مصطفى السليماوي
22-09-2011, 03:11 PM
ماتت غاضبة على ظالميها
إن قضيّة الهجوم على دار الزهراء (ع) وتجميع الحطب على بابها وغير ذلك من المظالم التي لحقت بها مما تحدثت عنه المصادر التاريخية، لم يلق قبولاً لدى المسلمين بشكل عام، لما للزهراء (ع) من مكانة في نفوسهم جعلتهم يرون أن الإساءة إليها هي إساءة لرسول الله (ص) ، ما اضطر اللذين ظلماها أن يأتياها تحت تأثير الضغط العام والاستهجان الكبير لهذه الأعمال، وطلبا من علي (ع) أن يستأذن لهما بالدخول عليها ليسترضياها، فماذا كان موقفها؟
ينقل ابن قتيبة في (( الإمامة والسياسة )) أن عمر قال لأبي بكر :"انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا عليها فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إليّ من قرابتي، وإنك لأحب إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ص ؟ إلا أني سمعت أباك رسول الله (ص) يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ".
فلم تعلِّق الزهراء (ع) على قضية الميراث، لأنها كانت قد عالجت هذه المسألة مفصلاً في خطبتها ـ التي سيأتي شرحها ـ لكنها أرادت أن تقيم الحجة عليهما في ما عرض لها من أذى وظلامة وإساءة، فقالت: "أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله(ص) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله(ص) يقول:رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ ابنتي فاطمة أحبني ومن أسخط فاطمة أسخطني، قالا : نعم، سمعناه من رسول الله (ص) ، فقالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه، فقال: أبو بكر: وأنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة، وهي تقول:والله لأدعونّ عليك في كل صلاة أصليها"[68].
وفي رواية أخرى ينقلها العلامة المجلسي في بحار الأنوار أنها (ع) قالت لهما: "أنشدكما بالله ، هل سمعتما النبي(ص) يقول: فاطمة بضعة مني وأنا بضعة منها من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟ قالا:اللهم نعم، فقالت: الحمد لله".
ثم قالت: "اللهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني، أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي"[69].
وهكذا وبكل قوة وشجاعة احتجت الزهراء (ع) عليهما وسجّلت عليهما أنهما أغضباها وأغضبا بذلك رسول الله (ص) ومن فوق ذلك أغضبا الله سبحانه وتعالى، وبقي غضبها (ع) جرحاً نازفاً في قلب أبنائها ومحبيها، وقد سئل عبد الله بن الحسن عن الشيخين فقال: "كانت أمنا صدّيقة ابنة نبي مرسل، وماتت وهي غضبى على قوم فنحن غضاب لغضبها".
أتموت البتول غضبى ونرضى ما كذا يصنع البنون الكرام[70]
دفنها ليلاً
ولم يقف احتجاجها عند هذا الحد، بل إنها واصلت رحلة الاحتجاج إلى حين موتها، وكانت قمة احتجاجاتها بالحق أنها أوصت علياً(ع) أن يدفنها ليلاً[71]، وأن لا يحضر جنازتها الذين ظلموها واضطهدوها وسلبوها حقها. ولقد أرادت أن تعبر عن معارضتها ومجابهتها للعدوان والظلم حتى بعد الموت، كما عبّرت عن ذلك حال الحياة، وأرادته احتجاجاً غاضباً قاسياً، لكنه واعٍ وبالأساليب الحكيمة والحجج المقنعة والمواقف القوية، لأن الناس سينطلقون بالتساؤل: لماذا تدفن بنت النبي (ص) ليلاً؟ لماذا أوصت بذلك؟ وما هي القضية، فهذا لم يسبق له مثيل في الواقع الإسلامي، والجميع كانوا ينتظرون المشاركة في تشييع بنت نبيهم، وإذا بها تشيّع وتدفن ليلاً ويقال لهم إن ذلك كان التزاماً بوصيتها !
وهكذا يبدأ التساؤل ويكثر في أوساط المسلمين لماذا ولماذا؟ وهذا ما تريده الزهراء (ع) ، لتستيقظ الضمائر ويعرف المغفّلون طبيعة اللعبة ومجريات الأمور .
