د. حامد العطية
12-10-2011, 04:08 AM
هل السلفية قبوريون؟
د. حامد العطية
قبل سنوات قلائل حضرت اجتماعاً بإحدى المؤسسات السعودية بصفتي مستشارها الإداري، ويومها خاطب مدير المؤسسة ( واليوم هو وزير) الوزير المشرف على المؤسسة آنذاك (ولم يعد وزيراً) بأنه في هذه الجهة من القاعة - أي الجهة التي جلس فيها الوزيران السابق واللاحق – يتواجد السلفية وفي الجهة الثانية حيث كنت جالساً هنالك القبوريون، قالها مع ابتسامة، ليبين بأنها مزحة، فيخف وقعها، ولكن الوزير السابق لم يبتسم، فهو من دعاة الحداثة والتغيير ومكروه ومحارب من السلفية، وإن كان بالطبع لا يتعاطف مع القبوريين أمثالي، ويبدو بأن السلفية نجحوا في آخر المطاف بتنحيته عن الوزارة، بعد أن كان من المقربين للملك عبد الله.
أنا لست فقيهاً، ولا من طلاب العلوم الشرعية، ولم أدرس علم الكلام، ولكني أكره أن يتهمني أحد بالقبورية والشرك في عبادة الله، وهدفي من كتابة هذا المقال البحث في افتراض أن يكون السلفية أنفسهم قبوريين.
اثناء إحدى زيارتي للمسجد النبوي اقتربت من الشباك المعدني المطل على داخل قبر الرسول الأعظم فانتهرني شيخ وهابي يقف هنالك طالباً مني الاكتفاء بالسلام على الرسول وصاحبيه فمضيت، فالواضح أن المسجد النبوي يضم داخل جدرانه ثلاثة قبور، ووفقاً لعقيدة السلفية هذا أمر منهي عنه بحديث نبوي: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وحكم إمام السلفية الأكبر إبن تيمية في ذلك هو : "ويحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبنيها ويتعين إزالتها"، والمؤكد أن السلفيين يعتبرون بناء القبور والأضرحة وتشييد المساجد عليها وزيارتها للتبرك بالمدفونين فيها أخطر أنواع الشرك، والتي في اعتقادهم تخرج الفرد من التوحيد، ويعتبرون هذه الأضرحة بمثابة أوثان، أشبه بتلك التي عبدها أسلاف العرب في الجاهلية، ويحكمون على المسلمين الذين يخالفونهم في ذلك بالشرك، وبالذات الشيعة والصوفية، كما يرون لزاماً عليهم منع هذه الممارسات بشتى الطرق بما في ذلك استعمال العنف والقسر، لذا عمدوا لهدم أوتخريب أضرحة الأولياء ومنع الناس من زيارتها، غير عابئين باستنكار وسخط الآخرين، وفي التاريخ القريب وزمننا الحالي نشط السلفيون من أتباع السعودي محمد بن عبد الوهاب وامتداداتهم في الدول العربية والاسلامية بما في ذلك السعودية والعراق ومصر والبحرين والباكستان وأفغانستان والصومال في هدم عدد غير قليل من الأضرحة، وهم مصممون على هدمها جميعاً لو استطاعوا ذلك.
