شهيدالله
27-06-2011, 12:10 PM
((فهم حركة الإمام المهدي عليه السلام)سماحة السيد محمد باقر الحكيم(قدس)
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين محمّد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا بقيّة الله في أرضه الإمام المهدي عجل الله فرجه، والسلام على شهداء الإسلام في كل مكان منذ الصدر الأوّل من الإسلام وإلى هذا العصر.
والسلام على سادتي العلماء، إخواني وأعزائي المؤمنين الكرام ورحمة الله وبركاته.
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(1) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn1).
في هذه الليلة المباركة _ ليلة النصف من شعبان _ كان ميلاد سيدنا ومولانا بقيّة الله في أرضه _ على ما تذكر الروايات _ عند الفجر، وهذه الليلة هي ليلة شريفة شرّفها الله سبحانه وتعالى ببركة نبيّه صلّى الله عليه وآله، وكانت _ على ما ورد في الروايات الشريفة(2) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn2) _ في الفضل بعد ليلة القدر، وزادها الله سبحانه وتعالى شرفاً بهذا الميلاد الشريف.
ولذلك أتقدّم بالتهنئة والتبريك لكلّ السادة الأفاضل والاخوة الأعزّاء بمناسبة هذا المولد الشريف، وكذلك لكلّ المسلمين، ولكل محبّي أهل البيت، ولقائد الثورة الإسلامية (ولي أمر المسلمين) أقدّم لهم التبريك والتهنئة لهذه المناسبة، بل لكل المستضعفين في الأرض.
ذلك أنّ هذا المولد الشريف يمثّل ولادة دولة الحق المطلق والعدل المطلق الذي أراده الله سبحانه وتعالى لمسيرة الإنسان التكامليّة، ووجدنا بأنّ هذه الدولة الشريفة تمثّل الوعد الإلهي الذي وعد الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين، كما قرأت عليكم من هذه الآية الكريمة، وتوجد كثير من الروايات والنصوص التي تؤكّد، حتى الآيات الكريمة أيضاً فيها هذا النوع من التأكيد والإشارة على أنّ هذه القضيّة _ قضيّة الاستخلاف المطلق للصالحين من عباد الله _ هي قضيّة وعد الله سبحانه وتعالى عباده على لسان كلّ الأنبياء وكلّ المرسلين (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(3) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn3).
هذه حقيقة من الحقائق الإلهية التي كانت ضمن القرارات الإلهية في خلق الإنسان مع هبوط أوّل خليفة لله على الأرض.
وإذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضوع نظرة طبيعيّة، مع قطع النظر عن الأدلّة الكثيرة والمتوفّرة على هذه الحقيقة، أي إذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضوع من خلال النظرة العامّة لوجود هذا الكون ومسيرته والظواهر الموجودة في هذا الكون، نرى بأنّ هذه القضيّة هي قضية طبيعية ومنسجمة مع كل هذه الظواهر الكونيّة.
نحن نلاحظ في هذا الكون _ في الإنسان، في النباتات، في الحيوانات، في مختلف معالم هذا الكون، وحتى في الكون بشكل عام _ نلاحظ أنّ هناك مسيرة تكاملية في حركة هذه الموجودات.
فالإنسان يكون نطفة ثمّ يتكامل هذا الإنسان تدريجياً حتى يصبح إنساناً عاقلاً رشيداً قادراً على أداء المهمّات الصعبة، وهذه الشجرة الكبيرة تكون نواةً بسيطة صلبة لا يوجد فيها أي مَعلم من معالم الحياة ثمّ بعد ذلك تتكامل حتى تصبح شجرة كبيرة متحركة يانعة مثمرة معطاء.. وهكذا في الحيوانات وفي كل مظاهر الوجود.
ولذلك يصبح من الطبيعي أن تكون مسيرة الإنسان الكليّة الاجتماعية الجماعيّة ذات بداية صغيرة محدودة ضعيفة، ثمّ تتكامل هذه المسيرة في مجمل حركاتها وفي عموم حركتها حتى تصل إلى مرحلة الكمال المطلق المتمثل في دولة الحق التي وعد الله سبحانه وتعالى عباده.
يبدأ هذا الإنسان برجل وامرأة يسكنان الجنة ويعيشان حياة بسيطة وعاديّة، ثمّ بعد ذلك يبدأ هذا الإنسان الحياة الصعبة، فيتحوّل من تلك الحياة البسيطة إلى الحياة الصعبة، التي هي حياة المشاكل والمعاناة والآلام والفتن،ثمّ تتعقّد الحياة الاجتماعية وتكبر وتنمو وتتكامل، ومن خلال هذا التكامل أيضاً تنزل الرسالات الإلهية، ويأتي الأنبياء من أجل أن يثروا هذه المسيرة ويكمّلوها حتى تصل هذه المسيرة إلى نهاياتها في ذلك الكمال المطلق المتمثل في دولة المهدي عجل الله فرجه.
أي أنّ هذه الرؤية البسيطة _ العرض والشرح _ تجعل من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه ووجود هذه الدولة ووجود هذه الوراثة المطلقة تجعلها أمراً منسجماً مع مختلف الظواهر الموجودة في هذا الكون.
وأيضاً يمكن أن ننطلق في فهم هذه القضية _ قضية الإمام المهدي عجّل الله فرجه _ وقيام دولة الحق المطلق على يده الشريفة، من أبعاد متعدّدة، هي في عمق النظريّة الإسلامية والعقيدة الإسلامية والفهم الإسلامي في هذه الحياة.
وقلت: هذا كلّه مع قطع النظر عن النصوص والأدلّة الكثيرة المتوفّرة التي تظافرت جهود العلماء في بحثها وفي تدوينها وفي تأليف الكتب الكثيرة بعرضها وتوضيحها وإفهامها للناس.
وهذا الاجتماع _ في الواقع _ ليس اجتماعاً معقوداً للحديث في مثل هذه الموضوعات ذات الطابع العلمي، فيمكن الرجوع إلى هذه المؤلّفات التي تظافرت جهود العلماء رحم الله الماضين وحفظ الباقين منهم على توفير الدليل والبرهان والحجّة والمنطق الذي يخاطبون فيه العقل والوجدان والتصوّر الإنساني من أجل شرح هذه القضية.
فمع قطع النظر عن كل هذه الجهود أيضاً، يمكن أن ننطلق في فهم هذا الموضوع من المنطلقات الأوّلية الواضحة في العقيدة الإسلامية، والتي تجعل من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه قضية مركزيّة ورئيسة في هذا الفهم الإسلامي للحياة ولهذا الوجود.
أنا أشير في هذا الحديث إلى عدّة نقاط رئيسة ومهمّة، تشكّل بمجموعها هذه الرؤية وهذا الفهم لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه:
النقطة الأولى: (العدل):
وهي ترتبط بالعنوان الرئيس لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، فنحن إذا أردنا أن نتأمل في قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه تأمّلاً دقيقاً نجد أنّ النقطة المركزية والعنوان الرئيس لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه هي قضية العدل.
ولذلك عندما يُتحدّث عن الإمام المهدي عجل الله فرجه يقال عنه أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذه هي المهمّة الرئيسة التي يقوم بها الإمام المهدي عجل الله فرجه.
