ابوعلي العراقي
10-08-2011, 02:24 PM
إنّ فكرة ظهور المنقذ العظيم الذي سينشر العدل والرخاء بظهوره في آخر الزمان، ويقضي على الظلم والاضطهاد في أرجاء العالم ، ويحقق العدل والمساواة في دولته الكريمة ، فكرة آمن بها أهل الأديان الثلاثة، واعتنقتها معظم الشعوب .
فقد آمن اليهود بها ، كما آمن النصارى بعودة عيسى عليه السلام ، وصدّق بها الزرادشتيون بانتظارهم عودة بهرام شاه ، واعتنقها مسيحيو الأحباش بترقّبهم عودة ملكهم تيودور كمهديٍّ في آخر الزمان، وكذلك الهنود
اعتقدوا بعودة فيشنو ، ومثلهم المجوس إزاء ما يعتقدونه من حياة أُوشيدر.
وهكذا نجد البوذيين ينتظرون ظهور بوذا، كما ينتظر الأسبان ملكهم روذريق، والمغول قائدهم جنگيزخان.
وقد وجد هذا المعتقد عند قدامى المصريين، كما وجد في القديم من كتب الصينيين.
وإلى جانب هذا نجد التصريح من عباقرة الغرب وفلاسفته بأنَّ العالم في انتظار المصلح العظيم الذي سيأخذ بزمام الأمور ويوحّد الجميع تحت راية واحدة وشعار واحد :
منهم : الفيلسوف الإنجليزي الشهير برتراند راسل ، قال : (إنّ العالم في انتظار مصلح يوحّد العالم تحت عَلَمٍ واحد وشعار واحد) .
ومنهم : العلاّمة آينشتاين صاحب (النظرية النسبية) ، قال : (إنّ اليوم الذي يسود العالم كلّه الصلح والصفاء ، ويكون الناس متحابِّين متآخين ليس ببعيد) .
والأكثر من هذا كلّه هو ما جاء به الفيلسوف الإنكليزي الشهير برناردشو حيث بشّر بمجيء المصلح في كتابه (الإنسان والسوبرمان) .
وفي ذلك يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في كتابه (برناردشو) معلّقاً : « يلوح لنا أنّ سوبرمان شو ليس بالمستحيل، وأنّ دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة» .
أما عن المسلمين فهم على اختلاف مذاهبهم وفرقهم يعتقدون بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وعلى طبق ما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يختص هذا الاعتقاد بمذهب دون آخر ، ولا فرقة دون أُخرى. وما أكثر المصرّحين من علماء أهل السنة ابتداءً من القرن الثالث الهجري وإلى اليوم بأنّ فكرة الظهور محلّ اتّفاقهم، بل ومن عقيدتهم أجمع، الأكثر من هذا إفتاء الفقهاء منهم : بوجوب قتل من أنكر ظهور المهدي، وبعضهم قال : بوجوب تأديبه بالضرب الموجع والإهانة حتى يعود إلى الحقّ والصواب على رغم أنفه ـعلى حدّ تعبيرهم ـ كما سنشير إليه في الفتوى الصادرة على طبق معتقد المذاهب الأربعة.
ولهذا قال ابن خلدون معبّراً عن عقيدة المسلمين بظهور المهدي : « اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الاَعصار : أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت ، يؤيد الدين ، ويُظهر العدل، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى المهدي ».
وقد وافقه على ذلك الأستاذ أحمد أمين الاَزهري المصري ـ على الرغم مما عرف عنهما من تطرّف إزاء هذه العقيدة ـ فقال معبّراً عن رأي أهل السُنّة بها : « فأما أهل السُنّة فقد آمنوا بها أيضاً» ، ثم ذكر نصّ ما ذكره ابن خلدون .
ثم قال : « وقد أحصى ابن حجر الأحاديث المروية في المهدي فوجدها نحو الخمسين» .
ثم ذكر ما قرأه من كتب أهل السنة حول المهدي فقال : « قرأت رسالة
للأستاذ أحمد بن محمد بن الصديق في الردّ على ابن خلدون سماها : (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) ، وقد فنّد كلام ابن خلدون في طعنه على الأحاديث الواردة في المهدي وأثبت صحّة الأحاديث ، وقال: إنّها بلغت التواتر» .
