عدنان عبد النبي
03-05-2011, 09:40 PM
واقعة الطف في قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله) :( حسين مني وأنا من حسين)
عدنان عبد النبي البلداوي
من أول لحظة تأمل بظواهر الكون ، تشبّع كيان محمد المصطفى (ص) بنور المبدع الخالق ، وبفاعلية ذلك النور الذي أصبح مدافا بلحمه ودمه ، انتقل الى نسله المقدس ، نقيا زكيا ، تستمد الشموس منه سناها ، وشاءت القدرة الإلهية ان تصطفي من النسل المحمدي شمسا يقتدي بها المؤمنات الصالحات في كل زمان ومكان ، وشاء عز وجل أن يُولد في الكعبة مصباح يستمد وقوده من معين النبوة .. ثم اقتضت حكمته جل وعلا ان يقترن إمام المتقين بسيدة نساء العالمين ، في يوم سجّل فيه التاريخ أسمى تكريم لهما بلسان سيد الرسل ، وهو ممسك بيد كل منهما قائلا: (مرحبا ببحرين يلتقيان ونجمين يقترنان ، اللهم اجمع شملهما ، وألف بين قلبيهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم وارزقهما ذرية طاهرة ) فسلام على النسل المطهر الذي انحدر من مشكاة هذين النورين ، لتبقى الفضيلة امتدادا حيّا لدعوة خاتم الأنبياءالذي توغل نظره الشريف في اعماق الاتي من الزمان ، ليعلن الحقيقة التي لابد منها ، لديمومة جهاده الرسالي ، فجسّد ذلك بقوله صلى الله عليه واله:( حسين مني وانا من حسين)
فأيّ وسام رفيع يضارع هذا الوسام الذي منحه سيد الكائنات لسبطه الحبيب..!
وأيّ بلاغة تطاول البلاغة المحمدية التي صاغت الـ (انا) المطهرة ، لتتوسط بين الماضي ( حسين مني )وبين المستقبل ( وانا من حسين).
وأيّ فاعلية وحيوية ترقى الى جوهر هذه الـ (انا) التي حوّلت خصائص الوراثة من مركز الدائرة الى محيطها ، منطلقة صوب الأفق الرسالي ، لتؤدي دورها في الوقت الذي قدر لها ان تؤديه .
إن الوسام في المراتب الإجتماعية ، يعني ان حامله قد قام بعمل عظيم..! فكيف حصل ذلك العمل العظيم ..؟
ان ارادة الله تعالى فوق كل الارادات ، وان اختياره عزوجل لشخصية الحسين عليه السلام ، ليؤدي مهاما كبيرة تنتظره ،امر يدخل ضمن الكرامات والمعجزات ، لأن الوسام يوم أقر للحسين عليه السلام كان عمره الشريف دون السابعة ..!
ألم يكن ذلك من أوسمة التفاؤل بعمل خالد سوف يقع ، وانه عمل سيكون فيه تضحية متميزة لابد منها ، ليحقق النصف الثاني ( وانا من حسين)..؟
فمن أيّ المراتب تلك التضحية التي يُمنح الوسام لها سلفا وعلى لسان نبي ...؟
لاشك في ان وقوع ذلك العمل بالذات قد خرج منذ ساعته ، من الإحتمالات ليدخل ضمن الحتميّات ..لأنه عليه الصلاة والسلام لاينطق عن الهوى ، ولأن كلامه صلى الله عليه واله ، قد اصبح من واجبات الأخذ والتنفيذ ، على كل مسلم ومسلمة ، لقوله تعالى:) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر/7
ان ما قاله عليه الصلاة والسلام في الحسين ، لايعني تجسيد محبة الحسين في قلب جده وحسب ، بل هو في الوقت نفسه لإعلام المسلمين بحجم مقام الحسين عند الله عزوجل على لسان نبيه الكريم : ( حسين مني وانا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسينا)
وكل متتبع للأخبار التي تذكر لقاءات المصطفى مع سبطه ، يجد في مضامينها ما يؤكد المهمةالتي رُشح لها الحسين عليه السلام ، للنهوض بهذه الديمومة ، فما تقبيل جده له في موضع نحره إلا إشارة لما سيحلّ به ، وما ارتحاله عليه السلام الى ظهر جده العظيم وهو ساجد في الصلاة إلا ومضة شخصتْ في الأفق ، لتتحول فيما بعد الى هالة مشرقة لابد منها في يوم تتلبّد فيه الغيوم ،ولأن الحديث الشريف يقول: ( ان اقرب ما يكون المرء من ربه وهو ساجد ) ومعنى هذا ان النبوة الساجدة كانت معراجا روحيا لهذا الطفل الذي استودع فيه المصطفى أسراره العظيمة وانسانيته العليا.
لقد كان ذلك موضع سرور كبير في نفوس اهل بيت النبوة وهم يستأنسون بتلك التهيئة المستقبلية لولدهم الحسين ، التهيئة التي بعثت الإطمئنان على حيوية الرسالة واستمرار النماء الجهادي .
وتتابعت المواقف والأحداث ، ووهَج الأداء الرسالي يكبر معه عليه السلام ، حتى آن أوان الممارسة الميدانية في تفعيل النصف الثاني من قول جده ( وانا من حسين) ، فبدأ بذلك بعد استشهاد والده الامام ، ثم استشهاد اخيه الحسن عليهما السلام ، وما آل اليه مصير ابي ذر ، واستشهاد عمار وحجر بن عدي ورفاقه ، وبعد ان انقلبت القيم وزهقت المبادئ ( واصبح القران عدّة للجهل ، والحديث عرضة للوضع والتزوير) .
لقد ادركه الأسى من مصير الناس ، ادركه حينما أحسّ بالضوء الذي ارسله جده (ص) من مصباحه الوهاج يتخافت في ومضات ، وشعور الأسى في نفس العظيم لايستحيل يأسا ، بل عامل استنهاض جديد .
واصبحت الصورة السياسية والاجتماعية واضحة امامه ، ابتداء من نقض معاوية لمعاهدة الصلح مع الامام الحسن وانتقالا الى تنصيب يزيد خليفة ، وإصدار الأوامر بأخذ البيعة له من الأقطاب المهمة أخذا شديدا،ولاشك في ان هذه الأجواء قد هيـّأت لأنياب الباطل وسائل التوغل ، ولهمة الأمر بالمعروف عوامل الإحباط. وبدأ الإنحراف يصيب الأدبيات الإسلامية أكثر فأكثر ، حتى بلغ أوْجه في سلوك وسيرة يزيد الذي عُرف بشرب الخمرة والتهاون بإمور الدين ، التهاون الذي نشأ معه ، لأنه ورث أمة ذليلة خاضعة ، ودينا سياسيا لايحمل من الاسلام الا الاسم ، حتى تحوّل الإحساس بالقيم الى كلمات جامدة ، لم تجد من يبث في عروقها مستلزمات الحركة والحيوية ، وعوامل تفعيل ما تصبوا اليه على ارض الواقع ، الواقع الذي استفرغه الأمويون من أيّ شيئ يمتّ الى الحق والعدل والإنصاف بصلة إلا من الولاء والطاعة العمياء لرموز الباطل.
فماذا يُنتظر من الحسين عليه السلام بعد الذي رآه وسمعه ، مع علمه بأن هذه الأجواء التي هو فيها ما هي إلا تمهيد لتفعيل النصف الثاني من قول جده (ص) : ( وانا من حسين )...؟
لقد أيقن عليه السلام أنه مُطالب ببيعة يزيد طوعا او كرها ، فلم يكن أمامه ، وهو الفقيه في دين الله ، العارف بكتابه وسنة رسوله إلا أن يهاجر من المدينة ، لكي لايعيش فيها أو في غيرها مُرغما، وهو الذي يرفد الإباء إباء والكرامة حيوية وصوْنا.
