مرتضى علي الحلي
18-11-2011, 04:39 PM
لماذا أنا شيعي؟
إعداد
حبيب ظاهر كسّار
تحقيق
مرتضى علي الحلي
مؤسسة أحباب الصدّيقة الطاهرة(ع)
النجف الأشرف
هذا الكرّاس عبارة عن حوار دار بين شاب وأبيه، عندما عرضت لهذا الشاب بعض الأسئلة من طرف صديقه في الجامعة.
أحمد شاب مؤمن، أكمل دراسته الثانوية، وحصل على قبول في جامعة بغداد كليةِ الإدارة والإقتصاد، وهو للمرة الأولى في حياته يفارق أهله وأصدقاءه ويبتعد عنهم -إذ أنه يسكن في مدينة النجف الأشرف- وكان والده يعامله كما لو كان أخاً له؛ إذ كان يصطحبه معه في الكثير من المناسبات والأوقات؛ ويقدّمه لأصدقائه بقوله لهم -مزاحاً-: >أعرّفكم إلى أخي الصغير<، وكان أحمد فعلاً كأخٍ لأبيه بكل معنى الكلمة، حيث كانا يتبادلان الإحترام والحديث كصديقين، وهذا الأسلوب من التعامل من طرف الأب، له التأثير الكبير في معرفة ما يفكّر به الإبن ويصارح أباه بما يختلج في ذهنه، مما يساعد على حل كثير مما يعانيه الشاب في مثل هذه المرحلة من مشاكل.
وفي الأسابيع الأُوَل من الفصل الدراسي، وفي نهاية عطلة أحد الأسابيع، عاد أحمد إلى مدينة النجف للقاء أبيه وعائلته، بعد غيبةٍ تكاد تكون طويلة بالنسبة له، ولغرض أخذ بعض الحاجات التي يريدها في مسكنه الجديد في القسم الداخلي، والتي سجّلها على ورقة في قائمة.
لمح الأب على وجه ولده بعض العلائم، وبعض حركات عينيه كانت على غير العادة، والتي توحي للأب بخجل ولده منه عندما يتحدث معه، أوجس الأب في نفسه خيفةً على ولده، على الرغم من ثقته الكبيرة بولده من حيث الإلتزام الديني، إلا أن الظرف (الغربة، الجامعة، الإختلاط) قد تؤثر في الفرد، وسرعان ما زال هذا الهاجس عن فكر الأب، عندما بادر أحمد أباه بمفاتحته أن لديه مجموعة من الأسئلة العقائدية، التي عرضت عليه من قبل صديقه، والذي تعرّف إليه في الجامعة والساكن معه في الغرفة نفسها من القسم الداخلي، واسمه عثمان وهو من أهل الموصل
أحمد: لماذا أنا شيعي يا والدي؟
الأب: -بابتسامة عريضة- ما الذي حصل يا عزيزي؟
أحمد: في الأيام الأولى من دخولي إلى الجامعة، حان وقت صلاة الظهر في أحد الأيام، سألتُ بعض الطلاب عن مسجد الكلية، فأشار إلى غرفة في أحد جوانب الكلية كُتب عليها كلمة (المصلّى)، وعند دخولي المصلى وجدت بعض السجادات المفروشة باتجاه القبلة وكانت خالية من تُرَب السجود، فبحثت يميناً وشمالاً فعثرت على تربة صغيرة، وُضعت على أحد رفوف الغرفة المعدّة للصلاة فصلّيت، وبعد فراغي من الصلاة سلّم عليّ زميلي عثمان، وكان قد أنهى صلاته بجنبي، وبادرني بعبارة: >تقبّل الله<، فرددت عليه: >منّا ومنكم<، وخرجنا معاً من المصلى.
وفي طريقنا إلى القسم الداخلي، دار بيننا حديث شائق عن الدين وضرورته، والإلتزام ومظاهر التبرّج... وسألني بعض الأسئلة عن عموم المسائل الدينية، وبعضها خاصة نظير: لماذا وجدتك تسجد على قطعة من الحجر، ولم تصلّ على السجادة؟ ولماذا لم تضع يديك على بعضها أثناء القراءة (تتكتّف)؟ ولماذا ولماذا؟
فأجبته عن بعض أسئلته التي أمتلك جواباً أكيداً عنها، وأما المتبقي فاكتفيت بالجواب عنها، بأن المجتمع المتديّن في النجف، يتعبّدون في مسائلهم الشرعية منها الصلاة وأفعالها، على وفق ما ورد في الرسائل العملية للمراجع المجتهدين الأحياء، ويقلّدونهم في فروع الدين.
وأما بعض من أسئلته فقد اعتذرت له عنها، وطلبت منه أن يمهلني إلى حين سؤالي عنها أو التأكد منها، إذ تذكّرت كلامَك الذي كنت تردده وتسمعنيه على الدوام، أن لا أجيب عن شيءٍ لم أتأكد منه.
ومن أهم الأسئلة التي سألنيها: >هل أنت شيعي، ولماذا؟<، فأجبته: نعم، أنا شيعي. أما الجواب عن (لماذا)، فعلى الرغم من امتلاكي بعض الأدلة التي تمكنني من أن أجيب عن ذلك، إلا أنني أردت أن أحيط بالمسألة درايةً منك، فطلبت منه أن يمهلني إلى وقت آخر.
الأب: حسناً ما فعلتَ يا ولدي. وقبل أن أجيبك عن السؤال المهم >لماذا أنت شيعي؟<
أود أن أعرف منك هل أنّ صديقك هذا يمتلك روح التفهّم والحوار؟ وهل تتوقع منه أنه سيقبل منك أجوبتك ويقتنع بها، حينما تأتيه بالدليل العلمي المقنِع؟ لأن البيئة يا عزيزي، والظروف المحيطة بالإنسان غالباً ما يكون لها الأثر البالغ في تحديد فكر الإنسان واتجاهاته، حيث الموروثات البيئية تصبح بمرور الزمن وبالإعتياد عليها قولاً وسلوكاً، حقائقَ ثابتة لا يجوز عنده الخروج عنها،
فإذا ما عُرض على إنسان شيء يخالف معتقداته، فإن الرواسب الفكرية لعائلته ومجتمعه، والتي صارت تجري في عروقه، تنبعث تلقائياً وتقف في وجه كل من يخالفها، ولكن المسلم، ذلك الإنسان العظيم يفرض عليه دينُه أن يرحّب بأفكار الآخرين ويناقشها بالإنفتاح والموضوعية، سيما إذا كانت مطابقة لما جاء به القرآن والسنة المطهرة.
أحمد: من خلال معاشرتي القصيرة له، لمست فيه روح التفهّم وعدم التعصّب، وذلك حينما نبهته على ضرورة ذكر الآل عند الصلاة على النبي’، حيث كان يكتفي بقول: >صلى الله عليه وسلّم< عند ذكر النبي’، وذكرت له -حسبما تعلمته منك ذات مرة، وأنت تشرح هذه المسألة لأحد أصدقائك عندنا بالبيت- أنه’، قال: >لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال’: تقولون: اللهم صلّ على محمد، وتمسكون بل قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد<،( ) والحديث الآخر: >... فقلنا يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال’: قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم...<.( ) وبعد مراجعتنا المصادرَ الموجودة في مكتبة الكلية، تفهّم المسألةَ وبدأ يذكر الآلَ كلما يصلّي على النبي’؛ فلذا أتوقع منه ذلك.
الأب: نعم يا ولدي، هذه المبادرة من صديقك لعلها وميض أمل في أنه يتقبّل بعض الحقائق، وأنا أدعو له ولكل إنسانٍ يريد أن يصل إلى الحقيقة، أن يتجرّد من تحكّم ميوله ورواسبه الفكرية والمذهبية به، وأن ينظر إلى الموضوع المراد مناقشته والخوض فيه بروح موضوعية، ثم لا يحكم في الموضوع أو الفكرة إلا بعد الإطلاع على أسسه ومفهوماته، ثم ليحكم له أو عليه.
أما لماذا أنت شيعي؟
فدعني أبيّن لك باختصار ما تعنيه كلمة أو مصطلح (الشيعة)، فالشيعة من المشايعة بمعنى المتابعة، وقد وردت في القرآن الكريم، منها في قوله تعالى {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83]، أي من تابعي نوح×، وقوله تعالى {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه} [القصص: 15]، ووردت على لسان النبي’ في أكثر من موطن، >عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا عند النبي’، فأقبل علي×، فقال النبي’: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة<؛ ونزلت الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]<.( )
فأصل الشيعة يمتد إلى زمن النبي’، وكانت الدعوة إلى التشيّع لعلي× من صاحب الرسالة’ في حياته وإلى آخر لحظة قبل وفاته في مواطن ومواقف، سأذكر لك بعضاً منها عند الحاجة، وكان من كبار الصحابة في زمن النبي’ مَن يُلقّبون بـ (شيعة علي)، منهم سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وحذيفة بن اليمان، وخزيمة ذو الشهادتين، وغيرهم. والأدلة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً، والتي توجب جميعها الأخذ بمذهب أهل البيت^ واتّباعهم، وهو ما نعنيه بالمذهب الذي تدين به الشيعة.
