معراج
07-11-2011, 09:02 PM
في التخطيطات التي يضعها المهدي (ع) لأجل ضمان عدم التفات الرائي إلى حقيقته في أثناء المقابلة .
فإن المقابلة ، قد تقتضي ، بحسب المصلحة ، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها . وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة ، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين . وقد تقتضي المقابلة أن لا يعرفه الرائي إلا بعد المفارقة، فيما إذا لم يكن بتلك الدرجة العليا من الوثاقة ، فضلاً عما إذا لم يكن موثوقاً أو كان منحرفاً .
ففي مثل ذلك يحتاج المهدي (ع) إلى التخطيط بنحو يدع الرائي غافلاً عن حقيقته إلى حين الفراق ، على أن يفهم بعد ذلك أن الذي كان قد رآه ... هو المهدي (ع) .
وأساليب التخطيط الذي كان يضعها المهدي (ع) في سبيل ذلك ، بحسب ما ورد في أخبار المشاهدة ، عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي :
الأسلوب الأول : إبداله لزيه وواسطة نقله :
فنراه كثيراً ما يكون مرتدياً العقال العربي ، على اختلاف الأشكال ، فتارة نراه بزي البدو وثانية بزي مهيب لطيف وثالثة بزي فلاح يحمل مسحاته ورابعة بزي سيد جليل من رجال الدين .كما أن واسطة نقله قد تكون هي الجمل في عدد من المرات كما قد تكون هي الفرس وقد يكون هو الحمار، كما قد يواكب الرائي ماشياً وقد لا تحتاج المقابلة إلى سير وانتقال .
كما قد يأتي إلى المقابلة ، فارساً حاملاً رمحاً عند الحاجة(5) ، كما قد يبدو متكلماً بلهجة البدو مستعملاً نفس كلماتهم . وثالثة يبدو متكلماً بلهجة اللبنانيين ورابعة باللغة الفارسية .
وقد نعرف ، سيراً مع الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان : أن الأزياء والهيئات التي يقابل بها المهدي (ع) من يريد إخفاء حقيقته عليه أثناء المقابلة ... ليس شيء منها هو الذي يكون عليه في حياته الاعتيادية بشخصيته الثانية ، لوضوح وجود احتمال كبير في انكشاف حقيقته ، لو ظهر لأحدهم في نفس المجتمع الذي يعيش فيه . إذن فلا بد للمهدي (ع) أن يخطط للمقابلة بابدال زيه لا محالة ، قبلها ، ضماناً على الحفاظ على سره وخفاء عنوانه .
الأسلوب الثاني :
إقامته للمعجزة التي تكون دالة على حقيقته ، بنحو لا تكاد تكون ملفتة للنظر في أثناء المقابلة ، بل لا يكاد يعرف الرائي أنها معجزة أصلاً إلا بعد الفراق ... حين يستذكرها ويحسب حسابها فيعرف أن ذلك العمل لا يمكن أن يقام به إلا بنحو إعجازي .
ويتجلى ذلك بوضوح في عدد من الروايات ، بقطع المسافة الطويلة بزمان قصير ، المسمى بطيّ الأرض براً أحياناً وبحراً أخرى . ومن المعلوم أن حساب طول المسافة إنما يكون بعد قطعها . ولعل أوضح الروايات في ذلك ، ما فهمه الرواي بعد فراق المهدي (ع) من أن الطريق الذي مشى فيه في زمان قصير نسبياً ، لا يمكن لأحد أن يسير فيه إلا بأضعاف تلك المدة ، ومن المتعذر أن ينجو أحد من السباع والوحوش في ذلك الطريق ، ولكنه نجا منها ووصل في زمان قليل .
الأسلوب الثالث :
ابتعاده عن الرائي في أثناء الحادثة ، وقبل انتهاء حاجته ، وإيكال إنهائها إلى غيره ... هو أما نفس صاحب الحاجة كما في بعض المقابلات وقد يكون هو خادم الإمام عليه السلام ، وقد يكون هو شخص آخر عابر للطريق.
الأسلوب الرابع :
تجنب كل ما من شأنه إلفات النظر إلى حقيقته ، كالإشارة إلى عنوانه صراحة أو كناية ، أو إقامته لمعجزة كبيرة واضحة ملفتة للنظر ، كما هو واضح من عدد من روايات المقابلات . بل قد يتجنب الجواب لو سئل عن اسمه ومكانه ، ولا يجيب بما يدل على حقيقته .
