المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تاريخ الغيبة الكبر للمولى المقدس محمد الصدر (قدس سره)


عاشق المولى المقدس
09-08-2011, 01:58 PM
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين
بحث تمهيدي :
في إنقسام الغيبة
- 1 -
لا شك أن للمهدي (ع) غيبتين اثنتين . وهذا من واضحات الفكر الإمامي ، بل من قطعياته التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك . ووافقهم عليه بعض علماء العامة . وقد وردت في ذلك الروايات في مصادر الفريقين .
روى السيد البرزنجي(1) عن أبي عبدالله الحسين بن علي عليهما السلام أنه قال : لصاحب هذا الأمر – يعني المهدي عليه السلام – غيبتان . إحداهما تطول حتى يقول بعضهم مات وبعضهم ذهب . ولا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره .
وأخرج النعماني(2) بإسناده عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد (ع) يقول : للقائم غيبتان إحداهما طويلة والأخرى قصيرة . فالأولى يعلم بمكانه فيها خاصة من شيعته . والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه .
وأخرج(3) عن إبراهيم بن عمر الكناسي قال سمعت أبا جعفر الباقر (ع) يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين .
(1) الإشاعة لإشراط الساعة ، ص 93 . (2) الغيبة ، ص 89 . (3) المصدر ص 89 .

صفحة ( 6)
وأخرج(1) عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبدالله (ع) كان أبو جعفر (ع) يقول ، لقائم آل محمد غيبتان إحداهما أطول من الأخرى ، فقال : نعم ... الحديث . وأخرجه الطبرسي في أعلام الورى(2) أيضاً ...
وأخرج النعماني أيضاً(3) عن محمد بن مسلم الثقفي عن الباقر أبي جعفر (ع) أنه سمعه يقول : إن للقائم غيبتين . يقال في إحداهما : هلك ، ولا يدري في أي واد سلك .
وأخرج أيضاً عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، في إحداهما يرجع إلى أهله ، والأخرى يقال : هلك في أي واد سلك .
وأخرج الشيخ(4) عن حازم بن حبيب عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : يا حازم إن لصاحب هذا الأمر غيبتين ، يظهر في الثانية . إن جاءك من يقول : أنه نفض يده من تراب قبره ، فلا تصدقه .
إلى غير ذلك من الأخبار ، وهي كثيرة وكافية للإثبات التاريخي .
- 2 -
ولهم هذه الأخبار أطروحتان رئيسيتان :
الأطروحة الأولى :
وهي الموافقة للفهم غير الإمامي للمهدي (ع) القائل : بأن المهدي رجل يولد في زمانه فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً .
وهي : إن الغيبتين منفصلتان يتخللهما ويفصل بينهما ظهور للناس . ويكون الظهور بعد الغيبة الثانية هو يوم الثورة الكبرى . وتكون مدة كلتا الغيبتين محددة بسنين قليلة ... توجبهما مصالح وقتية محددة ترجع إلى شخص المهدي (ع) أو إلى مصلحة انتصاره بعد الظهور .
(1) المصدر ، ص 90 . (2) انظر ص 416 . (3) الغيبة ، ص 90 وكذلك الذي يليه . (4) انظر الغيبة ، ص 261 .
صفحة ( 7)
وهذه الأطروحة هي المتعينة لا خيار في تعديها ، طبقاً لهذا الفهم غير الإمامي ... لوضوح عدم إمكان وجود الغيبة الطويلة ، مع العمر المحدد من السنين .
وهذه الأطروحة هي التي فهمها البرزنجي(1) من هذه الأخبار حين قال : وهاتان الغيبتان – والله أعلم – ما مر آنفاً أنه يختفي بحبال مكة ولا يطلع عليه أحد . قال : ويؤيده ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، أنه قال : يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب ، وأومأ بيده إلى ذي طوى . أقول : ولم يذكر البرزنجي الغيبة الثانية .