فالإمام المهدي لا يأتي بدين جديد؛ لأنّ دينه هو دين خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله، صحيح أنّ هذا الدين قد يبدو غريباً في آخر الزمان، كما ورد في الروايات،(4) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn4) ويصبح غريباً على الناس في آخر الزمان، ولكنه على كل حال هو دين ذلك الرسول، والإمام المهدي عجل الله فرجه هو أطروحة ترتبط بالرسالة الخاتمة للنبي الخاتم، فلا يأتي بدين جديد ولا يأتي بشريعة جديدة، فمن هذه الناحية لا يوجد شيء جديد فيما يتعلّق بقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة من الحقائق القرآنية، وهي أن الرسالة الإسلامية هي رسالة كاملة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً)(5) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn5) فهذه الرسالة ليس فيها نقص، وإنّما هي رسالة كاملة بكل خصوصياتها، فالإمام المهدي صلوات الله عليه لا يأتي بدين جديد ولا يكمّل رسالة ناقصة، فالرسالة هي أيضاً قائمة.
وإذا كان الحديث في تفاصيل هذه الرسالة، فإنّ الذي يتحمّله أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم في تفاصيلها، في مصاديقها، في تطبيقاتها، في مواردها فهو أيضاً ليس أمراً مختصّاً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، بل هذا أمر قام به الإمام علي عليه السلام، وقام به الإمام الحسن عليه السلام، وقام به الإمام الحسين عليه السلام، وقام به الإمام زين العابدين عليه السلام، وهكذا... يعني أنّ كل الأئمّة كانوا يقومون بمثل هذا الدور، الذي هو دور تطبيق الرسالة الإسلامية على مصاديقها الخارجية الجديدة واستنباط هذه المفاهيم الإسلامية لتطبيقها على هذه المصاديق، استنباطاً ليس كاستنباط المجتهدين، وإنّما هو استنباط الاستنطاق كما يعبّر عنه الإمام علي عليه السلام حيث يقول:«ذلك القرآن فاستنطقوه»(6) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn6) يعني استنباطاً يأخذ الحقائق المطلقة التي لا يعتريها شك ولا يعتريها ريب ولا يعتريها احتمال آخر، ويطبّقونها على مصاديقها الخارجية.
مثل هذه العملية أيضاً قد يمارسها الإمام المهدي عجل الله فرجه ولكنها ليس عملية مختصّة بالإمام المهدي عجل الله فرجه، وإنّما هي عملية مارسها جميع أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وبالتالي فالإمام المهدي عجل الله فرجه باعتباره إماماً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقوم بمثل هذه العملية، ولكن لا يتميّز في هذا الأمر.
وأيضاً قضية الإمام المهدي سلام الله عليه ليست هي مجرّد إقامة حكومة صالحة حقّة، حكومة تكون إلهيّة شرعيّة مرتبطة بالسماء، فإنّ هذا الأمر أيضاً ممّا وقع خارجاً على أقل تقدير من النبي صلّى الله عليه وآله في زمن النبي، وأيضاً من الإمام علي عليه السلام في فترة حكم الإمام علي عليه السلام، هذا على أقل تقدير طبعاً، وإلاّ فوجود هذه الحكومة الآن المباركة، الحكومة الصالحة حكومة ولي الأمر، حكومة إمام العصر، حكومة صاحب الزمان، حكومة العلماء الربّانيين، حكومة المجتهدين، أيضاً هي حكومة صالحة وصحيحة وتنطبق عليها، لكن لو تعدّينا أي فرضية أخرى وفرضنا أنّ هذه الحكومة الصالحة هي حكومة قائمة في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وزمن الإمام علي عليه السلام.
فالإمام المهدي عجل الله فرجه إذا أراد أن يقيم مجرّد حكومة صالحة، حكومة شرعيّة، فإنّ هذا أيضاً ليس أمراً مختصّاً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، وإنّما يكون من الأمور التي وقعت قبل ذلك كما وقع لرسول الله ووقع للإمام علي، ونحن أيضاً نعتقد بالأدلّة الواضحة أنّ هذا الحكم الموجود فعلاً هو أيضاً من مصاديق هذه الحكومة الصالحة(7) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn7)، وإن لم يكن يرقى إلى مستوى حكم النبي أو حكم الأئمّة، باعتبار أنّ حكم النبي وحكم الأئمّة هو حكم المعصومين، ولا يدّعي أحد أنّ العصمة في هذه الحكومات الفعليّة وإن كانت هي حكومات شرعية صالحة.
إذاً نرجع مرّة أخرى لنقول بأنّ الخصوصية الموجودة في الإمام المهدي عجل الله فرجه ليست هي المجيء بدين جديد _ نعوذ بالله _ لأنّ هذا الدين هو دين رسول الله خاتم الأنبياء «وَلا نَبي بعدي»(8) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn8) وليست إكمال الدين لأنّ الدين قد أكمل في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وليست هي مجرّد إيجاد تطبيقات جديدة، لأنّ هذا أيضاً ممّا صنعه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وليست مجرّد إقامة حكومة شرعية صالحة، لأن هذا أيضاً ممّا وقع قبل الإمام المهدي عجل الله فرجه، طبعاً أنا أؤكّد على هذه النواحي من أجل أن تتّضح الأفكار، لأنّ بعض الناس قد تشتبه عليه مهمّة المهدي سلام الله عليه في هذه الأمور، ويتصوّر أنّ قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه مرتبطة بهذه الأمور.
قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه هي قضية العدل المطلق، يعني كمال العدل الإلهي في حركة الإمام المهدي عجل الله فرجه، هذا الشيء هو الذي لم يتحقّق في أيّ زمان وفي أيّ عصر من العصور، أن تكون هناك حكومة صالحة وهذه الحكومة تكون متمكّنة من الأرض وتطبّق العدل على جميع الأرض وفي كل مناحي الأرض.
وهذا هو الوعد الإلهي الذي وعد الله سبحانه وتعالى به نبيّه في القرآن الكريم على أنّه يتم في الأمّة الخاتمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ثم قال:(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ)(9) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn9).
إذا كانت القضية مجرد الاستخلاف فهذا الاستخلاف كان من قبل أيضاً (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، لكن القضية هي أن يمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى، أي يصبح هذا الدين ديناً متمكّناً تمكّناً كاملاً، ثمّ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(10) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn10)، هذا الأمر هو الأمر الموعود الذي يعبّر عنه القرآن الكريم أيضاً بظهور الدين، بظهور الإسلام على الدين كله.
هذا الأمر هو الذي يقصد من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، هذا العدل الذي هو عنوان قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، العنوان الرئيس، العنوان المركزي في قضية الإمام المهدي سلام الله عليه.
نأتي إلى النظرية الإسلامية في فهمنا لهذا العدل في عقيدتنا.
أولاً: نأتي إلى فهم القرآن الكريم، القرآن الكريم يقول بأن قضية العدل الذي يعبّر عنها القرآن أحياناً بالقسط، أحياناً يعبّر عنها بالميزان هذه القضية قضية إلهية قائمة في هذا الوجود (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (11) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn11) هنا قضية الميزان قضية رئيسيّة وأساسية موضوعة في حياة الناس وفي حياة الكون وفي هذا الوجود، كل الوجود.
فإذن قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه التي تشكل النقطة المركزيّة فيهما _ قضية العدل وقضية الميزان _ هي قضية تنطلق من هذا الفهم لهذا الكون، ولهذه الحياة.
من ناحية أخرى، عندما ننظر إلى قضية العدل وهذا شيء يتميّز به الإسلام ويعتز ويفتخر به المسلمون على كل الحضارات المادية التي هي الآن تحاول أن تطرح مفاهيم حقوق الإنسان، ومفاهيم التطور في إيجاد الحق والعدل بين الناس، الإسلام يتميّز في هذه النقطة، وهي أن الإسلام ينظر إلى قضية العدل على أنها قضية واسعة لا تختص بعلاقات الإنسان مع الإنسان وإنما هي قضية ترتبط بهذا الكون وبهذا الوجود في كل نواحيه، مثلاً قضايا حقوق الإنسان الآن.
