المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مجانين في مهب الريح


ضياء عارف
21-09-2011, 09:35 PM
مجانين في مهب الريح

الجنون عالم لا تحده قوانين يعيشه الفرد وحده بتواضع يقل نظيره فلا تجد بين المجانين فوارق وكلهم سواسية كأسنان المشط عالم مغلق على صاحبه بإرهاصاته وأفكاره وأحاسيسه ومشاعره تضطرب فيه العوالم والأرواح مكونة في مجملها كائنا بشريا نسميه باللهجة العامية ( المسودن ) .
من يعرف حال العراق وما مر به على مدى عصور من الاستبداد والطغيان يعرف بأنه كان على الدوام - حاله في ذلك كحال اغلب الدول العربية - فريسة للمفاسد فمن الفقر الى الجهل الى مختلف أنواع الأمراض البدنية والنفسية ومنها الجنون فهو المرض الأكثر شيوعا خاصة بين الضعفاء والمساكين .
كنت على الدوام أتابع هؤلاء المجانين وأراقب تحركاتهم البريئة فأروح في عالمهم الغريب وأغدو متحيرا متسائلا كيف ومن هم هؤلاء ما سرهم الذي يبقيهم في بعد عن عالمنا ؟
وأتذكر ان مجنونا كبير السن محتفي شبه عاري كان دائم الجولان في حارتنا فكان كل من هب ودب يطبل له الطبول ويحشد له الفلول وخاصة الأطفال فكان ذلك الإنسان الأمرد الأهيف صاحب الخلقة المبعثرة,الوسخ من شماله الى جنوبه المشرد بين الأزقة والشوارع ومن يبيت جوعانا على قارعة الطريق فحيث أدركه النعاس يستلقي لينام فلا يهمه أين نام أفي خربة ام في مزبلة ام في حديقة ام على قارعة الطريق ليس مهما عنده الا ان يداري نزواته ويحرص على إطاعة احتياجاته ورغباته وكان هذا المجنون المتسول يقتات على ما يجود به الناس عليه او ما تجود به الصدفة فليس مهما المصدر سواء أكان من يد شريفة او كسيفه او من مزبلة او ظل نخلة المهم انه طعام يسد الجوع او ماء يروي العطش كان صاحبي قليل الكلام رغم ضجته الفارغة مفاجئ قد يسلط غضبه في أي لحظه على ما يتوهمه بعثيا يرتدي لباس زيتوني فيظل يكيل عليه من شتى أنواع السباب والشتائم .
وكعادته كان يمشي كأن الارض ملغمة تحته فيلتفت يمينا ويسرا و رأسه الدوار رادار يبحث عن طريدته المخفية هنا وهناك فساعة يسرع وساعة يبطئ ولن تجده هادئا الا عندما يكون قد أمن شر سيارة الشرطة او ما كان يعرف بالأمن او البعثية في زمن النظام السابق ولكن سرعان ما ينتفض مرتعبا على صوت احد المستهزئين الفارغين الذين لا يخافون الله " ولك اكنيفذ اشرد أجوك البعثية " فتثير ثائرته ويصير هائجا فيهاجم كل من يصادفه بالتي واللتين ويبدو ان صاحبنا وهو واحد من عشرات المجانين الذين يعيشون بين ظهرانينا كأنهم حيوانات بشرية محكوم عليها بالإهمال ليست لهم حقوق ولا تجد لهم تشريع ولا رعاية هائمون على الدوام تتخبطهم الطرقات هنا وهناك.
وفي يوم ما طرق الباب عند وقت الغروب فلما فتحته فإذا هو كنيفذ متمددا على عتبة الباب فرمقني بطارفه مبتسما " جوعان روح جيبلي أكل" فرفعت له في وقتها دجاجة محشية مقلية يسيل لها اللعاب وأعطيته إياها فلما رآها قال ضاحكا " شنو هاي والله زحمة عل سريع ذبحتلي خروف " فقلت له "كنيفذ هاي دجاجة مو خروف" فتطايرت منه ضحكات ساخرات وقال "ربك عنده الدجاجة خروف" فكان هذا اول تعارف بيني وبين احد سكان كوكب الجنون بعد ذاك غاب هذا الكنيفذ عن الأنظار وسمعت عنه مختلف الروايات ومنها انه مات دهسا بسيارة حمل ! .