وقال في موضع آخر : « قرأتُ رسالة أُخرى في هذا الموضوع عنوانها: «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة» لأبي الطيب بن أبي أحمد بن أبي الحسن الحسني .
وقال أيضاً: « قد كتب الإمام الشوكاني كتاباً في صحة ذلك سماه: التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح»
إذن لا فرق بين الشيعة وأهل السنّة من حيث الإيمان بظهور المنقذ مادام أهل السنّة قد وجدوا في ذلك خمسين حديثاً من طرقهم، وعدّوا ظهور المهدي من أشراط الساعة، وأثبتوا بطلان كلام ابن خلدون في تضعيفه لبعض الأحاديث الواردة في ذلك، وأنّهم ألَّفوا في الرد أو القول بالتواتر كتباً ورسائل، بل لا فرق بين جميع المسلمين وبين غيرهم من أهل الأديان والشعوب الأخرى من حيث الإيمان بأصل الفكرة وإن اختلفوا في مصداقها ، مع اتّفاق المسلمين على أنّ اسمه (محمد) كإسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقبه عندهم هو (المهدي).
ومن هنا يعلم أنّ اتّفاق أهل الأديان السابقة ومعظم الشعوب والقوميات وعباقرة الغرب وفلاسفته ـ مع تعدد الأديان ، وتباين المعتقدات، واختلاف الأفكار والآراء والعادات ـ على أصل الفكرة ،لا يمكن أبداً أن يكون بلا مستند لاستحالة تحقّق مثل هذا الاتّفاق جزافاً . فإذا أضفنا إلى ذلك اتّفاق المذاهب الإسلامية جميعاً على صحة الاعتقاد بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وأنّه من أهل البيت عليهم السلام ـ كما سيأتي مفصلاً ـ علم أنّ اتّفاقهم هذا لابد وأن يكون معبّراً عن إجماع هذه الأمة التي لا تجتمع على ضلالة على ما هو مقرر في محلّه ، وحينئذٍ فلا يضرّ اعتقادهم بظهور مهدي أهل البيت عليهم السلام اختلاف تشخيصه عند من سبقهم من أهل الأديان والشعوب ، إذ بالإمكان معرفته حق معرفته من خلال مصادر المسلمين المعتمدة لما عُرِف عنهم من اتّباع منهج النقل عن طريق السماع والتحديث شفةً عن شفة وصولاً إلى مصدر التشريع، وبما لا نظير له في حضارات العالم أجمع.
ومع هذا نقول:
إنّ اعتقاد أهل الكتاب بظهور المنقذ في آخر الزمان لا يبعد أن يكون من تبشير أديانهم بمهدي أهل البيت عليهم السلام كتبشيرها بنبوّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّهم أخفوا ذلك عناداً وتكبّراً إلاّ من آمن منهم بالله واتّقى.
ويدلّ على ذلك وجود ما يشير في أسفار التوراة إلى ظهور المهدي في آخر الزمان، كما في النصّ الذي نقله الكاتب أبو محمد الأردني من (سفر أرميا) وإليك نصه : (اصعدي أيّتها الخيل وهيّجي المركبات ، ولتخرج الأبطال : كوش وقوط القابضان المجنّ ، واللوديُّون القابضون القوس ، فهذا اليوم للسيد ربِّ الجنود ، يوم نقمة للانتقام من مبغضيه ، فيأكل السيف ويشبع... لاَن للسيد ربِّ الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات).
وهناك ما هو أوضح من هذا بكثير جداً ، فقد قال الباحث السني سعيد أيوب في كتابه (المسيح الدجال) : « ويقول كعب : مكتوب في أسفار الأنبياء: المهدي ما في عمله عيب » ثمّ علّق على هذا النصّ بقوله : « وأشهد أنني وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب ، لقد تتبع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جده صلى الله عليه وآله وسلم ، فدلت أخبار سفر الرؤيا إلى امرأة يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً ، ثمّ أشار إلى امرأة أُخرى ، أي: التي تلد الرجل الأخير الذي هو من صُلب جدته ، وقال السفر : إنَّ هذه المرأة الأخيرة ستحيط بها المخاطر ، ورمز للمخاطر باسم «التنّين» وقال : (والتنّين وقفَ أمام المرأة العتيدة حتى تلد ليبتلع ولدها متى ولدت) سفر الرؤيا 12 : 3 ، أي : أنَّ السلطة كانت تريد قتل هذا الغلام ، ولكن بعد ولادة الطفل . يقول باركلي في تفسيره : « عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه .
والنص : (واختطف الله ولدها) سفر الرؤيا 12 : 5 ، أي : أنَّ الله غيّب هذا الطفل كما يقول باركلي.
وذكر السفر أنّ غيبة الغلام ستكون ألفاً ومائتين وستين يوماً ، وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب ، ثم قال باركلي عن نسل المرأة عموماً : إنّ التنّين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال السفر : (فغضب التنّين على المرأة ، وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله) سفر الرؤيا /1312 .
وهذا وإن لم يصحّ لمسلم الاحتجاج به لما مُنيت به كتب العهدين من تحريف وتبديل ، إلاّ أنّه يدلّ وبوضوح على معرفة أهل الكتاب بالمهدي ، ثم اختلافهم فيما بعد في تشخيصه ، إذ ليس كلّ ما جاء به الإسلام قد تفرّد به عن الأديان السابقة ، فكثير من الأمور الكلِّية التي جاء بها الإسلام كانت في الشرائع السابقة قبله.
قال الشاطبي : (وكثير من الآيات أُخبر فيها بأحكام كلّية كانت في الشرائع المتقدمة وهي في شريعتنا ، ولا فرق بينهما).
وإذا تقرر هذا فلا يضرُّ اعتقاد المسلم بصحة ما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ظهور رجل من أهل بيته في آخر الزمان ، أن يكون هذا المعتقد موجوداً عند أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أو عند غيرهم ممن سبق الإسلام ، ولا يخرج هذا المعتقد عن إطاره الإسلامي بعد أن بشّر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعد الإيمان بأنه صلى الله عليه وآله وسلم (ما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إن هوَ إلاّ وحيٌ يُوحى ) .
وأما عن اعتقادات الشعوب المختلفة بأصل هذه الفكرة كما مرّ فيمكن تفسيرها على أساس أنّ فكرة ظهور المنقذ لا تتعارض مع فطرة الإنسان وطموحاته وتطلّعاته ، ولو فكّر الإنسان قليلاً في اشتراك معظم الشعوب بأصل الفكرة لأدرك أنّ وراء هذا الكون حكمة بالغة في التدبير ، يستمد الإنسان من خلالها قوّته في الصمود إزاء ما يرى من انحراف وظلم وطغيان، ولا يُترك فريسة يأسه دون أن يزوّد بخيوط الأمل والرجاء بأنّ العدل لابدّ له أن يسود.
وأما عن اختلاف أهل الأديان السابقة والشعوب في تشخيص اسم المنقذ المنتظر ، فلا علاقة له في إنكار ما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس هناك ما يدعو إلى بيان فساد تشخيصهم لاسم المنقذ ، مادام الإسلام قد تصدى بنفسه لهذه المهمة فبيّن اسمه ، وحسبه ، ونسبه ، وأوصافه ، وسيرته، وعلامات ظهوره ، وطريقة حكمه ، حتى تواترت بذلك الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها من طرق أهل السنّة ، كما صرّح بذلك أعلامهم وحفّاظهم وفقهاؤهم ومحدثوهم ، وقد روى تلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يزيد على خمسين صحابياً كما سنبرهن عليه في هذا البحث.
وأما عن اختلاف المسلمين فيما بينهم من حيث تشخيص اسم المهدي كما هو معلوم بين أهل السنة والشيعة ، فليس فيه أدنى حجة للمستشرقين وأذنابهم ، بل هو ـ على العكس ـ من الأدلة القاطعة عليه ؛ لأنه من قبيل الاختلاف في تفاصيل شيء متحقق الوجود ، كاختلافهم في القرآن الكريم بين القول بقِدَمِه وحدوثه من الله تعالى، مع اتّفاقهم على تكفير منكره ، وقس عليه سائر اختلافاتهم الأخرى في تفاصيل بعض العقائد دون أصولها.