الأطروحة الثانية :
وهي الموافقة للفهم الإمامي للمهدي (ع) القائل : بأن المهدي حي منذ ولادته في القرن الثالث الهجري إلى حين ظهوره في اليوم الموعود .
وهي الأطروحة التي فهمها العلماء الإماميون بشكل عام ، ونص قدماؤهم على مضمونها بشكل خاص . وهي من ضروريات مذهبهم .
قال النعماني(2) هذه الأحاديث التي يذكرونها : إن للقائم عليه السلام غيبتين ، أحاديث قد صحت عندنا بحمد الله . وأوضح الله قول الأئمة عليه السلام وأظهر برهان صدقهم فيها .
فأما الغيبة الأولى ، فهي التي كانت السفراء فيها بين الإمام وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص ... وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرمت مدتها . والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط ، للأمر الذي يريده الله هو التدبير الذي يمضيه في الخلق بوقوع التمحيص والامتحان ... وهذا زمان ذلك قد حضر ... الخ كلامه .
(1) الإشاعة ، ص 93 . (2) الغيبة ، ص 90 / 91 .
صفحة ( 8)
وقال المفيد في الإرشاد(1) : وله قبل قيامه غيبتان : إحداهما أطول من الأخرى ، كما جاءت بذلك الأخبار. فأما القصرى منهما ، منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة ، أما الطولى فهي بعد الأولى ، وفي آخرها يقوم بالسيف .
وقال الطبرسي(2) : فانظر كيف حصلت الغيبتان لصاحب الأمر على حسب ما تضمنت الأخبار السابقة . أما غيبته الصغرى منهما فهي التي كان فيها سفراؤه موجودين وأبوابه معروفين ، لا تختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن عليه (ع) فيهم ... الخ كلامه .
وقال ابن الصباغ(3) – وهو مالكي المذهب – : وله قبل قيامه غيبتان : إحداهما أطول من الأخرى . فأما الأولى فهي القصرى ، فمنذ ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته . وأما الثانية ، وهي الطولى ، فهي التي بعد الأولى . في آخرها يقوم بالسيف . قال الله تعالى : لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول المقام بنقلها .
وقد سبق أن عرفنا في التاريخ السابق ، وسنزيده في هذا التاريخ توضيحاً ... مقدار الفرق بين الغيبتين الكبرى والصغرى . وتتلخص الفروق فيما يلي :
أولاً : قصر مدة الغيبة الصغرى ، إذ كانت حوالي السبعين عاماً . بخلاف الغيبة الكبرى ، فإنها غير معروفة الأمد ، باعتبار جهلنا بموعد ظهور المهدي (ع) .
ثانيا : اقتران الغيبة الصغرى بالسفارة الخاصة ، القائمة بين المهدي (ع) وقواعده الشعبية ، وانقطاع ذلك في الغيبة الكبرى .
ثالثاً : انتهاء أمد الغيبة الصغرى بوفاة السفير الرابع على بن محمد السمري . وأما الكبرى ، فلا زالت سارية المفعول ، وتنتهي بيوم الظهور الموعود .
(1) انظر ، ص 326 . (2) اعلام الورى ، ص 416 . (3) الفصول المهمة ، ص 309 .
صفحة ( 9)
رابعاً : إن المشاهدين للمهدي (ع) خلال غيبته الصغرى ، أكثر بنسبة مهمة عنهم في غيبته الكبرى .
ويمكن أن يكون الفرق الأول ، هو سبب تسمية الغيبتين بالصغرى والكبرى ... حيث تكون الأولى قصيرة والأخرى طويلة . كما يمكن أن يكون الفرق الأخير هو سبب التسمية ، ويكون المقصود هو قلة الاحتجاب في الصغرى وكثرته في الكبرى .
وعلى ذلك فالغيبتان متصلتان لا يفصل بينهما ظهور .