ولكن ماذا عن المسجد النبوي الذي يضم ثلاثة قبور؟ يقول السلفيون بأن القبور كانت خارج المسجد فأدخلها عمر بن عبد العزيز بأمر من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، فإذا كان ذلك الأمرمخالفاً لملة التوحيد فلم نفذه من يسمونه بالخليفة الراشدي الرابع عمر بن عبد العزيز ولماذا لم يتصدى له فقهاء المدينة، وفيهم آنذاك سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة بن الزبير وأبان بن عثمان فيمنعونه أو على الأقل يكتبون للخليفة في الشام وينصحونه بالعدول عن ذلك لأنه من أعمال المشركين؟ يدعي السلفيون بأن سعيد بن المسيب أنكر ذلك بقوله: " والله لوددت أنهم تركوها على حالها"، وهذا الادعاء إهانة لعقول الناس، فهو تعبير عن تفضيله لبناء المسجد السابق الذي استخدم فيه اللبن وجريد النخل، كما ليس التمني إنكاراً يتناسب مع عظم المخالفة التي اقترفها الحاكم الأموي الوليد ونائبه عمر بن عبد العزيز، وحتى الإنكار هنا غير كاف، لأن المطلوب هو التصدي بكل قوة وتصميم، ومن المعروف بأن السلفية يعدون فقهاء المدينة في ذلك الزمن مثل سعيد بن المسيب في عداد السلف الصالح الأكثر علماً وفهماً للدين والأشد حرصاً على التوحيد، فهل يبطل سكوت السلف الصالح على ادخال القبور ضمن المسجد النبوي الاعتقاد بأعلمية السلف فيكون السلفية المبادرون اليوم لهدم الأضرحة والمساجد التي تحتوي قبوراً غير آبهين بعقوبات السلطة وغضب المستنكرين أكثر تديناً من سلفهم الصالح؟ أما تعذرهم بأن الخليفة الأموي " ذو شوكة وسلطان" (انحرافات القبوريين: الداء الدواء، الجزء الأول، ص 22) فمرفوض لأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما إن الملك السعودي السلفي ذو شوكة وسلطان وأمره نافذ فلم لا يأمر بتطبيق عقيدة السلفية على المسجد النبوي؟
يستشهد السلفيون ومنهم ابن تيمية في فتاويه (الجزء الخامس، ص 450) ومحي الدين البركوي في كتابه زيارة القبور (الجزء الأول، ص 30) على صحة عقيدتهم بطمس الصحابة قبر النبي دانيال عليه السلام، والرواية مذكورة في كتاب السيرة النبوية لأبي إسحاق (الجزء الأول ص 17): "حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: نا أبو العالية قال: لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ فقال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس، لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عليهم، برزوا بسريره فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير بشيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع".
وفي تعليق لأحد علماء السلفية وهو البركوي (المصدر السابق) كتب:" ... فانظر القصة وما فعله المهاجرون والأنصار كيف سعوا في تعمية قبره فئلا يفتن الناس به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به هؤلاء الخلوف لحاربوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله تعالى فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يدانيه ولا يقاربه وبنوا عليها الهياكل وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد ."
ويتبين من الرواية وخلافاً لفهم البركوي وغيره من السلفية بأنهم دفنوا النبي دانيال لأن جثمانه كان مخزوناً في بيت مال الهرمزان، وليس من المقبول بقاء جثمان ميت من دون دفن، فما بالك إن كان جثمان نبي، وهم موهوا قبر النبي دانيال لئلا ينبشه الناس، عندما ينحبس عنهم المطر لا خشية من تعظيمهم له، فلا يجوز نبش الموتى، كما تدحض الرواية عقيدة السلفية بخصص بطلان التوسل بالموتى لأن الناس كانوا يستمطرون بجثمانه فيهطل عليهم المطر، مما يؤكد استجابة الله لتوسلهم بالنبي دانيال، حتى وإن لم يكن الهرمزان وأتباعه من اليهود، فهذه الرواية التي يستند إليها السلفية قاصمة لعقيدتهم لا لعقائد مخالفيهم.