الأسلوب الخامس :
وقوع الرائي والرائين أو إيقاعهم ، في ظروف وقتية خاصة ، بحيث يرتج عليه باب السؤال عن حقيقة المهدي واسمه وبلدته . وهذا واضح من عدد من الروايات ، فإن الرائي قد يكون مهتماً بحاجته جداً أو مذهولاً نتيجة لالتفاته إلى معجزة واضحة أوجدها المهدي (ع)، أو مشغولاً بنفسه كالصلاة أو المرض أو ضيق البال ونحو ذلك. ولا يخفي أن نفس تلك الغفلة التامة التي يكون بها الناس تجاه رؤية المهدي (ع) ، تلك الغفلة التي لا يمكن ارتفاعها إلا تحت تأثير قوي ... هي من أكبر الظروف ، بل أكبرها على الاطلاق ، مما يقتضي عدم معرفة الرائي بالمهدي (ع) في أثناء المقابلة ... إلا بعد أن يحسب حسابه بعد الفراق .
فهذه هي الأساليب العامة للتخطيط الذي يتخذ المهدي (ع) بعضها . حينما لا يجد من المصلحة معرفته في أثناء مقابلته . وهناك بعض الأساليب الخاصة المبعثرة في الروايات ، مما لا يمكن أدراجه تحت ضابط عام.
ماهي الأغراض والمقاصد العامة التي يقصدها المهدي (ع) من عمله خلال المقابلة ؟
المقصود من الأغراض العامة ، ما يكون مستهدفاً لأثر إسلامي اجتماعي أكبر من الأفراد وأوسع . وهو الذي قلنا أنه قليل التحقق بالنسبة إلى العمل الفردي الخاص ، وذكرنا السبب في ذلك .
وتنقسم الأغراض والأهداف العامة في أعمال الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، إلى عدة أقسام :
الهدف الأول :
إنقاذ الشعب المسلم من براثن تعسف وظلم بعض حكامه المنحرفين ، وخاصة فيما يعود إلى قواعده الشعبية من الخير والسلامة .
فمن ذلك ما قام به الإمام المهدي من إنقاذ شعبه في البحرين ، من تعسف حاكميه الذين تنص الرواية على كونهم من عملاء الاستعمار ومن المنصوبين من قبل المستعمرين.
حيث كان للوزير في تلك البلاد ، وهو بمنزلة رئيس الوزراء في عالم اليوم ... مكيدة كبيرة كادت أن تؤدي إلى إرهاب القواعد الشعبية للإمام المهدي (ع) إرهاباً غريباً بمعاملتهم معاملة الكفار الحربيين من أهل الكتاب ... أما بأن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، أو أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم . وقد كان للإمام المهدي (ع) اليد الطولى في كشف هذه المكيدة ودفع هذا الشر المستطير .
الهدف الثاني :
إنقاذ الشعب المسلم من براثن الأشقياء والمعتدين ، وعصابات اللصوص المانعين عن الأعمال الإسلامية الخيِّرة .
فمن ذلك : عمل الكبير الذي قام به المهدي عليه السلام من فتح الطريق إلى كربلاء المقدسة ، أمام زوار جده الإمام الحسين عليه السلام ، في النصف من شعبان .
وكانت عشيرة "عنيزة" تترصد لكل داخل إلى كربلاء وخارج منها ، وتتعهده بالسلب والنهب ، فكان الطريق إليها موصداً يخافه الناس . فلولا قيادة المهدي (ع) للزائرين في الطريق إلى كربلاء وتهديده لعشيرة عنيزة بالموت والدمار إذا حاولت الاعتداء ، لامتنع الناس عن الذهاب إلى زيارة الإمام سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، ولتعطل هذا الشعار الإسلامي الكبيرة . فمرحى للألطاف الكبرى التي يسبغها المهدي (ع) على أمته .
وكان ذلك خلال حكم الدولة العثمانية للعراق . وكان من قوادهم يومئذ : كنج محمد آغا وصفر آغا ... كما تنص الرواية على ذلك ، ولكنها – مع الأسف – تهمل التعرض إلى التاريخ المحدد للحوادث .
إلفات نظر الآخرين إلى عدم تحقق شروط الظهور الموعود . والتأكيد على أن الأمة لم تبلغ إلى المستوى المطلوب من الوعي والشعور بالمسؤولية الذي تستطيع معه أن تحمل عاتقها الآثار الكبرى في اليوم الموعود . ومعه فلا بد من أن يتأجل الظهور حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد .
وقد حصل التأكيد على هذا المفهوم الصحيح الواعي من قبل المهدي (ع) ، على ملأ من الناس في رواية أرويها لكم نقلها السيد محمد صادق الصدر الى ولده السيد محمد الصدر ومفادها .
إن الناس في البحرين ، في بعض الأزمنة ، لمقدار إحساسهم بالظلم وتعسف الظالمين ... تمنوا ظهور إمامهم المهدي (ع) بالسيف ظهوراً عالمياً عاماً ، لكي يجتث أساس الظلم لا من بلادهم فحسب بل من العالم كله .
فاتفقوا على اختيار جماعة من أعاظمهم زهداً وورعاً وعلماً ووثاقة ، فاجتمع هؤلاء واختاروا ثلاثة منهم ، واجتمع هؤلاء واختاروا واحداً هو أفضلهم على الإطلاق ، ليكون هو واسطتهم في الطلب إلى المهدي بالظهور .
فخرج هذا الشخص المختار ، إلى الضواحي والصحراء ، وأخذ بالتعبد والتوسل إلى الله تعالى وإلى المهدي (ع) بأن يقوم بالسيف ويظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . وقضى في ذلك ثلاثة أيام بلياليها .
فلما كانت الليلة الأخيرة ، أقبل شخص وعرفه بنفسه أنه هو المهدي المنتظر ، وقد جاء إجابة لطلبه . وسأله عن حاجته ، فأخبره الرجل بأن قواعده العبية ومواليه في أشد التلهف والانتظار إلى ظهوره وقيام نوره . فأوعز إليه المهدي (ع) أن يبكر في غد إلى مكان عام عينه له ، ويأخذ معه عدداً من الغنم في الطابق الثاني على السطح ، ويعلن في الناس أن المهدي (ع) سيأتي في ساعة معينة ، عليهم أن يجتمعوا في أرض ذلك المكان . وقال له المهدي (ع) أيضاً : أنني سأكون على السطح في ذلك الحين .
وامتثل الرجل هذا الأمر ، وحلت الساعة الموعودة ، وكان الناس متجمهرين في المكان المعين على الأرض، وكان المهدي (ع) مع هذا الرجل وغنمه على السطح .
وهنا ذكر المهدي (ع) اسم شخص وطلب من الرجل أن يطل على الجماهير ويأمره بالحضور . فامتثل الأمل وأطل على الجمع ونادى باسم ذلك الرجل ... فسمع الناس وصعد الرجل على السطح . وبمجرد وصوله أمر المهدي (ع) صاحبنا أن يذبح واحداً من غنمه قرب الميزاب ، فما رأى الناس إلا الدم ينزل من الميزاب بغزارة . فاعتقدوا جازمين بأن المهدي (ع) أمر بذبح هذا الرجل الذي ناداه.
ثم نادى المهدي (ع) بنفس الطريقة رجلاً آخر ، وكان أيضاً من الأخيار الورعين . فصعد مضحياً بنفسه واضعاً في ذهنه الذبح أمام الميزاب ، وبعد أن وصل إلى السطح نزل الدم من الميزاب . ثم نادى شخصاً ثالثاً ورابعاً . وهنا أصبح الناس يرفضون الصعود ، بعد أن تأكدوا أن كل من يصعد سيراق دمه من الميزاب . وأصبحوا يفضلون حياتهم على أمر إمامهم .
وهنا التفت المهدي (ع) إلى صاحبنا وأفهمه بأنه معذور في عدم الظهور ما دام الناس على هذا الحال .
فمن هنا نفهم بوضوح ، كيف أن المهدي (ع) استهدف إفهام الأمة بشكل عملي غير قابل للشلك ، بأنها ليست على المستوى المطلوب من التضحية والشعور بالمسؤولية الإسلامية . وكشف أمامها واقعها بنحو أحسه كل فرد في نفسه وأنه على غير استعداد لإطاعة أمر إمامه (ع) إذا كان مستلزماً لإراقة دمه . وإذا كانت الأمة على هذا المستوى الوضيع لم يمكنها بحال أن تتكفل القيام بمهمام اليوم الموعود بقيادة المهدي (ع) .
الهدف الرابع :
إرجاعه عليه السلام للحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة .
فأن القرامطة بعد أن قلعوه أثناء هجومهم على مكة المكرمة عام 317 للهجرة الكامل ، جـ 6 ، ص 204 , ونقلوه إلى هجر ، وكان ذلك إبان الغيبة الصغرى .