أحمد: هل يمكنك أن تتفضّل عليّ بذكر بعض هذه الأدلة كما قلتَ، من كتاب الله وسنة نبيه’؛ كي تزداد معلوماتي عنها ويمكنني إطلاع صديقي عليها ومناقشته فيها ؟ ويا حبذا لو كانت معززة بالأدلة من مصادر أهل السنة.
الأب: سمعاً وطاعة يا ولدي، سأذكر لك بعضاً منها وبما يسع لها وقتك وظرفك الحالي، وأحيلك على بعضها الآخر من مصادر سأشير إليها؛ كي يتسنى لك مراجعتها في وقت فراغك.
أما الأدلة من القرآن الكريم، فهي -على سبيل المثال لا الحصر-:
1- قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، فقد ذكر جمع من مفسري أهل السنة نزولَها في أهل البيت^، قال الإمام أحمد بن حنبل: >حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمةتذكر أن النبي’ كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة( ) فدخلت عليه بها، فقال’ لها: إدعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين^، فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون، وهو’ على منامة له، وكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، قالت: فأخذ النبي’ فضل الكساء فغطاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي؛ فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فقالت: فأدخلت رأسي، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال’: لا، إنكِ إلى خير، إنكِ إلى خير<.( )
فلاحظ أن الآية الكريمة بدأت بأقوى أدوات الحصر، وهي (إنما)، حيث حصرت إذهاب الرجس -وهو كل ذنب وخبث وشك- عنهم^، وختمتها بكلمة (تطهيرا)؛ لتأكيد مسألة إذهاب الرجس عنهم. ولا تنسَ إرادته سبحانه وتعالى، وهي {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، أي تحقّق ذلك لهم^.
وقد بيّن الرسول’ بعد نزول هذه الآية الكريمة للمسلمين جميعاً، مَن هم أهل البيت؛ حتى لا يتأول المتأولون أنها نزلت في فلان وفلان، فكان كلما خرج’ إلى الصلاة يطرق باب فاطمة÷، ويتلو هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، ولمدة ستة أشهر في رواية،( ) وفي أخرى تسعة أشهر.( )
فمَن طهّره الجليل وأذهب عنه الرجس وبلغ هذه المرتبة من العصمة، أولى أن يُتّبع ويُؤخذ عنه؛ لأن غير المطهَّر من الرجس -أي غير المعصوم- يجوز عليه الكذب، ويجوز عليه السهو والنسيان.
ولم يحدثنا التاريخ -حتى التاريخ المعادي لأهل البيت^- أن أحداً من أهل البيت^ الذين خصّتهم الآية، ارتكب ولو خطأ صغيراً واحداً، بينما يحدثنا التاريخ نفسه أن مِن كبار الصحابة مَن ارتكب من المخالفات والأخطاء ما لا تعد ولا تحصى، فضلاً عن ارتكابهم الظلم لأنفسهم على أقل تقدير، من ذلك سجودهم للأصنام في الجاهلية وشركهم بالخالق العظيم وشربهم الخمر ووأدهم البنات... إلى غير ذلك، فمن يا ترى أولى بالإتّباع! كما قال تعالى {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
2- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]،
فقد ذكر المفسرون من كلا الفريقين أنها نزلت في أهل البيت^،( ) وهي الأخرى واضحة الأمر باتّباعهم، بل ومطلقِ طاعتهم، بعد أن قرنت طاعتهم وطاعةَ الرسول’. ولولا أنهم معصومون وأنهم على درجة كبيرة من التقوى والورع والعلم؛ لما أمر الله جلا وعلا بطاعتهم؛ لأنه لا يجوز على الله أن يأمر بطاعة من تجوز عليه المعصية. وقد أشار الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه في موضع آخر، إلى سيّد أولي الأمر هؤلاء، وهو الإمام علي×، حينما تصدّق بخاتمه الشريف في حادثةٍ ذكرها جمع من المفسّرين،( ) وهو قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55].
3- قوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، فقد ذكر المفسّرون أن المقصود بحبل الله سبحانه في هذه الآية، هما القرآن الكريم والعترة الطاهرة،( ) وجاء في الصواعق المحرقة لابن حجر: >أخرج الثعلبي في تفسيرها، عن جعفر الصادق، أنه قال: نحن حبل الله الذي قال الله فيه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وكان جده زين العابدين إذا تلا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، يدعو دعاءً طويلاً يشتمل على طلب اللحوق بدرجة الصادقين والدرجات العليّة، وعلى وصف المحن وما انتحله المبتدعون المفارقون لأئمة الدين والشجرة النبوية،
ثم يقول: وذهب آخرون للتقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم واتهموا مأثور الخبر... إلى أن قال: فإلى من يفزع خلف هذه الأمة، وقد درست أعلام هذه الملة، ودانت الأمة بالفرقة والإختلاف، يكفّر بعضها بعضاً، والله يقول {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة، وتأويل الحكم إلى أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى، الذي احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبرّأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب، وهو قوله تعالى{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]<.( ) ورحم الله الإمامَ الشافعي، حينما وصفهم بأبيات شعره الخالدة المتضمنة معنى هذه الآية:
ولما رأيتُ الناس قد ذهبـــــــت بهم
مذاهبهُم في أبحر الغي والجهــــــــــــــــــــلِ
ركبتُ على اسم الله في سفن النّجا
وهم أهل بيت المصطفى خاتمِ الرسل
وأمسكت حبـــــــلَ الله وهو ولاؤهم
كما قد أُمرنا بالتمــــــــــسّك بالحبـــــــــــــــــلِ( )
تلك -بعجالة- بعض الآيات الكريمة الدّالة على اتباعهم، ويمكنك الإطلاع على المزيد منها، عند مراجعتك المصادر والكتب التي كُتبت في فضائل أهل البيت^، من مؤلفي السنة والشيعة، قديمهم وحديثهم والمنتشرة في الكثير من المكتبات.( )
أحمد: شكراً لك يا والدي، فقد أتحفتني بالكثير من المعلومات، وأرجو أن تدعو لي أن أوفق للإطلاع على مثل هذه الكتب، وأن يتوفر لي الوقت الكافي لذلك.
إني أرجو أن تستمر في حديثك، وتذكر لي بعض الأدلة من سنة النبي’، والتي توجب اتّباع مذهب أهل البيت^ والذي نتعبد نحن به.
الأب: إن الأحاديث النبوية الشريفة التي توجب اتّباع أهل البيت^ وطاعتهم، والتعبّد بما ورد عنهم عن جدهم’ كثيرةٌ جداً، وسأوجز لك بعضاً منها:
1- حديث الثقلين. قال’: >إني تاركٌ -أو مخلّفٌ- فيكم الثقلين، كتابَ الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا، وأن اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض<،( ) وفي بعض الروايات الزيادة الآتية: >فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم<.( )
فهذا الحديث بلغ حد التواتر لدى الفريقين، أي رواه عدد كبير من الثِقات لا يمكن التصديق بتواطئهم على الكذب، وقد روي بألفاظ متعددة، إلا أنها تؤدي إلى معنى واحد. وفي الحديث مطالب عديدة ومفيدة، يجدر بالباحث عن الحقيقة أن يقف عندها ويستجليها...، وقد كرّر’ ذلك في مواقف ومواطن عدّة، فقد قرنهم الرسول’ بالقرآن، وهذا ما له من الدلالة الواضحة على وجوب اتباعهم، وأنهم معصومون، كما أن القرآن {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وأنهم متواجدون في كل زمن وإلى يوم القيامة، كما هو شأن القرآن الكريم. ومن المفيد أن أطلعك على ما قاله أحد علماء أهل السنة والمدافعين عنهم، وهو ابن حجر المكي الهيثمي في كتابه (الصواعق المحرقة)، الذي ألّفه في الرد على الشيعة، وهو من حيث لا يشعر امتدح أتباع أهل البيت^ واوجب اتّباعهم، قال في تعليقه على هذا الحديث: >وفي رواية صحيحة: >إني تاركٌ فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما، وهما: كتاب الله وأهل بيتي عترتي<،
ثم قال: واعلم أن لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة، وردت عن نيّف وعشرين صحابياً، وفي بعض الطرق أنه’ قال ذلك في حجة الوداع بعرفة، وأخرى بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه’ قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه’ قاله لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف... ولا تنافي إذ لا مانع من أنه’ كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها؛ اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة<، وبعد سطور قال: >تنبيه! سمّى رسول الله’ القرآن وعترته ثقلين؛ لأن الثِقل كل نفيس خطير مصون وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم الدينية والأسرار والحِِكم العليّة والأحكام الشرعية، ولذا حثّ’ على الإقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم...، ويؤيد الخبر السابق: >ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم<، فتميّزوا بذلك عن بقية العلماء؛ لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة...، وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت، إشارةٌ إلى عدم انقطاع العالم عن التمسّك بهم إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض... ثم أحقّ من يُتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب(كرّم الله وجهه)؛ لِما قدّمنا من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته<.( )
وأعتقد أن في تعليق ابن حجر على هذا الحديث، ما فيه الكفاية للتمسك بمذهب أهل البيت^ واتّباعهم؛ فلا حاجة للتعليق.
