ابوعلي العراقي
13-08-2011, 02:06 PM
عبد اللّه بن هاشم المرقال
كان كبير قريش في البصرة، ورأس الشيعة فيها.
وكان أبوه هاشم - المرقال - بن عتبة بن أبي وقاص، القائد الجريء المقدام الذي لقي منه معاوية في صفين الرعب المميت، وهو يومئذ على ميسرة علي عليه السلام.
كتب معاوية إلى عامله زياد: «أما بعد، فانظر عبد اللّه بن هاشم بن عتبة، فشدَّ يده على عنقه، ثم ابعث به اليّ».
فطرقه زياد في منزله ليلاً، وحمله مقيداً مغلولاً إلى دمشق. فأدخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: «هل تعرف هذا ؟» قال: «هذا الذي يقول أبوه يوم صفين...» وقرأ رجزه وكان يحفظه ثم قال متمثلاً:
«وقد ينبت المرعى على دمن الثرى***وتبقى حزازات النفوس كما هيا»
واستمر قائلاً: «دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب، فاشخب أوداجه على أثباجه، ولا ترده إلى العراق، فانه لا يصبر على النفاق، وهم أهل غدر وشقاق وحزب إبليس ليوم هيجانه، وانه له هوى سيوديه، ورأياً سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة مثلها».
وكان مثل هذا المحضر ومثل هذا التحامل على العراق وأهله هو شنشنة عمرو بن العاص المعروفة عنه، ولا نعرف أحداً وصف أهل العراق هذا الوصف العدو قبله.
أمّا ابن المرقال فلم يكن الرعديد الذي يغلق التهويل عليه قريحته، وهو الشبل الذي تنميه الأسود الضراغم - فقال، وتوجه بكلامه إلى ابن العاص: «يا عمرو ! إن اقتل، فرجل أسلمه قومه، أدركه يومه. أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بشمال النطاف، وعقائق الرصاف، كالأمة السوداء، والنعجة القوداء، لا تدفع يد لامس ؟».
فقال عمرو: «أما واللّه لقد وقعت في لهاذم شدقم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتاً من مخالب أمير المؤمنين».
فقال عبد اللّه: «أما واللّه يا ابن العاص انك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غشوم إذا وليت، هياب إذا لقيت، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك، لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشدة. أفلا كان هذا منك، اذو غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً، ولم يمرقوا كباراً، لهم أيد شداد، والسنة حداد، يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل» ؟.
فقال عمرو: «أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخقق أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب اصلاؤه كما انطبق عليه ضمد».
فقال عبد اللّه: «يا عمرو ! انا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً، خلوت بأقوام لا يعرفونك، وجند لا يساومونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ عليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله».
فقال معاوية: «ايها عنكما». وأمر بإطلاق عبد اللّه لنسيبه. فلم يزل عمرو بن العاص يلومه على إطلاقه ويقول:
أمرتك أمراً عازماً فعصيتـــني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الـــــــــــذي أعان علياً يــوم حز الغلاصم ؟
فلم ينثن حتى جرت من دمائنا بصفين أمثال البــحور الخضارم
وهذا ابنه والمرء يشبه شيخــه ويوشك أن تقرع به ســــن نادم
عمرو بن الحمق الخزاعي
هو ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن ذراح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
أسلم قبل الفتح، وهاجر إلى المدينة، فكان الصحابيّ البر الذي حظي بدعوة النبي صلى اللّه عليه وآله بأن يمتعه اللّه بشبابه، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير له شعرة بيضاء على صباحة في وجهه كانت تزيده بهاء. وصحب بعده أمير المؤمنين علياً عليه السلام، فكان الحواري المخلص الذي يقول له بحق: «ليت في جندي مائة مثلك». وشهد معه الجمل وصفين والنهروان. ودعا له أمير المؤمنين بقوله: «اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم». وقال له: «يا عمرو انك لمقتول بعدي، وان رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام. والويل لقاتلك».