كما عرفنا من تاريخها بقي الحجر لديهم ثلاثين عاماً أو يزيد تاريخ الشعوب الإسلامية ، جـ 2 ، ص 75 . وأرجعوه إلى مكة عام 339 الكامل ، جـ 6 ، ص 235 أو عام 337 كان المهدي (ع) هو الذي وضعه في مكانه وأقره على وضعه السابق ، كما ورد في أخبارنا, الخرايج والجرايح ، ص 72 .وانظر منتخب الأثر ، ص 406
قال الراوي : لما وصلت إلى بغداد في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عزمت على الحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجز في مكانه إلى البيت . كان أكثر همي الظفر بمن ينصب الحجز ، لأنه يمضي في أنباء الكتب قصة أخذه ، فأنه لا يضعه في مكانه إلا الحجة في الزمان.كما في زمان الحجاج وضعه زين العابين عليه السلام في مكانه (6).
وأوضح الرواي بأن الناس فشلوا في وضعه في محله ، زكلما وضعه انسان اضطرب الحجز ولم يستقم . فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله فوضعه في مكانه ، قاستقام كأنه لم يزل عنه . وعلت لذلك الأصوات .
نعم ، يبقى في الذهن سؤالان حول ذلك لا بد من عرضهما ومحاولة الجواب عليهما :
السؤال الأول :
أنه من أين ثبت أن الحجر لأسود لا يضعه في محله إلا الحجة في الزمان، كما ادعاه الراوي ؟
والواقع أننا لم نجد رواية تتكفل هذا المدلول الواسع . ولكننا إذا استعرضنا التاريخ المعروف ، لم نجد واضعاً للحجر إلا من الأنبياء والأولياء . فإبراهيم عليه السلام هو الذي وضع الحجر حين بنىالكعبة ووضع أسس البيت العتيق.ورسول الله صلى اله عليه وآله هو الذي وضع الحجر قبل نبوته حين بنيت الكعبة في الجاهلية واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر والحادثة معروفة ، ومروية في التاريخ .وحين أخرب الحجاج بن يوسف الكعبة المقدسة في صرغه مع عبد الله بن الزبير 000 أعادوا بناءها من جديد ، وكان واضع الحجر هو الإمام زين العابدين .
وهذا الراوي في الرواية التي نناقشها ، ينسب وجو مثل هذه القاعدة العامة ، أعني أن الحجر الأسود لا يضعه إلا الحجة في الزمان 000 ينسبها إلى الكتب ، وظاهره كونها مسلمة الصحة ، فلعله كانت هناك ادلة أكثر واوثق قد بادت خلال التاريخ والله العالم بحقائق الأمور .
السؤال الثاني :
لو ثبتت هذه الفكرة كقاعدة عامة ، وصادق أن زال الحجز الأسود من مكانه في بعض عصور الغيبة الكبرى، فكيف يتسنى للمهدي (ع) إرجاعه ، وهو حجة الزمان، إلا بانكشاف أمره وارتفاع غيبته واطلاع الناس على شخصه .
والجواب على ذلك : أن أهم ما يمكن أن يكون ساتراً لشأنه وصائناً لسره حين وضعه الحجز، هو عدم معروفية هذه الفكرة لدى الناس وعدم اشتهارها بينهم، بل وعدم قيام دليل واضح عليها، كما سمعنا. ولغله من أجل ذلك لم يصدر في الشريعة الإسلامية مثل هذا الدليل الواضح على ذلك. ولعلك لاحظت من خلال هذه الرواية التي نناقشها أن الذي عرف هذه الفكرة هو واحد من الآلاف المحتشدة بما فيهم العلماء والكبراء. ومن هنا استطاع أن يشخص في واضع الحجر كونه هو المهدي (ع) .
ثم أن المهدي عليه السلام ، خرج من المسجد ولاحقه الرواي طالباً منه حاجة, فقضاها له ، وأقام الدلالة ساعتئذ على حقيقته.
ومعه، فانطلاقاً مع خط الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن نفترض أن الإمام عليه السلام في عصر غيبته ، يضع الحجر الأسود مع عمال البناء، ويكون آخر من يثبته ،ويبقى مجهول الحقيقة على طول الخط ، بل قد يكون معروفاً بشخصيته الثانية باسم آخر كفرد عادي في المجتمع . فيرى الرائي أن هذه الفكرة العامة قد انخرمت ، في حين أنه ليس واضع الحجر إلا ( المهدي) لو انكشف الستر وظهرت الحقيقة .