ان كل خطوة خطاها كان لها حسابها الذي هو ليس حساب أي قائد جند أو تخطيط أي أمير ، إنماهو حساب إمام معصوم، لأن العصمة هي سريان الفضيلة بشمولية وتجذر في العروق المؤهلة لإستيطانها الدائم ثم هيمنتها المطلقة ، بحيث لن تسمح لمستلزمات الباطل أو الخطأ أو الزلل في القول والعمل من النفاذ في عالمها المطهّر ، حتى لواقتضى ذلك فداء النفس ، وهذا ما جسّدته الفضيلة في كيان الحسين عليه السلام يوم الطف تجسيدا أذهل الحشود الشيطانية التي بقيت مرتبكة أمامه وهو وحده الى آخر اللحظة التي أسفرت فيها النتائج بانتصار الدم الطاهر على السيف الفاجر.
لقد تواترت الأخبار التي تناقلها المؤرخون والمحدثون ، وكلها يقوّي بعضها بعضا ، ويؤكد الحقيقة التي لاشك فيها ، وهي ان الحسين عليه السلام حينما فكر في الخروج من مكة كان الدافع الأول والأهم هو تورّعه عن ان يـُصاب البلد الحرام والبيت الحرام بسببه بأي سوء ، ولما قال له ابن الزبير: (اما انك لو أقمت بالحجاز ثم اردت هذا الأمر ها هنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك ) فرد الحسين عليه السلام قائلا :
( ان أبي حدثني أن بها كبشا به تستحل حرمتها ، فما أحب ان أكون انا ذلك الكبش ، والله لإن أقتل خارجا منها بشبر أحب اليّ من ان اقتل فيها ، وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لإستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم..)
وبما انه عليه السلام لم يكتب الى أحد ، ولم يدْع اليه أحدا ، فقد بدأت الكتب تأتي اليه متتابعة ، والوفود تسير اليه ، والكل يستحثونه على الإستجابة لهم والتقدم لقيادتهم ، فقدكتب اليه اهل الكوفة ثم بعثوا اليه وفدا من اعيانهم ، ومعهم ما يقرب من مائة وخمسين صحيفة ، كل مضامينها تقول بأنه لو وفد عليهم لبايعوه..
وعلى الرغم مما افصح به بعض المحللين السياسين من دارسي التاريخ بأن عملية ارسال الكتب الى الحسين من اهل العراق ما هي إلا مكيدة لسحبه عليه السلام الى المكان الذي يوافق خططهم ومكائدهم ، فمهما كان التفنن في التحليل فإن تحصيل حاصل جميع خطبه واقواله عليه السلام قد أكدت بأنه أكثر دقة وأبعد نظرا من جميع هذه الاستنتاجات ، لأنه عليه السلام قد ذكر من اول يوم طلب منه ان يبايع ليزيد بأنه مقتول لامحالة ، سواء اتجه الى العراق او الى غيره ، ولكنه آثر الإتجاه الى الكوفة ، لإلقاء الحجة على من بعث اليه بالكتب والوفود ، وهو يعلم انه لو اتجه الى غير العراق وقتل ، لقال اهل الكوفة : بعثنا اليه الرسائل بالقدوم ودعوناه لننصره فلم يجبنا فقتل ، ولاشك في ان مثل هكذا رُؤى هي ضمن حقيقة أن ( الشهيد حاضر في جميع ساحات الحق ، وهو شاهد على نضال العدل ضد الظلم والجور ، حاضر ويريد بحضوره هذا ان يؤدي رسالته الانسانية كلها حتى إذا طلبته وجدته على جميع الساحات ، بل وفي الساحة التي طلبته فيها ) .
ومهما يكن فإنه عليه السلام اتجه صوب المواجهة، ليؤدي دوره المقدر عليه .. الدور الذي أيقن ان خاتمته الشهادة ( لأن الفدية الضخمة قد اصبحت مطلوبة ، لتحرك الضمير شبه الميت في قلب الأمة..) وكان يعلم انه هو الوحيد الذي يملك ان يتقدم لتحقيق ذلك ، لأن الحقيقة تقول ( من كان اكثر وعيا كان اكثر مسؤولية ) ولم يكن علمه هذا ابن ساعته ، بل كان مرافقا له منذ الطفولة ، منذ ان دبّت في عروقه المسؤولية التي بثتها الـ (انا) المحمدية وهي ترسم لمستقبل رسالتها نهجا دائم الخصوبة والعطاء.
وبما ان الإمامة بحكم مهمتها المنصوص عليها، هي إحياء مستمر لمبادئ الرسالة ومنهج السنة ، في ضوء كتاب الله العزيز ، فهذا يعني ان امامة الحسين عليه السلام قد تقرر تعيينها في مضمون النصف الثاني من قوله ( ص) حسين مني وانا من حسين ، ويوم نطق الرسول الأعظم بحديثه هذا ، كان الحسين عليه السلام دون السابعة من العمر ، لأنه (ص) توفي سنة (11 هـ) والحسين (ع) ولد سنة 4 هـ ، وهذا يعني ايضا ان مقومات الإمامة بدات مبكرة معه سيرة وسلوكا ، وتحصيل ذلك في معايير الحقيقة : ان كل خطوة كان يخطوها (ع) لها حسابها ..
فما الذي يوقف مسيرته إذن ..؟
وما الذي يؤخره وهو يحث الخطى .. وهذا هو الغرْس وهذه هي اجواؤه..الغرْس الذي أودع فيه المصطفى مهمة تغعيل الفتح الرسالي الذي أشار اليه الإمام (ع) في كتابه الى بني هاشم ، قبل ان يخرج من المدينة بقوله :
( بسم الله الرحمن الرحيم .
من الحسين بن علي بن ابي طالب الى بني هاشم . اما بعد : فان من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح ).
فأيّ فتح أعظم من ذلك الفتح التفعيلي على ارض الطف الذي جسّد قول جده ( وانا من حسين) .
ان الأفق الديني والسياسي والاجتماعي في فكره عليه السلام قد خرج بخلاصة بعيدة كل البعد عن الدنيويات ، ومتعلقة أشد التعلق بعاقبة الأمور ، من خلال كلامه الى بني هاشم ، الذي باشرهم بالإستشهاد الواثق من حصوله والذي أكده بقوله: ( خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء) .
أجل ، لقد أيقن ذلك حتى ولو ذهب الى أقصى الثغور ، لأنه (ع) مع قوم لايريدون حسينا يمشي على الارض ، لكونهم يُحسّون به عبئا من الطهر ينغص عليهم عيشهم المتربع على مستنقع الرذيلة وعفن الضمائر ، لذا فالاقدام والاصرار على المضي ، له ما يبرره بفقه وحكمة وتفكر ..
أجل ، لقد كان وراء الإقدام والإصرار تخطيط محكم وفي منتهى الدقة ، لأنه عليه السلام لو أخذ برأي الناصحين له بالجلوس في بيته ، لأعطى حكومة يزيد الفاسد الفاجر صفة الشرعية ، ولأنه (ع) كان متيقنا بأن بقاءه في المدينة سيؤول الى القتل أيضا ، ولكنه ما أراد قتلا بصورة أو حالة لا تـضخ وقودا متجددا لديمومة الرسالة المحمدية ، كالتي ضختها معركة الطف بمشاهدها وأحداثها.