وقد سبق في التاريخ السابق(1) ، أن عرفنا الحكمة الأساسية من إيجاد الغيبة الصغرى ، وهو التمهيد الذهني لوجود الغيبة الكبرى في الناس . إذ لو بدأ المهدي (ع) بالغيبة المطلقة فجأة ، وبدون إنذار وإرهاص ، لما أمكنا إثبات وجوده في التاريخ . فتنقطع حجة الله على عباده .
وستعرف في هذا التاريخ تفصيلاً وجه الحكمة من وجود الغيبة الكبرى ، سواء ما يعود إلى المهدي نفسه أو إلى المخلصين من أصحابه أم إلى البشرية كلها من حيث ما يعود عليها من الخير في اليوم الموعود .
صفحة ( 10)
أخرج النعماني(1) عن أبي عبدالله (ع) في حديث ، قال فيه : والله ليغيبن سبتاً(2) من الدهر ، وليخملن حتى يقال : مات أو هلك ، بأي وادي سلك . ولتفيضن عليه أعين المؤمنين . ليكفأن كتكفئ السفينة في أمواج البحر ، حتى لا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه ، وكتب الإيمان في قلبه وأيده بروح منه ... الخ الحديث. وذكر له عدة أسانيد .
وهذا بالضبط هو الذي سيحدث في عصر الغيبة الكبرى . على ماسنسمع فيه هذا التاريخ .
وأخرج أيضاً(3) عن موسى بن جعفر عليه السلام ، أنه قال : إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم ، لا يزيلنكم عنها . فأنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة ، حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به . إنما هي محنة من الله يمتحن الله بها خلقه ... الحديث .
وأخرج(4) عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) قال : قال لي : يا أبا الجارود ، إذا دار الفلك ، وقالوا : مات أو هلك وبأي واد سلك ، وقال الطالب له : أنى يكون ذلك ، وقد بليت عظامه . فعتد ذلك ، فارتجوه . الحديث .
وعن(5) أبي عبدالله : إن القائم إذا قام يقول الناس : أنى ذلك وقد بليت عظامه .
وعن(6) أبي عبدالله أنه قال : إذا فقد الناس الإمام ، مكثوا سبتاً لا يدرون أياً من أي . ثم يظهر الله عز وجل لهم صاحبهم .
وعنه (ع)(7) قال : كيف أنتم إذا صرتم في حال لا يكون فيها إمام هدى ولا علماً يرى ... الحديث .
(1) الغيبة ، ص 76 . (2) السبت يأتي لغة بمعنى الدهر والبرهة من الزمن . (3) الغيبة ، ص 78 .
(4) المصدر ، ص 78 . (5) المصدر والصفحة . (6) المصدر ، ص 81 . (7) المصدر والصفحة .
صفحة ( 11)
وأخرج الصدوق(1) هم تلجسيم بم هلي عليه السلام في حديث : له غيبة يرتد فيها أقوام ويثبت على الدين فيها آخرون . فيؤذن ويقال لهم : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . أما أن الصابر في غيبته على الأذى والتكذيب بمنزلة المجاهد بين يدي رسول الله وآله الطاهرين الأخيار .
وعن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال : ... ثم تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر ... أن أهل زمان غيبته ، القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره ، أفضل من أهل كل زمان ، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة . وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف ... الحديث .
- 4 -
فهذه هي الأخبار التي تدل على أهمية الغيبة في المدى البعيد . وأما الأخبار التي تدل عليها بشكل مباشر ، فكثيرة :
أما الغيبة الصغرى ، فيدل عليها كل أخبار السفراء الأربعة والوكلاء والمعارضين المنحرفين والتوقيعات الصادرة عن المهدي (ع) وكل من رآه منذ ولادته إلى نهاية ذلك العصر ... إلى غير ذلك من الأخبار التي سمعناها تفصيلاً في التاريخ السابق .