ونعود للمسجد النبوي، فهو وداخله قبر النبي وأبي بكر وعمر يندرج في عداد المساجد المنهي عنها وفقاً لعقيدة السلفية، ولا جدال في أن الخليفة الأموي هو من أدخل القبور في المسجد وأن سلطاناً مملوكياً بنى القبة عليه، فالمهم أنه في حالته الحاضرة مخالف لشروط المسجد في عقيدة السلفية، وقد هدموا مساجد مثله في بلاد كثيرة، لاعتقادهم بأنها مدعاة للشرك بالله، والحكومة السعودية هي الدولة المسلمة الوحيدة التي تحكم وفق مذهب السلفية، وملكها يتلقب بخادم الحرمين الشريفين، فهل يقبل حاكم البلد السلفي الوحيد أن يكون خادماً لمسجد داخله قبور؟ يبرر السلفية في السعودية سكوتهم على ذلك بأنه اتقاءً للفتنة، ويشير أحد المصادر السلفية بأن جيش الملك عبد العزيز المعروف بالأخوان كادوا أن يهدموا القبة المبنية على قبر النبي عند احتلالهم للمدينة المنورة " لكنهم خشوا من قيام فتنة أعظم من إزالة القبة" ( كتاب انحرافات القبوريين: الداء الدواء، الجزء الأول، ص 23)، وهذه حجة سقيمة ومردودة لأنه إن كان وجود القبة مظهر من مظاهر الشرك فلا عذر للإبقاء عليها، ولنتذكر هنا أن السيدة عائشة والألاف من الصحابة توجهوا إلى الكوفة ليطالبوا خليفة المسلمين الإمام علي عليه السلام بتسليمهم قتلة عثمان غير عابئين بما قد يتسببه ذلك من فتن وكذلك فعل أتباع والي الشام معاوية بن ابي سفيان، وقد حدثت الفتنة بالفعل كما يسميها السلفية، وسفكت دماء المسلمين المحرمة، وهؤلاء هم السلف الصالح الذين يقتدي بهم السلفية ويأخذون منهم دينهم، وبالتأكيد فإن الحفاظ على عقيدة التوحيد وإزالة المظاهر المخالفة لها من المسجد النبوي أهم من الاقتصاص من قتلة عثمان، ولا عذر لحكام السلفية وعلماؤهم في السعودية في امتناعهم عن تطبيق عقيدتهم على المسجد النبوي، إن كانوا فعلاً متمسكين بها، وهم في تركهم لهذا الأمر أباحوا لمئات الملايين من المسلمين الذين قصدوا مسجد الرسول حاجين ومعتمرين ارتكاب إثم عظيم، وفقاً لعقيدتهم، وهم بالتالي مشاركون في إثمهم.
يعد سكوت السلفية في السعودية من حكام وعلماء وأتباع على المسجد النبوي في حالته الراهنة وفقاً لمذهبهم مخالفة جسيمة لعقيدة السلفية، وعليهم الاختيار بين البدائل التالية:
أولاً: اخراج القبور من المسجد بصورة جلية وهدم القبة حتى نشهد للسلفية بأنهم يقرنون الفعل بالقول وبأنهم مخلصون لعقيدتهم، وإن كان ذلك سيؤدي حتماً إلى زوال ملك السعوديين السلفي ونهاية مملكتهم وإبادة قواتهم واستئصال السلفية من البلدان الإسلامية.
ثانياً: التخلي عن عقائد السلفية التي تكفر غيرهم من المسلمين بسبب تعظيمهم لأولياء الله الصالحين.
ثالثاً: تنحي آل سعود وعلماؤهم وأتباعهم من السلفية عن السلطة في ما يعرف اليوم بالمملكة السعودية وبصورة تامة ونهائية لأنهم غير قادرين على تغيير وضع المسجد النبوي، وهكذا يتخلصون من المسؤولية عن استمرار هذا الوضع وما يجره من إثم عظيم حسب معتقدهم.
رابعاً: الإبقاء على الوضع الحالي وهو دليل قطعي على أن السلفية يقدمون مصالحهم الذاتية على عقيدتهم، وبأنهم قبوريون بالفعل وإن تنصلوا عن ذلك بالقول، وهذا نفاق صريح.
أجزم أن اختيار السلفية للبديل الأول من رابع المستحيلات لأن ذلك سيقود حتماً إلى زوال ملك آل سعود ونهاية سيطرة السلفية على مملكتهم، كما لن يتخلوا عن عقيدتهم التكفيرية، التي من دونها لا مبرر لوجود مذهبهم على الإطلاق، كما من المحال أن يتنازل آل سعود وعلماء البلاط طوعاً عن مناصبهم، لذا سيبقى الوضع الحالي كما هو، وإذا كان الشيعة الذين يصفهم السلفية بالقبوريين رافضين لعقيدة السلفية ولا يرون في ممارساتهم أي مخالفة لعقيدة التوحيد وبالتالي يعتبرون هذا الوصف تهمة باطلة أو مسبة فإن السلفية وعلى أساس ما تقدم من أدلة قبوريون، وعقيدتهم تحكم عليهم بذلك، وإن أنكروا ذلك بالقول، فهم قبوريون بالفعل، والله أعلم.