وعلى الرغم من وضوح الرؤيا لذوي المدارك الواسعة والعقول النيرة ، فهناك مدارك ضيقة استعجلها الاستسلام ودبت في مفاصلها عوامل الخوف والهوان ، فسلكت طريق التأويلات والتخريجات الواهمة ، فمنهم المنتقد لأعماله (ع) والقائل ان خروجه كالذي يُلقي بنفسه وبعياله الى التهلكة ، والقائل ان افضل الجهاد هو تربية الناس وتعليم القران وتبليغ الأحكام فذلك أنفع مما هو مقبل عليه من سيوف ودماء .. وكان عليه السلام يسمعهم فيعذرهم لقصور رؤيتهم ، لأنه أعلم بأنفسهم العاجزة عن إدراك حقيقة الهدف، وعن فهم معنى الشهادة التي فرضت نفسها في قول جده : ( وانا من حسين) وكذلك عجز تلك النفوس عن ادراك حقيقة الهدف الأموي ، ذلك المعْوَل الذي بدأ بتخريب دعائم الإسلام وتهميش مبادئه من خطوات أبي سفيان ومن تبعه.
فماذا ينفع الإعتكاف الديني الذي أرادوه للحسين (ع) في بيته أو في أي مكان آخر ، مع سلطة جائرة باطلة ترى في استئصال دعاة الحق السبيل الوحيد لبقائها ، فلم يعطهم الحسين عليه السلام ما تمنوه من تصفية جسدية تتم وراء ستار وفي مجتمع ضائع ضعيف . لقد نهض عليه السلام ليوصل مفهوم أن ( أكبر معاجز الشهادة هي إيصال الحياة والدماء الى الأجزاء الميتة من ذلك المجتمع ، من أجل ولادة جيل جديد وإيمان جديد )
ومنهم القائل في عصور تلت : لو كان كذا لما حصل كذا ، غافلين الفقه والعلم وشريان النبوة ومعين الإمامة وطبيعة صنع القرار الحسيني الذي وُلد في أجواء تفصل بينها وبينهم مئات السنين ، اضافة الى ان أهل العلم والمعرفة قد أجمعوا أنه لايصلح لمن يتجرّأ على نقد الحسين إلا أن يكون أفضل منه مقاما ، وأفقه منه علما ، والمتفق عليه بالإجماع انه لم يكن على وجه الأرض في حينه من يدانيه شرفا وحسبا وايمانا وتقوى وعلما وفضلا ..
لقد أبى الحسين عليه السلام إلا ان يواصل طريقه الى النهاية ، فسار بمن معه من الرجال والنساء ، على الرغم من الأخبار التي وردته حول مصير سفيره وابن عمه مسلم بن عقيل ، وما أخبر به عن تراجع الناس وتخاذلهم، ذلك التراجع الذي حققه إعلام ابن زياد الموجّه الى ذوي الأموال والمتنفذين من وجهاء القوم والذي مفاده: انه من أراد ان يدافع عن ثروته وعن مركزه الإجتماعي فليشترك في دم الحسين ... فعميت بذلك قلوبهم ، وتيبست أكفهم على مقابض السيوف الدنيوية..
اما موضوع اصطحاب النساء والأطفال ، فقد وقف عنده بعض الدارسين ، فمنهم من قال : انما هو اجراء طبيعي يقوم به كل قائد مُستهدف ، خشية أن يتخذ الأعداء نساءه وأطفاله رهائن يساومونه بهم متى يشاؤون أو ينكلون بهم لتحقيق هدف ما ، ومما أكد حصول ما ذهب اليه أصحاب هذا القول ، هو ما جبل عليه الطبع الأموي من نزعة الحقد الدفين على آل بيت النبوة ، ولمعاوية في ذلك أمر أصدره لكل ولاة أقاليم مملكته ، جاء فيه بالنص ( من اتهمتموه بموالاة هؤلاء - يعني أهل بيت النبوة - فنكلوا به واهدموا داره..) وهذا الإجراء مقرر بحق من يوالي أهل البيت فكيف بأهل البيت أنفسهم ..!
وقال آخرون : وما يمنع الحسين من اصطحاب النساء والأطفال وهو لم يخرج بهدف عسكري او مجابهة مسلحة لإنتزاع سلطة ، وهو الذي أعلن عن أهدافه بأعلى صوته قائلا قولته المبدئية المدوية :
( اني لم اخرج أشرا ولابطرا ولا مفسدا ولاظالما ، وانما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي ، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر ، فمن قبلني بقبول الحق ، فالله اولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا ، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين) .
ومنهم من قال : ان الحسين (ع) حمل معه أهله ونساءه ، ليـُشهد العالم على ماسيجري ، لكي لاتضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء ، حين يُفقد الشاهد على كل ما جرى بينه وبين خصومه ، ومهما تعددت الآراء ، فقد كان لوجود العيال أثر فاعل في تعرية الخصوم أخلاقيا واجتماعيا، وقد تحقق ذلك في مشاهد اليمة ، منها مصرع الطفل الرضيع الذي مرّغ جبين العنجهية الأموية في أرذل وحول التاريخ ،ساعة أخذه أبوه الى ساحة المعركة يطلب له الماء من الأعداء ، فكان ردّهم أن سقوه سهما في رقبته ، ومنها حرق خيام العيال الذي أفصح عن عروبة مزيـّفة ، ومنها ارتضاء السبي لبنات الرسول (ص) .. السبي الذي جسّد تعلق القيادة الأموية بأذيال الجاهلية ، مؤكدا للتاريخ بأنهم مازالوا مُكرهين على الاسلام، وقد أطلق يزيد مضمون ذلك علنا ساعة دخول السبايا عليه بقوله:
لعبت هاشم بالملك فـلا
خبر جاء ولا وحي نزل
وكان لوجود بطلة كربلاء العقيلة زينب أكبر الأثر في إفساد نشوة النصر الأموي ،بصمودها ومواجهاتها الخطابية المدوية التي أيقضت صفحات التاريخ لتحتوي الحقيقة كما هي( فكانت لسانا لمن قطعت السنتهم سيوف الجلادين ،وهي رأت انه اذا لم تكن للدم رسالة ولم يكن له رسل ، لبقي صوتا أخرسا في التاريخ ، واذا لم يوصل الدم رسالته الى جميع الأجيال ، فسيحاصره الجلادون ويسجنونه في زنزانة عصر واحد )
ان من ابرز الظواهر التي لها مغزاها في خروجه عليه السلام ، هو انه ماخطر بباله ولو مرة واحدة ان يحاول جمع الناس حوله ، او ان يحفزهم على الثبات او يمنيهم بالنصر ، انما كان دائما على عكس ذلك يصارحهم بالشدائد التي تعترضه ، ويهوّن عليهم الانصراف عنه ، حتى لايصيبهم أذى بسببه ، أو يُرغموا على أي تضحية في سبيله ، ولو ان الحسين (ع) كما يزعم بعضهم كان يسعى الى أي عرض دنيوي ، لإستطاع ان يستغل مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في إثارةالنفوس وتحفيز الهمم الى الثأر ، ولوجد حينئذ استجابة تامة من كل حدب وصوب ..ولو كان يريد السلطة لما رفض نصرة عشرين الف فارس وهم رهط الطرماح بن عدي .
لقد رفض الحسين (ع) كل ذلك ، حرصا منه على وحدة وبقاء الفتنة محصورة في أضيق نطاق ، لكي لاتسفك دماء المسلمين في حرب داخلية تبدد قوتهم وتمزق شملهم، وعلى الرغم من قرب تحقق الأجل المحتوم ، فان أباعبد الله الحسين قد حرص في كل خطوة خطاها على ان يكشف للتاريخ حقيقة المجابهة الأموية ضده ، من خلال استنطاق قادتهم وممثليهم ، فكان منها ان بادر الى الإجتماع أكثر من مرة مع عمر بن سعد ، وعرض عليه أحد أمرين : إما ان يرجع من حيث جاء ، واما ان يدعوه يذهب في الارض العريضة حتى ينظر ما يصير اليه أمر الناس ، فكتب عمر بن سعد بذلك كتابا الى عبيد الله بن زياد يخبره بما حصل ، فلم يقبل ذلك .قال عقبة بن سمعان ( صحبت الحسين من المدينة الى مكة ومن مكة الى العراق ولم أفارقه حتى قتل وسمعت جميع مخاطباته الناس الى يوم مقتله ، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد ولا ان يسيروه الى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنه قال : ( دعوني ارجع الى المكان الذي اقبلت منه او دعوني اذهب في هذه الارض العريضة حتى ننظر مايصير اليه أمر الناس..) فلم يفعلوا.