وثيقة حقوق الإنسان
إذا أردنا أن نتحدّث عنها في مقر الأمم المتحدة، فإنّها تعني أن جميع الأمم اجتمعت ونظرت في نظرية حقوق الإنسان، وأقرت هذه الوثيقة على أساس أنها وثيقة تمثل حقوق الإنسان، نجد فيها نقصاً كبيراً جداً، إذا أردنا أن نقارنها بالنظرية الإسلامية وفهم الإسلام لقضية الحقوق.
مثلاً في قضية حقوق الإنسان فقط يقرّون لهذا الإنسان _ فيما يتعلّق بنفسه _ يقرّون له أنّه ليس له الحق أن يقتل نفسه، يعني قضية الانتحار، هذا أيضاً ليس من حقّه، وأمّا فيما بقي فالإنسان من حقّه أن يتصرّف في نفسه كيفما يشاء، وبالتالي يصبح هذا الإنسان في قضية الحقوق إنساناً قد صودرت بشأنه الكثير من حقوقه تجاه تصرّفه وسلوكه، لأن الإنسان في حركته يخضع أحياناً لانفعالات، ويخضع أحياناً لحالة من الجهل والسفه والغفلة، ويخضع أحياناً لحالات من الضغوط الخارجية التي تمارس ضدّ هذا الإنسان، كل هذه الأمور وثيقة حقوق الإنسان لا تأخذها بنظر الاعتبار، يقول هذا الإنسان له الحق أن يتصرّف إذا اقتضت شهواته وأن يصنع ما يشاء، من حقّه أن يصنع ما يريد، إذا اقتضى غضبه أن يصنع ما يشاء، فمن حقّه أن يصنع ذلك، وإذا أكره في طريقة ما أيضاً هذا الإكراه يأخذ مجراه القانوني في حياة هذا الإنسان.
إلى غير ذلك من القضايا التي إذا أردنا أن ندقق فيها نجد أنها مصادرة حقيقية لحقوق الإنسان.
أما الإسلام هنا، فقد طرح مفهوم حرمة أن يظلم الإنسان نفسه، فكما أنّ الإنسان يحرم عليه أن يظلم أخاه الإنسان وأن يظلم الإنسان الآخر، والإنسان الآخر له حق في الحياة، فكذلك هذا الإنسان أيضاً يحرم عليه أن يظلم نفسه، فليس يحرم عليه فقط أن يقتل نفسه بل يحرم عليه أن يلحق الضرر بنفسه في الدنيا، وأن يلحق الضرر بنفسه في الآخرة، يعني إذا ارتكب عملاً محرماً مثلاً فهذا العمل يؤدي إلى أن يعاقب عليه في الآخرة، هنا _ في الدنيا _ لا يترتب شيء على هذا العمل لكن في الآخرة يعاقب.
القرآن الكريم يعبّر عن هذا بأنّه ظلم للنفس، بمعنى أنّه تجاوز على هذه النفس، وهكذا في مختلف مجالات الإنسان.
قضيّة المال
وثيقة حقوق الإنسان تعطي الحق لهذا الإنسان في أن يتصرّف بأمواله كيفما يشاء، حتى لو كان هذا التصرّف تصرّفاً سفهياً، حتى لو كان هذا التصرّف تصرفاً إسرافياً، أي يسرف في المال ولا ينفق هذا المال في محلّه، حتى لو كان هذا المال تصرّف به تصرّفاً ضررياً بمعنى أن يلحق الضرر بالآخرين، أيضاً لا يوجد هناك ما يمنع هذا الإنسان، يعتبرون هذا أمراً طبيعياً.
أما الإسلام في قضية الحقوق هنا يقول للمال حق، هذا المال أيضاً له حق، والممارسة غير الطبيعية في المال ظلم وتجاوز على العدل الإلهي في هذا المال، لأن هذا المال حقيقة خلقها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان من أجل أن يتصرّف بها تصرّفاً تكاملياً، يؤدّي به إلى التكامل في مسيرته الحياتيّة، وإذا تصرّف في هذا المال تصرّفاً تسافلياً يؤدي إلى الإضرار في هذه الحياة والإضرار في هذا المجتمع فسيكون ظلماً وتجاوزاً على العدل من هذا الباب.
ثم طوّر الإسلام أيضاً العلاقة في قضية الظلم والعدل، قضية العلاقة بالله سبحانه وتعالى، الله هذا منعم النعم، هذا المتفضّل على الإنسان، خالق هذا الإنسان، معطي هذا الإنسان، كلّ هذا الوجود، كل هذه النعم، كل هذا الفضل، علاقة هذا الإنسان بالله سبحانه وتعالى أيضاً علاقة يجب أن تخضع للعدل ويكون فيها حقوق لله سبحانه وتعالى، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الشرك بالله سبحانه وتعالى أنه ظلم، بل عبّر عنه بأنه ظلم عظيم، يعني أن هذا ليس فقط ظلماً وإنما هو درجة عالية من الظلم في مقابل العدل.
فقضيّة العدل في النظريّة الإسلامية عندما نتناولها في البحث، يمكن استيضاحها من خلال مراجعة سريعة إلى «رسالة الحقوق» التي رويت عن الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه، فعندما يتحدّث فيها عن الحقوق وعلاقات الحقوق تجد أن هناك آفاقاً ومجالات للحقوق لم يتمكن هذا الإنسان في القرن العشرين _ وقد اجتمعت كل أمم هذا الإنسان من أجل أن يفكروا في هذه الحقوق _لم يتمكنوا أن يصلوا إلى هذه الآفاق في قضية العدل وفي فهمهم لقضية الظلم.
فالعلاقة بين الإنسان وأبيه تخضع لحقوق ولموازنة ولقضية عدل وظلم _ نعوذ بالله _ إذا تجاوز هذه العلاقة، العلاقة بين المؤمن والمؤمن تخضع إلى هذه الموازنة، العلاقة بين الزوج وزوجته تخضع إلى هذه الموازنة، العلاقة بين العامل وربّ العمل تخضع إلى هذه الموازنة.
وهكذا نجد أن قضية العدل وقضية الموازنة والميزان وقضية الظلم ضدّ العدل قضية قائمة وسارية في فهم هذا الكون، كل الكون.
النظرية الإسلامية هي النظرية الوحيدة التي يمكن أن تنسجم مع قضية الإمام الحجة، أي أننا عندما نفهم دائرة العدل، وسعة دائرة الميزان، واستيعابها لكل مناحي الحياة في حركة هذا الإنسان عندئذٍ يمكن أن نفهم أنّه كيف يأتي ذلك الإنسان الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لأن قضية العدل والظلم ليست هي مجرّد قضايا حقوق الإنسان وعلاقات الإنسان بعضهم مع البعض الآخر، وإنما لها هذا المجال الواسع في حركة الإنسان.
والنقطة الأخرى: (الانتظار)
وهي التي يتميّز بها شيعة أهل البيت سلام الله عليهم، ويتميز بها أتباعهم ويفتخرون بذلك، وهذا التميز هو الذي أعطاهم فرصة أن يكونوا هم الممهدون لظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، وهو الهدف الذي وضع أمام مسيرة البشرية وحركة البشرية، وهو أن تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي أصبح هدفاً وعنواناً وشعاراً ولافتة _ كما نعبّر _ أمام مسيرة أتباع أهل البيت سلام الله عليهم.