قال ابن الأثير (ج 3 ص 183): «ولما قدم زياد الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط: إن عمرو بن الحمق يجمع إليه شيعة أبي تراب، فأرسل إليه زياد: ما هذه الجماعات عندك ؟ من أردت كلامه ففي المسجد».
ثم لم يزل عمرو [فيما يروي الطبري] خائفاً مترقباً حتى كانت حادثة حجر بن عدي الكندي فأبلى فيها بلاء حسناً وضربه رجل من الحمراء - شرطة زياد - يدعى بكر بن عبيد بعمود على رأسه فوقع وحمله الشيعة فخبأه في دار رجل من الازد، ثم خرج فاراً وصحبه الزعيم الآخر [رفاعة بن شداد] فيمما المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا ارض الموصل فكمنا في جبل هناك، واستنكر عامل ذلك الرستاق شأنهما فسار إليهما بالخيل، فأما عمرو فلم يصل الموصل إلا مريضاً بالاستسقاء، ولم يكن عنده امتناع. وأما رفاعة بن شداد - وكان شاباً قوياً - فوثب على فرس له جواد، وقال لعمرو: أقاتل عنك، قال: وما ينفعني إن تقاتل، انج بنفسك إن استطعت. فحمل عليهم فأفرجوا له، فخرج تنفر به فرسه، وخرجت الخيل في طلبه - وكان رامياً - فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه. وسألوا عمراً: من أنت ؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وان قتلتموه كان أضرّ لكم !. فسألوه فأبى أن يخبرهم، فبعث به ابن أبي بلتعة، عامل الرستاق، إلى عامل الموصل، وهو (عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عثمان الثقفي)، فلما رأى عمرو بن الحمق عرفه، وكتب إلى معاوية بخبره، فأمره معاوية بأن يطعنه تسع طعنات كما كان فعل بعثمان فطعن ومات بالأولى منهن أو الثانية».
وخالف ابن كثير رواية الطبري هذه، فقال: «إن أصحاب معاوية عثروا عليه في الغار ميتاً، فحزّوا رأسه، وبعثوا به إلى معاوية، وهو أول رأس طيف به في الإسلام. ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته (آمنة بنت الشريد) وكانت في سجن معاوية [انظر إلى أفظع ألوان الإرهاب] فألقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه، وقالت: غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه إلي قتيلاً، فأهلاً به من هدية غير قالية ولا مقلية.
ثم كان فيما كتب به الحسين عليه السلام إلى معاوية: الست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - العبد الصالح الذي أبلته العبادة - فأنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته أعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد».
(( يشير بذلك «العهد» إلى نصوص المادة الخامسة في معاهدة صلح الإمام الحسن (ع) مع اللعين معاوية ))
وقال في سفينة البحار: «وقبره بظاهر الموصل، ابتدأ بعمارته أبو عبد اللّه سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة، في شعبان من سنة 336». وجاء في أصول التاريخ والأدب (ج 9 ص 2): قال أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي في كتاب الزيارات: وظاهر الموصل على الشرف الأعلى مشهد عمرو بن الحمق، دفنت جثته، ورأسه حمل إلى دمشق، وقيل هو أول رأس حمل في الإسلام، وفي المشهد بعض الأشراف من ولد الحسين عليه السلام.
رشيد الهجري
تلميذ علي عليه السلام، وصاحبه المنقطع إليه، والعالم المعترف له بعلم البلايا والمنايا، يروي عنه ناس كثيرون، ولكنهم جميعاً سكتوا عن اسمه خوف السلطان الأموي، فلم ترو عنه علناً إلا ابنته الوحيدة التي كانت قد حضرت مقتله، وهي التي جمعت أطرافه - يديه ورجليه - وقد قطعها ابن سمية !. قالت تسأله حين قطعت أطرافه: «يا أبت هل تجد ألماً لما أصابك ؟ فقال: «لا يا بنيتي إلا كالزحام بين الناس!». أتي به إلى زياد فقال له: «ما قال لك خليلك – يعني علياً عليه السلام – إنا فاعلون بك ؟»، قال: «تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني»، فقال زياد: «أما واللّه لأكذبن حديثه، خلوا سبيله». فلما أراد أن يخرج، قال: «ردوه، لا نجد لك شيئاً أصلح مما قال صاحبك، انك لن تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه»، فقطعوها وهو يتكلم !، فقال: «اصلبوه خنقاً في عنقه»، فقال رُشَيد: «قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه»، فقال زياد: «اقطعوا لسانه»، فلما أخرجوا لسانه قال: «نفّسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة»، فنفسوا عنه فقال: «هذا واللّه تصديق خبر أمير المؤمنين، أخبرني بقطع لساني». وأخرج من القصر مقطعاً، فاجتمع الناس حوله، ومات من ليلته رضوان اللّه عليه.