ان كل الإستفزازات والمؤشرات السريعة التي اخذت تؤكد تباعا قرب حلول الكارثة ، لم تثنه عليه السلام عن عزمه ، بل إزداد قوة على قوة ، لثقته بالظفر الأبدي ، حتى انه خطب اصحابه بعبارة فصيحة وكلمات بليغة قائلا بعد ان حمد الله وأثنى عليه :( ... أما بعد فاني لااعلم اصحابا أولى ولاخيرا من اصحابي ولاأهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا ، ألا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وأني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ، وليس عليكم ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فإن القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري).
انها لهجة امام متيقن كل اليقين بأنه مقبل على خطر لاتثبت له غير النفوس التي تؤثر الآخرة على الدنيا ، ولاترى الحياة مع الطغاة والظالمين إلا شقاء.. وشاء عزوجل ان يلتف حول ابي عبد الله رجال حباهم العلي القدير بمثل تلك النفوس ، إذ سرعان ماانتهى عليه السلام من خطبته هذه حتى أعلنت تلك النفوس عن جوهرها واصالتها ونقائها المنحدر من أسمى وأزكى سلالة بشرية ، فمن قائل: والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر ، يفعل بي سبعين مرة ما فارقتك يابن رسول الله حتى القى حمامي دونك. ومن قائل وقائل مثل ذلك كثير.. هكذا هو العطاء ( والجود بالنفس أقصى غاية الجود ) .. انها الكرامة والإباء وتجسيد كل مافي فلسفة الموت والحياة من مفاهيم وعبر ( قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد : ويحك ..! أقتلتم ذرية رسول الله صلى الله عليه واله، فقال : انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ، ثارت علينا عصابة ، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا وشمالا ، وتلقي أنفسها على الموت ، لاتقبل الأمان ، ولاترغب في المال ،ولايحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية .. فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها ، فما كنا فاعلين لا أمّ لك ..!) شرح ابن ابي الحديد 2/182
ولكي يكشف عليه السلام نوايا القوم أمام العالم، ويؤدي واجبه الإنساني تجاه المغرر بهم ، ويلقي البينة ، ليس انتظارا لنصرة أحد منهم ، وليس توسلا لنجاة وهو الذي كان بامكانه ان يرجع دون ان يأخذ موافقة أحد عندما كانت القافلة في أول الطريق ..
ليس هذا ولاذاك وإنما الذي كان يهدف اليه في خطبه يوم العاشر من المحرم ، هو لإنقاذ الذين سيرتكبون ذنبا بما زيّنه لهم ابن زياد وزمرته من أباطيل وأوهام .. فتقدم عليه السلام يخطب الجيش ، وهو في رداء النبي (ص) قائلا : ( انسبوني من أنا ، هل يحق لكم قتلي وانتهاك حرمتي ، الست ابن بنت نبيكم ، أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي ، هذان سيدا شباب أهل الجنة ، ويحكم أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته..).
وكان الموقف خطيرا بالنسبة لإبن سعد الذي لو انتظر قليلا لإنضمّ الى الحسين عليه السلام كثير ممن ضللهم الإعلام الأموي، ولكن ابن سعد خشي الرقباء أن يبلغوا ابن زياد بما حدث ، فما كان إلا أن تناول سهما ورمى به جماعة الحسين وهو يصيح : اشهدوا لي عند الأمير انني أول من رمى الحسين ، مزهوّا بقيادة جيش قوامه ثلاثون الف رجل ، ليقاتل بهم رجالا تقاة صالحين لايتجاوز عددهم المائة من أصحاب الحسين (ع)، ولكن يكفي أنّ شرف العسكرية الإسلامية قد تبرّأتْ صفحاته التاريخية من ذالك التخطيط الأموي الذي ارتضى تلك التعبئة العسكرية غير المتكافئة، والله تعالى شاء ان تشهد أرض الطف نهضة حكيمة جبارة استهلكت عددا يسيرا من الرجال ، لكنها مرّغتْ في الوحول جباه الطواغيت والمردة .
وبدأت المعركة إيذانا بالديمومة الأبدية لحيوية الرسالة المحمدية، وبدأ القائد العظيم يخطط ويوزع اصحابه للمواجهة بخبرته العسكرية التي استقاها من مشاركاته في الحروب مع ابيه أمير المؤمنين عليه السلام ، فهيأ الصفوة من اصحابه وكانوا اثنين وثمانين فارسا وراجلا ، وفي رواية كانوا اثنين وسبعين ( اربعون راجلا واثنان وثلاثون فارسا ) فجعل زهير بن القين في الميمنة وحبيب بن مظاهر في الميسرة وثبت هو (ع) واهل بيته في القلب وأعطى رايته أخاه العباس لأنه وجد قمر الهاشميين أكفا ممن معه لحملها ، واثبتهم للطعان وأربطهم جأشا وأشدهم مراسا..
لقد كان عليه السلام يأمل الى آخر لحظة في أن يبعث الروح في الضمائر الأموية الميتة ، ولكنها بقيت ميتة ، فحاربوه وقتلوه ، منساقين وراء غبائهم الذي أوحى اليهم أن في قتله عليه السلام هو دوام عنجهيتهم الفارغة ، وانهم سيمحون ذكره ، فإذابخلود محبة السبط الشهيد في القلوب المبدئية الممتلئة بالايمان ، تقضّ مضاجع أجيالهم من الذين أبوا أن يعرفوا الحقيقة ، وإذا بصحائف التاريخ المنصفة تصنّفهم مع أعداء الإنسانية وهمج الجاهلية .
ان الله عزوجل هو وحده يعلم كم أمدّت كربلاء الفداء بأحداثها الأليمة ومشاهدها الخالدة دعاة الحق والايمان في كل زمان ومكان على مرّ القرون وكرّ السنين بالقوة التي لاتنفد.. القوة التي قدّر لها أن لاتلين في مقاومة البغي والعدوان ، والرغبة الأكيدة في الفوز بإحدى الحسنيين: إما النصر والحياة في ظل العزة والكرامة ، وإما الشهادة في ميدان الشرف والخلود، كما لايعلم إلا وحده جل وعلا ، انه لولا خروج سيد شباب أهل الجنة وأصحابه وما قدّموه ، ماذا كان ينتهي اليه مصير المسلمين ، وهم يخوضون غمار المعارك ،دفاعا عن كيانهم ، وذوْدا عن مقدساتهم ، فالحمد لله الذي ختم أنبياءه بحبيبه محمد المصطفى (ص) ، وأنعم على هذه الأمة نعمة دائمة ، بأن جعل لهذه الخاتمة روحا لاختام لها .. روحا تستمد أنفاسها من وقود الشهادة .. شهادة ابي عبد الله الحسين ومن معه من أهل بيت النبوة ، والأنصار عليهم السلام جميعا .. الشهادة التي ستظل الى قيام الساعة تستنهض همم وعزائم أبناء الأمة ، للوقوف صفا واحدا بلا خلاف ولاجدال بوجه أعدائها الذين يتربصون بكل وقاحة على مرّ العصور للإيقاع بخير أمة أخرجت للناس.