فقد آمن اليهود بها ، كما آمن النصارى بعودة عيسى عليه السلام ، وصدّق بها الزرادشتيون بانتظارهم عودة بهرام شاه ، واعتنقها مسيحيو الأحباش بترقّبهم عودة ملكهم تيودور كمهديٍّ في آخر الزمان، وكذلك الهنود
اعتقدوا بعودة فيشنو ، ومثلهم المجوس إزاء ما يعتقدونه من حياة أُوشيدر.
وهكذا نجد البوذيين ينتظرون ظهور بوذا، كما ينتظر الأسبان ملكهم روذريق، والمغول قائدهم جنگيزخان.
وقد وجد هذا المعتقد عند قدامى المصريين، كما وجد في القديم من كتب الصينيين.
وإلى جانب هذا نجد التصريح من عباقرة الغرب وفلاسفته بأنَّ العالم في انتظار المصلح العظيم الذي سيأخذ بزمام الأمور ويوحّد الجميع تحت راية واحدة وشعار واحد :
منهم : الفيلسوف الإنجليزي الشهير برتراند راسل ، قال : (إنّ العالم في انتظار مصلح يوحّد العالم تحت عَلَمٍ واحد وشعار واحد) .
ومنهم : العلاّمة آينشتاين صاحب (النظرية النسبية) ، قال : (إنّ اليوم الذي يسود العالم كلّه الصلح والصفاء ، ويكون الناس متحابِّين متآخين ليس ببعيد) .
والأكثر من هذا كلّه هو ما جاء به الفيلسوف الإنكليزي الشهير برناردشو حيث بشّر بمجيء المصلح في كتابه (الإنسان والسوبرمان) .
وفي ذلك يقول الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في كتابه (برناردشو) معلّقاً : « يلوح لنا أنّ سوبرمان شو ليس بالمستحيل، وأنّ دعوته إليه لا تخلو من حقيقة ثابتة» .
أما عن المسلمين فهم على اختلاف مذاهبهم وفرقهم يعتقدون بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وعلى طبق ما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يختص هذا الاعتقاد بمذهب دون آخر ، ولا فرقة دون أُخرى. وما أكثر المصرّحين من علماء أهل السنة ابتداءً من القرن الثالث الهجري وإلى اليوم بأنّ فكرة الظهور محلّ اتّفاقهم، بل ومن عقيدتهم أجمع، الأكثر من هذا إفتاء الفقهاء منهم : بوجوب قتل من أنكر ظهور المهدي، وبعضهم قال : بوجوب تأديبه بالضرب الموجع والإهانة حتى يعود إلى الحقّ والصواب على رغم أنفه ـعلى حدّ تعبيرهم ـ كما سنشير إليه في الفتوى الصادرة على طبق معتقد المذاهب الأربعة.
ولهذا قال ابن خلدون معبّراً عن عقيدة المسلمين بظهور المهدي : « اعلم أنّ المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممرّ الاَعصار : أنّه لابدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت ، يؤيد الدين ، ويُظهر العدل، ويتبعه المسلمون ، ويستولي على الممالك الإسلامية ، ويسمى المهدي ».
وقد وافقه على ذلك الأستاذ أحمد أمين الاَزهري المصري ـ على الرغم مما عرف عنهما من تطرّف إزاء هذه العقيدة ـ فقال معبّراً عن رأي أهل السُنّة بها : « فأما أهل السُنّة فقد آمنوا بها أيضاً» ، ثم ذكر نصّ ما ذكره ابن خلدون .
ثم قال : « وقد أحصى ابن حجر الأحاديث المروية في المهدي فوجدها نحو الخمسين» .
ثم ذكر ما قرأه من كتب أهل السنة حول المهدي فقال : « قرأت رسالة
للأستاذ أحمد بن محمد بن الصديق في الردّ على ابن خلدون سماها : (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) ، وقد فنّد كلام ابن خلدون في طعنه على الأحاديث الواردة في المهدي وأثبت صحّة الأحاديث ، وقال: إنّها بلغت التواتر» .