قالت ابنته: «قلت لأبي: ما أشد اجتهادك !»، قال: «يا بنية يأتي قوم بعدنا بصائرهم في دينهم أفضل من اجتهادنا».
وقال لها: «يا بنيتي أميتي الحديث بالكتمان، واجعلي القلب مسكن الأمانة».
* * *
صعصعة بن صوحان
سيد من سادات العرب، وعظيم من أقطاب الفضل والحسب. أسلم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولكنه لم يلقه لصغره، وأشكلت على عمر أيام خلافته قضية فخطب الناس وسألهم عما يقولون - فقام صعصعة، وهو غلام شاب، فأماط الحجاب، وأوضح منهاج الصواب -، وعملوا برأيه -، وكان من أصحاب الخطط في الكوفة، وشهد مع أمير المؤمنين «الجمل» و«صفين». قال في الإصابة «إن المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة إلى الجزيرة أو إلى البحرين، وقيل إلى جزيرة ابن كافان فمات بها».
و«حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد اللّه بن الكواء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال: نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقاً وصدقاً، أيّ الخلفاء رأيتموني ؟ فقال ابن الكواء: لولا انك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد، لا تراقب اللّه في قتل الأخيار، ولكنا نقول: انك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب الثرى بعيد المرعى، تجعل الظلمات نوراً والنور ظلمات، فقال معاوية: إن اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن بيضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه، والمحلين ما حرم اللّه، والمحرمين ما احل الله. فقال عبد الله ابن الكواء: يا ابن أبي سفيان إن لكل كلام جواباً، ونحن نخاف جبروتك، فان كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في اللّه لومة لائم، وإلا فانا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرحه. قال: واللّه لا يطلق لك لسان - ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً، ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً، أما واللّه مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: لا حلى ولا سيرى، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم. وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم. فأنى تصلح الخلافة لطليق ؟. فقال معاوية: لولا أني ارجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهمو حلماً ومغفرة *** والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
لقتلتكم، وسأله معاوية: من البررة ومن الفسقة ؟ فقال: يا ابن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع، علي وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك. وسأله عن أهل الشام فقال: أطوع الناس لمخلوق، وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار، وخلفة الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار. فقال معاوية: واللّه يا ابن صوحان انك لحامل مديتك منذ أزمان، إلا أن حلم ابن أبي سفيان يرد عنك. فقال صعصعة: بل أمر اللّه وقدرته، إن أمر اللّه كان قدراً مقدوراً».
قال المسعودي: «ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني على إيجاز واختصار».
وكان صعصعة شخصية بارزة في أصحاب أمير المؤمنين. ووصفه أمير المؤمنين بالخطيب الشحشح، ثم وصفه الجاحظ بأنه من أفصح الناس.
وقال له معاوية يوم دخل الكوفة بعد الصلح: «أما واللّه إني كنت لأبغض أن تدخل في أماني». قال: «وأنا واللّه أبغض أن اسميك بهذا الاسم». ثم سلّم عليه بالخلافة فقال معاوية: «إن كنت صادقاً فاصعد المنبر والعن علياً». فصعد المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس أتيتكم من عند رجل قدم شره، وأخر خيره. وانه أمرني أن العن علياً فالعنوه لعنه اللّه». فضج أهل المسجد بآمين. فلما رجع إليه فأخبره بما قال. قال: «لا واللّه ما عنيت غيري، ارجع حتى تسميه باسمه». فرجع وصعد المنبر ثم قال: «أيها الناس إن أمير المؤمنين أمرني أن العن علي بن أبي طالب فالعنوه». فضجوا بآمين. فلما أخبر معاوية قال: «واللّه ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني في بلد». فأخرجوه.