و«المنتظرون» صفة رئيسية يجب أن يتصف بها أتباع أهل البيت سلام الله عليهم، وهذا واجب من الواجبات الشرعية التي نغفل عنها أحياناً، بمعنى أنّ بعض الناس يعرف أنه من واجباته الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى، لكن يغفل أن يكون هناك واجب آخر هو من أفضل الواجبات، وهذا الواجب هو أن يكون في حالة الانتظار لتحقق هذا الهدف الكبير المتمثّل بالإمام المهدي عجل الله فرجه.
نحن نغفل أحياناً أن نكون من أولئك المنتظرين، بالرغم من أننا نؤمن بهذا عندما يلفت نظرنا أحد ما، فصحيح أننا نرى أنفسنا هكذا لكن أحياناً نغفل عن أن نكون في هذه الحالة.
معنى الانتظار
معناه أن يكون هذا الإنسان منتظراً لتحقق الهدف، أي يكون منتظراً لفرج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وقد ذكرت أن فرج الإمام المهدي سلام الله عليه لا يعني فقط أن يكون بلا منزل فيكون في منزل، أو يكون مشرداً فيرجع إلى بلده، طبعاً هذا أيضاً منه لكن لا يعني هذا المعنى، أحياناً بعض الناس يقول: ننتظر عسى أن يكون لنا فرج ونرجع إلى بلادنا، ننتظر حتى تكون عندنا منازل، حتى تكون عندي زوجة، إذا لم يكن لديه زوجة ويشعر بمشكلة من هذه الناحية.. وهكذا.
توجد مشاكل للناس كثيرة جدّاً في حياتهم وفي حركتهم فيتصوّرون أن الفرج يعني تحقق هذه الأمور. صحيح عندما تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً، لابد أن هذه الأمور تتحقق بظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، لكن القضية ليست هي هذه فقط، وإنما قضية الفرج تعني تحقق هذا الهدف الكبير، فالهدف الكبير قد يمنع الإنسان من أن يظلم نفسه، وهو ظالم لنفسه لكن غير ملتفت إلى نفسه، هذا الفرج يعني أن يمنعك من ظلم نفسك، يمنع هذا الغني من أن يسرف في المال، هذا الغني يدعو بالفرج لكن لا يعرف أن هذا الفرج يعني إلغاء هذا الظلم وتحقيق هذا النوع من العدل، وهكذا في مختلف مجالات حياتنا، الكثير منّا الآن في مجالسنا وفي مجتمعاتنا نرى بعض الناس خصوصاً هذه الليلة ليلة مباركة، ليلة توبة، ليلة لجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ليلة استغفار، ليلة استفادة من هذه الأوقات الشريفة بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والعزم والندم على كل ما صدر منّا من ذنوب وآثام، نعوذ بالله من الذنوب والآثام، لكن بعض الناس، أنا لا أتكلم عن الناس الحاضرين أتكلم عن بعض الناس طبعاً الله أعلم بهؤلاء الناس، لا أريد أن أتّهم أحداً بل أتهم نفسي قبل أن أتهم أحداً من الناس، فالقضية أن بعض الناس تكون عنده هذه الحالة فيرتكب من هذه الآثام.
قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، هو أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فيحقق العدل، بمعنى أن يمنع هذا الذي يشيع الفاحشة، الإمام المهدي عجل الله فرجه يهدف أن لا تكون هذه الإشاعة للفاحشة، أن لا يكون هذا الافتراء، أن لا يكون هذا الكذب، أن لا تكون هذه الغيبة، أن لا تكون هذه الفتنة، أن لا تكون هذه العداوات، أن لا تكون هذه الاختلافات.
إذاً قضية الانتظار تعني كل هذا المعنى، لكن تحقيق العدل المطلق يعني هذا الشيء.
فهذا الواجب الشرعي الذي يعبّر عن حالة الانتظار يعني انتظار تحقيق العدل، والانتظار لتحقيق العدل يحتاج إلى حركة يقوم بها الإنسان من أجل أن يحقق هذا العدل، لأنّ تحقيق العدل _ كما ذكرت في بداية حديثي _ ليس قضية منفصلة عن حركة المجتمع وحركة هذا الكون وحركة هذا الوجود، إنما هي حركة تكاملية، أي أنّ قضية العدل قضية تبدأ من نقطة وتتكامل من خلال المسيرة، حتى تصل إلى نهاياتها، فاذا لم يكن هذا الإنسان متحركاً في عملية الانتظار، فيصبح خارج العملية التكامليةّ، خارج هذه المسيرة، لا يكون جزءً من المسيرة.
قضية الانتظار التي هي واجب من الواجبات الشرعية التي يجب أن يتصف بها الإنسان المؤمن لافتتها وعنوانها وشعارها ومضمونها هو أن يسعى كل واحدٍ منّا إلى أن يحقق العدل الإلهي الذي يتكامل _ طبعاً هذا الحق والعدل _ في خروج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وهذا المضمون يمتاز به شيعة أهل البيت عن غيرهم ويفتخرون به على غيرهم، ويفتخرون بهذا الامتياز _ يعني شيعة أهل البيت _ إنّما تجدون فيهم هذه الروح من التضحية، وهذه الروح من الفداء، وهذا الاستعداد للصمود، وللثبات ولمواصلة المسيرة وللصبر في هذا الطريق، الصبر الذي تجزع وتتزحزح منه الجبال أحياناً، الصبر الذي يبدو في رجال المسيرة، وفي قادة المسيرة، وفي مجاهدي هذه المسيرة، صبر عجيب في حياتهم إنما كان هذا الصبر لأنه أمامهم هذا العنوان، أمامهم هذا الشعار، أمامهم هذه الحقيقة الإلهية التي وضعها الله سبحانه وتعالى أمام أعينهم.
وقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه يجب أن ننظر إليها من هذا المنظار والسبب، يعني إذا أردنا أن نرجع إلى التفسيرات الطبيعية، أنا قلت أنّ قضية الأدلة والبراهين قائمة وهي شيء عظيم، ولا بد من البحث لكن ليس بحثه هنا.
أُنظر إلى القضايا الطبيعية، القضية الطبيعية التي تفسّر لنا ظاهرة غريبة جداً في تأريخنا وفي تأريخ المسلمين _ وأنا أشرت أحياناً إلى هذه الظاهرة _ ظاهرة غريبة تفكروا في تفسيرها، ما هو تفسير هذه الظاهرة أن تبدأ هذه المسيرة، مسيرة أتباع أهل البيت، شيعة أهل البيت المتمسّكين بولاية أهل البيت، يبدأون وهم قلّة قليلة في تأريخ الإسلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، يقول بعض المؤرخين أنهم أربعة أو سبعة عشر مثلاً، أو ثلاثين، أنا لا أريد أن أحدّد عدداً، لكن لا شك أنهم كانوا قلّة مطلقة بل أقل الأقل، يعني قلّة قليلة بكل معنى الكلمة مع غض النظر عن الأعداد، لأن هذه القضايا تأريخية ليس الحديث فيها جيداً، هؤلاء كانت هذه بدايتهم.
ثم هذه المسيرة لا يشك التأريخ أنّها طيلة أربعة عشر قرناً من الزمن منذ وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى أيامنا القريبة الحاضرة، وحتى هذه الأيام أيضاً تتعرض باستمرار إلى قمع مستمر من قبل الحكومات، ومن قبل السلطات، ومن قبل الطغاة، ومن قبل المتجبّرين، ومن قبل المنحرفين، ومن قبل
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين محمّد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، والصلاة والسلام على سيّدنا ومولانا بقيّة الله في أرضه الإمام المهدي عجل الله فرجه، والسلام على شهداء الإسلام في كل مكان منذ الصدر الأوّل من الإسلام وإلى هذا العصر.