المجانين او الامسودنين : هم الطائفة التي تمتاز بانعزالها وانكفائها حيث يعيشون إنسانيتهم المشوشة بالأفكار العاطلة وبالسلوكيات المختلة بعيدا عن المجتمع رغم تواجدهم فيه فليست لهم قومية ولا دين ولا مذهب فكري ولا شيء غير اللا شئ يحويهم ويضبط تصرفاتهم ويتحكم بتحركاتهم,ناس لا يجمعهم شيء غير إنهم بشر مثلنا وينتمون الى عالمنا ولكن بأجسادهم وأرواحهم فقط .
يأخذون من عالمنا الحوادث والأفكار بغير إدراك فيرتبون عليها المشاعر ان أعجبهم الشئ هاموا بحبه وكالوا عليه من غرامهم عشقا وان كرهوه أفرطوا في بغضه فيكثرون في شتمه وسبه,متقلبي المزاج والخواطر والسرائر وعالم هائج بذاته في ذاته وقد يصل هذا الهيجان الى العامة حينما يصل غضب المجنون الى رأسه .
الجنون صفة فاقد العقل لذلك يعتبره البعض من أدهى أساليب الحيل لان المجتمع يعفو عن المجنون أنا مثلا أتصنع الغباء واعتبره في بعض الأحيان أخا حميم لكي يخرجني من مأزق او يخلصني من مشكلة أما الجنون فانه حيلة ما بعدها حيلة وهي أدهى بكثير من أسلوب الغباء هذا ولا يجيد هذا الدور الا أكثر الناس عقلانية او ألمعهم ذكاءا وإننا نعرف الكثيرين ممن اتخذوا الجنون طريقا لتحقيق أهدافهم ويكفي ان نضرب مثالا في البهلول (رض) حيث كان أعقل المجانين في التدبير والتأثير فنال من اعتى جبابرة الارض وأطغاهم , وبعد فان الجواسيس والعيون كانوا يتخذون من الجنون وسيلة للتغطية على شخصياتهم الحقيقة وللتخفي عن الحقيقة .
يقال ان احد كبار أزلام النظام السابق كان في زيارة لمحافظة المثنى مع وفد حكومي رفيع المستوى لغرض الاطلاع على آخر الاستعدادات والترتيبات العسكرية لتدريب المواطنين على السلاح في ما سمي وقتها بجيش القدس فبرز له مواطن أنيق يرتدي دشداشة بيضاء نظيفة و يشماغ احمر وعقال وقال"سيادة الرفيق السلام عليكم أردن أطوع بالغدس"فقال الرفيق"أي ليش لا أي واحد عراقي مسموحلة يطوع"فقال الرجل"اعرف بس هذولة ما يرضون يكلون آلة تفحص"فقال الرفيق"منو كال هذا الحجي التطوع للقدس طوعي بدون فحص"فقال الرجل "أي أستاذ يكلون اله فحص"فقال الرفيق"أي وشسويت" فقال الرجل"فحصت..بس رفضوني يكلون انتة عندك محرك ركة واحنه نريد محرك واوي حتة أسرع للشردة "فاستغرب الرفيق فقيل له ان هذا الرجل مضروب العقل وهو احد المعارضين للحكم وجن جنونه بسبب التعذيب.
وعلى هذا وذاك ارتقى المجنون رتبة عظيمة فقرن به العباقرة والأنبياء حيث نعت أكثر أهل الارض عبقريتا وعلما وأسلمهم روحا وقلبا بالجنون مثل أرسطو وأفلاطون وكذلك أكثر الأنبياء ولكنه على أي حال صفة فاقد العقل,وانى للمجنون ان ينال هذا المقام الرفيع والمرتبة السنية فليس هو على أي حال الا حيوان بشري مشرد خاصة المجنون العربي فانه مضربا في الأمثال والأقوال لذلك كتب عنه الأدباء وحاكى جراحاته الفلاسفة والشعراء ومن الذين كتبوا فيه هو الأديب مصطفى صادق الرافعي حيث ذكر في كتابه وحي القلم وهو يتحدث عن المجانين ان " المجانين قوما ظرفاء يدخلهم الفساد في عقولهم من ناحية فكرة ملازمة لا تبرح,فلا يكون جنونهم جنونا الا من هذا الوجه وسائر أحوالهم كأحوال العقلاء,غير إنهم بذلك طياشون متقلبون إذا ازدهى لم يطقه الناس من زهوه وكبريائه وتنطعه,كأنه واحد الدنيا في هذه الفكرة وكأن بينه وبين الله أسرارا,ويظن عند نفسه انه أعقل الناس في أرقى طبقات عقله,وما جنونه الا في هذه الطبقة وحدها .. الذاهب العقل كالجبان المنقطع في وحشة القفر في ظلام الليل " المجنون في الأدب العربي كان على الدوام شخصا ظريفا تساق من خلاله الحكم والمعاني الرفيعة وكأن الجنون ذكرا فلا يعرف غير الذكور رغم انه عاث بعقول الإناث فسادا .