وقال ابن عبد ربه: «دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره فقال: وسّع له على ترابية فيه. فقال صعصعة: إني واللّه لترابي، منه خلقت واليه أعود ومنه ابعث، وانك مارج من مارج من نار».
وقدم وفد العراقيين على معاوية، فقدم في وفد الكوفة عدي بن حاتم، وفي وفد البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان. فقال عمرو بن العاص لمعاوية: «هؤلاء رجال الدنيا، وهم شيعة علي الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين فكن منهم على حذر».
كان كبير قريش في البصرة، ورأس الشيعة فيها.
وكان أبوه هاشم - المرقال - بن عتبة بن أبي وقاص، القائد الجريء المقدام الذي لقي منه معاوية في صفين الرعب المميت، وهو يومئذ على ميسرة علي عليه السلام.
كتب معاوية إلى عامله زياد: «أما بعد، فانظر عبد اللّه بن هاشم بن عتبة، فشدَّ يده على عنقه، ثم ابعث به اليّ».
فطرقه زياد في منزله ليلاً، وحمله مقيداً مغلولاً إلى دمشق. فأدخل على معاوية، وعنده عمرو بن العاص، فقال معاوية لعمرو: «هل تعرف هذا ؟» قال: «هذا الذي يقول أبوه يوم صفين...» وقرأ رجزه وكان يحفظه ثم قال متمثلاً:
«وقد ينبت المرعى على دمن الثرى***وتبقى حزازات النفوس كما هيا»
واستمر قائلاً: «دونك يا أمير المؤمنين الضب المضب، فاشخب أوداجه على أثباجه، ولا ترده إلى العراق، فانه لا يصبر على النفاق، وهم أهل غدر وشقاق وحزب إبليس ليوم هيجانه، وانه له هوى سيوديه، ورأياً سيطغيه، وبطانة ستقويه، وجزاء سيئة مثلها».
وكان مثل هذا المحضر ومثل هذا التحامل على العراق وأهله هو شنشنة عمرو بن العاص المعروفة عنه، ولا نعرف أحداً وصف أهل العراق هذا الوصف العدو قبله.
أمّا ابن المرقال فلم يكن الرعديد الذي يغلق التهويل عليه قريحته، وهو الشبل الذي تنميه الأسود الضراغم - فقال، وتوجه بكلامه إلى ابن العاص: «يا عمرو ! إن اقتل، فرجل أسلمه قومه، أدركه يومه. أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال، ونحن ندعوك إلى النزال، وأنت تلوذ بشمال النطاف، وعقائق الرصاف، كالأمة السوداء، والنعجة القوداء، لا تدفع يد لامس ؟».
فقال عمرو: «أما واللّه لقد وقعت في لهاذم شدقم للأقران ذي لبد، ولا أحسبك منفلتاً من مخالب أمير المؤمنين».
فقال عبد اللّه: «أما واللّه يا ابن العاص انك لبطر في الرخاء، جبان عند اللقاء، غشوم إذا وليت، هياب إذا لقيت، تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجرى الشوك، لا يستعجل في المدة، ولا يرتجى في الشدة. أفلا كان هذا منك، اذو غمرك أقوام لم يعنفوا صغاراً، ولم يمرقوا كباراً، لهم أيد شداد، والسنة حداد، يدعمون العوج، ويذهبون الحرج، يكثرون القليل، ويشفون الغليل، ويعزون الذليل» ؟.
فقال عمرو: «أما واللّه لقد رأيت أباك يومئذ تخقق أحشاؤه، وتبق أمعاؤه، وتضطرب اصلاؤه كما انطبق عليه ضمد».