تسوية قبرها
وكان من جملة وصاياها التي أوصت بها أمير المؤمنين(ع) أن يسوِّي قبرها ويخفيه، ليكون ذلك دليلاً وشاهداً على كل الظلم الذي لحق بها، والاضطهاد الذي تعرضت له، ولتخلّد بذلك احتجاجها على القوم الذين ظلموها[72].
وعمل علي (ع) بوصيتها هذه، فدفنها ليلاً وعفى موضع القبر.
موضع قبرها
وبقي موضع قبرها مجهولاً، ولم يستطع أحد التعرف عليه، وقد ورد تعيينه في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام )، ففي بعضها أنّها دفنت في بيتها[73]، وفي البعض الآخر أنها دفنت في الروضة، واختاره بعض العلماء وأيّده بالرواية المعروفة: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"[74]، وهناك قول ثالث يرى أنها دفنت في البقيع، وهو مروي أيضاً[75].
منعها فدكاَ
مما أسيء به إلى الزهراء(ع) منعها فدكاً التي هي حق من حقوقها، كما يؤكد ذلك التاريخ السني والشيعي. فقد ذكر علماء الفريقين ومنهم السيوطي في ((الدر المنثور)) في تفسير قوله تعالى:{وآت ذا القربى حقه}[الإسراء126] ،أنه لما نزلت الآية، نحل الرسول ابنته فاطمة فدكاً التي كانت له ممّا صالحه اليهود عليه في حربه معهم[76]. والظاهر أن حق فاطمة(ع) في فدك كان معروفاً لدى المسلمين في الامتداد التاريخي، لذلك رأينا أن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة أموي، أرجع فدكاً إلى أهل البيت[77]، ثم أخذت منهم وجاء أبو العباس السفّاح أول خلفاء بني العباس وأرجعها إليهم، حتى إذا استولى المنصور على الخلافة أخذها ثم ردها المهدي ثم قبضها المهدي وهارون، فلم تزل في أيديهم إلى أن ولي المأمون فردّها على الفاطميين[78]. حتى قال الشاعر في ذلك:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا بردِّ مأمـون هاشم فدكـا
والأدلة على ملكية الزهراء لفدك كثيرة ولا تكاد تخفى، وقد شهد لها بذلك بعض المسلمين، ومنهم أمير المؤمنين(ع)، وأم أيمن، لكن شهادتهم لم تقبل[79]! ولم يكن من حجّة معارضة إلا حديث رواه أبو بكر عن النبي(ص) يقول فيه: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة"[80].
والمفارقة التي تقف أمام هذه الحجة مضافاً إلى معارضتها للقرآن الكريم ـ كما سيأتي تفصيله في شرح خطبتها(ع) ـ:
أولاً: أن هذا الحديث ـ "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" ـ قد تفرد أبو بكر بروايته، والزهراء(ع) تنفي صدوره عن النبي (ص) من خلال موقفها.
ثانياً: أن رسول الله(ص) الذي كان يحب فاطمة أعظم الحب، ويقيها من كل سوء، كيف لم يخبرها بهذا الحكم الشرعي المخالف لعموم القرآن، والدالّ ـ أي القرآن ـ على أن الأنبياء يرثون ويورّثون؟ كيف لم يخبرها بذلك مع أن هذا الحديث يرتبط بها بشكل مباشر، بل هي مصداقه الأبرز؟! فكيف لا يخبر حبيبته ويجنّبها المتاعب؟
ثالثاً: إذا كان المسلمون متفقين على أن فاطمة هي سيدة نساء العالمين أو على الأقل سيدة نساء عالمها[81]، فهل يمكن أن تتحدث سيدة نساء العالمين كذباً أو لغواً أو تخالف حديثاً صادراً عن أبيها رسول الله(ص) ؟! أو ترتبط في موقفها من القيادة الإسلامية المتمثلة بأمير المؤمنين(ع) ارتباطاً عاطفياً يبتعد عن الحق؟!