يتبع...
فإن المقابلة ، قد تقتضي ، بحسب المصلحة ، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها . وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة ، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين . وقد تقتضي المقابلة أن لا يعرفه الرائي إلا بعد المفارقة، فيما إذا لم يكن بتلك الدرجة العليا من الوثاقة ، فضلاً عما إذا لم يكن موثوقاً أو كان منحرفاً .
ففي مثل ذلك يحتاج المهدي (ع) إلى التخطيط بنحو يدع الرائي غافلاً عن حقيقته إلى حين الفراق ، على أن يفهم بعد ذلك أن الذي كان قد رآه ... هو المهدي (ع) .
وأساليب التخطيط الذي كان يضعها المهدي (ع) في سبيل ذلك ، بحسب ما ورد في أخبار المشاهدة ، عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي :
الأسلوب الأول : إبداله لزيه وواسطة نقله :
فنراه كثيراً ما يكون مرتدياً العقال العربي ، على اختلاف الأشكال ، فتارة نراه بزي البدو وثانية بزي مهيب لطيف وثالثة بزي فلاح يحمل مسحاته ورابعة بزي سيد جليل من رجال الدين .كما أن واسطة نقله قد تكون هي الجمل في عدد من المرات كما قد تكون هي الفرس وقد يكون هو الحمار، كما قد يواكب الرائي ماشياً وقد لا تحتاج المقابلة إلى سير وانتقال .
كما قد يأتي إلى المقابلة ، فارساً حاملاً رمحاً عند الحاجة(5) ، كما قد يبدو متكلماً بلهجة البدو مستعملاً نفس كلماتهم . وثالثة يبدو متكلماً بلهجة اللبنانيين ورابعة باللغة الفارسية .
وقد نعرف ، سيراً مع الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان : أن الأزياء والهيئات التي يقابل بها المهدي (ع) من يريد إخفاء حقيقته عليه أثناء المقابلة ... ليس شيء منها هو الذي يكون عليه في حياته الاعتيادية بشخصيته الثانية ، لوضوح وجود احتمال كبير في انكشاف حقيقته ، لو ظهر لأحدهم في نفس المجتمع الذي يعيش فيه . إذن فلا بد للمهدي (ع) أن يخطط للمقابلة بابدال زيه لا محالة ، قبلها ، ضماناً على الحفاظ على سره وخفاء عنوانه .
الأسلوب الثاني :
إقامته للمعجزة التي تكون دالة على حقيقته ، بنحو لا تكاد تكون ملفتة للنظر في أثناء المقابلة ، بل لا يكاد يعرف الرائي أنها معجزة أصلاً إلا بعد الفراق ... حين يستذكرها ويحسب حسابها فيعرف أن ذلك العمل لا يمكن أن يقام به إلا بنحو إعجازي .
ويتجلى ذلك بوضوح في عدد من الروايات ، بقطع المسافة الطويلة بزمان قصير ، المسمى بطيّ الأرض براً أحياناً وبحراً أخرى . ومن المعلوم أن حساب طول المسافة إنما يكون بعد قطعها . ولعل أوضح الروايات في ذلك ، ما فهمه الرواي بعد فراق المهدي (ع) من أن الطريق الذي مشى فيه في زمان قصير نسبياً ، لا يمكن لأحد أن يسير فيه إلا بأضعاف تلك المدة ، ومن المتعذر أن ينجو أحد من السباع والوحوش في ذلك الطريق ، ولكنه نجا منها ووصل في زمان قليل .
الأسلوب الثالث :
ابتعاده عن الرائي في أثناء الحادثة ، وقبل انتهاء حاجته ، وإيكال إنهائها إلى غيره ... هو أما نفس صاحب الحاجة كما في بعض المقابلات وقد يكون هو خادم الإمام عليه السلام ، وقد يكون هو شخص آخر عابر للطريق.
الأسلوب الرابع :
تجنب كل ما من شأنه إلفات النظر إلى حقيقته ، كالإشارة إلى عنوانه صراحة أو كناية ، أو إقامته لمعجزة كبيرة واضحة ملفتة للنظر ، كما هو واضح من عدد من روايات المقابلات . بل قد يتجنب الجواب لو سئل عن اسمه ومكانه ، ولا يجيب بما يدل على حقيقته .