فقال عبد اللّه: «يا عمرو ! انا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوباً غادراً، خلوت بأقوام لا يعرفونك، وجند لا يساومونك، ولو رمت المنطق في غير أهل الشام لجحظ عليك عقلك، ولتلجلج لسانك، ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله».
فقال معاوية: «ايها عنكما». وأمر بإطلاق عبد اللّه لنسيبه. فلم يزل عمرو بن العاص يلومه على إطلاقه ويقول:
أمرتك أمراً عازماً فعصيتـــني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
أليس أبوه يا معاوية الـــــــــــذي أعان علياً يــوم حز الغلاصم ؟
فلم ينثن حتى جرت من دمائنا بصفين أمثال البــحور الخضارم
وهذا ابنه والمرء يشبه شيخــه ويوشك أن تقرع به ســــن نادم
عمرو بن الحمق الخزاعي
هو ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن ذراح بن عمرو بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي.
أسلم قبل الفتح، وهاجر إلى المدينة، فكان الصحابيّ البر الذي حظي بدعوة النبي صلى اللّه عليه وآله بأن يمتعه اللّه بشبابه، فمرت عليه ثمانون سنة ولم ير له شعرة بيضاء على صباحة في وجهه كانت تزيده بهاء. وصحب بعده أمير المؤمنين علياً عليه السلام، فكان الحواري المخلص الذي يقول له بحق: «ليت في جندي مائة مثلك». وشهد معه الجمل وصفين والنهروان. ودعا له أمير المؤمنين بقوله: «اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم». وقال له: «يا عمرو انك لمقتول بعدي، وان رأسك لمنقول، وهو أول رأس ينقل في الإسلام. والويل لقاتلك».
قال ابن الأثير (ج 3 ص 183): «ولما قدم زياد الكوفة قال له عمارة بن عقبة بن أبي معيط: إن عمرو بن الحمق يجمع إليه شيعة أبي تراب، فأرسل إليه زياد: ما هذه الجماعات عندك ؟ من أردت كلامه ففي المسجد».
ثم لم يزل عمرو [فيما يروي الطبري] خائفاً مترقباً حتى كانت حادثة حجر بن عدي الكندي فأبلى فيها بلاء حسناً وضربه رجل من الحمراء - شرطة زياد - يدعى بكر بن عبيد بعمود على رأسه فوقع وحمله الشيعة فخبأه في دار رجل من الازد، ثم خرج فاراً وصحبه الزعيم الآخر [رفاعة بن شداد] فيمما المدائن ثم ارتحلا حتى أتيا ارض الموصل فكمنا في جبل هناك، واستنكر عامل ذلك الرستاق شأنهما فسار إليهما بالخيل، فأما عمرو فلم يصل الموصل إلا مريضاً بالاستسقاء، ولم يكن عنده امتناع. وأما رفاعة بن شداد - وكان شاباً قوياً - فوثب على فرس له جواد، وقال لعمرو: أقاتل عنك، قال: وما ينفعني إن تقاتل، انج بنفسك إن استطعت. فحمل عليهم فأفرجوا له، فخرج تنفر به فرسه، وخرجت الخيل في طلبه - وكان رامياً - فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره فانصرفوا عنه. وسألوا عمراً: من أنت ؟ فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وان قتلتموه كان أضرّ لكم !. فسألوه فأبى أن يخبرهم، فبعث به ابن أبي بلتعة، عامل الرستاق، إلى عامل الموصل، وهو (عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عثمان الثقفي)، فلما رأى عمرو بن الحمق عرفه، وكتب إلى معاوية بخبره، فأمره معاوية بأن يطعنه تسع طعنات كما كان فعل بعثمان فطعن ومات بالأولى منهن أو الثانية».
وخالف ابن كثير رواية الطبري هذه، فقال: «إن أصحاب معاوية عثروا عليه في الغار ميتاً، فحزّوا رأسه، وبعثوا به إلى معاوية، وهو أول رأس طيف به في الإسلام. ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته (آمنة بنت الشريد) وكانت في سجن معاوية [انظر إلى أفظع ألوان الإرهاب] فألقي في حجرها، فوضعت كفها على جبينه، ولثمت فمه، وقالت: غيبتموه عني طويلاً، ثم أهديتموه إلي قتيلاً، فأهلاً به من هدية غير قالية ولا مقلية.