2- حديث السفينة. قال’: >إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له<،( ) وهو أيضاً من الأحاديث المتواترة، والمراد من تشبيههم^ بسفينة نوح، أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه عن أئمتهم الميامين، نجا من عذاب النار وبرئت ذمته أمام الله سبحانه، ومَن تخلّف عنهم كان كابن نوح آوى إلى جبل ليعصمه وينجيه من الطوفان، لكنه غرق في الماء وهلك، فمن لم يتمسّك بالعترة هوى في الجحيم.
والوجه في تشبيههم^ بباب حطة، هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله، والبخوع في اتباع حكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة، وقد جعل انقياد هذه الأمة لأهل البيت^ والإتباع لأئمتهم مظهراً من مظاهر التعبّد والإلتزام المسبّب نيلَ المغفرة.
تصوّر نفسك يا ولدي، على شاطئ تريد السفر منه، وأن أمامك ثلاث وسبعون سفينة،( ) كلها ستغرق إلا واحدة ستصل إلى الهدف بأمان، وكل أصحاب السفن ينادون: نحن الناجون. وخلال حيرتك جاءك خبير السفن -وكنت تعرف صدقه- وقال لك: إن ركبت السفينة التي عليها رقم 12( ) نجوتَ، وإذا تخلّفت عنها غرقت، بعد هذا هل ستترك سفينة الإثني عشر وتعدل إلى غيرها؟
ونحن هنا يا عزيزي، في سفينة الحياة يحدد لنا الرسول’ السفينةَ الناجية، فلماذا لا نقبل إرشاده ونصحه! لقد نادى نوح× ابنه ليركب سفينته { يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42]؛ شفقةً عليه، وهكذا رسول الله’ ينادي أمته التي علِم بتفرّقها، >مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا...<؛ إشفاقاً منه على أمته؛ لأنه’ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
3- >عن زياد بن مطرف، قال: سمعت رسول الله’، يقول: من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد؛ فليتولّ علياً وذريّته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم بابَ هدىً ولن يدخلوكم بابَ ضلالة<.( )
4- وقال’: >النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمتي من الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس<.( )
فلاحظ يا عزيزي، أن هذه الأحاديث وأمثالها الكثير الكثير، تفرض اتّباع هؤلاء الذين لن يخرجونا من باب هدىً، ولا يدخلونا باب ضلالة، وأنهم أمانٌ من الإختلاف، وأن كل من يخالفهم يصبح حزب إبليس. ولو وردت مثل هذه الآيات والحاديث في غيرهم لوجب اتباعهم؛ لأنه’ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وأن الأخذ عنه واجب ومفروض على جميع المسلمين؛ لقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولمّا لم يرد في حق غيرهم -ولو بمقدار عشر ما ورد في حق أهل البيت^، من لزوم الإتّباع والطاعة- فقد وجب الأخذ عنهم^ واتّباع مذهبهم الحق.
يختزن أحمد في ذاكرته هذه المعلومات التي أفاضها أبوه عليه، والمصادر خاصة سجّلها في مذكرته، وعاد إلى جامعته والتقى بصديقه عثمان، الذي كان متشوّقاً للقائه واستماع ما يحمله له زميله من معلومات، ودار بينهما حوار هادئ في إحدى ليالي الجمعة في القسم الداخلي، فما كان من صديقه عثمان إلا الإنصات لما يقوله أحمد، ويسجّل الأحاديث وتفسير الآيات من المصادر التي يذكرها له، ويتحقق بعد ذلك من المصادر المتوفّر أغلبها في مكتبة الكلية، وتظهر على قسمات وجهه علامات القناعة والرضا بما ذكره له صديقه، إلاّ أنه لم ينتهِ به الحديث مع أحمد سوى إلى قوله: أمهلني بعض الوقت؛ كي أتحقق مما قلتَه وذكرته من مصادر. ويعود عثمان إلى أهله في الموصل ويطرح تساؤلاته على إمام المسجد الذي يصلّي خلفه صلاة الجمعة، فلم تكن أجوبة ذلك الإمام مقنعة أو مستندة إلى دليل علمي كما عوّده صديقه أحمد، أضف إلى ذلك ما يتمتع به الإمام من غلظة وكيلٍ التهم للآخر؛ فاتجه عثمان باعتباره شاباً مؤمناً ومثقفاً يريد الوصول إلى الحقيقة، إتجه إلى مواقع الإنترنت الإلكترونية؛ ليتصفح الكتب والمصادر والموضوعات التي يبحث عنها، ولكنه لم يصل إلى نتيجة نهائية؛ لتشعّب الموضوعات وكثرتها وخطورة الأمر وحساسيته الذي هو في صدد البحث عنه، فقرر بعد عودته إلى بغداد أن يفاتح أحمد بما استجد له من أسئلة، وما وجده في الكتب والآراء المختلفة حول هذه الموضوعات، وكان أحمد هو الآخر لا يمتلك رؤية كاملة، ولم يٌحط علماً بكل تساؤلات صديقه عثمان، فكان يجيب عن بعض ما تعلّمه وسمعه من أبيه، ويعِد صديقه عثمان بالسؤال والإستفسار من أبيه عن بعضها الآخر.
وقد كان أهم سؤالٍ مُلحّ يريد عثمان معرفته، هو أن السُنّة هم الآخرون يحبّون أهل البيت^ ويحترمونهم ويترضّون عنهم عندما تُذكر أسماؤهم، فكيف يُعقل أن أهل السُنّة على كثرتهم وعلمائهم خاصّة، أنهم لم يفهموا معنى هذه الآيات والأحاديث، أنها توجب التعبّد على وفق مذهب أهل البيت^، ويتركون ذلك! وعند عودة أحمد إلى النجف ولقائه أبيه، طرح عليه سؤال صديقه عثمان:
أحمد: ما الفرق يا والدي، بين أهل السنة والشيعة، ما دام أهل السنة يُحبّون أهل البيت^ ويحترمونهم؟ وإذا كان الفرق بيننا في القضايا التعبّدية -كالوضوء والصلاة...- أفلا يمكن عدّها اختلافات اجتهادية، لا تتجاوز الإختلاف بين المجتهدين؟
الأب: إن الحب العاطفي المجرد من معناه ولوازمه ليس بكافٍ يا عزيزي، فالمعنى الحقيقي للحب هو الإتّباع والإقتداء، ألم تقرأ قوله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، فاتّباع الرسول’ هو اتّباعٌ لله تعالى؛ لأن الرسول’ هو الممثل لشرع الله تعالى، أضف إلى ذلك أن اتّباع الرسول’ وطاعته هي طاعة لله تعالى، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وهذه كتبهم الفقهية التي يتعبّدون بأقوال فقائهم فيها، والتي اعتمدوا في استنباط أحكامهم عليها، قد أخذوها من صحاحهم الحديثية الخالية من روايات أهل البيت^، بل المليئة بأقوال مخالفي أهل البيت^، فكيف يصح القول أن أهل السنة يحبون أهل البيت^، وهم يأخذون بأقوال مخالفيهم!
