجراح يوم أُحد . ومغازي الواقدي 1 : 250 عالم الكتب ـ بيروت .
12) مغازي الواقدي 2 : 249 .
13) تاريخ الطبري 3 : 27 دار التراث ـ بيروت . ومستدرك الحاكم 3 : 24 . وتذكرة الخواص : 164 . وشرح ابن أبي الحديد 15 : 35 . ومجمع الزوائد 6 : 122 . وأمالي الطوسي : 143 | 232 .
14) مغازي الواقدي 1 : 249 .
15) مغازي الواقدي 1 : 290 .
16) تهذيب الأحكام 1 : 465 | 168 .
17) مغازي الواقدي 1 : 313 .
18) مزار المفيد : 132 | 1 مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام ـ قم . وبحار الأنوار 101 : 133 | 64 .
19) المحاسن | البرقي : 419 | 191 و 192 .
20) راجع : أخبار مكة | الأزرقي 1 : 161 الشريف الرضي ـ قم . ومغازي الذهبي : 555 دار الكتاب العربي ـ بيروت .
20) علل الشرائع | الشيخ الصدوق : 181 | 1 . ودلائل الإمامة : 151 | 65 .
21) الخصال : 173 .
22) الإمامة والسياسة | ابن قتيبة 1 : 12 مكتبة مصطفى بابي الحلبي ـ مصر . وشرح ابن أبي الحديد 6 : 13
التوقيع
دور فاطمة الزهراء في خارج المنزل
نرى أن سيدة النساء قد سجّلت عناوين مهمة وآفاق جديدة لدور المرأة المسلمة في مجمل النشاطات الاجتماعية والسياسية والحربية وغيرها ، ممّا يتناسب مع واقع وحاجات وظروف ذلك العصر .
فقد كانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية الضرورية ، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها (1) ، ويبدو أن بيتها كان المدرسة النسائية الاُولى في الإسلام ، حيث تقبل عليها النساء طالبات للعلم ، فيجدن فاطمة العالمة وهي تستقبلهنّ بصدر رحب لا يعرف الملالة والسأم .
عن الإمام العسكري عليه السلام قال : « حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة ، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء ، وقد بعثتني إليك اسألك ، فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك ، فثنّت فأجابت ، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت : لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله . فقالت عليها السلام : هاتي وسلي عمّا بدا لك . . . إنّي سمعت أبي يقول : إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله ، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور . . . » (2) .
وعنه عليه السلام قال : « قالت فاطمة عليها السلام وقد اختصمت إليها امرأتان ، فتنازعتا في شيء من أمر الدين ، إحداهما معاندة ، والاُخرى مؤمنة ، ففتحت على المؤمنة حجتها ، فاستظهرت على المعاندة ، ففرحت فرحاً شديداً ، فقالت فاطمة عليها السلام : إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك ، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها . . . » (3) .
ومما وصل إلينا من خطبها للنساء ، خطبتها بنساء المدينة في مرض موتها ، وهي غاية في الفصاحة والمعرفة ، وسنوردها في آخر هذا البحث إن شاء الله تعالى .
ولم تقتصر في تعليمها على النساء ، بل كانت عليها السلام تطرف القاصدين إليها بما عندها من العلم والمعرفة ، فعن ابن مسعود ، قال : جاء رجل إلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا ابنة رسول الله ، هل ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندك شيئاً تطرفينيه ، فقالت : « يا جارية ، هاتي تلك الحريرة » فطلبتها فلم تجدها ، فقالت : « ويحك اطلبيها ، فانها تعدل عندي حسناً وحسيناً » فطلبتها فإذا هي قد قمّتها في قمامتها ، فإذا فيها : « قال محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت . إنّ الله يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش الضنين السَّئآل الملحف . إنّ الحياء من الإيمان ، والايمان في الجنة ، وإن الفحش من البذاء ، والبذاء في النار » (4) .
وكان للزهراء عليها السلام مشاركة فعّالة ومؤثّرة في الدعوة إلى الله تعالى في مواقع مختلفة أهمها المباهلة مع النصارى ، ونزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة ( ونساءنا ونساءكم )
(5)
فكانت سيدة النساء عليها السلام هي المختصة بهذا الفضل ولم يشركها فيه أحد من نساء الاُمّة .
وكانت الزهراء عليها السلام معيناً للمحتاجين من أبناء المجتمع الإسلامي آنذاك ، تنفق في سبيل الله وتعتق الرقاب وتعين الضعفاء ، فقد توافق أغلب المفسرين على نزول قوله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً * إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )
(6) في أهل البيت عليهم السلام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام حينما تصدقوا رغم خصاصتهم على المسكين واليتيم والأسير (7) .
أخرج ابن شهرآشوب عن ابن شاهين في (مناقب فاطمة عليها السلام ) وأحمد في مسند الأنصار عن أبي هريرة وثوبان أنّها عليها السلام نزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ـ أي سواريها ـ ونزعت ستر بيتها ، فبعثت به إلى أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وقالت : « اجعل هذا في سبيل الله » فلمّا أتاه قال صلى الله عليه وآله وسلم : « قد فعلت فداها أبوها ـ ثلاث مرات ـ ما لآل محمد وللدنيا ، فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » وفي رواية أحمد : « فإنّ هؤلاء أهل بيتي ، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » (8) .
وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : « أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذينك السوارين فكسّرا فجعلهما قطعاً ، ثمّ دعا أهل الصُّفّة ـ وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال ـ فقسّمه بينهم قطعاً ، ثم جعل يدعو الرجل منهم العاري الذي لا يستتر بشيء ، وكان ذلك الستر طويلاً ، ليس له عرض ، فجعل يؤزّر الرجل ، فإذا التقيا عليه قطعه حتى قسّمه بينهم أُزراً . . . ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله فاطمة ، ليكسونّها الله بهذا الستر من كسوة الجنة ، وليحلّينها بهذين السوارين من حلية الجنة » (9) .
وفي صحيفة الإمام الرضا عليه السلام عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال : « حدثتني أسماء بنت عميس ، قالت : كنت عند فاطمة جدتك ، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقها قلادة من ذهب ، كان علي بن أبي طالب عليه السلام اشتراها لها من فيءٍ له ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا يغرّنك الناس أن يقولوا : بنت محمد ، وعليك لباس الجبابرة؛ فقطعتها وباعتها ، واشترت بها رقبة فاعتقتها ، فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك » (10) .
وفوق ذلك فالمتصفح للسيرة والتاريخ يجد أنّها كانت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزوات الإسلام الكبرى تمسح الدم عن وجهه الكريم وتضمد جراحه .
أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عبدالعزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، أنّه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد ، فقال : جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسرت رباعيته وهشمت بيضته على رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يسكب عليها بالمجَنّ ، فلمّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلاّ كثرة ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً ، ثم ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم (11) .
وقال الواقدي في حديثه عن معركة أُحد : خرجت فاطمة عليها السلام في نساء ، وقد رأت الذي بوجهه صلى الله عليه وآله وسلم فاعتنقته ، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « اشتدّ غضب الله على قومٍ أدموا وجه رسول الله » وذهب علي عليه السلام يأتي بماءٍ من المهراس ، وقال لفاطمة عليها السلام : « أمسكي هذا السيف غير ذميم » فأتى بماءٍ في مِجَنّهِ . . . فمضمض منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاه للدم الذي في فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها (12) .
وجاء في أغلب التواريخ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناول سيفه ابنته فاطمة عليها السلام بعد غزاة أُحد ، وقال لها : « اغسلي عن هذا دَمَهُ يا بنية » وناولها علي عليه السلام سيفه وقال :
« أفاطم هاك السيف غيـر ذميـمِ * فلسـت بـرعـديـد ولا بلئيــمِ
أفاطم قـد أبليت في نصـر أحمدٍ * ومـرضـاة ربّ بـالعبـاد رحيـمِ
أميطي دمـاء القـوم عنه فانّـه * سقى آل عبدالدار كأس حميم » (13)
وكانت لها إسهامات في حروب الإسلام المصيرية تناسب شخصيتها وقدراتها ، ففي وقعة أُحد كانت قد جاءت مع أربع عشرة امرأة يحملن الطعام والشراب على ظهورهن ، ويسقين الجرحى ويداوينهم (14) .
وعندما أُصيب سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب عليه السلام كانت الزهراء عليها السلام من المبادرات إلى مصرعه مع صفية بنت عبدالمطلب ، وكانت تبكي وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبكي لبكائها (15) .
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، لم تنس ابنة الرسالة دور الشهداء في بناء صرح الإسلام وتشييد عزّته واكتساب ديمومته وسرّ بقائه ، قال الإمام الصادق عليه السلام : « إنّ فاطمة عليها السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت ، فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له » (16) .
وفي مغازي الواقدي : كانت الزهراء عليها السلام تأتي قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة ، فتبكي عندهم وتدعو (17) ، واتخذت من تربة حمزة عليه السلام مسبحة على عدد التكبيرات تديرها بيدها فتكبّر وتسبّح بها ، وعملت بعدها التسابيح فاستعملها الناس (18) .
ولمّا استشهد جعفر بن أبي طالب عليه السلام في مؤتة أمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تتخذ لاَسماء بنت عميس طعاماً ثلاثة أيام ، فجرت بذلك السُنّة ، وأمرها أن تقيم عندها ثلاثة أيام هي ونساؤها لتسليها عن المصيبة (19) .
وخرجت مع أبيها وبعلها يوم فتح مكة ، وقد ضُرِبَ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خِباء بالبطحاء ، وجلس فيه يغتسل وكانت فاطمة عليها السلام تستره ، وقيل : أمرها فسكبت له غسلاً فاغتسل (20) .
ولم تنس الزهراء عليها السلام دورها الاجتماعي حتى في عبادتها ، فقد كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها ، متحلية بالخلق النبوي والأدب الإسلامي الرفيع .
عن الإمام الحسن عليه السلام قال : « رأيت أُمي فاطمة عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها ، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعوللمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم ، وتكثر الدعاء لهم ، ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا أُمّاه ، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت : يا بني ، الجار ثمّ الدار » (20) .