وأما الغيبة الكبرى ، فيدل عليها ما سنذكره من أخبار المشاهدة وأخبار التمحيص وأخبار الانتظار وفضل المنتظرين . وأخبار علامات الظهور ، وما دل على فساد الزمان وانحراف أهله ، وغير ذلك ، فأنها جميعاً مرتبطة ارتباطاً عضوياً بعصر الغيبة الكبرى على ما سنعرف .
(1) اكمال الدين المخطوط ، وكذلك الذي بعده .
صفحة ( 12)
- 5 -
وبمجموع هذه الأدلة ، نستطيع أن ننفي الأطروحة الأولى التي ذكرناها في الفقرة الثانية من هذا البحث .
وذلك لوضوح أنها لا تنسجم مع شيء من هذه الأدلة :
أما أخبار الغيبة الصغرى ، فواضح ، باعتبار أن الأطروحة الأولى لا تدعي وجود السفراء والوكلاء والمعارضين والتوقيعات خلال الغيبة الأولى . بل لم يثبت عن هذه الأطورحة أنها تدعي أن الغيبة الأولى أصغر من الثانية ، في المدة أو في درجة الاختفاء .
وأما أخبار الغيبة الكبرى ، فلما سنعرفه من أن أي شيء من التمحيص والانتظار وعلامات الظهور ، لا يمكن أن يحدث إلا في دهر طويل . وكذلك لا معنى لاخبار المشاهدة وهي متواترة مضموناً ، مع الاختفاء القليل الذي يمتد مثلاً لخمس سنوات أو عشر .
مضافاً إلى أن ما تقول به الأطروحة الأولى من ظهور المهدي بين الغيبتين ... مما لا يفهم وجهه . إذ يبقى التساؤل عن أنه لماذا يظهر إذا لم يكن عازماً على أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً .
فإن قال قائل : أنه يظهر بعد الغيبة الأولى ليقوم بمهمته الكبرى ، لأنه يتخيل وجود فرص النجاح ، وحيث انها غير موجودة في الواقع ، فإنه يفشل في مهمته ، فيختفي مرة ثانية ليظهر بعد ذلك فيقوم بمهمته خير قيام .
نقول : إن عهدة هذا القول على مدعيه ، إذ يتصور المهدي (ع) قاصر التدبير والتفكير من النواحي الاجتماعية والسياسية والعسكرية ، بحيث يمكن أن يسيطر عليه خيال كاذب . أما المهدي الذي ذخره الله تعالى ليومه الموعود، وخطط لنجاح مهمته تخطيطاً مضبوطاً عميقاً ، على ما سنسمع ، فهو قائد عالمي ، من المستحيل أن يقع في مثل هذه الأوهام .
صفحة ( 13)
- 6 -
هذا ، وقد نرى أئمة الهدى عليهم السلام ، يخاطبون الناس على قدر عقولهم ، كما هو المفروض في كل كلام بليغ. فهم يأخذون المستوى العقلي والثقافي والإيماني لمجتمعهم بنظر الاعتبار حين يتحدثون عن المهدي (ع) . فإذا كان المخاطب والسامع ذا مستوى عال ، كان الجواب عميقاً ومفصلاً ، وإذا كان ذا مستوى واطئ ، كان الجواب مختصراً وناظراً إلى زاوية معينة متجنباً الخوض الكامل في الجواب ... طبقاً لهذا القانون .
أخرج النعماني(1) والصدوق(2) عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال – في كلام له – : يا بني عقولكم تضعف عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله . ولكن أن تعيشوا فسوف تدركوه .
وطبقاً لهذا الاتجاه نسمع الأخبار التالية :
أخرج النعماني(3) عن أبي عبدالله (ع) أنه قال : لو قد قام القائم لأنكره الناس ، لأنه يرجع إليهم شاباً موفقاً ... وإن من أعظم البلية أن يخرج إليهم شاباً وهم يحسبونه شيخاً كبيراً .