صحيح أننا لا نختلف معهم في جميع القضايا العقائدية، والتي هي أصول الإسلام، إلا أن الإختلاف في المسائل العبادية قد تجاوز مسائل الإجتهاد إلى مخالفة صريح القرآن الكريم، وسأضرب لك مثالاً على ذلك؛ حتى تتوضح المسألة أمامك:
إن الفخر الرازي -وهو من عظماء المفسّرين والعلماء عند أهل السنة- عندما يأتي إلى آية الوضوء في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فإنه يتناول الآية ويثبت من جميع الوجوه أنها توجِب مسحَ الأرجل -وهو ما يطابق الذي ورد من روايات عن أهل البيت^، عن جدّهم النبي’- إلا أنه على الرغم من علمه وفضله، يختم بحثه برواية عن طريق مخالف لأهل البيت^، يخالف فيها القرآن الكريم، ليقرّر أن الغسل -أي غسل الأرجل- هو الأصح والواجب، ويقرر أن الرواية التي استند إليها تقضي على آي القرآن.( )
وكما تعلّمت، وهو معروف وثابت لدى جميع المسلمين، أنه إذا لم يصح الوضوء، فلا تصحّ عندئذٍ الصلاة، وإذا لم تصح الصلاة( ) -إذا افترضنا أن الوضوء الذي نتحدث عنه للصلاة الواجبة، أي صلاة الفريضة، وإلا هنالك الكثير من الأفعال الواجبة والمستحبّة الأخرى، تتوقّف صحتها على الوضوء منها الطواف حول الكعبة، وصلاة الطواف، ومس كتاب الله سبحانه، وغير ذلك- لم تصح الأعمال الأخرى؛ لأن الصلاة إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت رد ما سواها،( ) هذا غيض من فيض.
أحمد: إنني لم أسمع بمثل هذا من قبل، وهل يعلمُ أهل السنة ذلك؟ وأتمنى أن لا يكون صديقي عثمان قد عرف ذلك؛ حتى تبقى شخصيته المحببة أمامي كما هي، وأود قبل أن تحدثني عن سؤالي هذا، أن استفسر عن أمرين ذكرتَهما خلال حديثك الشائق، الأمر الأول: قد ذكرتَ يا والدي، أن صحاح أهل السنة المعتمدة عندهم، مليئة بروايات مخالفي أهل البيت^، فهلا ذكرتَ لي مثالا واحداً بمصدره؟
والأمر الثاني: أنك ذكرت أيضاً، أننا لا نختلف معهم -أي أهل السنة- في جميع القضايا العقائدية، وهذا يعني ضمناً أننا نختلف معهم في بعضها، فهل بإمكانك أن تحدثني عن بعض ذلك؟ وأنا أستميحك العذر.
الأب: أما سؤالك، هل يعلم أهل السنة بذلك؟ فنعم، إن الأعم الأغلب من علمائهم وبعض من عوامهم قد اطّلعوا على ذلك، إلا أنهم انقسموا على فريقين، فمنهم من تحقّق وتوصّل إلى الحقيقة؛ لأن الحقيقة واحدة لا تتعدّد، وانتقل إلى الإعتقاد بمذهب أهل البيت^، وهم بالعشرات بل المئات، وهم من علماء أهل السنة ومثقفيها، منهم التيجاني التونسي، والورداني المصري...، فإذا أحببت أن تتعرف إلى هؤلاء وكتبهم وكيفية انتقالهم إلى مذهب أهل البيت^، فبإمكانك تصفّح الموقع الإلكتروني: www.aqaed.com .
وأما الفريق الآخر فبقي متمسكاً برأي مذهبه، وصعبَ عليه ترك الكثرة من المسلمين من معتنقي مذهبه، من آبائه وأقرانه وعشيرته ومجتمعه الذي يعيش فيه، ولا تنسَ ما للحاكم أو الخليفة من التأثير في عقائد المسلمين، وأما عن سؤالك وطلبك ذكرَ بعض مخالفي أهل البيت^، الذين يَعتمد عليهم أصحاب الصحاح المعتبرة لدى أهل السنة فهم كثرة، فهذا البخاري وغيره يروي عن الخوارج، الذي خرجوا عن الإمام علي× وقاتلوه بل قتلوه، منهم عمران بن حِطان الخارجي، الذي امتدح عبد الرحمن بن ملجم قاتلَ الإمام علي×! في شعره المعروف:
يا ضربةً من تقي ما أراد بها
إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا( )
لاحظ هذا الراوي الموثّق لدى البخاري، والذي يروي سنّة رسول الله’، يصف قاتل ابن عم الرسول’ ووصيه وخليفته وباب مدينة علمه بأنه تقي، وما أراد إلا رضوان الله تعالى بقتله علياً×!!
وإليك مثالاً آخر، في أبي هريرة الدوسي، الذي يُعدّ عند أهل السنة راويةَ الإسلام...، فهذا الرجل قد أغنى صحاح أهل السنة بأكثر من أربعة الآف حديث، أي لو جمعت أحاديث الخلفاء وأمهات المؤمنين لم تصل إلى ثُمن روايات هذا الرجل!! والأعم الأغلب من هذه الروايات كانت من صنعه وأكاذيبه، حتى انه اعترف ذات مرّة عندما حُوصر من قبل بعض الصحابة الذين سمعوا أحاديث النبي’، فسألوه: هل سمعت هذا الحديث من رسول الله’ أم من عندك؟ فأجابهم: إنه من كيس أبي هريرة!( ) >وقد نهاه عمر بن الخطاب عن رواية الحديث وضربهُ بالدرة، وقال له: >قد أكثرت من الرواية! أحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله’<، وقال فيه علي×: >أكذب الناس على رسول الله’ أبو هريرة الدوسي<<.( ) وكان يضع الأحاديث المكذوبة في ذم أمير المؤمنين× لقاء دراهم معدودة، فاسمع ما ينقله لنا ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة( ) قال: >وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي، أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي× تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم جعلاً وعطايا مغرية
فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير<. وفي الصفحة 67 من المصدر نفسه، يقول: >وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراقَ مع معاوية، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس، جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي في النار؟ والله لقد سمعت رسول الله’، يقول: إن لكل نبي حرماً، وإن حرمي المدينة، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهدُ بالله أن علياً أحدث فيها!<، فهذا يا ولدي، راوية إسلام أهل السنة.
أما قولك إن كلامي يتضمن أننا نختلف مع أهل السنة في بعض المسائل العقائدية، فإني أود أن أقول لك باختصار، أن هنالك نوعين من الأصول العقائدية، الأول: أصول الإسلام، وهي التوحيد والنبوة والمعاد، وهذه الأصول لا يختلف فيها اثنان من أي مذهب، وكل من يعتقد بهذه الأصول يكون مسلماً، وتترتب عليه جميع الواجبات والحقوق للمسلم الآخر. أما الثاني: فأصول المذهب -الجعفري أو الإمامي أو الشيعي- وهي خمسة: التوحيد، العدل الإلهي، النبوة، الإمامة، المعاد. وكل من يعتقد بهذه الأصول يكون مؤمناً.
أحمد: عذراً لك يا أبي عن المقاطعة، فأنا أفهم من كلامك أن كل مؤمن هو بالضرورة مسلم، ولكن ليس كل مسلمٍ مؤمنا، وأن المؤمن أعلى درجة في الكمال من المسلم. أليس كذلك؟
الأب: تماماً كما فهمتَ، فالقرآن الكريم وصف أقواماً ادّعوا الإيمان -بولاية علي× وإمامته- ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا كذلك؛ لأن الإيمان في القلب لا باللسان، بل رد عليهم بأنهم تلفّظوا بالشهادتين فقط بلسانهم، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]،
ونحن نختلف مع أهل السنة كما لاحظت في مسألة الإمامة؛ لأنهم يدمجون مسألة العدل الإلهي في الأصل الأول وهو التوحيد، أما من يخلف النبي’ (الإمامة أو الخلافة)- لا يعدّونها أصلاً من أصول الدين، بل أمراً خاضعاً للإجتهاد، حاله كحال أية مسألة من مسائل الفقه. في حين أن الصراع والإختلاف الذي حصل بين المسلمين، منذ اليوم الذي توفي فيه الرسول’، إلى يومنا هذا، مصدره الإختلاف في أمر الإمامة، ومن المفيد أن أنقل لك قول محمد بن عبد الكريم الشهرستاني أحد علماء السنة الكبار، حيث يقول: >وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان<.( )
لذلك ينبغي لصديقك عثمان، وكل من يريد البحث عن الحقيقة وطريق الهداية والصواب، أن لا يشتغل بأية مسألة خلافية غير الإمامة؛ لأن الباحث عن الحقيقة لو أنه أراد أن يتحقق ويبحث في كل مسألة خلافية -عدا الإمامة- على حِدة، فسوف يموت قبل أن يهتدي إلى الحقيقة ويتوصّل إليها، حيث إنه توجد وتطرح الآف الإشكالات التي تُوجّه ضد مذهب أهل البيت^، وبخاصة التراكمات والتبعات التي خلّفها الحكام الأمويين والعباسيين وغيرهم؛ لأنهم يعدّون أهل البيت^ هم العقبةَ الوحيدة أمامهم، فإذا عرف الإنسان المسلم الأئمةَ الذين اختارهم الله لدينه، لم يبق عليه إلا طاعتهم والإنضمام تحت لوائهم، ولا يجوز مخالفتهم والإعتراض عليهم؛ لأنهم لن يُخرِجوا الأمة من طاعة الله عز وجل، ولن يدخلوهم معصيتَه سبحانه وتعالى، وأن المتمسك بهم لن يضلّ أبدا، وفقاً لما جاء في أحاديث النبي’ الصحيحة المتفق عليها لدى جميع فرق المسلمين.