11 تشرين الأول 2011م
د. حامد العطية
قبل سنوات قلائل حضرت اجتماعاً بإحدى المؤسسات السعودية بصفتي مستشارها الإداري، ويومها خاطب مدير المؤسسة ( واليوم هو وزير) الوزير المشرف على المؤسسة آنذاك (ولم يعد وزيراً) بأنه في هذه الجهة من القاعة - أي الجهة التي جلس فيها الوزيران السابق واللاحق – يتواجد السلفية وفي الجهة الثانية حيث كنت جالساً هنالك القبوريون، قالها مع ابتسامة، ليبين بأنها مزحة، فيخف وقعها، ولكن الوزير السابق لم يبتسم، فهو من دعاة الحداثة والتغيير ومكروه ومحارب من السلفية، وإن كان بالطبع لا يتعاطف مع القبوريين أمثالي، ويبدو بأن السلفية نجحوا في آخر المطاف بتنحيته عن الوزارة، بعد أن كان من المقربين للملك عبد الله.
أنا لست فقيهاً، ولا من طلاب العلوم الشرعية، ولم أدرس علم الكلام، ولكني أكره أن يتهمني أحد بالقبورية والشرك في عبادة الله، وهدفي من كتابة هذا المقال البحث في افتراض أن يكون السلفية أنفسهم قبوريين.
اثناء إحدى زيارتي للمسجد النبوي اقتربت من الشباك المعدني المطل على داخل قبر الرسول الأعظم فانتهرني شيخ وهابي يقف هنالك طالباً مني الاكتفاء بالسلام على الرسول وصاحبيه فمضيت، فالواضح أن المسجد النبوي يضم داخل جدرانه ثلاثة قبور، ووفقاً لعقيدة السلفية هذا أمر منهي عنه بحديث نبوي: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وحكم إمام السلفية الأكبر إبن تيمية في ذلك هو : "ويحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبنيها ويتعين إزالتها"، والمؤكد أن السلفيين يعتبرون بناء القبور والأضرحة وتشييد المساجد عليها وزيارتها للتبرك بالمدفونين فيها أخطر أنواع الشرك، والتي في اعتقادهم تخرج الفرد من التوحيد، ويعتبرون هذه الأضرحة بمثابة أوثان، أشبه بتلك التي عبدها أسلاف العرب في الجاهلية، ويحكمون على المسلمين الذين يخالفونهم في ذلك بالشرك، وبالذات الشيعة والصوفية، كما يرون لزاماً عليهم منع هذه الممارسات بشتى الطرق بما في ذلك استعمال العنف والقسر، لذا عمدوا لهدم أوتخريب أضرحة الأولياء ومنع الناس من زيارتها، غير عابئين باستنكار وسخط الآخرين، وفي التاريخ القريب وزمننا الحالي نشط السلفيون من أتباع السعودي محمد بن عبد الوهاب وامتداداتهم في الدول العربية والاسلامية بما في ذلك السعودية والعراق ومصر والبحرين والباكستان وأفغانستان والصومال في هدم عدد غير قليل من الأضرحة، وهم مصممون على هدمها جميعاً لو استطاعوا ذلك.