لو أنصف المسلمون أنفسهم لرأوا في موقف الزهراء(ع) الحجة البالغة التي يلزم الأخذ بها من دون نقاش، لأن سيدة نساء العالمين أو سيدة نساء عالمها أو سيدة نساء المؤمنين، لا يمكن إلا أن تكون مع الحق ويكون الحق معها، ولقد قلنا هذا القول بالنسبة للإمامين الحسنين(ع) ، فإن شرعية موقف الإمام الحسن(ع) في صلحه وحربه، وشرعية موقف الحسين(ع) في ثورته، يكفي عليها دليلاً أنهما وباتفاق المسلمين جميعاً سيدا شباب أهل الجنة، ولا يمكن لسيد شباب أهل الجنة أن ينحرف عن الخط الإسلامي، بل لا بد أن يكون موقفه وخطه هو الموقف الإسلامي والخط الإسلامي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
رابعاً: أنه لم يردنا عن تاريخ كل الأنبياء أنهم لم يورّثوا شيئاً وأن ما يتركونه فهو صدقة، مع أنه لو كان الأمر عند الأنبياء (ع) بأنهم لا يورّثون كما نص هذا الحديث، لوصلنا شيء من ذلك، ولعرف ولو عند أهل الأديان الأخرى وذكر في كتبهم، مع أن ذلك لم يحصل.
خامساً: ثم أيعقل أن يخاصم علي (ع) في أمر فدك ويتهم القوم بالظلم والخيانة[82] محاباة لزوجته؟!كيف والنبي(ص) يقول: "الحق مع علي بن أبي طالب حيث دار"[83]؟! ويقول(ص): "علي مع الحق والحق مع علي"[84]، وكيف يخفى على علي أن النبي لا يورث وهو باب مدينة علم الرسول وحكمته، والذي لازم الرسول بما لم يفز به غيره من الصحابة؟!
سادساً: يذكر المؤرِّخون ـ كما سيأتي ـ أن فدك كانت في يد الزهراء (ع)، وهي إنما طالبت في بداية الأمر بها على أساس أنها نحلة أبيها وهبها لها في حياته، فلا يشملها الحديث المزعوم لأبي بكر، لأنه ينفي الميراث وهي تدّعي النحلة .
لماذا لم يسترجع علي(ع) فدكاً؟
ولكن قد يعترض على ما تقدم بأنه إذا كانت فدك حقّاً لفاطمة (ع) فلمَ لم يسترجعها علي (ع) بعد تولي أمور المسلمين؟
وقد أجاب الإمام الرضا(ع) على هذا التساؤل وفي جوابه كفاية، وإليك الرواية كما أوردها الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا(ع) ، حيث سأله الحسن بن علي بن فضال(ع) عن أمير المؤمنين: لمَ لمْ يسترجع فدك لما ولي أمر الناس؟ فقال: "لأنا أهل بيت إذا ولاّنا الله عز وجل لا يأخذ لنا حقوقنا ممّن ظلمنا إلا هو، ونحن أولياء المؤمنين إنما نحكم لهم ونأخذ لهم حقوقهم ممن يظلمهم ولا نأخذ لأنفسنا"[85]. فالإمام الرضا(ع) يقول لابن فضال إنه كان بإمكان الإمام علي(ع) استرجاع فدك، لكنه كان يرى أن مسؤوليته هي أن يأخذ للناس حقوقهم ممّن ظلمهم ولا يأخذ حقه ممن ظلمه، وهذا أسلوب مميز لأهل البيت في مسألة التعامل مع حقهم المغتصب، وحاصله أن مهمة الأئمة(ع) أن يطالبوا بحقوق الناس لا بحقوقهم، فإن الله تعالى هو الذي يأخذ لهم بحقهم من خلال الظروف التي يحققها لاسترجاعه، أما هم فلا يباشرون ذلك، ربما لكي لا يقول قائل إنهم اتخذوا الحكم وسيلة لتحقيق مطالبهم ومآربهم الخاصة
إن قضيّة الهجوم على دار الزهراء (ع) وتجميع الحطب على بابها وغير ذلك من المظالم التي لحقت بها مما تحدثت عنه المصادر التاريخية، لم يلق قبولاً لدى المسلمين بشكل عام، لما للزهراء (ع) من مكانة في نفوسهم جعلتهم يرون أن الإساءة إليها هي إساءة لرسول الله (ص) ، ما اضطر اللذين ظلماها أن يأتياها تحت تأثير الضغط العام والاستهجان الكبير لهذه الأعمال، وطلبا من علي (ع) أن يستأذن لهما بالدخول عليها ليسترضياها، فماذا كان موقفها؟
ينقل ابن قتيبة في (( الإمامة والسياسة )) أن عمر قال لأبي بكر :"انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا عليها فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلّماه فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله، والله إن قرابة رسول الله أحب إليّ من قرابتي، وإنك لأحب إليّ من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني متّ ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ص ؟ إلا أني سمعت أباك رسول الله (ص) يقول : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ".