أحمد: عرفت منك مسبقاً أن أصول الدين لا يجوز التقليد فيها، حتى تقليد من يمتلك درجة عالية من العلم، فضلاً عن تقليد الآباء والأجداد، وأن الإمامة أحد أصول الدين، فهل يمكنك أن ترشدني وتدلني إلى أفضل المصادر؛ كي يسهل عليّ وعلى كل من يريد البحث في هذا الموضوع؛ لاختصار الطريق وللوصول إلى معرفة ذلك، لأنك مطّلعٌ ومحيطٌ بالموضوع؟
الأب: هناك العديد من المصادر في هذا الشأن، ومن المناسب في مرحلتك، أن تغتني بقراءة كتاب (المراجعات) للمرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين، فهو عبارة عن مناظرات في شكل رسائل متبادلة بين عالم كبير من علماء السنة وشيخ الأزهر في وقته، وعالم شيعي من مراجع عصره، وهذه المناظرات تدور حول موضوع الإمامة عامةً، وإمامة أهل البيت^ خاصةً، وبطريقة علمية وجامعة لشروط الحوار العلمي الجاد والبنّاء، وكتابٍ آخر صغير في حجمه عظيم في قدره، وهو (بحث حول الولاية) للشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده).
إعداد الأستاد: حبيب الكسّار:
تحقيق : مرتضى علي الحلي :النجف الأشرف:
إعداد
حبيب ظاهر كسّار
تحقيق
مرتضى علي الحلي
مؤسسة أحباب الصدّيقة الطاهرة(ع)
النجف الأشرف
هذا الكرّاس عبارة عن حوار دار بين شاب وأبيه، عندما عرضت لهذا الشاب بعض الأسئلة من طرف صديقه في الجامعة.
أحمد شاب مؤمن، أكمل دراسته الثانوية، وحصل على قبول في جامعة بغداد كليةِ الإدارة والإقتصاد، وهو للمرة الأولى في حياته يفارق أهله وأصدقاءه ويبتعد عنهم -إذ أنه يسكن في مدينة النجف الأشرف- وكان والده يعامله كما لو كان أخاً له؛ إذ كان يصطحبه معه في الكثير من المناسبات والأوقات؛ ويقدّمه لأصدقائه بقوله لهم -مزاحاً-: >أعرّفكم إلى أخي الصغير<، وكان أحمد فعلاً كأخٍ لأبيه بكل معنى الكلمة، حيث كانا يتبادلان الإحترام والحديث كصديقين، وهذا الأسلوب من التعامل من طرف الأب، له التأثير الكبير في معرفة ما يفكّر به الإبن ويصارح أباه بما يختلج في ذهنه، مما يساعد على حل كثير مما يعانيه الشاب في مثل هذه المرحلة من مشاكل.
وفي الأسابيع الأُوَل من الفصل الدراسي، وفي نهاية عطلة أحد الأسابيع، عاد أحمد إلى مدينة النجف للقاء أبيه وعائلته، بعد غيبةٍ تكاد تكون طويلة بالنسبة له، ولغرض أخذ بعض الحاجات التي يريدها في مسكنه الجديد في القسم الداخلي، والتي سجّلها على ورقة في قائمة.
لمح الأب على وجه ولده بعض العلائم، وبعض حركات عينيه كانت على غير العادة، والتي توحي للأب بخجل ولده منه عندما يتحدث معه، أوجس الأب في نفسه خيفةً على ولده، على الرغم من ثقته الكبيرة بولده من حيث الإلتزام الديني، إلا أن الظرف (الغربة، الجامعة، الإختلاط) قد تؤثر في الفرد، وسرعان ما زال هذا الهاجس عن فكر الأب، عندما بادر أحمد أباه بمفاتحته أن لديه مجموعة من الأسئلة العقائدية، التي عرضت عليه من قبل صديقه، والذي تعرّف إليه في الجامعة والساكن معه في الغرفة نفسها من القسم الداخلي، واسمه عثمان وهو من أهل الموصل
أحمد: لماذا أنا شيعي يا والدي؟
الأب: -بابتسامة عريضة- ما الذي حصل يا عزيزي؟
أحمد: في الأيام الأولى من دخولي إلى الجامعة، حان وقت صلاة الظهر في أحد الأيام، سألتُ بعض الطلاب عن مسجد الكلية، فأشار إلى غرفة في أحد جوانب الكلية كُتب عليها كلمة (المصلّى)، وعند دخولي المصلى وجدت بعض السجادات المفروشة باتجاه القبلة وكانت خالية من تُرَب السجود، فبحثت يميناً وشمالاً فعثرت على تربة صغيرة، وُضعت على أحد رفوف الغرفة المعدّة للصلاة فصلّيت، وبعد فراغي من الصلاة سلّم عليّ زميلي عثمان، وكان قد أنهى صلاته بجنبي، وبادرني بعبارة: >تقبّل الله<، فرددت عليه: >منّا ومنكم<، وخرجنا معاً من المصلى.
وفي طريقنا إلى القسم الداخلي، دار بيننا حديث شائق عن الدين وضرورته، والإلتزام ومظاهر التبرّج... وسألني بعض الأسئلة عن عموم المسائل الدينية، وبعضها خاصة نظير: لماذا وجدتك تسجد على قطعة من الحجر، ولم تصلّ على السجادة؟ ولماذا لم تضع يديك على بعضها أثناء القراءة (تتكتّف)؟ ولماذا ولماذا؟
فأجبته عن بعض أسئلته التي أمتلك جواباً أكيداً عنها، وأما المتبقي فاكتفيت بالجواب عنها، بأن المجتمع المتديّن في النجف، يتعبّدون في مسائلهم الشرعية منها الصلاة وأفعالها، على وفق ما ورد في الرسائل العملية للمراجع المجتهدين الأحياء، ويقلّدونهم في فروع الدين.
وأما بعض من أسئلته فقد اعتذرت له عنها، وطلبت منه أن يمهلني إلى حين سؤالي عنها أو التأكد منها، إذ تذكّرت كلامَك الذي كنت تردده وتسمعنيه على الدوام، أن لا أجيب عن شيءٍ لم أتأكد منه.
ومن أهم الأسئلة التي سألنيها: >هل أنت شيعي، ولماذا؟<، فأجبته: نعم، أنا شيعي. أما الجواب عن (لماذا)، فعلى الرغم من امتلاكي بعض الأدلة التي تمكنني من أن أجيب عن ذلك، إلا أنني أردت أن أحيط بالمسألة درايةً منك، فطلبت منه أن يمهلني إلى وقت آخر.
الأب: حسناً ما فعلتَ يا ولدي. وقبل أن أجيبك عن السؤال المهم >لماذا أنت شيعي؟<
أود أن أعرف منك هل أنّ صديقك هذا يمتلك روح التفهّم والحوار؟ وهل تتوقع منه أنه سيقبل منك أجوبتك ويقتنع بها، حينما تأتيه بالدليل العلمي المقنِع؟ لأن البيئة يا عزيزي، والظروف المحيطة بالإنسان غالباً ما يكون لها الأثر البالغ في تحديد فكر الإنسان واتجاهاته، حيث الموروثات البيئية تصبح بمرور الزمن وبالإعتياد عليها قولاً وسلوكاً، حقائقَ ثابتة لا يجوز عنده الخروج عنها،
فإذا ما عُرض على إنسان شيء يخالف معتقداته، فإن الرواسب الفكرية لعائلته ومجتمعه، والتي صارت تجري في عروقه، تنبعث تلقائياً وتقف في وجه كل من يخالفها، ولكن المسلم، ذلك الإنسان العظيم يفرض عليه دينُه أن يرحّب بأفكار الآخرين ويناقشها بالإنفتاح والموضوعية، سيما إذا كانت مطابقة لما جاء به القرآن والسنة المطهرة.