ثم كان فيما كتب به الحسين عليه السلام إلى معاوية: الست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - العبد الصالح الذي أبلته العبادة - فأنحلت جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته أعطيته من عهود اللّه ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد».
(( يشير بذلك «العهد» إلى نصوص المادة الخامسة في معاهدة صلح الإمام الحسن (ع) مع اللعين معاوية ))
وقال في سفينة البحار: «وقبره بظاهر الموصل، ابتدأ بعمارته أبو عبد اللّه سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة، في شعبان من سنة 336». وجاء في أصول التاريخ والأدب (ج 9 ص 2): قال أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي في كتاب الزيارات: وظاهر الموصل على الشرف الأعلى مشهد عمرو بن الحمق، دفنت جثته، ورأسه حمل إلى دمشق، وقيل هو أول رأس حمل في الإسلام، وفي المشهد بعض الأشراف من ولد الحسين عليه السلام.
رشيد الهجري
تلميذ علي عليه السلام، وصاحبه المنقطع إليه، والعالم المعترف له بعلم البلايا والمنايا، يروي عنه ناس كثيرون، ولكنهم جميعاً سكتوا عن اسمه خوف السلطان الأموي، فلم ترو عنه علناً إلا ابنته الوحيدة التي كانت قد حضرت مقتله، وهي التي جمعت أطرافه - يديه ورجليه - وقد قطعها ابن سمية !. قالت تسأله حين قطعت أطرافه: «يا أبت هل تجد ألماً لما أصابك ؟ فقال: «لا يا بنيتي إلا كالزحام بين الناس!». أتي به إلى زياد فقال له: «ما قال لك خليلك – يعني علياً عليه السلام – إنا فاعلون بك ؟»، قال: «تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني»، فقال زياد: «أما واللّه لأكذبن حديثه، خلوا سبيله». فلما أراد أن يخرج، قال: «ردوه، لا نجد لك شيئاً أصلح مما قال صاحبك، انك لن تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت، اقطعوا يديه ورجليه»، فقطعوها وهو يتكلم !، فقال: «اصلبوه خنقاً في عنقه»، فقال رُشَيد: «قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه»، فقال زياد: «اقطعوا لسانه»، فلما أخرجوا لسانه قال: «نفّسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة»، فنفسوا عنه فقال: «هذا واللّه تصديق خبر أمير المؤمنين، أخبرني بقطع لساني». وأخرج من القصر مقطعاً، فاجتمع الناس حوله، ومات من ليلته رضوان اللّه عليه.
قالت ابنته: «قلت لأبي: ما أشد اجتهادك !»، قال: «يا بنية يأتي قوم بعدنا بصائرهم في دينهم أفضل من اجتهادنا».
وقال لها: «يا بنيتي أميتي الحديث بالكتمان، واجعلي القلب مسكن الأمانة».
* * *
صعصعة بن صوحان
سيد من سادات العرب، وعظيم من أقطاب الفضل والحسب. أسلم على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولكنه لم يلقه لصغره، وأشكلت على عمر أيام خلافته قضية فخطب الناس وسألهم عما يقولون - فقام صعصعة، وهو غلام شاب، فأماط الحجاب، وأوضح منهاج الصواب -، وعملوا برأيه -، وكان من أصحاب الخطط في الكوفة، وشهد مع أمير المؤمنين «الجمل» و«صفين». قال في الإصابة «إن المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة إلى الجزيرة أو إلى البحرين، وقيل إلى جزيرة ابن كافان فمات بها».