عدنان عبد النبي البلداوي
من أول لحظة تأمل بظواهر الكون ، تشبّع كيان محمد المصطفى (ص) بنور المبدع الخالق ، وبفاعلية ذلك النور الذي أصبح مدافا بلحمه ودمه ، انتقل الى نسله المقدس ، نقيا زكيا ، تستمد الشموس منه سناها ، وشاءت القدرة الإلهية ان تصطفي من النسل المحمدي شمسا يقتدي بها المؤمنات الصالحات في كل زمان ومكان ، وشاء عز وجل أن يُولد في الكعبة مصباح يستمد وقوده من معين النبوة .. ثم اقتضت حكمته جل وعلا ان يقترن إمام المتقين بسيدة نساء العالمين ، في يوم سجّل فيه التاريخ أسمى تكريم لهما بلسان سيد الرسل ، وهو ممسك بيد كل منهما قائلا: (مرحبا ببحرين يلتقيان ونجمين يقترنان ، اللهم اجمع شملهما ، وألف بين قلبيهما واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم وارزقهما ذرية طاهرة ) فسلام على النسل المطهر الذي انحدر من مشكاة هذين النورين ، لتبقى الفضيلة امتدادا حيّا لدعوة خاتم الأنبياءالذي توغل نظره الشريف في اعماق الاتي من الزمان ، ليعلن الحقيقة التي لابد منها ، لديمومة جهاده الرسالي ، فجسّد ذلك بقوله صلى الله عليه واله:( حسين مني وانا من حسين)
فأيّ وسام رفيع يضارع هذا الوسام الذي منحه سيد الكائنات لسبطه الحبيب..!
وأيّ بلاغة تطاول البلاغة المحمدية التي صاغت الـ (انا) المطهرة ، لتتوسط بين الماضي ( حسين مني )وبين المستقبل ( وانا من حسين).
وأيّ فاعلية وحيوية ترقى الى جوهر هذه الـ (انا) التي حوّلت خصائص الوراثة من مركز الدائرة الى محيطها ، منطلقة صوب الأفق الرسالي ، لتؤدي دورها في الوقت الذي قدر لها ان تؤديه .
إن الوسام في المراتب الإجتماعية ، يعني ان حامله قد قام بعمل عظيم..! فكيف حصل ذلك العمل العظيم ..؟
ان ارادة الله تعالى فوق كل الارادات ، وان اختياره عزوجل لشخصية الحسين عليه السلام ، ليؤدي مهاما كبيرة تنتظره ،امر يدخل ضمن الكرامات والمعجزات ، لأن الوسام يوم أقر للحسين عليه السلام كان عمره الشريف دون السابعة ..!
ألم يكن ذلك من أوسمة التفاؤل بعمل خالد سوف يقع ، وانه عمل سيكون فيه تضحية متميزة لابد منها ، ليحقق النصف الثاني ( وانا من حسين)..؟
فمن أيّ المراتب تلك التضحية التي يُمنح الوسام لها سلفا وعلى لسان نبي ...؟
لاشك في ان وقوع ذلك العمل بالذات قد خرج منذ ساعته ، من الإحتمالات ليدخل ضمن الحتميّات ..لأنه عليه الصلاة والسلام لاينطق عن الهوى ، ولأن كلامه صلى الله عليه واله ، قد اصبح من واجبات الأخذ والتنفيذ ، على كل مسلم ومسلمة ، لقوله تعالى:) وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) الحشر/7
ان ما قاله عليه الصلاة والسلام في الحسين ، لايعني تجسيد محبة الحسين في قلب جده وحسب ، بل هو في الوقت نفسه لإعلام المسلمين بحجم مقام الحسين عند الله عزوجل على لسان نبيه الكريم : ( حسين مني وانا من حسين ، أحبّ الله من أحبّ حسينا)
وكل متتبع للأخبار التي تذكر لقاءات المصطفى مع سبطه ، يجد في مضامينها ما يؤكد المهمةالتي رُشح لها الحسين عليه السلام ، للنهوض بهذه الديمومة ، فما تقبيل جده له في موضع نحره إلا إشارة لما سيحلّ به ، وما ارتحاله عليه السلام الى ظهر جده العظيم وهو ساجد في الصلاة إلا ومضة شخصتْ في الأفق ، لتتحول فيما بعد الى هالة مشرقة لابد منها في يوم تتلبّد فيه الغيوم ،ولأن الحديث الشريف يقول: ( ان اقرب ما يكون المرء من ربه وهو ساجد ) ومعنى هذا ان النبوة الساجدة كانت معراجا روحيا لهذا الطفل الذي استودع فيه المصطفى أسراره العظيمة وانسانيته العليا.
لقد كان ذلك موضع سرور كبير في نفوس اهل بيت النبوة وهم يستأنسون بتلك التهيئة المستقبلية لولدهم الحسين ، التهيئة التي بعثت الإطمئنان على حيوية الرسالة واستمرار النماء الجهادي .
وتتابعت المواقف والأحداث ، ووهَج الأداء الرسالي يكبر معه عليه السلام ، حتى آن أوان الممارسة الميدانية في تفعيل النصف الثاني من قول جده ( وانا من حسين) ، فبدأ بذلك بعد استشهاد والده الامام ، ثم استشهاد اخيه الحسن عليهما السلام ، وما آل اليه مصير ابي ذر ، واستشهاد عمار وحجر بن عدي ورفاقه ، وبعد ان انقلبت القيم وزهقت المبادئ ( واصبح القران عدّة للجهل ، والحديث عرضة للوضع والتزوير) .
لقد ادركه الأسى من مصير الناس ، ادركه حينما أحسّ بالضوء الذي ارسله جده (ص) من مصباحه الوهاج يتخافت في ومضات ، وشعور الأسى في نفس العظيم لايستحيل يأسا ، بل عامل استنهاض جديد .
واصبحت الصورة السياسية والاجتماعية واضحة امامه ، ابتداء من نقض معاوية لمعاهدة الصلح مع الامام الحسن وانتقالا الى تنصيب يزيد خليفة ، وإصدار الأوامر بأخذ البيعة له من الأقطاب المهمة أخذا شديدا،ولاشك في ان هذه الأجواء قد هيـّأت لأنياب الباطل وسائل التوغل ، ولهمة الأمر بالمعروف عوامل الإحباط. وبدأ الإنحراف يصيب الأدبيات الإسلامية أكثر فأكثر ، حتى بلغ أوْجه في سلوك وسيرة يزيد الذي عُرف بشرب الخمرة والتهاون بإمور الدين ، التهاون الذي نشأ معه ، لأنه ورث أمة ذليلة خاضعة ، ودينا سياسيا لايحمل من الاسلام الا الاسم ، حتى تحوّل الإحساس بالقيم الى كلمات جامدة ، لم تجد من يبث في عروقها مستلزمات الحركة والحيوية ، وعوامل تفعيل ما تصبوا اليه على ارض الواقع ، الواقع الذي استفرغه الأمويون من أيّ شيئ يمتّ الى الحق والعدل والإنصاف بصلة إلا من الولاء والطاعة العمياء لرموز الباطل.
فماذا يُنتظر من الحسين عليه السلام بعد الذي رآه وسمعه ، مع علمه بأن هذه الأجواء التي هو فيها ما هي إلا تمهيد لتفعيل النصف الثاني من قول جده (ص) : ( وانا من حسين )...؟
لقد أيقن عليه السلام أنه مُطالب ببيعة يزيد طوعا او كرها ، فلم يكن أمامه ، وهو الفقيه في دين الله ، العارف بكتابه وسنة رسوله إلا أن يهاجر من المدينة ، لكي لايعيش فيها أو في غيرها مُرغما، وهو الذي يرفد الإباء إباء والكرامة حيوية وصوْنا.