فلم تعلِّق الزهراء (ع) على قضية الميراث، لأنها كانت قد عالجت هذه المسألة مفصلاً في خطبتها ـ التي سيأتي شرحها ـ لكنها أرادت أن تقيم الحجة عليهما في ما عرض لها من أذى وظلامة وإساءة، فقالت: "أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله(ص) تعرفانه وتفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت: نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله(ص) يقول:رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ ابنتي فاطمة أحبني ومن أسخط فاطمة أسخطني، قالا : نعم، سمعناه من رسول الله (ص) ، فقالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونّكما إليه، فقال: أبو بكر: وأنا عائذ بالله من سخطه وسخطك يا فاطمة، وهي تقول:والله لأدعونّ عليك في كل صلاة أصليها"[68].
وفي رواية أخرى ينقلها العلامة المجلسي في بحار الأنوار أنها (ع) قالت لهما: "أنشدكما بالله ، هل سمعتما النبي(ص) يقول: فاطمة بضعة مني وأنا بضعة منها من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟ قالا:اللهم نعم، فقالت: الحمد لله".
ثم قالت: "اللهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني، أنهما قد آذياني في حياتي وعند موتي"[69].
وهكذا وبكل قوة وشجاعة احتجت الزهراء (ع) عليهما وسجّلت عليهما أنهما أغضباها وأغضبا بذلك رسول الله (ص) ومن فوق ذلك أغضبا الله سبحانه وتعالى، وبقي غضبها (ع) جرحاً نازفاً في قلب أبنائها ومحبيها، وقد سئل عبد الله بن الحسن عن الشيخين فقال: "كانت أمنا صدّيقة ابنة نبي مرسل، وماتت وهي غضبى على قوم فنحن غضاب لغضبها".
أتموت البتول غضبى ونرضى ما كذا يصنع البنون الكرام[70]
دفنها ليلاً
ولم يقف احتجاجها عند هذا الحد، بل إنها واصلت رحلة الاحتجاج إلى حين موتها، وكانت قمة احتجاجاتها بالحق أنها أوصت علياً(ع) أن يدفنها ليلاً[71]، وأن لا يحضر جنازتها الذين ظلموها واضطهدوها وسلبوها حقها. ولقد أرادت أن تعبر عن معارضتها ومجابهتها للعدوان والظلم حتى بعد الموت، كما عبّرت عن ذلك حال الحياة، وأرادته احتجاجاً غاضباً قاسياً، لكنه واعٍ وبالأساليب الحكيمة والحجج المقنعة والمواقف القوية، لأن الناس سينطلقون بالتساؤل: لماذا تدفن بنت النبي (ص) ليلاً؟ لماذا أوصت بذلك؟ وما هي القضية، فهذا لم يسبق له مثيل في الواقع الإسلامي، والجميع كانوا ينتظرون المشاركة في تشييع بنت نبيهم، وإذا بها تشيّع وتدفن ليلاً ويقال لهم إن ذلك كان التزاماً بوصيتها !