وهذا الخبر صادق تماماً ، لأن المهدي (ع) سوف يظهر شاباً . كما أن من البلاء العظيم والامتحان العميق أن يخرج شاباً ، إذا كانوا يفكرون كونه شيخاً كبيراً . ولكنه لم يقل أنهم يفكرون فعلاً بذلك ، ومن هنا يكون الاختصار في العطاء .
إن هذا الخبر يوحي بوضوح أن مدة الغيبة سوف لن تتجاوز مدة العمر الطبيعي الذي يكون به الفرد شيخاً، غير أن الله تعالى سوف يحفظ للمهدي شبابه خلال هذه المدة . وهذا العطاء منسجم مع تلك الذهنية التي لا يمكن أن تستوعب بحال ، العمر الطويل الذي يمتد مئات السنين .
ومن الواضج أن الناس سوف لن يحسبوه شيخاً ،إذ مع تمادي العمر مئات السنين ، ينتفي من الذهن مفهوم الشيخوخة تماماً ، ويبقى تطور شكل الإنسان بالقدرة الإلهية وحدها ،تلك القدرة التي حفظته هذا المقدار من السنين.
(1) الغيبة ، ص 78 . (2) انظر الاكمال المخطوط . (3) الغيبة ، ص 99 .
صفحة ( 14)

ونحو ذلك الخبر السابق عن الإمام موسى بن جعفر(ع) الذي يقول فيه : ولكن أن تعيشوا فسوف تدركوه . فأنه من المؤكد أنهم لو عاشوا لأدركوه ، ولو استلزم عيشهم أن يبقوا في الحياة مئات السنين . ولكنه لم يقل أنهم سوف يعيشون فعلاً إلى عصر الظهور .
غير أن الانطباع الأولي لأهل ذلك العصر ، عن هذا الحديث ، هو أن الظهور يمكن أن يحدث خلال عمر طبيعي للإنسان ... أو أنه يحدث كذلك فعلاً . وأخرج الصدوق(1) عن زرارة عن الإمام الباقر (ع) أنه قال : ان للقائم غيبة قبل ظهوره . قلت : ولم . قال: يخاف . وأومأ إلى بطنه . قال زرارة : يعني القبل .
وعن أبي عبدالله الصادق (ع) قال : للقائم غيبة قبل قيامه ، قلت : ولم . قال : يخاف على نفسه الذبح .
وهذا صحيح . إلا أنه لم يحدد مقدار الغيبة ولا انقسامها ، تبعاً لمستوى السامعين . وأخرج النعماني(2) عن أبي جعفر بن محمد بن علي عليهما السلام أنه قال : يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشاعب . وأومأ بيده إلى ذي طوى ... الحديث . وقد احتج البرزنجي(3) بهذا الحديث لأجل استبعاد الفهم الأمامي للمهدي . ولا بد أن يكون مراده أن الغيبة بين الشعاب لا تكون إلا خلال العمر الطبيعي للإنسان .
وهذا المضمون وإن ناقشناه في التاريخ السابق(4) ... إلا أنه يمكن القول بصحته ، بعد التنزل – جدلاً – عن تلك المناقشة . ولا يكون الخبر منافياً مع الفهم الإمامي بحال . لوضوح أنه يمكن أن نتصور المهدي (ع) ساكناً في الشعاب والبراري والقفار طيلة غيبته مهما طالت . ولا يتعين كونها غيبة ذات مدة قليلة ، كما هو معلوم .
(1) انظر الاكمال المخطوط ، وكذلك الذي يليه . (2) الغيبة ، ص 95 . (3) الإشاعة ، ص 93 .
(4) تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 546 .