ان كل خطوة خطاها كان لها حسابها الذي هو ليس حساب أي قائد جند أو تخطيط أي أمير ، إنماهو حساب إمام معصوم، لأن العصمة هي سريان الفضيلة بشمولية وتجذر في العروق المؤهلة لإستيطانها الدائم ثم هيمنتها المطلقة ، بحيث لن تسمح لمستلزمات الباطل أو الخطأ أو الزلل في القول والعمل من النفاذ في عالمها المطهّر ، حتى لواقتضى ذلك فداء النفس ، وهذا ما جسّدته الفضيلة في كيان الحسين عليه السلام يوم الطف تجسيدا أذهل الحشود الشيطانية التي بقيت مرتبكة أمامه وهو وحده الى آخر اللحظة التي أسفرت فيها النتائج بانتصار الدم الطاهر على السيف الفاجر.
لقد تواترت الأخبار التي تناقلها المؤرخون والمحدثون ، وكلها يقوّي بعضها بعضا ، ويؤكد الحقيقة التي لاشك فيها ، وهي ان الحسين عليه السلام حينما فكر في الخروج من مكة كان الدافع الأول والأهم هو تورّعه عن ان يـُصاب البلد الحرام والبيت الحرام بسببه بأي سوء ، ولما قال له ابن الزبير: (اما انك لو أقمت بالحجاز ثم اردت هذا الأمر ها هنا لما خالفنا عليك وساعدناك وبايعناك ونصحنا لك ) فرد الحسين عليه السلام قائلا :
( ان أبي حدثني أن بها كبشا به تستحل حرمتها ، فما أحب ان أكون انا ذلك الكبش ، والله لإن أقتل خارجا منها بشبر أحب اليّ من ان اقتل فيها ، وأيم الله لو كنت في حجر هامة من هذه الهوام لإستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم..)
وبما انه عليه السلام لم يكتب الى أحد ، ولم يدْع اليه أحدا ، فقد بدأت الكتب تأتي اليه متتابعة ، والوفود تسير اليه ، والكل يستحثونه على الإستجابة لهم والتقدم لقيادتهم ، فقدكتب اليه اهل الكوفة ثم بعثوا اليه وفدا من اعيانهم ، ومعهم ما يقرب من مائة وخمسين صحيفة ، كل مضامينها تقول بأنه لو وفد عليهم لبايعوه..
وعلى الرغم مما افصح به بعض المحللين السياسين من دارسي التاريخ بأن عملية ارسال الكتب الى الحسين من اهل العراق ما هي إلا مكيدة لسحبه عليه السلام الى المكان الذي يوافق خططهم ومكائدهم ، فمهما كان التفنن في التحليل فإن تحصيل حاصل جميع خطبه واقواله عليه السلام قد أكدت بأنه أكثر دقة وأبعد نظرا من جميع هذه الاستنتاجات ، لأنه عليه السلام قد ذكر من اول يوم طلب منه ان يبايع ليزيد بأنه مقتول لامحالة ، سواء اتجه الى العراق او الى غيره ، ولكنه آثر الإتجاه الى الكوفة ، لإلقاء الحجة على من بعث اليه بالكتب والوفود ، وهو يعلم انه لو اتجه الى غير العراق وقتل ، لقال اهل الكوفة : بعثنا اليه الرسائل بالقدوم ودعوناه لننصره فلم يجبنا فقتل ، ولاشك في ان مثل هكذا رُؤى هي ضمن حقيقة أن ( الشهيد حاضر في جميع ساحات الحق ، وهو شاهد على نضال العدل ضد الظلم والجور ، حاضر ويريد بحضوره هذا ان يؤدي رسالته الانسانية كلها حتى إذا طلبته وجدته على جميع الساحات ، بل وفي الساحة التي طلبته فيها ) .
ومهما يكن فإنه عليه السلام اتجه صوب المواجهة، ليؤدي دوره المقدر عليه .. الدور الذي أيقن ان خاتمته الشهادة ( لأن الفدية الضخمة قد اصبحت مطلوبة ، لتحرك الضمير شبه الميت في قلب الأمة..) وكان يعلم انه هو الوحيد الذي يملك ان يتقدم لتحقيق ذلك ، لأن الحقيقة تقول ( من كان اكثر وعيا كان اكثر مسؤولية ) ولم يكن علمه هذا ابن ساعته ، بل كان مرافقا له منذ الطفولة ، منذ ان دبّت في عروقه المسؤولية التي بثتها الـ (انا) المحمدية وهي ترسم لمستقبل رسالتها نهجا دائم الخصوبة والعطاء.
وبما ان الإمامة بحكم مهمتها المنصوص عليها، هي إحياء مستمر لمبادئ الرسالة ومنهج السنة ، في ضوء كتاب الله العزيز ، فهذا يعني ان امامة الحسين عليه السلام قد تقرر تعيينها في مضمون النصف الثاني من قوله ( ص) حسين مني وانا من حسين ، ويوم نطق الرسول الأعظم بحديثه هذا ، كان الحسين عليه السلام دون السابعة من العمر ، لأنه (ص) توفي سنة (11 هـ) والحسين (ع) ولد سنة 4 هـ ، وهذا يعني ايضا ان مقومات الإمامة بدات مبكرة معه سيرة وسلوكا ، وتحصيل ذلك في معايير الحقيقة : ان كل خطوة كان يخطوها (ع) لها حسابها ..
فما الذي يوقف مسيرته إذن ..؟
وما الذي يؤخره وهو يحث الخطى .. وهذا هو الغرْس وهذه هي اجواؤه..الغرْس الذي أودع فيه المصطفى مهمة تغعيل الفتح الرسالي الذي أشار اليه الإمام (ع) في كتابه الى بني هاشم ، قبل ان يخرج من المدينة بقوله :
( بسم الله الرحمن الرحيم .
من الحسين بن علي بن ابي طالب الى بني هاشم . اما بعد : فان من لحق بي منكم استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح ).
فأيّ فتح أعظم من ذلك الفتح التفعيلي على ارض الطف الذي جسّد قول جده ( وانا من حسين) .
ان الأفق الديني والسياسي والاجتماعي في فكره عليه السلام قد خرج بخلاصة بعيدة كل البعد عن الدنيويات ، ومتعلقة أشد التعلق بعاقبة الأمور ، من خلال كلامه الى بني هاشم ، الذي باشرهم بالإستشهاد الواثق من حصوله والذي أكده بقوله: ( خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وكأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء) .
أجل ، لقد أيقن ذلك حتى ولو ذهب الى أقصى الثغور ، لأنه (ع) مع قوم لايريدون حسينا يمشي على الارض ، لكونهم يُحسّون به عبئا من الطهر ينغص عليهم عيشهم المتربع على مستنقع الرذيلة وعفن الضمائر ، لذا فالاقدام والاصرار على المضي ، له ما يبرره بفقه وحكمة وتفكر ..
أجل ، لقد كان وراء الإقدام والإصرار تخطيط محكم وفي منتهى الدقة ، لأنه عليه السلام لو أخذ برأي الناصحين له بالجلوس في بيته ، لأعطى حكومة يزيد الفاسد الفاجر صفة الشرعية ، ولأنه (ع) كان متيقنا بأن بقاءه في المدينة سيؤول الى القتل أيضا ، ولكنه ما أراد قتلا بصورة أو حالة لا تـضخ وقودا متجددا لديمومة الرسالة المحمدية ، كالتي ضختها معركة الطف بمشاهدها وأحداثها.