والسلام على سادتي العلماء، إخواني وأعزائي المؤمنين الكرام ورحمة الله وبركاته.
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(1) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn1).
في هذه الليلة المباركة _ ليلة النصف من شعبان _ كان ميلاد سيدنا ومولانا بقيّة الله في أرضه _ على ما تذكر الروايات _ عند الفجر، وهذه الليلة هي ليلة شريفة شرّفها الله سبحانه وتعالى ببركة نبيّه صلّى الله عليه وآله، وكانت _ على ما ورد في الروايات الشريفة(2) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn2) _ في الفضل بعد ليلة القدر، وزادها الله سبحانه وتعالى شرفاً بهذا الميلاد الشريف.
ولذلك أتقدّم بالتهنئة والتبريك لكلّ السادة الأفاضل والاخوة الأعزّاء بمناسبة هذا المولد الشريف، وكذلك لكلّ المسلمين، ولكل محبّي أهل البيت، ولقائد الثورة الإسلامية (ولي أمر المسلمين) أقدّم لهم التبريك والتهنئة لهذه المناسبة، بل لكل المستضعفين في الأرض.
ذلك أنّ هذا المولد الشريف يمثّل ولادة دولة الحق المطلق والعدل المطلق الذي أراده الله سبحانه وتعالى لمسيرة الإنسان التكامليّة، ووجدنا بأنّ هذه الدولة الشريفة تمثّل الوعد الإلهي الذي وعد الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين، كما قرأت عليكم من هذه الآية الكريمة، وتوجد كثير من الروايات والنصوص التي تؤكّد، حتى الآيات الكريمة أيضاً فيها هذا النوع من التأكيد والإشارة على أنّ هذه القضيّة _ قضيّة الاستخلاف المطلق للصالحين من عباد الله _ هي قضيّة وعد الله سبحانه وتعالى عباده على لسان كلّ الأنبياء وكلّ المرسلين (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(3) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn3).
هذه حقيقة من الحقائق الإلهية التي كانت ضمن القرارات الإلهية في خلق الإنسان مع هبوط أوّل خليفة لله على الأرض.
وإذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضوع نظرة طبيعيّة، مع قطع النظر عن الأدلّة الكثيرة والمتوفّرة على هذه الحقيقة، أي إذا أردنا أن ننظر إلى هذا الموضوع من خلال النظرة العامّة لوجود هذا الكون ومسيرته والظواهر الموجودة في هذا الكون، نرى بأنّ هذه القضيّة هي قضية طبيعية ومنسجمة مع كل هذه الظواهر الكونيّة.
نحن نلاحظ في هذا الكون _ في الإنسان، في النباتات، في الحيوانات، في مختلف معالم هذا الكون، وحتى في الكون بشكل عام _ نلاحظ أنّ هناك مسيرة تكاملية في حركة هذه الموجودات.
فالإنسان يكون نطفة ثمّ يتكامل هذا الإنسان تدريجياً حتى يصبح إنساناً عاقلاً رشيداً قادراً على أداء المهمّات الصعبة، وهذه الشجرة الكبيرة تكون نواةً بسيطة صلبة لا يوجد فيها أي مَعلم من معالم الحياة ثمّ بعد ذلك تتكامل حتى تصبح شجرة كبيرة متحركة يانعة مثمرة معطاء.. وهكذا في الحيوانات وفي كل مظاهر الوجود.
ولذلك يصبح من الطبيعي أن تكون مسيرة الإنسان الكليّة الاجتماعية الجماعيّة ذات بداية صغيرة محدودة ضعيفة، ثمّ تتكامل هذه المسيرة في مجمل حركاتها وفي عموم حركتها حتى تصل إلى مرحلة الكمال المطلق المتمثل في دولة الحق التي وعد الله سبحانه وتعالى عباده.
يبدأ هذا الإنسان برجل وامرأة يسكنان الجنة ويعيشان حياة بسيطة وعاديّة، ثمّ بعد ذلك يبدأ هذا الإنسان الحياة الصعبة، فيتحوّل من تلك الحياة البسيطة إلى الحياة الصعبة، التي هي حياة المشاكل والمعاناة والآلام والفتن،ثمّ تتعقّد الحياة الاجتماعية وتكبر وتنمو وتتكامل، ومن خلال هذا التكامل أيضاً تنزل الرسالات الإلهية، ويأتي الأنبياء من أجل أن يثروا هذه المسيرة ويكمّلوها حتى تصل هذه المسيرة إلى نهاياتها في ذلك الكمال المطلق المتمثل في دولة المهدي عجل الله فرجه.
أي أنّ هذه الرؤية البسيطة _ العرض والشرح _ تجعل من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه ووجود هذه الدولة ووجود هذه الوراثة المطلقة تجعلها أمراً منسجماً مع مختلف الظواهر الموجودة في هذا الكون.
وأيضاً يمكن أن ننطلق في فهم هذه القضية _ قضية الإمام المهدي عجّل الله فرجه _ وقيام دولة الحق المطلق على يده الشريفة، من أبعاد متعدّدة، هي في عمق النظريّة الإسلامية والعقيدة الإسلامية والفهم الإسلامي في هذه الحياة.
وقلت: هذا كلّه مع قطع النظر عن النصوص والأدلّة الكثيرة المتوفّرة التي تظافرت جهود العلماء في بحثها وفي تدوينها وفي تأليف الكتب الكثيرة بعرضها وتوضيحها وإفهامها للناس.
وهذا الاجتماع _ في الواقع _ ليس اجتماعاً معقوداً للحديث في مثل هذه الموضوعات ذات الطابع العلمي، فيمكن الرجوع إلى هذه المؤلّفات التي تظافرت جهود العلماء رحم الله الماضين وحفظ الباقين منهم على توفير الدليل والبرهان والحجّة والمنطق الذي يخاطبون فيه العقل والوجدان والتصوّر الإنساني من أجل شرح هذه القضية.
فمع قطع النظر عن كل هذه الجهود أيضاً، يمكن أن ننطلق في فهم هذا الموضوع من المنطلقات الأوّلية الواضحة في العقيدة الإسلامية، والتي تجعل من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه قضية مركزيّة ورئيسة في هذا الفهم الإسلامي للحياة ولهذا الوجود.
أنا أشير في هذا الحديث إلى عدّة نقاط رئيسة ومهمّة، تشكّل بمجموعها هذه الرؤية وهذا الفهم لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه:
النقطة الأولى: (العدل):
وهي ترتبط بالعنوان الرئيس لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، فنحن إذا أردنا أن نتأمل في قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه تأمّلاً دقيقاً نجد أنّ النقطة المركزية والعنوان الرئيس لقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه هي قضية العدل.
ولذلك عندما يُتحدّث عن الإمام المهدي عجل الله فرجه يقال عنه أنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهذه هي المهمّة الرئيسة التي يقوم بها الإمام المهدي عجل الله فرجه.
فالإمام المهدي لا يأتي بدين جديد؛ لأنّ دينه هو دين خاتم الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله، صحيح أنّ هذا الدين قد يبدو غريباً في آخر الزمان، كما ورد في الروايات،(4) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn4) ويصبح غريباً على الناس في آخر الزمان، ولكنه على كل حال هو دين ذلك الرسول، والإمام المهدي عجل الله فرجه هو أطروحة ترتبط بالرسالة الخاتمة للنبي الخاتم، فلا يأتي بدين جديد ولا يأتي بشريعة جديدة، فمن هذه الناحية لا يوجد شيء جديد فيما يتعلّق بقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار حقيقة من الحقائق القرآنية، وهي أن الرسالة الإسلامية هي رسالة كاملة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً)(5) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn5) فهذه الرسالة ليس فيها نقص، وإنّما هي رسالة كاملة بكل خصوصياتها، فالإمام المهدي صلوات الله عليه لا يأتي بدين جديد ولا يكمّل رسالة ناقصة، فالرسالة هي أيضاً قائمة.