وكان للزهراء عليها السلام دور رائد في الدفاع عن قضايا الإسلام المصيرية بعد رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى عالم الخلود ورضوان ربه ، فقد جهرت بالحق ودافعت عن الإمامة ، وخطبت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة بليغة أعادت إلى الأذهان الخطوط العريضة التي رسمها الإسلام لقيادة الاُمّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ الدعوة وتأصيل مفاهيمها ، وقد كادت خطبتها أن تؤتي أُكلها لولا تسلّط الظالمين وبطش الجبارين . وسنأتي على بعض فقرات هذه الخطبة في آخر هذا البحث .
وعلى رغم المأساة التي تعرضت لها الزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فقد استطاعت أن تؤدي دورها في إلقاء الحجة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الحقائق الناصعة التي طالما نوّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها في حياته .
جاء في خصال الشيخ الصدوق : أن فاطمة الزهراء عليها السلام لمّا منعت فدكاً وخاطبت الأنصار ، فقالوا : يا بنت محمد ، لو سمعنا هذا الكلام قبل بيعتنا لاَبي بكر ماعدلنا بعلي أحداً . فقالت : « وهل ترك أبي يوم غدير خمّ لاَحد عذراً » (21) .
وعن الإمام الباقر عليه السلام : « أنّ عليّاً عليه السلام حمل فاطمة عليها السلام على حمارٍ وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة عليها السلام الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي عليه السلام عليهم السلام أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أُجهزه ، وأخرج إلى الناس أُنازعهم في سلطانه! وقالت فاطمة عليها السلام : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه » (22) .
___________
1) شرح ابن أبي الحديد 9 : 193 .
2) بحار الأنوار 2 : 3 | 3 .
3) بحار الأنوار 2 : 8 | 15 .
4) المعجم الكبير 22 : 413 | 1024 . ودلائل الإمامة : 65 | 1 . وقطعة من حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صحيح البخاري 8 : 19 | 48 و 49 . وصحيح مسلم 1 : 68 | 75 و 77 . ومصابيح السُنة | البغوي 3 : 169 دار المعرفة ـ بيروت . والكافي 2 : 667 | 6 . والزهد | الحسين بن سعيد : 6 | 10 ، و 10 | 20 عن الإمام الصادق عليه السلام المطبعة العلمية ـ قم .
5) سورة آل عمران : 3 | 61 .
6) سورة الإنسان : 76 | 8 و 9 .
7) الكشاف | الزمخشري 4 : 670 . وتفسير الرازي 30 : 243 دار احياء التراث العربي . ومعالم التنزيل | البغوي 5 : 498 دار الفكر .
8) المناقب | ابن شهر آشوب 3 : 343 . ومسند أحمد 5 : 275 . وذخائر العقبى : 52 . ومسند فاطمة عليها السلام | السيوطي : 6 . وأمالي الصدوق : 305 | 348 . وبحار الأنوار 43 : 86 .
9) مكارم الأخلاق | الطبرسي : 94 الشريف الرضي ـ قم . وبحار الأنوار 43 : 82 | 6 .
10) صحيفة الإمام الرضا عليه السلام : 256 | 185 طبع مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام ـ قم . وعيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 44 | 61 . وذخائر العقبى : 51 . والمناقب | ابن شهرآشوب 3 : 343 . وبحار الأنوار 43 : 26 | 28 .
11) صحيح مسلم 3 : 1416 | 101 كتاب الجهاد والسير ـ باب غزوة أُحد . وصحيح البخاري 5 : 226 | 113 كتاب المغازي ـ باب ما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجراح يوم أُحد . ومغازي الواقدي 1 : 250 عالم الكتب ـ بيروت .
12) مغازي الواقدي 2 : 249 .
13) تاريخ الطبري 3 : 27 دار التراث ـ بيروت . ومستدرك الحاكم 3 : 24 . وتذكرة الخواص : 164 . وشرح ابن أبي الحديد 15 : 35 . ومجمع الزوائد 6 : 122 . وأمالي الطوسي : 143 | 232 .
14) مغازي الواقدي 1 : 249 .
15) مغازي الواقدي 1 : 290 .
16) تهذيب الأحكام 1 : 465 | 168 .
17) مغازي الواقدي 1 : 313 .
18) مزار المفيد : 132 | 1 مؤسسة الإمام المهدي عليه السلام ـ قم . وبحار الأنوار 101 : 133 | 64 .
19) المحاسن | البرقي : 419 | 191 و 192 .
20) راجع : أخبار مكة | الأزرقي 1 : 161 الشريف الرضي ـ قم . ومغازي الذهبي : 555 دار الكتاب العربي ـ بيروت .
20) علل الشرائع | الشيخ الصدوق : 181 | 1 . ودلائل الإمامة : 151 | 65 .
21) الخصال : 173 .
22) الإمامة والسياسة | ابن قتيبة 1 : 12 مكتبة مصطفى بابي الحلبي ـ مصر . وشرح ابن أبي الحديد 6 : 13
التوقيع