وعلى الرغم من وضوح الرؤيا لذوي المدارك الواسعة والعقول النيرة ، فهناك مدارك ضيقة استعجلها الاستسلام ودبت في مفاصلها عوامل الخوف والهوان ، فسلكت طريق التأويلات والتخريجات الواهمة ، فمنهم المنتقد لأعماله (ع) والقائل ان خروجه كالذي يُلقي بنفسه وبعياله الى التهلكة ، والقائل ان افضل الجهاد هو تربية الناس وتعليم القران وتبليغ الأحكام فذلك أنفع مما هو مقبل عليه من سيوف ودماء .. وكان عليه السلام يسمعهم فيعذرهم لقصور رؤيتهم ، لأنه أعلم بأنفسهم العاجزة عن إدراك حقيقة الهدف، وعن فهم معنى الشهادة التي فرضت نفسها في قول جده : ( وانا من حسين) وكذلك عجز تلك النفوس عن ادراك حقيقة الهدف الأموي ، ذلك المعْوَل الذي بدأ بتخريب دعائم الإسلام وتهميش مبادئه من خطوات أبي سفيان ومن تبعه.
فماذا ينفع الإعتكاف الديني الذي أرادوه للحسين (ع) في بيته أو في أي مكان آخر ، مع سلطة جائرة باطلة ترى في استئصال دعاة الحق السبيل الوحيد لبقائها ، فلم يعطهم الحسين عليه السلام ما تمنوه من تصفية جسدية تتم وراء ستار وفي مجتمع ضائع ضعيف . لقد نهض عليه السلام ليوصل مفهوم أن ( أكبر معاجز الشهادة هي إيصال الحياة والدماء الى الأجزاء الميتة من ذلك المجتمع ، من أجل ولادة جيل جديد وإيمان جديد )
ومنهم القائل في عصور تلت : لو كان كذا لما حصل كذا ، غافلين الفقه والعلم وشريان النبوة ومعين الإمامة وطبيعة صنع القرار الحسيني الذي وُلد في أجواء تفصل بينها وبينهم مئات السنين ، اضافة الى ان أهل العلم والمعرفة قد أجمعوا أنه لايصلح لمن يتجرّأ على نقد الحسين إلا أن يكون أفضل منه مقاما ، وأفقه منه علما ، والمتفق عليه بالإجماع انه لم يكن على وجه الأرض في حينه من يدانيه شرفا وحسبا وايمانا وتقوى وعلما وفضلا ..
لقد أبى الحسين عليه السلام إلا ان يواصل طريقه الى النهاية ، فسار بمن معه من الرجال والنساء ، على الرغم من الأخبار التي وردته حول مصير سفيره وابن عمه مسلم بن عقيل ، وما أخبر به عن تراجع الناس وتخاذلهم، ذلك التراجع الذي حققه إعلام ابن زياد الموجّه الى ذوي الأموال والمتنفذين من وجهاء القوم والذي مفاده: انه من أراد ان يدافع عن ثروته وعن مركزه الإجتماعي فليشترك في دم الحسين ... فعميت بذلك قلوبهم ، وتيبست أكفهم على مقابض السيوف الدنيوية..
اما موضوع اصطحاب النساء والأطفال ، فقد وقف عنده بعض الدارسين ، فمنهم من قال : انما هو اجراء طبيعي يقوم به كل قائد مُستهدف ، خشية أن يتخذ الأعداء نساءه وأطفاله رهائن يساومونه بهم متى يشاؤون أو ينكلون بهم لتحقيق هدف ما ، ومما أكد حصول ما ذهب اليه أصحاب هذا القول ، هو ما جبل عليه الطبع الأموي من نزعة الحقد الدفين على آل بيت النبوة ، ولمعاوية في ذلك أمر أصدره لكل ولاة أقاليم مملكته ، جاء فيه بالنص ( من اتهمتموه بموالاة هؤلاء - يعني أهل بيت النبوة - فنكلوا به واهدموا داره..) وهذا الإجراء مقرر بحق من يوالي أهل البيت فكيف بأهل البيت أنفسهم ..!
وقال آخرون : وما يمنع الحسين من اصطحاب النساء والأطفال وهو لم يخرج بهدف عسكري او مجابهة مسلحة لإنتزاع سلطة ، وهو الذي أعلن عن أهدافه بأعلى صوته قائلا قولته المبدئية المدوية :
( اني لم اخرج أشرا ولابطرا ولا مفسدا ولاظالما ، وانما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي ، اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر ، فمن قبلني بقبول الحق ، فالله اولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا ، اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين) .
ومنهم من قال : ان الحسين (ع) حمل معه أهله ونساءه ، ليـُشهد العالم على ماسيجري ، لكي لاتضيع قضيته مع دمه المراق في الصحراء ، حين يُفقد الشاهد على كل ما جرى بينه وبين خصومه ، ومهما تعددت الآراء ، فقد كان لوجود العيال أثر فاعل في تعرية الخصوم أخلاقيا واجتماعيا، وقد تحقق ذلك في مشاهد اليمة ، منها مصرع الطفل الرضيع الذي مرّغ جبين العنجهية الأموية في أرذل وحول التاريخ ،ساعة أخذه أبوه الى ساحة المعركة يطلب له الماء من الأعداء ، فكان ردّهم أن سقوه سهما في رقبته ، ومنها حرق خيام العيال الذي أفصح عن عروبة مزيـّفة ، ومنها ارتضاء السبي لبنات الرسول (ص) .. السبي الذي جسّد تعلق القيادة الأموية بأذيال الجاهلية ، مؤكدا للتاريخ بأنهم مازالوا مُكرهين على الاسلام، وقد أطلق يزيد مضمون ذلك علنا ساعة دخول السبايا عليه بقوله:
لعبت هاشم بالملك فـلا
خبر جاء ولا وحي نزل
وكان لوجود بطلة كربلاء العقيلة زينب أكبر الأثر في إفساد نشوة النصر الأموي ،بصمودها ومواجهاتها الخطابية المدوية التي أيقضت صفحات التاريخ لتحتوي الحقيقة كما هي( فكانت لسانا لمن قطعت السنتهم سيوف الجلادين ،وهي رأت انه اذا لم تكن للدم رسالة ولم يكن له رسل ، لبقي صوتا أخرسا في التاريخ ، واذا لم يوصل الدم رسالته الى جميع الأجيال ، فسيحاصره الجلادون ويسجنونه في زنزانة عصر واحد )
ان من ابرز الظواهر التي لها مغزاها في خروجه عليه السلام ، هو انه ماخطر بباله ولو مرة واحدة ان يحاول جمع الناس حوله ، او ان يحفزهم على الثبات او يمنيهم بالنصر ، انما كان دائما على عكس ذلك يصارحهم بالشدائد التي تعترضه ، ويهوّن عليهم الانصراف عنه ، حتى لايصيبهم أذى بسببه ، أو يُرغموا على أي تضحية في سبيله ، ولو ان الحسين (ع) كما يزعم بعضهم كان يسعى الى أي عرض دنيوي ، لإستطاع ان يستغل مقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة في إثارةالنفوس وتحفيز الهمم الى الثأر ، ولوجد حينئذ استجابة تامة من كل حدب وصوب ..ولو كان يريد السلطة لما رفض نصرة عشرين الف فارس وهم رهط الطرماح بن عدي .
لقد رفض الحسين (ع) كل ذلك ، حرصا منه على وحدة وبقاء الفتنة محصورة في أضيق نطاق ، لكي لاتسفك دماء المسلمين في حرب داخلية تبدد قوتهم وتمزق شملهم، وعلى الرغم من قرب تحقق الأجل المحتوم ، فان أباعبد الله الحسين قد حرص في كل خطوة خطاها على ان يكشف للتاريخ حقيقة المجابهة الأموية ضده ، من خلال استنطاق قادتهم وممثليهم ، فكان منها ان بادر الى الإجتماع أكثر من مرة مع عمر بن سعد ، وعرض عليه أحد أمرين : إما ان يرجع من حيث جاء ، واما ان يدعوه يذهب في الارض العريضة حتى ينظر ما يصير اليه أمر الناس ، فكتب عمر بن سعد بذلك كتابا الى عبيد الله بن زياد يخبره بما حصل ، فلم يقبل ذلك .قال عقبة بن سمعان ( صحبت الحسين من المدينة الى مكة ومن مكة الى العراق ولم أفارقه حتى قتل وسمعت جميع مخاطباته الناس الى يوم مقتله ، فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد ولا ان يسيروه الى ثغر من ثغور المسلمين ، ولكنه قال : ( دعوني ارجع الى المكان الذي اقبلت منه او دعوني اذهب في هذه الارض العريضة حتى ننظر مايصير اليه أمر الناس..) فلم يفعلوا.