أحمد: من خلال معاشرتي القصيرة له، لمست فيه روح التفهّم وعدم التعصّب، وذلك حينما نبهته على ضرورة ذكر الآل عند الصلاة على النبي’، حيث كان يكتفي بقول: >صلى الله عليه وسلّم< عند ذكر النبي’، وذكرت له -حسبما تعلمته منك ذات مرة، وأنت تشرح هذه المسألة لأحد أصدقائك عندنا بالبيت- أنه’، قال: >لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال’: تقولون: اللهم صلّ على محمد، وتمسكون بل قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد<،( ) والحديث الآخر: >... فقلنا يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال’: قولوا: اللهم صلّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم...<.( ) وبعد مراجعتنا المصادرَ الموجودة في مكتبة الكلية، تفهّم المسألةَ وبدأ يذكر الآلَ كلما يصلّي على النبي’؛ فلذا أتوقع منه ذلك.
الأب: نعم يا ولدي، هذه المبادرة من صديقك لعلها وميض أمل في أنه يتقبّل بعض الحقائق، وأنا أدعو له ولكل إنسانٍ يريد أن يصل إلى الحقيقة، أن يتجرّد من تحكّم ميوله ورواسبه الفكرية والمذهبية به، وأن ينظر إلى الموضوع المراد مناقشته والخوض فيه بروح موضوعية، ثم لا يحكم في الموضوع أو الفكرة إلا بعد الإطلاع على أسسه ومفهوماته، ثم ليحكم له أو عليه.
أما لماذا أنت شيعي؟
فدعني أبيّن لك باختصار ما تعنيه كلمة أو مصطلح (الشيعة)، فالشيعة من المشايعة بمعنى المتابعة، وقد وردت في القرآن الكريم، منها في قوله تعالى {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 83]، أي من تابعي نوح×، وقوله تعالى {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّه} [القصص: 15]، ووردت على لسان النبي’ في أكثر من موطن، >عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنّا عند النبي’، فأقبل علي×، فقال النبي’: والذي نفسي بيده، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة<؛ ونزلت الآية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7]<.( )
فأصل الشيعة يمتد إلى زمن النبي’، وكانت الدعوة إلى التشيّع لعلي× من صاحب الرسالة’ في حياته وإلى آخر لحظة قبل وفاته في مواطن ومواقف، سأذكر لك بعضاً منها عند الحاجة، وكان من كبار الصحابة في زمن النبي’ مَن يُلقّبون بـ (شيعة علي)، منهم سلمان الفارسي، وعمار بن ياسر، وأبو ذر الغفاري، وحذيفة بن اليمان، وخزيمة ذو الشهادتين، وغيرهم. والأدلة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة كثيرة جداً، والتي توجب جميعها الأخذ بمذهب أهل البيت^ واتّباعهم، وهو ما نعنيه بالمذهب الذي تدين به الشيعة.
أحمد: هل يمكنك أن تتفضّل عليّ بذكر بعض هذه الأدلة كما قلتَ، من كتاب الله وسنة نبيه’؛ كي تزداد معلوماتي عنها ويمكنني إطلاع صديقي عليها ومناقشته فيها ؟ ويا حبذا لو كانت معززة بالأدلة من مصادر أهل السنة.
الأب: سمعاً وطاعة يا ولدي، سأذكر لك بعضاً منها وبما يسع لها وقتك وظرفك الحالي، وأحيلك على بعضها الآخر من مصادر سأشير إليها؛ كي يتسنى لك مراجعتها في وقت فراغك.
أما الأدلة من القرآن الكريم، فهي -على سبيل المثال لا الحصر-:
1- قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، فقد ذكر جمع من مفسري أهل السنة نزولَها في أهل البيت^، قال الإمام أحمد بن حنبل: >حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدثني من سمع أم سلمةتذكر أن النبي’ كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة( ) فدخلت عليه بها، فقال’ لها: إدعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين^، فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون، وهو’ على منامة له، وكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}، قالت: فأخذ النبي’ فضل الكساء فغطاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي؛ فأذهِب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فقالت: فأدخلت رأسي، فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ فقال’: لا، إنكِ إلى خير، إنكِ إلى خير<.( )
فلاحظ أن الآية الكريمة بدأت بأقوى أدوات الحصر، وهي (إنما)، حيث حصرت إذهاب الرجس -وهو كل ذنب وخبث وشك- عنهم^، وختمتها بكلمة (تطهيرا)؛ لتأكيد مسألة إذهاب الرجس عنهم. ولا تنسَ إرادته سبحانه وتعالى، وهي {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، أي تحقّق ذلك لهم^.
وقد بيّن الرسول’ بعد نزول هذه الآية الكريمة للمسلمين جميعاً، مَن هم أهل البيت؛ حتى لا يتأول المتأولون أنها نزلت في فلان وفلان، فكان كلما خرج’ إلى الصلاة يطرق باب فاطمة÷، ويتلو هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، ولمدة ستة أشهر في رواية،( ) وفي أخرى تسعة أشهر.( )
فمَن طهّره الجليل وأذهب عنه الرجس وبلغ هذه المرتبة من العصمة، أولى أن يُتّبع ويُؤخذ عنه؛ لأن غير المطهَّر من الرجس -أي غير المعصوم- يجوز عليه الكذب، ويجوز عليه السهو والنسيان.
ولم يحدثنا التاريخ -حتى التاريخ المعادي لأهل البيت^- أن أحداً من أهل البيت^ الذين خصّتهم الآية، ارتكب ولو خطأ صغيراً واحداً، بينما يحدثنا التاريخ نفسه أن مِن كبار الصحابة مَن ارتكب من المخالفات والأخطاء ما لا تعد ولا تحصى، فضلاً عن ارتكابهم الظلم لأنفسهم على أقل تقدير، من ذلك سجودهم للأصنام في الجاهلية وشركهم بالخالق العظيم وشربهم الخمر ووأدهم البنات... إلى غير ذلك، فمن يا ترى أولى بالإتّباع! كما قال تعالى {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
2- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]،
فقد ذكر المفسرون من كلا الفريقين أنها نزلت في أهل البيت^،( ) وهي الأخرى واضحة الأمر باتّباعهم، بل ومطلقِ طاعتهم، بعد أن قرنت طاعتهم وطاعةَ الرسول’. ولولا أنهم معصومون وأنهم على درجة كبيرة من التقوى والورع والعلم؛ لما أمر الله جلا وعلا بطاعتهم؛ لأنه لا يجوز على الله أن يأمر بطاعة من تجوز عليه المعصية. وقد أشار الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه في موضع آخر، إلى سيّد أولي الأمر هؤلاء، وهو الإمام علي×، حينما تصدّق بخاتمه الشريف في حادثةٍ ذكرها جمع من المفسّرين،( ) وهو قوله تعالى {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55].
3- قوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، فقد ذكر المفسّرون أن المقصود بحبل الله سبحانه في هذه الآية، هما القرآن الكريم والعترة الطاهرة،( ) وجاء في الصواعق المحرقة لابن حجر: >أخرج الثعلبي في تفسيرها، عن جعفر الصادق، أنه قال: نحن حبل الله الذي قال الله فيه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وكان جده زين العابدين إذا تلا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، يدعو دعاءً طويلاً يشتمل على طلب اللحوق بدرجة الصادقين والدرجات العليّة، وعلى وصف المحن وما انتحله المبتدعون المفارقون لأئمة الدين والشجرة النبوية،
ثم يقول: وذهب آخرون للتقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم واتهموا مأثور الخبر... إلى أن قال: فإلى من يفزع خلف هذه الأمة، وقد درست أعلام هذه الملة، ودانت الأمة بالفرقة والإختلاف، يكفّر بعضها بعضاً، والله يقول {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة، وتأويل الحكم إلى أهل الكتاب، وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى، الذي احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبرّأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب، وهو قوله تعالى{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]<.( ) ورحم الله الإمامَ الشافعي، حينما وصفهم بأبيات شعره الخالدة المتضمنة معنى هذه الآية:
ولما رأيتُ الناس قد ذهبـــــــت بهم
مذاهبهُم في أبحر الغي والجهــــــــــــــــــــلِ
ركبتُ على اسم الله في سفن النّجا
وهم أهل بيت المصطفى خاتمِ الرسل
وأمسكت حبـــــــلَ الله وهو ولاؤهم
كما قد أُمرنا بالتمــــــــــسّك بالحبـــــــــــــــــلِ( )
تلك -بعجالة- بعض الآيات الكريمة الدّالة على اتباعهم، ويمكنك الإطلاع على المزيد منها، عند مراجعتك المصادر والكتب التي كُتبت في فضائل أهل البيت^، من مؤلفي السنة والشيعة، قديمهم وحديثهم والمنتشرة في الكثير من المكتبات.( )
أحمد: شكراً لك يا والدي، فقد أتحفتني بالكثير من المعلومات، وأرجو أن تدعو لي أن أوفق للإطلاع على مثل هذه الكتب، وأن يتوفر لي الوقت الكافي لذلك.