صفحة ( 15)
قد سمعنا في التاريخ السابق(1) ما روي عن الإمام المهدي (ع) نفسه ، فيما قاله لعلي بن المازيار : يا ابن المازيار ، أبي أو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم . وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا أوعرها ، ومن البلاد إلا عفرها . إذن فمن الممكن أن يكون المراد من كلا الخبرين ، مضمون واحد . غير أن هذا المضمون لم يثبت تاريخياً، كما سمعنا في التاريخ السابق ، وسيتضح بجلاء في القسم الأول من هذا التاريخ .
- 7 -
بقيت علينا بعض الاستفهامات التي قد تثار حول بعض ما سبق .
الاستفهام الأول :
إن بعض الأخبار ، التي رويناها في الفقرة الأولى من هذا البحث ، دلت على أن الغيبة الطويلة ، تحدث قبل القصيرة. كقوله في بعضها : للقائم غيبتان إحداهما طويلة والأخرى قصيرة . وقوله في الخبر الآخر : إحداهما أطول من الأخرى . وهذا ما دل على ما ذكرناه .
وجوابه : إن المراد من ذلك ، الإخبار عن وجود الغيبتين . وأما تقديم الغيبة الطويلة بالذكر ، فباعتبار أهميتها لا باعتبار سبقها الزماني على الغيبة الأخرى . وقد قال في نفس الخبر : فالأولى يعلم بمكانه الخاصة من شيعته ، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلا خاصة مواليه في دينه . وهو نص بتقدم الغيبة الصغرى التي تتصف بقلة الاحتجاب على صاحبتها .
(1) المصدر والصفحة .
صفحة ( 16)
الاستفهام الثاني :
قوله في بعض تلك الأخبار : يظهر في الثانية . فأنه دال على أنه (ع) يظهر خلال الغيبة الثانية . فكيف يصح ذلك ؟
وجوابه : أن هذه الفكرة التي فهمها السائل تتضمن تهافتاً في التصور ، لتنافي الغيبة مع الظهور ، فلا معنى لأن يظهر وهو غائب . وإنما المراد أنه يظهر بعد انتهاء الغيبة الثانية . كما هو معلوم .
الاستفهام الثالث :
قوله في بعض تلك الأخبار : إن لصاحب هذا الأمر غيبتين في إحداهما يرجع إلى أهله . وهو دال على أن المهدي (ع) خلال الغيبة الصغرى يرجع إلى أهله . فما معنى ذلك ؟
وجوابه : أننا سمعنا في التاريخ السابق(1) أن الإمام المهدي (ع) كان ساكناً في دار أبيه في سامراء ردحاً من عصر غيبته الصغرى . وهو دار أهله بطبيعة الحال ، كما نطق هذا الخبر . ويحتمل أن يكون المراد إعطاء فكرة قلة الاختفاء خلال الغيبة الصغرى ، مشبهاً بمن يخرج من أهله ويعود. ومن هنا يقول في الخبر – بالنسبة إلى الغيبة الكبرى – : والأخرى يقال : هلك في أي واد سلك .
الاستفهام الرابع :
سمعنا المفيد فيما سبق يقول : فأما القصرى منهما ، منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته. وكذلك قال ابن الصباغ .
على حين سمعنا من التاريخ السابق(2) أن أول الغيبة الصغرى هو يوم وفاة الإمام العسكري (ع) والد المهدي (ع) . وليس أولها ولادة المهدي نفسه ... وإن كان مختفياً فعلاً خلال حياة أبيه . فأي الوجهين هو الصحيح ؟
وجوابه : إن الوجه الذي اخترناه في التاريخ السابق هو الصحيح ، وهو بدء الغيبة الصغرى ، بوفاة الإمام العسكري (ع) ، وقد سبق أن برهنا عليه هناك .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 543 . (2) المصدر السابق ، ص 4 .
صفحة ( 17)
- 8 -
وبكل ذلك ، يتبرهن انقسام الغيبة إلى صغرى وكبرى ، بالمفهوم الإمامي .