ولكن ماذا عن المسجد النبوي الذي يضم ثلاثة قبور؟ يقول السلفيون بأن القبور كانت خارج المسجد فأدخلها عمر بن عبد العزيز بأمر من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، فإذا كان ذلك الأمرمخالفاً لملة التوحيد فلم نفذه من يسمونه بالخليفة الراشدي الرابع عمر بن عبد العزيز ولماذا لم يتصدى له فقهاء المدينة، وفيهم آنذاك سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة بن الزبير وأبان بن عثمان فيمنعونه أو على الأقل يكتبون للخليفة في الشام وينصحونه بالعدول عن ذلك لأنه من أعمال المشركين؟ يدعي السلفيون بأن سعيد بن المسيب أنكر ذلك بقوله: " والله لوددت أنهم تركوها على حالها"، وهذا الادعاء إهانة لعقول الناس، فهو تعبير عن تفضيله لبناء المسجد السابق الذي استخدم فيه اللبن وجريد النخل، كما ليس التمني إنكاراً يتناسب مع عظم المخالفة التي اقترفها الحاكم الأموي الوليد ونائبه عمر بن عبد العزيز، وحتى الإنكار هنا غير كاف، لأن المطلوب هو التصدي بكل قوة وتصميم، ومن المعروف بأن السلفية يعدون فقهاء المدينة في ذلك الزمن مثل سعيد بن المسيب في عداد السلف الصالح الأكثر علماً وفهماً للدين والأشد حرصاً على التوحيد، فهل يبطل سكوت السلف الصالح على ادخال القبور ضمن المسجد النبوي الاعتقاد بأعلمية السلف فيكون السلفية المبادرون اليوم لهدم الأضرحة والمساجد التي تحتوي قبوراً غير آبهين بعقوبات السلطة وغضب المستنكرين أكثر تديناً من سلفهم الصالح؟ أما تعذرهم بأن الخليفة الأموي " ذو شوكة وسلطان" (انحرافات القبوريين: الداء الدواء، الجزء الأول، ص 22) فمرفوض لأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما إن الملك السعودي السلفي ذو شوكة وسلطان وأمره نافذ فلم لا يأمر بتطبيق عقيدة السلفية على المسجد النبوي؟
يستشهد السلفيون ومنهم ابن تيمية في فتاويه (الجزء الخامس، ص 450) ومحي الدين البركوي في كتابه زيارة القبور (الجزء الأول، ص 30) على صحة عقيدتهم بطمس الصحابة قبر النبي دانيال عليه السلام، والرواية مذكورة في كتاب السيرة النبوية لأبي إسحاق (الجزء الأول ص 17): "حدثنا أحمد قال: نا يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: نا أبو العالية قال: لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب، فدعا له كعباً، فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ فقال: سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس، لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عليهم، برزوا بسريره فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير بشيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع".
وفي تعليق لأحد علماء السلفية وهو البركوي (المصدر السابق) كتب:" ... فانظر القصة وما فعله المهاجرون والأنصار كيف سعوا في تعمية قبره فئلا يفتن الناس به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به هؤلاء الخلوف لحاربوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله تعالى فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثاناً من لا يدانيه ولا يقاربه وبنوا عليها الهياكل وأقاموا لها سدنة وجعلوها معابد أعظم من المساجد ."
ويتبين من الرواية وخلافاً لفهم البركوي وغيره من السلفية بأنهم دفنوا النبي دانيال لأن جثمانه كان مخزوناً في بيت مال الهرمزان، وليس من المقبول بقاء جثمان ميت من دون دفن، فما بالك إن كان جثمان نبي، وهم موهوا قبر النبي دانيال لئلا ينبشه الناس، عندما ينحبس عنهم المطر لا خشية من تعظيمهم له، فلا يجوز نبش الموتى، كما تدحض الرواية عقيدة السلفية بخصص بطلان التوسل بالموتى لأن الناس كانوا يستمطرون بجثمانه فيهطل عليهم المطر، مما يؤكد استجابة الله لتوسلهم بالنبي دانيال، حتى وإن لم يكن الهرمزان وأتباعه من اليهود، فهذه الرواية التي يستند إليها السلفية قاصمة لعقيدتهم لا لعقائد مخالفيهم.