ان كل الإستفزازات والمؤشرات السريعة التي اخذت تؤكد تباعا قرب حلول الكارثة ، لم تثنه عليه السلام عن عزمه ، بل إزداد قوة على قوة ، لثقته بالظفر الأبدي ، حتى انه خطب اصحابه بعبارة فصيحة وكلمات بليغة قائلا بعد ان حمد الله وأثنى عليه :( ... أما بعد فاني لااعلم اصحابا أولى ولاخيرا من اصحابي ولاأهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا ، ألا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وأني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ، وليس عليكم ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فإن القوم إنما يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري).
انها لهجة امام متيقن كل اليقين بأنه مقبل على خطر لاتثبت له غير النفوس التي تؤثر الآخرة على الدنيا ، ولاترى الحياة مع الطغاة والظالمين إلا شقاء.. وشاء عزوجل ان يلتف حول ابي عبد الله رجال حباهم العلي القدير بمثل تلك النفوس ، إذ سرعان ماانتهى عليه السلام من خطبته هذه حتى أعلنت تلك النفوس عن جوهرها واصالتها ونقائها المنحدر من أسمى وأزكى سلالة بشرية ، فمن قائل: والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر ، يفعل بي سبعين مرة ما فارقتك يابن رسول الله حتى القى حمامي دونك. ومن قائل وقائل مثل ذلك كثير.. هكذا هو العطاء ( والجود بالنفس أقصى غاية الجود ) .. انها الكرامة والإباء وتجسيد كل مافي فلسفة الموت والحياة من مفاهيم وعبر ( قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد : ويحك ..! أقتلتم ذرية رسول الله صلى الله عليه واله، فقال : انك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا ، ثارت علينا عصابة ، أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية تحطم الفرسان يمينا وشمالا ، وتلقي أنفسها على الموت ، لاتقبل الأمان ، ولاترغب في المال ،ولايحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنية .. فلو كففنا عنها رويدا لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها ، فما كنا فاعلين لا أمّ لك ..!) شرح ابن ابي الحديد 2/182
ولكي يكشف عليه السلام نوايا القوم أمام العالم، ويؤدي واجبه الإنساني تجاه المغرر بهم ، ويلقي البينة ، ليس انتظارا لنصرة أحد منهم ، وليس توسلا لنجاة وهو الذي كان بامكانه ان يرجع دون ان يأخذ موافقة أحد عندما كانت القافلة في أول الطريق ..
ليس هذا ولاذاك وإنما الذي كان يهدف اليه في خطبه يوم العاشر من المحرم ، هو لإنقاذ الذين سيرتكبون ذنبا بما زيّنه لهم ابن زياد وزمرته من أباطيل وأوهام .. فتقدم عليه السلام يخطب الجيش ، وهو في رداء النبي (ص) قائلا : ( انسبوني من أنا ، هل يحق لكم قتلي وانتهاك حرمتي ، الست ابن بنت نبيكم ، أو لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي ، هذان سيدا شباب أهل الجنة ، ويحكم أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته..).
وكان الموقف خطيرا بالنسبة لإبن سعد الذي لو انتظر قليلا لإنضمّ الى الحسين عليه السلام كثير ممن ضللهم الإعلام الأموي، ولكن ابن سعد خشي الرقباء أن يبلغوا ابن زياد بما حدث ، فما كان إلا أن تناول سهما ورمى به جماعة الحسين وهو يصيح : اشهدوا لي عند الأمير انني أول من رمى الحسين ، مزهوّا بقيادة جيش قوامه ثلاثون الف رجل ، ليقاتل بهم رجالا تقاة صالحين لايتجاوز عددهم المائة من أصحاب الحسين (ع)، ولكن يكفي أنّ شرف العسكرية الإسلامية قد تبرّأتْ صفحاته التاريخية من ذالك التخطيط الأموي الذي ارتضى تلك التعبئة العسكرية غير المتكافئة، والله تعالى شاء ان تشهد أرض الطف نهضة حكيمة جبارة استهلكت عددا يسيرا من الرجال ، لكنها مرّغتْ في الوحول جباه الطواغيت والمردة .
وبدأت المعركة إيذانا بالديمومة الأبدية لحيوية الرسالة المحمدية، وبدأ القائد العظيم يخطط ويوزع اصحابه للمواجهة بخبرته العسكرية التي استقاها من مشاركاته في الحروب مع ابيه أمير المؤمنين عليه السلام ، فهيأ الصفوة من اصحابه وكانوا اثنين وثمانين فارسا وراجلا ، وفي رواية كانوا اثنين وسبعين ( اربعون راجلا واثنان وثلاثون فارسا ) فجعل زهير بن القين في الميمنة وحبيب بن مظاهر في الميسرة وثبت هو (ع) واهل بيته في القلب وأعطى رايته أخاه العباس لأنه وجد قمر الهاشميين أكفا ممن معه لحملها ، واثبتهم للطعان وأربطهم جأشا وأشدهم مراسا..
لقد كان عليه السلام يأمل الى آخر لحظة في أن يبعث الروح في الضمائر الأموية الميتة ، ولكنها بقيت ميتة ، فحاربوه وقتلوه ، منساقين وراء غبائهم الذي أوحى اليهم أن في قتله عليه السلام هو دوام عنجهيتهم الفارغة ، وانهم سيمحون ذكره ، فإذابخلود محبة السبط الشهيد في القلوب المبدئية الممتلئة بالايمان ، تقضّ مضاجع أجيالهم من الذين أبوا أن يعرفوا الحقيقة ، وإذا بصحائف التاريخ المنصفة تصنّفهم مع أعداء الإنسانية وهمج الجاهلية .
ان الله عزوجل هو وحده يعلم كم أمدّت كربلاء الفداء بأحداثها الأليمة ومشاهدها الخالدة دعاة الحق والايمان في كل زمان ومكان على مرّ القرون وكرّ السنين بالقوة التي لاتنفد.. القوة التي قدّر لها أن لاتلين في مقاومة البغي والعدوان ، والرغبة الأكيدة في الفوز بإحدى الحسنيين: إما النصر والحياة في ظل العزة والكرامة ، وإما الشهادة في ميدان الشرف والخلود، كما لايعلم إلا وحده جل وعلا ، انه لولا خروج سيد شباب أهل الجنة وأصحابه وما قدّموه ، ماذا كان ينتهي اليه مصير المسلمين ، وهم يخوضون غمار المعارك ،دفاعا عن كيانهم ، وذوْدا عن مقدساتهم ، فالحمد لله الذي ختم أنبياءه بحبيبه محمد المصطفى (ص) ، وأنعم على هذه الأمة نعمة دائمة ، بأن جعل لهذه الخاتمة روحا لاختام لها .. روحا تستمد أنفاسها من وقود الشهادة .. شهادة ابي عبد الله الحسين ومن معه من أهل بيت النبوة ، والأنصار عليهم السلام جميعا .. الشهادة التي ستظل الى قيام الساعة تستنهض همم وعزائم أبناء الأمة ، للوقوف صفا واحدا بلا خلاف ولاجدال بوجه أعدائها الذين يتربصون بكل وقاحة على مرّ العصور للإيقاع بخير أمة أخرجت للناس.