و«حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبد اللّه بن الكواء اليشكري ورجالاً من أصحاب علي مع رجال من قريش، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال: نشدتكم باللّه إلا ما قلتم حقاً وصدقاً، أيّ الخلفاء رأيتموني ؟ فقال ابن الكواء: لولا انك عزمت علينا ما قلنا، لأنك جبار عنيد، لا تراقب اللّه في قتل الأخيار، ولكنا نقول: انك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب الثرى بعيد المرعى، تجعل الظلمات نوراً والنور ظلمات، فقال معاوية: إن اللّه أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابين عن بيضته، التاركين لمحارمه، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم اللّه، والمحلين ما حرم اللّه، والمحرمين ما احل الله. فقال عبد الله ابن الكواء: يا ابن أبي سفيان إن لكل كلام جواباً، ونحن نخاف جبروتك، فان كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في اللّه لومة لائم، وإلا فانا صابرون حتى يحكم اللّه ويضعنا على فرحه. قال: واللّه لا يطلق لك لسان - ثم تكلم صعصعة فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت، أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً، ودانهم كبراً، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً، أما واللّه مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمى، وما كنت فيه إلا كما قال القائل: لا حلى ولا سيرى، ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب على رسول اللّه صلى اللّه عليه (وآله) وسلم. وإنما أنت طليق ابن طليق، أطلقكما رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم. فأنى تصلح الخلافة لطليق ؟. فقال معاوية: لولا أني ارجع إلى قول أبي طالب حيث يقول:
قابلت جهلهمو حلماً ومغفرة *** والعفو عن قدرة ضرب من الكرم
لقتلتكم، وسأله معاوية: من البررة ومن الفسقة ؟ فقال: يا ابن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع، علي وأصحابه من الأئمة الأبرار، وأنت وأصحابك من أولئك. وسأله عن أهل الشام فقال: أطوع الناس لمخلوق، وأعصاهم للخالق، عصاة الجبار، وخلفة الأشرار، فعليهم الدمار، ولهم سوء الدار. فقال معاوية: واللّه يا ابن صوحان انك لحامل مديتك منذ أزمان، إلا أن حلم ابن أبي سفيان يرد عنك. فقال صعصعة: بل أمر اللّه وقدرته، إن أمر اللّه كان قدراً مقدوراً».
قال المسعودي: «ولصعصعة بن صوحان أخبار حسان وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن المعاني على إيجاز واختصار».
وكان صعصعة شخصية بارزة في أصحاب أمير المؤمنين. ووصفه أمير المؤمنين بالخطيب الشحشح، ثم وصفه الجاحظ بأنه من أفصح الناس.
وقال له معاوية يوم دخل الكوفة بعد الصلح: «أما واللّه إني كنت لأبغض أن تدخل في أماني». قال: «وأنا واللّه أبغض أن اسميك بهذا الاسم». ثم سلّم عليه بالخلافة فقال معاوية: «إن كنت صادقاً فاصعد المنبر والعن علياً». فصعد المنبر وحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس أتيتكم من عند رجل قدم شره، وأخر خيره. وانه أمرني أن العن علياً فالعنوه لعنه اللّه». فضج أهل المسجد بآمين. فلما رجع إليه فأخبره بما قال. قال: «لا واللّه ما عنيت غيري، ارجع حتى تسميه باسمه». فرجع وصعد المنبر ثم قال: «أيها الناس إن أمير المؤمنين أمرني أن العن علي بن أبي طالب فالعنوه». فضجوا بآمين. فلما أخبر معاوية قال: «واللّه ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني في بلد». فأخرجوه.
وقال ابن عبد ربه: «دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ومعه عمرو بن العاص جالس على سريره فقال: وسّع له على ترابية فيه. فقال صعصعة: إني واللّه لترابي، منه خلقت واليه أعود ومنه ابعث، وانك مارج من مارج من نار».
وقدم وفد العراقيين على معاوية، فقدم في وفد الكوفة عدي بن حاتم، وفي وفد البصرة الأحنف بن قيس وصعصعة بن صوحان. فقال عمرو بن العاص لمعاوية: «هؤلاء رجال الدنيا، وهم شيعة علي الذين قاتلوا معه يوم الجمل ويوم صفين فكن منهم على حذر».