وإذا كان هذا من صفات المهدي (ع) ولم ينسجم إلا مع المفهوم الإمامي ، يتعين الأخذ بهاذا المفهوم بالخصوص .
وطبقاً لذلك ، كتبنا فيما سبق تاريخ الغيبة الصغرى أولاً ، ونكتب الآن تاريخ الغيبة الكبرى ، وهو هذا الكتاب الذي بين يديك .
صفحة ( 18)
- 3 -
وبالمقدار الذي تكتسبه الغيبة الكبرى من أهمية وصعوبة وعمق في المدى البعيد ... يكون التركيز عليها في الأخبار. فبينما يكون التركيز على الغيبة الصغرى قليلاً . كالحديث الذي أخرجه الصدوق عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال : – في المهدي (ع) – يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته . وقد عرفنا في التاريخ السابق أن حرمة التسمية خاصة بعصر الغيبة الصغرى .
... نجد أن التركيز على الغيبة شديد في الأخبار .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 630 وغيرها .
مقـدمـة
الغيبة الكبرى هي الزمان الذي يبدأ بانتهاء الغيبة الصغرى ، بالإعلان الذي أعلنه الإمام المهدي عليه السلام ، عام 329 للهجرة ، بانتهاء السفارة وبدء الغيبة التامة وأنه لا ظهور إلا بإذن الله عز وجل(1) .
وهو الذي ينتهي بيوم الظهور الموعود الذي يبزغ فيه نور الإمام المهدي عليه السلام ، وتسعد البشرية بلقائه ليخرجها من الظلمات إلى النور ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .
ومعه نكون الآن معاصرين لهذه الفترة التي نؤرخها ،وسبقى الناس معاصرين ، لها ، حتى يأذن الله تعالى بالفرج.
والإسلام والمسلمين يمرون في هذه الفترة بأصعب الظروف التي عاشوها ، بل التي عاشها أهل سائر الأديان السماوية ، بشكل عام . باعتبار ما تتصف به من خصائص ومميزات يجعلها من أحرج الأحوال في منطق الإسلام بالنسبة إلى ما سبقها وما يلحقها من الدهور .
الخصيصة الأولى :
وهي الرئيسية التي تعطي هذه الفترة شكلها المعتاد . وهي : أن المسلمين منقطعون بالكلية عن قائدهم وموجههم وإمامهم ، لا يجدون إلى رؤيته والتعرف عليه سبيلاً ، ولا إلى الاستفادة من أعماله وأقواله طريقاً . ولا يجدون له وكيلاً أو سفيراً خاصاً ، ولا يسمعون عنه بياناً ولا يرون له توقيعاً ، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى . إذ في هذه الفترة التي نؤرخها يكون كل ذلك قد انقطع بشكل عام .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 415 وما بعدها وص 366 وما بعدها .
صفحة ( 19)
وبذلك تتميز هذه الفترة عن سائر الفترات في عمر الإسلام والمسلمين . فهي تختلف عن زمان وجود النبي (ص) وزمان الأئمة الاثني عشر عليهم السلام زمان ظهور المهدي عليه السلام ، بوجود القائد والموجِّه خلال تلك الفترة دون هذه الفترة . وتختلف عن زمان الغيبة الصغرى بوجود السفراء للمهدي (ع) وصدور البيانات والتوقيعات عنه، خلال تلك الفترة ، دون هذه الفترة التي نؤرخها .
الخصيصة الثانية :
سيادة الظلم والجور في الأرض ، بمعنى انحسار الإسلام بنظامه العادل عن المجتمعات البشرية , وما تعانيه البشرية – نتيجة لذلك – من أنحاء التعسف والانحراف والظلم والحروب .
وبذلك تتميز هذه الفترة عن زمان سيادة النظام الإسلامي الكامل ، وهو ما كان في زمان وجود النبي (ص) وإقامته لدولة الحق ، وما سيكون عند ظهور الإمام المهدي (ع) وإقامته لدولة الحق أيضاً .