إني أرجو أن تستمر في حديثك، وتذكر لي بعض الأدلة من سنة النبي’، والتي توجب اتّباع مذهب أهل البيت^ والذي نتعبد نحن به.
الأب: إن الأحاديث النبوية الشريفة التي توجب اتّباع أهل البيت^ وطاعتهم، والتعبّد بما ورد عنهم عن جدهم’ كثيرةٌ جداً، وسأوجز لك بعضاً منها:
1- حديث الثقلين. قال’: >إني تاركٌ -أو مخلّفٌ- فيكم الثقلين، كتابَ الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا، وأن اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض<،( ) وفي بعض الروايات الزيادة الآتية: >فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم<.( )
فهذا الحديث بلغ حد التواتر لدى الفريقين، أي رواه عدد كبير من الثِقات لا يمكن التصديق بتواطئهم على الكذب، وقد روي بألفاظ متعددة، إلا أنها تؤدي إلى معنى واحد. وفي الحديث مطالب عديدة ومفيدة، يجدر بالباحث عن الحقيقة أن يقف عندها ويستجليها...، وقد كرّر’ ذلك في مواقف ومواطن عدّة، فقد قرنهم الرسول’ بالقرآن، وهذا ما له من الدلالة الواضحة على وجوب اتباعهم، وأنهم معصومون، كما أن القرآن {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، وأنهم متواجدون في كل زمن وإلى يوم القيامة، كما هو شأن القرآن الكريم. ومن المفيد أن أطلعك على ما قاله أحد علماء أهل السنة والمدافعين عنهم، وهو ابن حجر المكي الهيثمي في كتابه (الصواعق المحرقة)، الذي ألّفه في الرد على الشيعة، وهو من حيث لا يشعر امتدح أتباع أهل البيت^ واوجب اتّباعهم، قال في تعليقه على هذا الحديث: >وفي رواية صحيحة: >إني تاركٌ فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما، وهما: كتاب الله وأهل بيتي عترتي<،
ثم قال: واعلم أن لحديث التمسك بهما طرقاً كثيرة، وردت عن نيّف وعشرين صحابياً، وفي بعض الطرق أنه’ قال ذلك في حجة الوداع بعرفة، وأخرى بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه’ قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه’ قاله لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف... ولا تنافي إذ لا مانع من أنه’ كرّر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها؛ اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة<، وبعد سطور قال: >تنبيه! سمّى رسول الله’ القرآن وعترته ثقلين؛ لأن الثِقل كل نفيس خطير مصون وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم الدينية والأسرار والحِِكم العليّة والأحكام الشرعية، ولذا حثّ’ على الإقتداء والتمسّك بهم والتعلّم منهم...، ويؤيد الخبر السابق: >ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم<، فتميّزوا بذلك عن بقية العلماء؛ لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة...، وفي أحاديث الحث على التمسّك بأهل البيت، إشارةٌ إلى عدم انقطاع العالم عن التمسّك بهم إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض... ثم أحقّ من يُتمسّك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب(كرّم الله وجهه)؛ لِما قدّمنا من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته<.( )
وأعتقد أن في تعليق ابن حجر على هذا الحديث، ما فيه الكفاية للتمسك بمذهب أهل البيت^ واتّباعهم؛ فلا حاجة للتعليق.
2- حديث السفينة. قال’: >إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل، من دخله غفر له<،( ) وهو أيضاً من الأحاديث المتواترة، والمراد من تشبيههم^ بسفينة نوح، أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه عن أئمتهم الميامين، نجا من عذاب النار وبرئت ذمته أمام الله سبحانه، ومَن تخلّف عنهم كان كابن نوح آوى إلى جبل ليعصمه وينجيه من الطوفان، لكنه غرق في الماء وهلك، فمن لم يتمسّك بالعترة هوى في الجحيم.
والوجه في تشبيههم^ بباب حطة، هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهراً من مظاهر التواضع لجلاله، والبخوع في اتباع حكمه، وبهذا كان سبباً للمغفرة، وقد جعل انقياد هذه الأمة لأهل البيت^ والإتباع لأئمتهم مظهراً من مظاهر التعبّد والإلتزام المسبّب نيلَ المغفرة.
تصوّر نفسك يا ولدي، على شاطئ تريد السفر منه، وأن أمامك ثلاث وسبعون سفينة،( ) كلها ستغرق إلا واحدة ستصل إلى الهدف بأمان، وكل أصحاب السفن ينادون: نحن الناجون. وخلال حيرتك جاءك خبير السفن -وكنت تعرف صدقه- وقال لك: إن ركبت السفينة التي عليها رقم 12( ) نجوتَ، وإذا تخلّفت عنها غرقت، بعد هذا هل ستترك سفينة الإثني عشر وتعدل إلى غيرها؟
ونحن هنا يا عزيزي، في سفينة الحياة يحدد لنا الرسول’ السفينةَ الناجية، فلماذا لا نقبل إرشاده ونصحه! لقد نادى نوح× ابنه ليركب سفينته { يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42]؛ شفقةً عليه، وهكذا رسول الله’ ينادي أمته التي علِم بتفرّقها، >مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا...<؛ إشفاقاً منه على أمته؛ لأنه’ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
3- >عن زياد بن مطرف، قال: سمعت رسول الله’، يقول: من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد؛ فليتولّ علياً وذريّته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم بابَ هدىً ولن يدخلوكم بابَ ضلالة<.( )
4- وقال’: >النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمتي من الإختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب، اختلفوا فصاروا حزب إبليس<.( )
فلاحظ يا عزيزي، أن هذه الأحاديث وأمثالها الكثير الكثير، تفرض اتّباع هؤلاء الذين لن يخرجونا من باب هدىً، ولا يدخلونا باب ضلالة، وأنهم أمانٌ من الإختلاف، وأن كل من يخالفهم يصبح حزب إبليس. ولو وردت مثل هذه الآيات والحاديث في غيرهم لوجب اتباعهم؛ لأنه’ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، وأن الأخذ عنه واجب ومفروض على جميع المسلمين؛ لقوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ولمّا لم يرد في حق غيرهم -ولو بمقدار عشر ما ورد في حق أهل البيت^، من لزوم الإتّباع والطاعة- فقد وجب الأخذ عنهم^ واتّباع مذهبهم الحق.
يختزن أحمد في ذاكرته هذه المعلومات التي أفاضها أبوه عليه، والمصادر خاصة سجّلها في مذكرته، وعاد إلى جامعته والتقى بصديقه عثمان، الذي كان متشوّقاً للقائه واستماع ما يحمله له زميله من معلومات، ودار بينهما حوار هادئ في إحدى ليالي الجمعة في القسم الداخلي، فما كان من صديقه عثمان إلا الإنصات لما يقوله أحمد، ويسجّل الأحاديث وتفسير الآيات من المصادر التي يذكرها له، ويتحقق بعد ذلك من المصادر المتوفّر أغلبها في مكتبة الكلية، وتظهر على قسمات وجهه علامات القناعة والرضا بما ذكره له صديقه، إلاّ أنه لم ينتهِ به الحديث مع أحمد سوى إلى قوله: أمهلني بعض الوقت؛ كي أتحقق مما قلتَه وذكرته من مصادر. ويعود عثمان إلى أهله في الموصل ويطرح تساؤلاته على إمام المسجد الذي يصلّي خلفه صلاة الجمعة، فلم تكن أجوبة ذلك الإمام مقنعة أو مستندة إلى دليل علمي كما عوّده صديقه أحمد، أضف إلى ذلك ما يتمتع به الإمام من غلظة وكيلٍ التهم للآخر؛ فاتجه عثمان باعتباره شاباً مؤمناً ومثقفاً يريد الوصول إلى الحقيقة، إتجه إلى مواقع الإنترنت الإلكترونية؛ ليتصفح الكتب والمصادر والموضوعات التي يبحث عنها، ولكنه لم يصل إلى نتيجة نهائية؛ لتشعّب الموضوعات وكثرتها وخطورة الأمر وحساسيته الذي هو في صدد البحث عنه، فقرر بعد عودته إلى بغداد أن يفاتح أحمد بما استجد له من أسئلة، وما وجده في الكتب والآراء المختلفة حول هذه الموضوعات، وكان أحمد هو الآخر لا يمتلك رؤية كاملة، ولم يٌحط علماً بكل تساؤلات صديقه عثمان، فكان يجيب عن بعض ما تعلّمه وسمعه من أبيه، ويعِد صديقه عثمان بالسؤال والإستفسار من أبيه عن بعضها الآخر.