وهكذا يبدأ التساؤل ويكثر في أوساط المسلمين لماذا ولماذا؟ وهذا ما تريده الزهراء (ع) ، لتستيقظ الضمائر ويعرف المغفّلون طبيعة اللعبة ومجريات الأمور .
تسوية قبرها
وكان من جملة وصاياها التي أوصت بها أمير المؤمنين(ع) أن يسوِّي قبرها ويخفيه، ليكون ذلك دليلاً وشاهداً على كل الظلم الذي لحق بها، والاضطهاد الذي تعرضت له، ولتخلّد بذلك احتجاجها على القوم الذين ظلموها[72].
وعمل علي (ع) بوصيتها هذه، فدفنها ليلاً وعفى موضع القبر.
موضع قبرها
وبقي موضع قبرها مجهولاً، ولم يستطع أحد التعرف عليه، وقد ورد تعيينه في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام )، ففي بعضها أنّها دفنت في بيتها[73]، وفي البعض الآخر أنها دفنت في الروضة، واختاره بعض العلماء وأيّده بالرواية المعروفة: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"[74]، وهناك قول ثالث يرى أنها دفنت في البقيع، وهو مروي أيضاً[75].
منعها فدكاَ
مما أسيء به إلى الزهراء(ع) منعها فدكاً التي هي حق من حقوقها، كما يؤكد ذلك التاريخ السني والشيعي. فقد ذكر علماء الفريقين ومنهم السيوطي في ((الدر المنثور)) في تفسير قوله تعالى:{وآت ذا القربى حقه}[الإسراء126] ،أنه لما نزلت الآية، نحل الرسول ابنته فاطمة فدكاً التي كانت له ممّا صالحه اليهود عليه في حربه معهم[76]. والظاهر أن حق فاطمة(ع) في فدك كان معروفاً لدى المسلمين في الامتداد التاريخي، لذلك رأينا أن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة أموي، أرجع فدكاً إلى أهل البيت[77]، ثم أخذت منهم وجاء أبو العباس السفّاح أول خلفاء بني العباس وأرجعها إليهم، حتى إذا استولى المنصور على الخلافة أخذها ثم ردها المهدي ثم قبضها المهدي وهارون، فلم تزل في أيديهم إلى أن ولي المأمون فردّها على الفاطميين[78]. حتى قال الشاعر في ذلك:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا بردِّ مأمـون هاشم فدكـا
والأدلة على ملكية الزهراء لفدك كثيرة ولا تكاد تخفى، وقد شهد لها بذلك بعض المسلمين، ومنهم أمير المؤمنين(ع)، وأم أيمن، لكن شهادتهم لم تقبل[79]! ولم يكن من حجّة معارضة إلا حديث رواه أبو بكر عن النبي(ص) يقول فيه: "نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة"[80].
والمفارقة التي تقف أمام هذه الحجة مضافاً إلى معارضتها للقرآن الكريم ـ كما سيأتي تفصيله في شرح خطبتها(ع) ـ:
أولاً: أن هذا الحديث ـ "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" ـ قد تفرد أبو بكر بروايته، والزهراء(ع) تنفي صدوره عن النبي (ص) من خلال موقفها.
ثانياً: أن رسول الله(ص) الذي كان يحب فاطمة أعظم الحب، ويقيها من كل سوء، كيف لم يخبرها بهذا الحكم الشرعي المخالف لعموم القرآن، والدالّ ـ أي القرآن ـ على أن الأنبياء يرثون ويورّثون؟ كيف لم يخبرها بذلك مع أن هذا الحديث يرتبط بها بشكل مباشر، بل هي مصداقه الأبرز؟! فكيف لا يخبر حبيبته ويجنّبها المتاعب؟
ثالثاً: إذا كان المسلمون متفقين على أن فاطمة هي سيدة نساء العالمين أو على الأقل سيدة نساء عالمها[81]، فهل يمكن أن تتحدث سيدة نساء العالمين كذباً أو لغواً أو تخالف حديثاً صادراً عن أبيها رسول الله(ص) ؟! أو ترتبط في موقفها من القيادة الإسلامية المتمثلة بأمير المؤمنين(ع) ارتباطاً عاطفياً يبتعد عن الحق؟!