وإذا كان الحديث في تفاصيل هذه الرسالة، فإنّ الذي يتحمّله أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم في تفاصيلها، في مصاديقها، في تطبيقاتها، في مواردها فهو أيضاً ليس أمراً مختصّاً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، بل هذا أمر قام به الإمام علي عليه السلام، وقام به الإمام الحسن عليه السلام، وقام به الإمام الحسين عليه السلام، وقام به الإمام زين العابدين عليه السلام، وهكذا... يعني أنّ كل الأئمّة كانوا يقومون بمثل هذا الدور، الذي هو دور تطبيق الرسالة الإسلامية على مصاديقها الخارجية الجديدة واستنباط هذه المفاهيم الإسلامية لتطبيقها على هذه المصاديق، استنباطاً ليس كاستنباط المجتهدين، وإنّما هو استنباط الاستنطاق كما يعبّر عنه الإمام علي عليه السلام حيث يقول:«ذلك القرآن فاستنطقوه»(6) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn6) يعني استنباطاً يأخذ الحقائق المطلقة التي لا يعتريها شك ولا يعتريها ريب ولا يعتريها احتمال آخر، ويطبّقونها على مصاديقها الخارجية.
مثل هذه العملية أيضاً قد يمارسها الإمام المهدي عجل الله فرجه ولكنها ليس عملية مختصّة بالإمام المهدي عجل الله فرجه، وإنّما هي عملية مارسها جميع أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وبالتالي فالإمام المهدي عجل الله فرجه باعتباره إماماً من أئمّة أهل البيت عليهم السلام يقوم بمثل هذه العملية، ولكن لا يتميّز في هذا الأمر.
وأيضاً قضية الإمام المهدي سلام الله عليه ليست هي مجرّد إقامة حكومة صالحة حقّة، حكومة تكون إلهيّة شرعيّة مرتبطة بالسماء، فإنّ هذا الأمر أيضاً ممّا وقع خارجاً على أقل تقدير من النبي صلّى الله عليه وآله في زمن النبي، وأيضاً من الإمام علي عليه السلام في فترة حكم الإمام علي عليه السلام، هذا على أقل تقدير طبعاً، وإلاّ فوجود هذه الحكومة الآن المباركة، الحكومة الصالحة حكومة ولي الأمر، حكومة إمام العصر، حكومة صاحب الزمان، حكومة العلماء الربّانيين، حكومة المجتهدين، أيضاً هي حكومة صالحة وصحيحة وتنطبق عليها، لكن لو تعدّينا أي فرضية أخرى وفرضنا أنّ هذه الحكومة الصالحة هي حكومة قائمة في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وزمن الإمام علي عليه السلام.
فالإمام المهدي عجل الله فرجه إذا أراد أن يقيم مجرّد حكومة صالحة، حكومة شرعيّة، فإنّ هذا أيضاً ليس أمراً مختصّاً بالإمام المهدي عجل الله فرجه، وإنّما يكون من الأمور التي وقعت قبل ذلك كما وقع لرسول الله ووقع للإمام علي، ونحن أيضاً نعتقد بالأدلّة الواضحة أنّ هذا الحكم الموجود فعلاً هو أيضاً من مصاديق هذه الحكومة الصالحة(7) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn7)، وإن لم يكن يرقى إلى مستوى حكم النبي أو حكم الأئمّة، باعتبار أنّ حكم النبي وحكم الأئمّة هو حكم المعصومين، ولا يدّعي أحد أنّ العصمة في هذه الحكومات الفعليّة وإن كانت هي حكومات شرعية صالحة.
إذاً نرجع مرّة أخرى لنقول بأنّ الخصوصية الموجودة في الإمام المهدي عجل الله فرجه ليست هي المجيء بدين جديد _ نعوذ بالله _ لأنّ هذا الدين هو دين رسول الله خاتم الأنبياء «وَلا نَبي بعدي»(8) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn8) وليست إكمال الدين لأنّ الدين قد أكمل في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وليست هي مجرّد إيجاد تطبيقات جديدة، لأنّ هذا أيضاً ممّا صنعه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وليست مجرّد إقامة حكومة شرعية صالحة، لأن هذا أيضاً ممّا وقع قبل الإمام المهدي عجل الله فرجه، طبعاً أنا أؤكّد على هذه النواحي من أجل أن تتّضح الأفكار، لأنّ بعض الناس قد تشتبه عليه مهمّة المهدي سلام الله عليه في هذه الأمور، ويتصوّر أنّ قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه مرتبطة بهذه الأمور.
قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه هي قضية العدل المطلق، يعني كمال العدل الإلهي في حركة الإمام المهدي عجل الله فرجه، هذا الشيء هو الذي لم يتحقّق في أيّ زمان وفي أيّ عصر من العصور، أن تكون هناك حكومة صالحة وهذه الحكومة تكون متمكّنة من الأرض وتطبّق العدل على جميع الأرض وفي كل مناحي الأرض.
وهذا هو الوعد الإلهي الذي وعد الله سبحانه وتعالى به نبيّه في القرآن الكريم على أنّه يتم في الأمّة الخاتمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ثم قال:(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ)(9) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn9).
إذا كانت القضية مجرد الاستخلاف فهذا الاستخلاف كان من قبل أيضاً (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، لكن القضية هي أن يمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى، أي يصبح هذا الدين ديناً متمكّناً تمكّناً كاملاً، ثمّ (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)(10) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn10)، هذا الأمر هو الأمر الموعود الذي يعبّر عنه القرآن الكريم أيضاً بظهور الدين، بظهور الإسلام على الدين كله.
هذا الأمر هو الذي يقصد من قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، هذا العدل الذي هو عنوان قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، العنوان الرئيس، العنوان المركزي في قضية الإمام المهدي سلام الله عليه.
نأتي إلى النظرية الإسلامية في فهمنا لهذا العدل في عقيدتنا.
أولاً: نأتي إلى فهم القرآن الكريم، القرآن الكريم يقول بأن قضية العدل الذي يعبّر عنها القرآن أحياناً بالقسط، أحياناً يعبّر عنها بالميزان هذه القضية قضية إلهية قائمة في هذا الوجود (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) (11) (http://ebook/محاضرات%20حول%20الإمام%20المهدي%20لمركز%20الدراسات %20التخصصية/data/1/01.htm#_edn11) هنا قضية الميزان قضية رئيسيّة وأساسية موضوعة في حياة الناس وفي حياة الكون وفي هذا الوجود، كل الوجود.
فإذن قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه التي تشكل النقطة المركزيّة فيهما _ قضية العدل وقضية الميزان _ هي قضية تنطلق من هذا الفهم لهذا الكون، ولهذه الحياة.
من ناحية أخرى، عندما ننظر إلى قضية العدل وهذا شيء يتميّز به الإسلام ويعتز ويفتخر به المسلمون على كل الحضارات المادية التي هي الآن تحاول أن تطرح مفاهيم حقوق الإنسان، ومفاهيم التطور في إيجاد الحق والعدل بين الناس، الإسلام يتميّز في هذه النقطة، وهي أن الإسلام ينظر إلى قضية العدل على أنها قضية واسعة لا تختص بعلاقات الإنسان مع الإنسان وإنما هي قضية ترتبط بهذا الكون وبهذا الوجود في كل نواحيه، مثلاً قضايا حقوق الإنسان الآن.