وتشترك فترة الغيبة الكبرى ، بهذه الخصيصة ، مع كل أزمنة انحسار الإسلام – ولو انحساراً جزئياً – عن واقع الحياة . كأزمنة الخلفاء الأمويين والعباسيين . وإن كانت ظروفنا المتأخرة أشد وأقسى مما قبلها من حيث سيادة المبادئ المادية وقسوة الظلم والتعسف ، وتهديد البشرية بالفناء بالحرب العالمية الثالثة .
الخصيصة الثالثة تأكد الامتحان الإلهي ووضوحه :
فإن كل فرد – على الإطلاق – يواجه في هذه الفترة مزالق ثلاثة ، تشكل خطراً على دينه وعلى دنياه ، وبمقدار ما يبذله من تضحية وما يملكه من قوة في الإرادة ، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته وحسن مستقبله ونجاحه في الامتحان الإلهي .
صفحة ( 20)
المزلق الأول :
ما يواجهه الإنسان من شهوات ونوازع ذاتية طبيعية ، تتطلب منه الإشباع بإلحاح ، ولا يسكن صوتها إلا بالإشباع التام ، وهي تتطلبه من أي طريق كان ، لا تعين لصاحبها الطريق المشروع خاصة . بل يمكن أن تطلق لصاحبها العنان فلا يبصر ما بين يديه من قوانين وتقاليد وأديان وحدود .
وهذا المزلق غير خاص بعصر الغيبة الكبرى ، ولكنه فيها أكد وأشد تأثيراً باعتبار زيادة الإغراء وتلبيس الانحراف باللبوس المنطقي الزائف .
المزلق الثاني :
مواجهة الإنسان لضروب الاضطهاد والضغط والصعوبات التي يواجهها في طريق الحق والإيمان . مما يحتاج في مكافحته إلى قوة في الإرادة والعزم على التضحية .
وهذا المزلق يواجهه الفرد في زمن انحسار الإسلام عن واقع الحياة . بما في ذلك زمان الغبية الكبرى .
المزلق الثالث :
مواجهة الإنسان لضروب التشكيك في وجود الإمام القائد المهدي عليه السلام ، كلما طال الزمان وابتعد شخص الإمام عن واقع الحياة ، وطغت على الفكر الإنساني التيارات المادية التي تستبعد عن حسابها عالم الروح ، وكل ما هو غير محسوس ولا منظور .
وهذا المزلق ، يواجهه الفرد في زمان غيبة الإمام عليه السلام . وخاصة في غيبته الكبرى التي ينعدم فيها السفراء . وبالأخص بعد النهضة الأوروبية المادية وبدء عصر الاستعمار وطغيان التيار المادي العالمي الجارف .
وبمقدار ما يستطيع الفرد من تحصيل المناعة ضد هذه التيارات ، والصمود الفكري أمامها ، والتركيز على مفاهيم الإسلام وبراهينه ، فأنه يستطيع أن يضمن سعادته عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
وكل هذه المزالق الثلاثة ، تجتمع بإلحاح وتأكيد ، في عصر الغيبة الكبرى بشكل واضح وصريح . ومن هنا كان الامتحان الإلهي لصلاحية الفرد إسلامياً وقوة إرادته إيمانياً ، كان شديد الوقع كبير التأثير صعب الاجتياز . ومن هنا ورد في بعض النصوص عن أئمة الهدى عليهم السلام حين سئلوا عن موعد ظهور المهدي (ع) : لا والله حتى تمحصوا ، ولا والله حتى تغربلوا ، ولا والله حتى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد(1) .

ابوعلي العراقي
09-08-2011, 02:57 PM
رمضان كريم .
جزاك الله خيرا .

نرجس*
14-08-2011, 02:30 AM
http://im9.gulfup.com/2011-08-13/1313271178431.jpg (http://www.gulfup.com/)