لو أنصف المسلمون أنفسهم لرأوا في موقف الزهراء(ع) الحجة البالغة التي يلزم الأخذ بها من دون نقاش، لأن سيدة نساء العالمين أو سيدة نساء عالمها أو سيدة نساء المؤمنين، لا يمكن إلا أن تكون مع الحق ويكون الحق معها، ولقد قلنا هذا القول بالنسبة للإمامين الحسنين(ع) ، فإن شرعية موقف الإمام الحسن(ع) في صلحه وحربه، وشرعية موقف الحسين(ع) في ثورته، يكفي عليها دليلاً أنهما وباتفاق المسلمين جميعاً سيدا شباب أهل الجنة، ولا يمكن لسيد شباب أهل الجنة أن ينحرف عن الخط الإسلامي، بل لا بد أن يكون موقفه وخطه هو الموقف الإسلامي والخط الإسلامي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
رابعاً: أنه لم يردنا عن تاريخ كل الأنبياء أنهم لم يورّثوا شيئاً وأن ما يتركونه فهو صدقة، مع أنه لو كان الأمر عند الأنبياء (ع) بأنهم لا يورّثون كما نص هذا الحديث، لوصلنا شيء من ذلك، ولعرف ولو عند أهل الأديان الأخرى وذكر في كتبهم، مع أن ذلك لم يحصل.
خامساً: ثم أيعقل أن يخاصم علي (ع) في أمر فدك ويتهم القوم بالظلم والخيانة[82] محاباة لزوجته؟!كيف والنبي(ص) يقول: "الحق مع علي بن أبي طالب حيث دار"[83]؟! ويقول(ص): "علي مع الحق والحق مع علي"[84]، وكيف يخفى على علي أن النبي لا يورث وهو باب مدينة علم الرسول وحكمته، والذي لازم الرسول بما لم يفز به غيره من الصحابة؟!
سادساً: يذكر المؤرِّخون ـ كما سيأتي ـ أن فدك كانت في يد الزهراء (ع)، وهي إنما طالبت في بداية الأمر بها على أساس أنها نحلة أبيها وهبها لها في حياته، فلا يشملها الحديث المزعوم لأبي بكر، لأنه ينفي الميراث وهي تدّعي النحلة .
لماذا لم يسترجع علي(ع) فدكاً؟
ولكن قد يعترض على ما تقدم بأنه إذا كانت فدك حقّاً لفاطمة (ع) فلمَ لم يسترجعها علي (ع) بعد تولي أمور المسلمين؟
وقد أجاب الإمام الرضا(ع) على هذا التساؤل وفي جوابه كفاية، وإليك الرواية كما أوردها الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا(ع) ، حيث سأله الحسن بن علي بن فضال(ع) عن أمير المؤمنين: لمَ لمْ يسترجع فدك لما ولي أمر الناس؟ فقال: "لأنا أهل بيت إذا ولاّنا الله عز وجل لا يأخذ لنا حقوقنا ممّن ظلمنا إلا هو، ونحن أولياء المؤمنين إنما نحكم لهم ونأخذ لهم حقوقهم ممن يظلمهم ولا نأخذ لأنفسنا"[85]. فالإمام الرضا(ع) يقول لابن فضال إنه كان بإمكان الإمام علي(ع) استرجاع فدك، لكنه كان يرى أن مسؤوليته هي أن يأخذ للناس حقوقهم ممّن ظلمهم ولا يأخذ حقه ممن ظلمه، وهذا أسلوب مميز لأهل البيت في مسألة التعامل مع حقهم المغتصب، وحاصله أن مهمة الأئمة(ع) أن يطالبوا بحقوق الناس لا بحقوقهم، فإن الله تعالى هو الذي يأخذ لهم بحقهم من خلال الظروف التي يحققها لاسترجاعه، أما هم فلا يباشرون ذلك، ربما لكي لا يقول قائل إنهم اتخذوا الحكم وسيلة لتحقيق مطالبهم ومآربهم الخاصة