ولا ندري ما معضلة المجانين في العراق إذ يبدو للوهلة الاولى أنهم الأكثر عددا في العالم فلا يكاد يخلو زقاق او حي من اثنين او ثلاث سألنا احد المواطنين إذا ما كان يعرف مجنونا في منطقته فأرشدنا الى أكثر من واحد ببرهة عين وبعد التقصي عرفنا ان لكل واحد قصته التي يحكيها فقررنا الدخول الى تفاصيل حياتهم الا ان اغلبهم أهاليهم منعونا من تسليط الضوء على عليهم فاضطررنا الى حجب أسمائهم الحقيقية,الحاج أبو علي 55سنة قال " دكتور سلمان كان جالسا في المقهى حينما قامت السلطة البعثية الكافرة باعتقاله لأنه قام باخفاض صوت المذياع الذي كان يذيع في وقتها خطاب صدام حسين وحكمت عليه بالجنون حيث لم يتحمل التعذيب الذي وقع عليه فتعطلت واضطربت خلايا عقله وهو الان هائم على وجهه في الأزقة والحارات لا تعرف له روية او سكينة ولا يمكن لعاقل تصديق ما يراه عن هذا الطبيب الذي صار مجنونا "
المجانين والمضطربين والمرضى بشتى الأمراض النفسية هم حصيلة دهر من الحرب والضرب والحصار والحديد والنار وليس غائبا عن القارئ الكريم حجم الضغوطات الهائلة التي تعرض لها أبنائنا وشبابنا فكانت المستشفيات العقلية على الدوام مليئة بالمرضى النفسيين من على شاكلة هذا الصنف وغيره وأيضا لا يخفى عليكم نظرة المجتمع الدونية للمريض النفسي حيث لا تفرق بينه وبين المجنون الذي هو ميئوس من عودته الى التعقل بينما المريض النفسي فهو الإنسان الذي لا يخلو من علة عقلية لكن بالإمكان معالجته والرجوع به الى وعيه الكامل .
وتذكر الروايات في المحافظة بأن خمخم احد هؤلاء المجانين كان أنسانا عاقلا سويا غير انه نام ولم يستيقظ فظن أهله أنه مات فأقيم له العزاء وأعلن عن موته فجأة بغير سابق إنذار وجاء الناس للتعزية والمشاركة في تجهيز الميت الى مثواه الأخير واخذ الميت الى المغتسل وبعدها تم تكفينه وقدموه للقبر ومع اول كف من تراب اهيل عليه استيقظ خمخم ليجد نفسه بذلك المنظر المهيب عاريا مكفنا ممددا في قبر موحش والناس في بكاء عليه فانتفض من مكانه وقد صاح صوتا عظيما فهلع الأحبة وهربت منه القربة أما هو فهلع من ساعته وجن جنونه وصار يعرف بعدها بالخمخم .
كما ومن الجدير بالذكر ان المجانيين لا يلقون اهتماما على أي مستوى ومن أي جهة واغلبهم يعيشون حياة ملئها الوحدة والإهمال وقد يعطف عليهم بعض أصحاب الخير فيقدمون لهم الطعام والملبس ويقومون بأخذهم للاستحمام او لتقليم الاضافر وحلاقة الشعر لكنهم على أي حال هائمون لا يجدون لهم راعي يهتم بأمورهم بتلك الجدية التي تشعرك انك في دولة إسلامية.

حبيبة الحسين
22-09-2011, 02:59 AM
http://www8.0zz0.com/2011/06/28/18/662827868.gif (http://www.0zz0.com)

ضياء عارف
25-09-2011, 11:13 PM
الف شكر على المرورتحياتي

ألاعلمي
26-09-2011, 02:23 AM
طرح قيم ومعبر

تقبلوا مروري

بحر الوفاء
26-09-2011, 06:37 AM
احسن (http://www.imshiaa.com/vb/../)ت طرحت فا ابدعت
رارك الله بكم وجعله في ميزان اعمالكم

ضياء عارف
26-09-2011, 04:27 PM
طرح قيم ومعبر

تقبلوا مروري


الف تحية شكرا على المرور البهي تحياتي

ضياء عارف
26-09-2011, 04:29 PM
احسنتم وبوركتم ايها الطيب
يابحر الوفاء والاخلاص
تحياتي