الأسلوب الخامس :
وقوع الرائي والرائين أو إيقاعهم ، في ظروف وقتية خاصة ، بحيث يرتج عليه باب السؤال عن حقيقة المهدي واسمه وبلدته . وهذا واضح من عدد من الروايات ، فإن الرائي قد يكون مهتماً بحاجته جداً أو مذهولاً نتيجة لالتفاته إلى معجزة واضحة أوجدها المهدي (ع)، أو مشغولاً بنفسه كالصلاة أو المرض أو ضيق البال ونحو ذلك. ولا يخفي أن نفس تلك الغفلة التامة التي يكون بها الناس تجاه رؤية المهدي (ع) ، تلك الغفلة التي لا يمكن ارتفاعها إلا تحت تأثير قوي ... هي من أكبر الظروف ، بل أكبرها على الاطلاق ، مما يقتضي عدم معرفة الرائي بالمهدي (ع) في أثناء المقابلة ... إلا بعد أن يحسب حسابه بعد الفراق .
فهذه هي الأساليب العامة للتخطيط الذي يتخذ المهدي (ع) بعضها . حينما لا يجد من المصلحة معرفته في أثناء مقابلته . وهناك بعض الأساليب الخاصة المبعثرة في الروايات ، مما لا يمكن أدراجه تحت ضابط عام.
ماهي الأغراض والمقاصد العامة التي يقصدها المهدي (ع) من عمله خلال المقابلة ؟
المقصود من الأغراض العامة ، ما يكون مستهدفاً لأثر إسلامي اجتماعي أكبر من الأفراد وأوسع . وهو الذي قلنا أنه قليل التحقق بالنسبة إلى العمل الفردي الخاص ، وذكرنا السبب في ذلك .
وتنقسم الأغراض والأهداف العامة في أعمال الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، إلى عدة أقسام :
الهدف الأول :
إنقاذ الشعب المسلم من براثن تعسف وظلم بعض حكامه المنحرفين ، وخاصة فيما يعود إلى قواعده الشعبية من الخير والسلامة .
فمن ذلك ما قام به الإمام المهدي من إنقاذ شعبه في البحرين ، من تعسف حاكميه الذين تنص الرواية على كونهم من عملاء الاستعمار ومن المنصوبين من قبل المستعمرين.
حيث كان للوزير في تلك البلاد ، وهو بمنزلة رئيس الوزراء في عالم اليوم ... مكيدة كبيرة كادت أن تؤدي إلى إرهاب القواعد الشعبية للإمام المهدي (ع) إرهاباً غريباً بمعاملتهم معاملة الكفار الحربيين من أهل الكتاب ... أما بأن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، أو أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم . وقد كان للإمام المهدي (ع) اليد الطولى في كشف هذه المكيدة ودفع هذا الشر المستطير .
الهدف الثاني :
إنقاذ الشعب المسلم من براثن الأشقياء والمعتدين ، وعصابات اللصوص المانعين عن الأعمال الإسلامية الخيِّرة .
فمن ذلك : عمل الكبير الذي قام به المهدي عليه السلام من فتح الطريق إلى كربلاء المقدسة ، أمام زوار جده الإمام الحسين عليه السلام ، في النصف من شعبان .
وكانت عشيرة "عنيزة" تترصد لكل داخل إلى كربلاء وخارج منها ، وتتعهده بالسلب والنهب ، فكان الطريق إليها موصداً يخافه الناس . فلولا قيادة المهدي (ع) للزائرين في الطريق إلى كربلاء وتهديده لعشيرة عنيزة بالموت والدمار إذا حاولت الاعتداء ، لامتنع الناس عن الذهاب إلى زيارة الإمام سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، ولتعطل هذا الشعار الإسلامي الكبيرة . فمرحى للألطاف الكبرى التي يسبغها المهدي (ع) على أمته .
وكان ذلك خلال حكم الدولة العثمانية للعراق . وكان من قوادهم يومئذ : كنج محمد آغا وصفر آغا ... كما تنص الرواية على ذلك ، ولكنها – مع الأسف – تهمل التعرض إلى التاريخ المحدد للحوادث .
إلفات نظر الآخرين إلى عدم تحقق شروط الظهور الموعود . والتأكيد على أن الأمة لم تبلغ إلى المستوى المطلوب من الوعي والشعور بالمسؤولية الذي تستطيع معه أن تحمل عاتقها الآثار الكبرى في اليوم الموعود . ومعه فلا بد من أن يتأجل الظهور حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد .
وقد حصل التأكيد على هذا المفهوم الصحيح الواعي من قبل المهدي (ع) ، على ملأ من الناس في رواية أرويها لكم نقلها السيد محمد صادق الصدر الى ولده السيد محمد الصدر ومفادها .
إن الناس في البحرين ، في بعض الأزمنة ، لمقدار إحساسهم بالظلم وتعسف الظالمين ... تمنوا ظهور إمامهم المهدي (ع) بالسيف ظهوراً عالمياً عاماً ، لكي يجتث أساس الظلم لا من بلادهم فحسب بل من العالم كله .
فاتفقوا على اختيار جماعة من أعاظمهم زهداً وورعاً وعلماً ووثاقة ، فاجتمع هؤلاء واختاروا ثلاثة منهم ، واجتمع هؤلاء واختاروا واحداً هو أفضلهم على الإطلاق ، ليكون هو واسطتهم في الطلب إلى المهدي بالظهور .
فخرج هذا الشخص المختار ، إلى الضواحي والصحراء ، وأخذ بالتعبد والتوسل إلى الله تعالى وإلى المهدي (ع) بأن يقوم بالسيف ويظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . وقضى في ذلك ثلاثة أيام بلياليها .
فلما كانت الليلة الأخيرة ، أقبل شخص وعرفه بنفسه أنه هو المهدي المنتظر ، وقد جاء إجابة لطلبه . وسأله عن حاجته ، فأخبره الرجل بأن قواعده العبية ومواليه في أشد التلهف والانتظار إلى ظهوره وقيام نوره . فأوعز إليه المهدي (ع) أن يبكر في غد إلى مكان عام عينه له ، ويأخذ معه عدداً من الغنم في الطابق الثاني على السطح ، ويعلن في الناس أن المهدي (ع) سيأتي في ساعة معينة ، عليهم أن يجتمعوا في أرض ذلك المكان . وقال له المهدي (ع) أيضاً : أنني سأكون على السطح في ذلك الحين .
وامتثل الرجل هذا الأمر ، وحلت الساعة الموعودة ، وكان الناس متجمهرين في المكان المعين على الأرض، وكان المهدي (ع) مع هذا الرجل وغنمه على السطح .
وهنا ذكر المهدي (ع) اسم شخص وطلب من الرجل أن يطل على الجماهير ويأمره بالحضور . فامتثل الأمل وأطل على الجمع ونادى باسم ذلك الرجل ... فسمع الناس وصعد الرجل على السطح . وبمجرد وصوله أمر المهدي (ع) صاحبنا أن يذبح واحداً من غنمه قرب الميزاب ، فما رأى الناس إلا الدم ينزل من الميزاب بغزارة . فاعتقدوا جازمين بأن المهدي (ع) أمر بذبح هذا الرجل الذي ناداه.
ثم نادى المهدي (ع) بنفس الطريقة رجلاً آخر ، وكان أيضاً من الأخيار الورعين . فصعد مضحياً بنفسه واضعاً في ذهنه الذبح أمام الميزاب ، وبعد أن وصل إلى السطح نزل الدم من الميزاب . ثم نادى شخصاً ثالثاً ورابعاً . وهنا أصبح الناس يرفضون الصعود ، بعد أن تأكدوا أن كل من يصعد سيراق دمه من الميزاب . وأصبحوا يفضلون حياتهم على أمر إمامهم .
وهنا التفت المهدي (ع) إلى صاحبنا وأفهمه بأنه معذور في عدم الظهور ما دام الناس على هذا الحال .
فمن هنا نفهم بوضوح ، كيف أن المهدي (ع) استهدف إفهام الأمة بشكل عملي غير قابل للشلك ، بأنها ليست على المستوى المطلوب من التضحية والشعور بالمسؤولية الإسلامية . وكشف أمامها واقعها بنحو أحسه كل فرد في نفسه وأنه على غير استعداد لإطاعة أمر إمامه (ع) إذا كان مستلزماً لإراقة دمه . وإذا كانت الأمة على هذا المستوى الوضيع لم يمكنها بحال أن تتكفل القيام بمهمام اليوم الموعود بقيادة المهدي (ع) .
الهدف الرابع :
إرجاعه عليه السلام للحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة .
فأن القرامطة بعد أن قلعوه أثناء هجومهم على مكة المكرمة عام 317 للهجرة الكامل ، جـ 6 ، ص 204 , ونقلوه إلى هجر ، وكان ذلك إبان الغيبة الصغرى .