وقال في موضع آخر : « قرأتُ رسالة أُخرى في هذا الموضوع عنوانها: «الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة» لأبي الطيب بن أبي أحمد بن أبي الحسن الحسني .
وقال أيضاً: « قد كتب الإمام الشوكاني كتاباً في صحة ذلك سماه: التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح»
إذن لا فرق بين الشيعة وأهل السنّة من حيث الإيمان بظهور المنقذ مادام أهل السنّة قد وجدوا في ذلك خمسين حديثاً من طرقهم، وعدّوا ظهور المهدي من أشراط الساعة، وأثبتوا بطلان كلام ابن خلدون في تضعيفه لبعض الأحاديث الواردة في ذلك، وأنّهم ألَّفوا في الرد أو القول بالتواتر كتباً ورسائل، بل لا فرق بين جميع المسلمين وبين غيرهم من أهل الأديان والشعوب الأخرى من حيث الإيمان بأصل الفكرة وإن اختلفوا في مصداقها ، مع اتّفاق المسلمين على أنّ اسمه (محمد) كإسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولقبه عندهم هو (المهدي).
ومن هنا يعلم أنّ اتّفاق أهل الأديان السابقة ومعظم الشعوب والقوميات وعباقرة الغرب وفلاسفته ـ مع تعدد الأديان ، وتباين المعتقدات، واختلاف الأفكار والآراء والعادات ـ على أصل الفكرة ،لا يمكن أبداً أن يكون بلا مستند لاستحالة تحقّق مثل هذا الاتّفاق جزافاً . فإذا أضفنا إلى ذلك اتّفاق المذاهب الإسلامية جميعاً على صحة الاعتقاد بظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وأنّه من أهل البيت عليهم السلام ـ كما سيأتي مفصلاً ـ علم أنّ اتّفاقهم هذا لابد وأن يكون معبّراً عن إجماع هذه الأمة التي لا تجتمع على ضلالة على ما هو مقرر في محلّه ، وحينئذٍ فلا يضرّ اعتقادهم بظهور مهدي أهل البيت عليهم السلام اختلاف تشخيصه عند من سبقهم من أهل الأديان والشعوب ، إذ بالإمكان معرفته حق معرفته من خلال مصادر المسلمين المعتمدة لما عُرِف عنهم من اتّباع منهج النقل عن طريق السماع والتحديث شفةً عن شفة وصولاً إلى مصدر التشريع، وبما لا نظير له في حضارات العالم أجمع.
ومع هذا نقول:
إنّ اعتقاد أهل الكتاب بظهور المنقذ في آخر الزمان لا يبعد أن يكون من تبشير أديانهم بمهدي أهل البيت عليهم السلام كتبشيرها بنبوّة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّهم أخفوا ذلك عناداً وتكبّراً إلاّ من آمن منهم بالله واتّقى.
ويدلّ على ذلك وجود ما يشير في أسفار التوراة إلى ظهور المهدي في آخر الزمان، كما في النصّ الذي نقله الكاتب أبو محمد الأردني من (سفر أرميا) وإليك نصه : (اصعدي أيّتها الخيل وهيّجي المركبات ، ولتخرج الأبطال : كوش وقوط القابضان المجنّ ، واللوديُّون القابضون القوس ، فهذا اليوم للسيد ربِّ الجنود ، يوم نقمة للانتقام من مبغضيه ، فيأكل السيف ويشبع... لاَن للسيد ربِّ الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات).
وهناك ما هو أوضح من هذا بكثير جداً ، فقد قال الباحث السني سعيد أيوب في كتابه (المسيح الدجال) : « ويقول كعب : مكتوب في أسفار الأنبياء: المهدي ما في عمله عيب » ثمّ علّق على هذا النصّ بقوله : « وأشهد أنني وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب ، لقد تتبع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جده صلى الله عليه وآله وسلم ، فدلت أخبار سفر الرؤيا إلى امرأة يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً ، ثمّ أشار إلى امرأة أُخرى ، أي: التي تلد الرجل الأخير الذي هو من صُلب جدته ، وقال السفر : إنَّ هذه المرأة الأخيرة ستحيط بها المخاطر ، ورمز للمخاطر باسم «التنّين» وقال : (والتنّين وقفَ أمام المرأة العتيدة حتى تلد ليبتلع ولدها متى ولدت) سفر الرؤيا 12 : 3 ، أي : أنَّ السلطة كانت تريد قتل هذا الغلام ، ولكن بعد ولادة الطفل . يقول باركلي في تفسيره : « عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه .
والنص : (واختطف الله ولدها) سفر الرؤيا 12 : 5 ، أي : أنَّ الله غيّب هذا الطفل كما يقول باركلي.
وذكر السفر أنّ غيبة الغلام ستكون ألفاً ومائتين وستين يوماً ، وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب ، ثم قال باركلي عن نسل المرأة عموماً : إنّ التنّين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال السفر : (فغضب التنّين على المرأة ، وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله) سفر الرؤيا /1312 .
وهذا وإن لم يصحّ لمسلم الاحتجاج به لما مُنيت به كتب العهدين من تحريف وتبديل ، إلاّ أنّه يدلّ وبوضوح على معرفة أهل الكتاب بالمهدي ، ثم اختلافهم فيما بعد في تشخيصه ، إذ ليس كلّ ما جاء به الإسلام قد تفرّد به عن الأديان السابقة ، فكثير من الأمور الكلِّية التي جاء بها الإسلام كانت في الشرائع السابقة قبله.
قال الشاطبي : (وكثير من الآيات أُخبر فيها بأحكام كلّية كانت في الشرائع المتقدمة وهي في شريعتنا ، ولا فرق بينهما).
وإذا تقرر هذا فلا يضرُّ اعتقاد المسلم بصحة ما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ظهور رجل من أهل بيته في آخر الزمان ، أن يكون هذا المعتقد موجوداً عند أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أو عند غيرهم ممن سبق الإسلام ، ولا يخرج هذا المعتقد عن إطاره الإسلامي بعد أن بشّر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبعد الإيمان بأنه صلى الله عليه وآله وسلم (ما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إن هوَ إلاّ وحيٌ يُوحى ) .
وأما عن اعتقادات الشعوب المختلفة بأصل هذه الفكرة كما مرّ فيمكن تفسيرها على أساس أنّ فكرة ظهور المنقذ لا تتعارض مع فطرة الإنسان وطموحاته وتطلّعاته ، ولو فكّر الإنسان قليلاً في اشتراك معظم الشعوب بأصل الفكرة لأدرك أنّ وراء هذا الكون حكمة بالغة في التدبير ، يستمد الإنسان من خلالها قوّته في الصمود إزاء ما يرى من انحراف وظلم وطغيان، ولا يُترك فريسة يأسه دون أن يزوّد بخيوط الأمل والرجاء بأنّ العدل لابدّ له أن يسود.
وأما عن اختلاف أهل الأديان السابقة والشعوب في تشخيص اسم المنقذ المنتظر ، فلا علاقة له في إنكار ما بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس هناك ما يدعو إلى بيان فساد تشخيصهم لاسم المنقذ ، مادام الإسلام قد تصدى بنفسه لهذه المهمة فبيّن اسمه ، وحسبه ، ونسبه ، وأوصافه ، وسيرته، وعلامات ظهوره ، وطريقة حكمه ، حتى تواترت بذلك الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها من طرق أهل السنّة ، كما صرّح بذلك أعلامهم وحفّاظهم وفقهاؤهم ومحدثوهم ، وقد روى تلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يزيد على خمسين صحابياً كما سنبرهن عليه في هذا البحث.
وأما عن اختلاف المسلمين فيما بينهم من حيث تشخيص اسم المهدي كما هو معلوم بين أهل السنة والشيعة ، فليس فيه أدنى حجة للمستشرقين وأذنابهم ، بل هو ـ على العكس ـ من الأدلة القاطعة عليه ؛ لأنه من قبيل الاختلاف في تفاصيل شيء متحقق الوجود ، كاختلافهم في القرآن الكريم بين القول بقِدَمِه وحدوثه من الله تعالى، مع اتّفاقهم على تكفير منكره ، وقس عليه سائر اختلافاتهم الأخرى في تفاصيل بعض العقائد دون أصولها.