ونعود للمسجد النبوي، فهو وداخله قبر النبي وأبي بكر وعمر يندرج في عداد المساجد المنهي عنها وفقاً لعقيدة السلفية، ولا جدال في أن الخليفة الأموي هو من أدخل القبور في المسجد وأن سلطاناً مملوكياً بنى القبة عليه، فالمهم أنه في حالته الحاضرة مخالف لشروط المسجد في عقيدة السلفية، وقد هدموا مساجد مثله في بلاد كثيرة، لاعتقادهم بأنها مدعاة للشرك بالله، والحكومة السعودية هي الدولة المسلمة الوحيدة التي تحكم وفق مذهب السلفية، وملكها يتلقب بخادم الحرمين الشريفين، فهل يقبل حاكم البلد السلفي الوحيد أن يكون خادماً لمسجد داخله قبور؟ يبرر السلفية في السعودية سكوتهم على ذلك بأنه اتقاءً للفتنة، ويشير أحد المصادر السلفية بأن جيش الملك عبد العزيز المعروف بالأخوان كادوا أن يهدموا القبة المبنية على قبر النبي عند احتلالهم للمدينة المنورة " لكنهم خشوا من قيام فتنة أعظم من إزالة القبة" ( كتاب انحرافات القبوريين: الداء الدواء، الجزء الأول، ص 23)، وهذه حجة سقيمة ومردودة لأنه إن كان وجود القبة مظهر من مظاهر الشرك فلا عذر للإبقاء عليها، ولنتذكر هنا أن السيدة عائشة والألاف من الصحابة توجهوا إلى الكوفة ليطالبوا خليفة المسلمين الإمام علي عليه السلام بتسليمهم قتلة عثمان غير عابئين بما قد يتسببه ذلك من فتن وكذلك فعل أتباع والي الشام معاوية بن ابي سفيان، وقد حدثت الفتنة بالفعل كما يسميها السلفية، وسفكت دماء المسلمين المحرمة، وهؤلاء هم السلف الصالح الذين يقتدي بهم السلفية ويأخذون منهم دينهم، وبالتأكيد فإن الحفاظ على عقيدة التوحيد وإزالة المظاهر المخالفة لها من المسجد النبوي أهم من الاقتصاص من قتلة عثمان، ولا عذر لحكام السلفية وعلماؤهم في السعودية في امتناعهم عن تطبيق عقيدتهم على المسجد النبوي، إن كانوا فعلاً متمسكين بها، وهم في تركهم لهذا الأمر أباحوا لمئات الملايين من المسلمين الذين قصدوا مسجد الرسول حاجين ومعتمرين ارتكاب إثم عظيم، وفقاً لعقيدتهم، وهم بالتالي مشاركون في إثمهم.
يعد سكوت السلفية في السعودية من حكام وعلماء وأتباع على المسجد النبوي في حالته الراهنة وفقاً لمذهبهم مخالفة جسيمة لعقيدة السلفية، وعليهم الاختيار بين البدائل التالية:
أولاً: اخراج القبور من المسجد بصورة جلية وهدم القبة حتى نشهد للسلفية بأنهم يقرنون الفعل بالقول وبأنهم مخلصون لعقيدتهم، وإن كان ذلك سيؤدي حتماً إلى زوال ملك السعوديين السلفي ونهاية مملكتهم وإبادة قواتهم واستئصال السلفية من البلدان الإسلامية.
ثانياً: التخلي عن عقائد السلفية التي تكفر غيرهم من المسلمين بسبب تعظيمهم لأولياء الله الصالحين.
ثالثاً: تنحي آل سعود وعلماؤهم وأتباعهم من السلفية عن السلطة في ما يعرف اليوم بالمملكة السعودية وبصورة تامة ونهائية لأنهم غير قادرين على تغيير وضع المسجد النبوي، وهكذا يتخلصون من المسؤولية عن استمرار هذا الوضع وما يجره من إثم عظيم حسب معتقدهم.
رابعاً: الإبقاء على الوضع الحالي وهو دليل قطعي على أن السلفية يقدمون مصالحهم الذاتية على عقيدتهم، وبأنهم قبوريون بالفعل وإن تنصلوا عن ذلك بالقول، وهذا نفاق صريح.
أجزم أن اختيار السلفية للبديل الأول من رابع المستحيلات لأن ذلك سيقود حتماً إلى زوال ملك آل سعود ونهاية سيطرة السلفية على مملكتهم، كما لن يتخلوا عن عقيدتهم التكفيرية، التي من دونها لا مبرر لوجود مذهبهم على الإطلاق، كما من المحال أن يتنازل آل سعود وعلماء البلاط طوعاً عن مناصبهم، لذا سيبقى الوضع الحالي كما هو، وإذا كان الشيعة الذين يصفهم السلفية بالقبوريين رافضين لعقيدة السلفية ولا يرون في ممارساتهم أي مخالفة لعقيدة التوحيد وبالتالي يعتبرون هذا الوصف تهمة باطلة أو مسبة فإن السلفية وعلى أساس ما تقدم من أدلة قبوريون، وعقيدتهم تحكم عليهم بذلك، وإن أنكروا ذلك بالقول، فهم قبوريون بالفعل، والله أعلم.
11 تشرين الأول 2011م