كما عرفنا من تاريخها بقي الحجر لديهم ثلاثين عاماً أو يزيد تاريخ الشعوب الإسلامية ، جـ 2 ، ص 75 . وأرجعوه إلى مكة عام 339 الكامل ، جـ 6 ، ص 235 أو عام 337 كان المهدي (ع) هو الذي وضعه في مكانه وأقره على وضعه السابق ، كما ورد في أخبارنا, الخرايج والجرايح ، ص 72 .وانظر منتخب الأثر ، ص 406
قال الراوي : لما وصلت إلى بغداد في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عزمت على الحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجز في مكانه إلى البيت . كان أكثر همي الظفر بمن ينصب الحجز ، لأنه يمضي في أنباء الكتب قصة أخذه ، فأنه لا يضعه في مكانه إلا الحجة في الزمان.كما في زمان الحجاج وضعه زين العابين عليه السلام في مكانه (6).
وأوضح الرواي بأن الناس فشلوا في وضعه في محله ، زكلما وضعه انسان اضطرب الحجز ولم يستقم . فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله فوضعه في مكانه ، قاستقام كأنه لم يزل عنه . وعلت لذلك الأصوات .
نعم ، يبقى في الذهن سؤالان حول ذلك لا بد من عرضهما ومحاولة الجواب عليهما :
السؤال الأول :
أنه من أين ثبت أن الحجر لأسود لا يضعه في محله إلا الحجة في الزمان، كما ادعاه الراوي ؟
والواقع أننا لم نجد رواية تتكفل هذا المدلول الواسع . ولكننا إذا استعرضنا التاريخ المعروف ، لم نجد واضعاً للحجر إلا من الأنبياء والأولياء . فإبراهيم عليه السلام هو الذي وضع الحجر حين بنىالكعبة ووضع أسس البيت العتيق.ورسول الله صلى اله عليه وآله هو الذي وضع الحجر قبل نبوته حين بنيت الكعبة في الجاهلية واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر والحادثة معروفة ، ومروية في التاريخ .وحين أخرب الحجاج بن يوسف الكعبة المقدسة في صرغه مع عبد الله بن الزبير 000 أعادوا بناءها من جديد ، وكان واضع الحجر هو الإمام زين العابدين .
وهذا الراوي في الرواية التي نناقشها ، ينسب وجو مثل هذه القاعدة العامة ، أعني أن الحجر الأسود لا يضعه إلا الحجة في الزمان 000 ينسبها إلى الكتب ، وظاهره كونها مسلمة الصحة ، فلعله كانت هناك ادلة أكثر واوثق قد بادت خلال التاريخ والله العالم بحقائق الأمور .
السؤال الثاني :
لو ثبتت هذه الفكرة كقاعدة عامة ، وصادق أن زال الحجز الأسود من مكانه في بعض عصور الغيبة الكبرى، فكيف يتسنى للمهدي (ع) إرجاعه ، وهو حجة الزمان، إلا بانكشاف أمره وارتفاع غيبته واطلاع الناس على شخصه .
والجواب على ذلك : أن أهم ما يمكن أن يكون ساتراً لشأنه وصائناً لسره حين وضعه الحجز، هو عدم معروفية هذه الفكرة لدى الناس وعدم اشتهارها بينهم، بل وعدم قيام دليل واضح عليها، كما سمعنا. ولغله من أجل ذلك لم يصدر في الشريعة الإسلامية مثل هذا الدليل الواضح على ذلك. ولعلك لاحظت من خلال هذه الرواية التي نناقشها أن الذي عرف هذه الفكرة هو واحد من الآلاف المحتشدة بما فيهم العلماء والكبراء. ومن هنا استطاع أن يشخص في واضع الحجر كونه هو المهدي (ع) .
ثم أن المهدي عليه السلام ، خرج من المسجد ولاحقه الرواي طالباً منه حاجة, فقضاها له ، وأقام الدلالة ساعتئذ على حقيقته.
ومعه، فانطلاقاً مع خط الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن نفترض أن الإمام عليه السلام في عصر غيبته ، يضع الحجر الأسود مع عمال البناء، ويكون آخر من يثبته ،ويبقى مجهول الحقيقة على طول الخط ، بل قد يكون معروفاً بشخصيته الثانية باسم آخر كفرد عادي في المجتمع . فيرى الرائي أن هذه الفكرة العامة قد انخرمت ، في حين أنه ليس واضع الحجر إلا ( المهدي) لو انكشف الستر وظهرت الحقيقة .
يتبع...