وثيقة حقوق الإنسان
إذا أردنا أن نتحدّث عنها في مقر الأمم المتحدة، فإنّها تعني أن جميع الأمم اجتمعت ونظرت في نظرية حقوق الإنسان، وأقرت هذه الوثيقة على أساس أنها وثيقة تمثل حقوق الإنسان، نجد فيها نقصاً كبيراً جداً، إذا أردنا أن نقارنها بالنظرية الإسلامية وفهم الإسلام لقضية الحقوق.
مثلاً في قضية حقوق الإنسان فقط يقرّون لهذا الإنسان _ فيما يتعلّق بنفسه _ يقرّون له أنّه ليس له الحق أن يقتل نفسه، يعني قضية الانتحار، هذا أيضاً ليس من حقّه، وأمّا فيما بقي فالإنسان من حقّه أن يتصرّف في نفسه كيفما يشاء، وبالتالي يصبح هذا الإنسان في قضية الحقوق إنساناً قد صودرت بشأنه الكثير من حقوقه تجاه تصرّفه وسلوكه، لأن الإنسان في حركته يخضع أحياناً لانفعالات، ويخضع أحياناً لحالة من الجهل والسفه والغفلة، ويخضع أحياناً لحالات من الضغوط الخارجية التي تمارس ضدّ هذا الإنسان، كل هذه الأمور وثيقة حقوق الإنسان لا تأخذها بنظر الاعتبار، يقول هذا الإنسان له الحق أن يتصرّف إذا اقتضت شهواته وأن يصنع ما يشاء، من حقّه أن يصنع ما يريد، إذا اقتضى غضبه أن يصنع ما يشاء، فمن حقّه أن يصنع ذلك، وإذا أكره في طريقة ما أيضاً هذا الإكراه يأخذ مجراه القانوني في حياة هذا الإنسان.
إلى غير ذلك من القضايا التي إذا أردنا أن ندقق فيها نجد أنها مصادرة حقيقية لحقوق الإنسان.
أما الإسلام هنا، فقد طرح مفهوم حرمة أن يظلم الإنسان نفسه، فكما أنّ الإنسان يحرم عليه أن يظلم أخاه الإنسان وأن يظلم الإنسان الآخر، والإنسان الآخر له حق في الحياة، فكذلك هذا الإنسان أيضاً يحرم عليه أن يظلم نفسه، فليس يحرم عليه فقط أن يقتل نفسه بل يحرم عليه أن يلحق الضرر بنفسه في الدنيا، وأن يلحق الضرر بنفسه في الآخرة، يعني إذا ارتكب عملاً محرماً مثلاً فهذا العمل يؤدي إلى أن يعاقب عليه في الآخرة، هنا _ في الدنيا _ لا يترتب شيء على هذا العمل لكن في الآخرة يعاقب.
القرآن الكريم يعبّر عن هذا بأنّه ظلم للنفس، بمعنى أنّه تجاوز على هذه النفس، وهكذا في مختلف مجالات الإنسان.
قضيّة المال
وثيقة حقوق الإنسان تعطي الحق لهذا الإنسان في أن يتصرّف بأمواله كيفما يشاء، حتى لو كان هذا التصرّف تصرّفاً سفهياً، حتى لو كان هذا التصرّف تصرفاً إسرافياً، أي يسرف في المال ولا ينفق هذا المال في محلّه، حتى لو كان هذا المال تصرّف به تصرّفاً ضررياً بمعنى أن يلحق الضرر بالآخرين، أيضاً لا يوجد هناك ما يمنع هذا الإنسان، يعتبرون هذا أمراً طبيعياً.
أما الإسلام في قضية الحقوق هنا يقول للمال حق، هذا المال أيضاً له حق، والممارسة غير الطبيعية في المال ظلم وتجاوز على العدل الإلهي في هذا المال، لأن هذا المال حقيقة خلقها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان من أجل أن يتصرّف بها تصرّفاً تكاملياً، يؤدّي به إلى التكامل في مسيرته الحياتيّة، وإذا تصرّف في هذا المال تصرّفاً تسافلياً يؤدي إلى الإضرار في هذه الحياة والإضرار في هذا المجتمع فسيكون ظلماً وتجاوزاً على العدل من هذا الباب.
ثم طوّر الإسلام أيضاً العلاقة في قضية الظلم والعدل، قضية العلاقة بالله سبحانه وتعالى، الله هذا منعم النعم، هذا المتفضّل على الإنسان، خالق هذا الإنسان، معطي هذا الإنسان، كلّ هذا الوجود، كل هذه النعم، كل هذا الفضل، علاقة هذا الإنسان بالله سبحانه وتعالى أيضاً علاقة يجب أن تخضع للعدل ويكون فيها حقوق لله سبحانه وتعالى، ولذلك عبّر القرآن الكريم عن الشرك بالله سبحانه وتعالى أنه ظلم، بل عبّر عنه بأنه ظلم عظيم، يعني أن هذا ليس فقط ظلماً وإنما هو درجة عالية من الظلم في مقابل العدل.
فقضيّة العدل في النظريّة الإسلامية عندما نتناولها في البحث، يمكن استيضاحها من خلال مراجعة سريعة إلى «رسالة الحقوق» التي رويت عن الإمام زين العابدين صلوات الله وسلامه عليه، فعندما يتحدّث فيها عن الحقوق وعلاقات الحقوق تجد أن هناك آفاقاً ومجالات للحقوق لم يتمكن هذا الإنسان في القرن العشرين _ وقد اجتمعت كل أمم هذا الإنسان من أجل أن يفكروا في هذه الحقوق _لم يتمكنوا أن يصلوا إلى هذه الآفاق في قضية العدل وفي فهمهم لقضية الظلم.
فالعلاقة بين الإنسان وأبيه تخضع لحقوق ولموازنة ولقضية عدل وظلم _ نعوذ بالله _ إذا تجاوز هذه العلاقة، العلاقة بين المؤمن والمؤمن تخضع إلى هذه الموازنة، العلاقة بين الزوج وزوجته تخضع إلى هذه الموازنة، العلاقة بين العامل وربّ العمل تخضع إلى هذه الموازنة.
وهكذا نجد أن قضية العدل وقضية الموازنة والميزان وقضية الظلم ضدّ العدل قضية قائمة وسارية في فهم هذا الكون، كل الكون.
النظرية الإسلامية هي النظرية الوحيدة التي يمكن أن تنسجم مع قضية الإمام الحجة، أي أننا عندما نفهم دائرة العدل، وسعة دائرة الميزان، واستيعابها لكل مناحي الحياة في حركة هذا الإنسان عندئذٍ يمكن أن نفهم أنّه كيف يأتي ذلك الإنسان الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، لأن قضية العدل والظلم ليست هي مجرّد قضايا حقوق الإنسان وعلاقات الإنسان بعضهم مع البعض الآخر، وإنما لها هذا المجال الواسع في حركة الإنسان.
والنقطة الأخرى: (الانتظار)
وهي التي يتميّز بها شيعة أهل البيت سلام الله عليهم، ويتميز بها أتباعهم ويفتخرون بذلك، وهذا التميز هو الذي أعطاهم فرصة أن يكونوا هم الممهدون لظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، وهو الهدف الذي وضع أمام مسيرة البشرية وحركة البشرية، وهو أن تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، والذي أصبح هدفاً وعنواناً وشعاراً ولافتة _ كما نعبّر _ أمام مسيرة أتباع أهل البيت سلام الله عليهم.
و«المنتظرون» صفة رئيسية يجب أن يتصف بها أتباع أهل البيت سلام الله عليهم، وهذا واجب من الواجبات الشرعية التي نغفل عنها أحياناً، بمعنى أنّ بعض الناس يعرف أنه من واجباته الصلاة والصوم والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الواجبات التي فرضها الله سبحانه وتعالى، لكن يغفل أن يكون هناك واجب آخر هو من أفضل الواجبات، وهذا الواجب هو أن يكون في حالة الانتظار لتحقق هذا الهدف الكبير المتمثّل بالإمام المهدي عجل الله فرجه.
نحن نغفل أحياناً أن نكون من أولئك المنتظرين، بالرغم من أننا نؤمن بهذا عندما يلفت نظرنا أحد ما، فصحيح أننا نرى أنفسنا هكذا لكن أحياناً نغفل عن أن نكون في هذه الحالة.
معنى الانتظار
معناه أن يكون هذا الإنسان منتظراً لتحقق الهدف، أي يكون منتظراً لفرج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وقد ذكرت أن فرج الإمام المهدي سلام الله عليه لا يعني فقط أن يكون بلا منزل فيكون في منزل، أو يكون مشرداً فيرجع إلى بلده، طبعاً هذا أيضاً منه لكن لا يعني هذا المعنى، أحياناً بعض الناس يقول: ننتظر عسى أن يكون لنا فرج ونرجع إلى بلادنا، ننتظر حتى تكون عندنا منازل، حتى تكون عندي زوجة، إذا لم يكن لديه زوجة ويشعر بمشكلة من هذه الناحية.. وهكذا.
توجد مشاكل للناس كثيرة جدّاً في حياتهم وفي حركتهم فيتصوّرون أن الفرج يعني تحقق هذه الأمور. صحيح عندما تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً، لابد أن هذه الأمور تتحقق بظهور الإمام المهدي عجل الله فرجه، لكن القضية ليست هي هذه فقط، وإنما قضية الفرج تعني تحقق هذا الهدف الكبير، فالهدف الكبير قد يمنع الإنسان من أن يظلم نفسه، وهو ظالم لنفسه لكن غير ملتفت إلى نفسه، هذا الفرج يعني أن يمنعك من ظلم نفسك، يمنع هذا الغني من أن يسرف في المال، هذا الغني يدعو بالفرج لكن لا يعرف أن هذا الفرج يعني إلغاء هذا الظلم وتحقيق هذا النوع من العدل، وهكذا في مختلف مجالات حياتنا، الكثير منّا الآن في مجالسنا وفي مجتمعاتنا نرى بعض الناس خصوصاً هذه الليلة ليلة مباركة، ليلة توبة، ليلة لجوء إلى الله سبحانه وتعالى، ليلة استغفار، ليلة استفادة من هذه الأوقات الشريفة بالإنابة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والعزم والندم على كل ما صدر منّا من ذنوب وآثام، نعوذ بالله من الذنوب والآثام، لكن بعض الناس، أنا لا أتكلم عن الناس الحاضرين أتكلم عن بعض الناس طبعاً الله أعلم بهؤلاء الناس، لا أريد أن أتّهم أحداً بل أتهم نفسي قبل أن أتهم أحداً من الناس، فالقضية أن بعض الناس تكون عنده هذه الحالة فيرتكب من هذه الآثام.
قضية الإمام المهدي عجل الله فرجه، هو أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فيحقق العدل، بمعنى أن يمنع هذا الذي يشيع الفاحشة، الإمام المهدي عجل الله فرجه يهدف أن لا تكون هذه الإشاعة للفاحشة، أن لا يكون هذا الافتراء، أن لا يكون هذا الكذب، أن لا تكون هذه الغيبة، أن لا تكون هذه الفتنة، أن لا تكون هذه العداوات، أن لا تكون هذه الاختلافات.
إذاً قضية الانتظار تعني كل هذا المعنى، لكن تحقيق العدل المطلق يعني هذا الشيء.
فهذا الواجب الشرعي الذي يعبّر عن حالة الانتظار يعني انتظار تحقيق العدل، والانتظار لتحقيق العدل يحتاج إلى حركة يقوم بها الإنسان من أجل أن يحقق هذا العدل، لأنّ تحقيق العدل _ كما ذكرت في بداية حديثي _ ليس قضية منفصلة عن حركة المجتمع وحركة هذا الكون وحركة هذا الوجود، إنما هي حركة تكاملية، أي أنّ قضية العدل قضية تبدأ من نقطة وتتكامل من خلال المسيرة، حتى تصل إلى نهاياتها، فاذا لم يكن هذا الإنسان متحركاً في عملية الانتظار، فيصبح خارج العملية التكامليةّ، خارج هذه المسيرة، لا يكون جزءً من المسيرة.
قضية الانتظار التي هي واجب من الواجبات الشرعية التي يجب أن يتصف بها الإنسان المؤمن لافتتها وعنوانها وشعارها ومضمونها هو أن يسعى كل واحدٍ منّا إلى أن يحقق العدل الإلهي الذي يتكامل _ طبعاً هذا الحق والعدل _ في خروج الإمام المهدي عجل الله فرجه، وهذا المضمون يمتاز به شيعة أهل البيت عن غيرهم ويفتخرون به على غيرهم، ويفتخرون بهذا الامتياز _ يعني شيعة أهل البيت _ إنّما تجدون فيهم هذه الروح من التضحية، وهذه الروح من الفداء، وهذا الاستعداد للصمود، وللثبات ولمواصلة المسيرة وللصبر في هذا الطريق، الصبر الذي تجزع وتتزحزح منه الجبال أحياناً، الصبر الذي يبدو في رجال المسيرة، وفي قادة المسيرة، وفي مجاهدي هذه المسيرة، صبر عجيب في حياتهم إنما كان هذا الصبر لأنه أمامهم هذا العنوان، أمامهم هذا الشعار، أمامهم هذه الحقيقة الإلهية التي وضعها الله سبحانه وتعالى أمام أعينهم.
وقضية الإمام المهدي عجل الله فرجه يجب أن ننظر إليها من هذا المنظار والسبب، يعني إذا أردنا أن نرجع إلى التفسيرات الطبيعية، أنا قلت أنّ قضية الأدلة والبراهين قائمة وهي شيء عظيم، ولا بد من البحث لكن ليس بحثه هنا.
أُنظر إلى القضايا الطبيعية، القضية الطبيعية التي تفسّر لنا ظاهرة غريبة جداً في تأريخنا وفي تأريخ المسلمين _ وأنا أشرت أحياناً إلى هذه الظاهرة _ ظاهرة غريبة تفكروا في تفسيرها، ما هو تفسير هذه الظاهرة أن تبدأ هذه المسيرة، مسيرة أتباع أهل البيت، شيعة أهل البيت المتمسّكين بولاية أهل البيت، يبدأون وهم قلّة قليلة في تأريخ الإسلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، يقول بعض المؤرخين أنهم أربعة أو سبعة عشر مثلاً، أو ثلاثين، أنا لا أريد أن أحدّد عدداً، لكن لا شك أنهم كانوا قلّة مطلقة بل أقل الأقل، يعني قلّة قليلة بكل معنى الكلمة مع غض النظر عن الأعداد، لأن هذه القضايا تأريخية ليس الحديث فيها جيداً، هؤلاء كانت هذه بدايتهم.
ثم هذه المسيرة لا يشك التأريخ أنّها طيلة أربعة عشر قرناً من الزمن منذ وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى أيامنا القريبة الحاضرة، وحتى هذه الأيام أيضاً تتعرض باستمرار إلى قمع مستمر من قبل الحكومات، ومن قبل السلطات، ومن قبل الطغاة، ومن قبل المتجبّرين، ومن قبل المنحرفين، ومن قبل