وقد كان أهم سؤالٍ مُلحّ يريد عثمان معرفته، هو أن السُنّة هم الآخرون يحبّون أهل البيت^ ويحترمونهم ويترضّون عنهم عندما تُذكر أسماؤهم، فكيف يُعقل أن أهل السُنّة على كثرتهم وعلمائهم خاصّة، أنهم لم يفهموا معنى هذه الآيات والأحاديث، أنها توجب التعبّد على وفق مذهب أهل البيت^، ويتركون ذلك! وعند عودة أحمد إلى النجف ولقائه أبيه، طرح عليه سؤال صديقه عثمان:
أحمد: ما الفرق يا والدي، بين أهل السنة والشيعة، ما دام أهل السنة يُحبّون أهل البيت^ ويحترمونهم؟ وإذا كان الفرق بيننا في القضايا التعبّدية -كالوضوء والصلاة...- أفلا يمكن عدّها اختلافات اجتهادية، لا تتجاوز الإختلاف بين المجتهدين؟
الأب: إن الحب العاطفي المجرد من معناه ولوازمه ليس بكافٍ يا عزيزي، فالمعنى الحقيقي للحب هو الإتّباع والإقتداء، ألم تقرأ قوله تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، فاتّباع الرسول’ هو اتّباعٌ لله تعالى؛ لأن الرسول’ هو الممثل لشرع الله تعالى، أضف إلى ذلك أن اتّباع الرسول’ وطاعته هي طاعة لله تعالى، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. وهذه كتبهم الفقهية التي يتعبّدون بأقوال فقائهم فيها، والتي اعتمدوا في استنباط أحكامهم عليها، قد أخذوها من صحاحهم الحديثية الخالية من روايات أهل البيت^، بل المليئة بأقوال مخالفي أهل البيت^، فكيف يصح القول أن أهل السنة يحبون أهل البيت^، وهم يأخذون بأقوال مخالفيهم!
صحيح أننا لا نختلف معهم في جميع القضايا العقائدية، والتي هي أصول الإسلام، إلا أن الإختلاف في المسائل العبادية قد تجاوز مسائل الإجتهاد إلى مخالفة صريح القرآن الكريم، وسأضرب لك مثالاً على ذلك؛ حتى تتوضح المسألة أمامك:
إن الفخر الرازي -وهو من عظماء المفسّرين والعلماء عند أهل السنة- عندما يأتي إلى آية الوضوء في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، فإنه يتناول الآية ويثبت من جميع الوجوه أنها توجِب مسحَ الأرجل -وهو ما يطابق الذي ورد من روايات عن أهل البيت^، عن جدّهم النبي’- إلا أنه على الرغم من علمه وفضله، يختم بحثه برواية عن طريق مخالف لأهل البيت^، يخالف فيها القرآن الكريم، ليقرّر أن الغسل -أي غسل الأرجل- هو الأصح والواجب، ويقرر أن الرواية التي استند إليها تقضي على آي القرآن.( )
وكما تعلّمت، وهو معروف وثابت لدى جميع المسلمين، أنه إذا لم يصح الوضوء، فلا تصحّ عندئذٍ الصلاة، وإذا لم تصح الصلاة( ) -إذا افترضنا أن الوضوء الذي نتحدث عنه للصلاة الواجبة، أي صلاة الفريضة، وإلا هنالك الكثير من الأفعال الواجبة والمستحبّة الأخرى، تتوقّف صحتها على الوضوء منها الطواف حول الكعبة، وصلاة الطواف، ومس كتاب الله سبحانه، وغير ذلك- لم تصح الأعمال الأخرى؛ لأن الصلاة إن قُبلت قُبل ما سواها، وإن رُدّت رد ما سواها،( ) هذا غيض من فيض.
أحمد: إنني لم أسمع بمثل هذا من قبل، وهل يعلمُ أهل السنة ذلك؟ وأتمنى أن لا يكون صديقي عثمان قد عرف ذلك؛ حتى تبقى شخصيته المحببة أمامي كما هي، وأود قبل أن تحدثني عن سؤالي هذا، أن استفسر عن أمرين ذكرتَهما خلال حديثك الشائق، الأمر الأول: قد ذكرتَ يا والدي، أن صحاح أهل السنة المعتمدة عندهم، مليئة بروايات مخالفي أهل البيت^، فهلا ذكرتَ لي مثالا واحداً بمصدره؟
والأمر الثاني: أنك ذكرت أيضاً، أننا لا نختلف معهم -أي أهل السنة- في جميع القضايا العقائدية، وهذا يعني ضمناً أننا نختلف معهم في بعضها، فهل بإمكانك أن تحدثني عن بعض ذلك؟ وأنا أستميحك العذر.
الأب: أما سؤالك، هل يعلم أهل السنة بذلك؟ فنعم، إن الأعم الأغلب من علمائهم وبعض من عوامهم قد اطّلعوا على ذلك، إلا أنهم انقسموا على فريقين، فمنهم من تحقّق وتوصّل إلى الحقيقة؛ لأن الحقيقة واحدة لا تتعدّد، وانتقل إلى الإعتقاد بمذهب أهل البيت^، وهم بالعشرات بل المئات، وهم من علماء أهل السنة ومثقفيها، منهم التيجاني التونسي، والورداني المصري...، فإذا أحببت أن تتعرف إلى هؤلاء وكتبهم وكيفية انتقالهم إلى مذهب أهل البيت^، فبإمكانك تصفّح الموقع الإلكتروني: www.aqaed.com .
وأما الفريق الآخر فبقي متمسكاً برأي مذهبه، وصعبَ عليه ترك الكثرة من المسلمين من معتنقي مذهبه، من آبائه وأقرانه وعشيرته ومجتمعه الذي يعيش فيه، ولا تنسَ ما للحاكم أو الخليفة من التأثير في عقائد المسلمين، وأما عن سؤالك وطلبك ذكرَ بعض مخالفي أهل البيت^، الذين يَعتمد عليهم أصحاب الصحاح المعتبرة لدى أهل السنة فهم كثرة، فهذا البخاري وغيره يروي عن الخوارج، الذي خرجوا عن الإمام علي× وقاتلوه بل قتلوه، منهم عمران بن حِطان الخارجي، الذي امتدح عبد الرحمن بن ملجم قاتلَ الإمام علي×! في شعره المعروف:
يا ضربةً من تقي ما أراد بها
إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا( )
لاحظ هذا الراوي الموثّق لدى البخاري، والذي يروي سنّة رسول الله’، يصف قاتل ابن عم الرسول’ ووصيه وخليفته وباب مدينة علمه بأنه تقي، وما أراد إلا رضوان الله تعالى بقتله علياً×!!
وإليك مثالاً آخر، في أبي هريرة الدوسي، الذي يُعدّ عند أهل السنة راويةَ الإسلام...، فهذا الرجل قد أغنى صحاح أهل السنة بأكثر من أربعة الآف حديث، أي لو جمعت أحاديث الخلفاء وأمهات المؤمنين لم تصل إلى ثُمن روايات هذا الرجل!! والأعم الأغلب من هذه الروايات كانت من صنعه وأكاذيبه، حتى انه اعترف ذات مرّة عندما حُوصر من قبل بعض الصحابة الذين سمعوا أحاديث النبي’، فسألوه: هل سمعت هذا الحديث من رسول الله’ أم من عندك؟ فأجابهم: إنه من كيس أبي هريرة!( ) >وقد نهاه عمر بن الخطاب عن رواية الحديث وضربهُ بالدرة، وقال له: >قد أكثرت من الرواية! أحرى بك أن تكون كاذباً على رسول الله’<، وقال فيه علي×: >أكذب الناس على رسول الله’ أبو هريرة الدوسي<<.( ) وكان يضع الأحاديث المكذوبة في ذم أمير المؤمنين× لقاء دراهم معدودة، فاسمع ما ينقله لنا ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة( ) قال: >وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي، أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي× تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم جعلاً وعطايا مغرية
فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير<. وفي الصفحة 67 من المصدر نفسه، يقول: >وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراقَ مع معاوية، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس، جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مراراً، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أني أكذب على الله وعلى رسوله وأحرق نفسي في النار؟ والله لقد سمعت رسول الله’، يقول: إن لكل نبي حرماً، وإن حرمي المدينة، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وأشهدُ بالله أن علياً أحدث فيها!<، فهذا يا ولدي، راوية إسلام أهل السنة.
أما قولك إن كلامي يتضمن أننا نختلف مع أهل السنة في بعض المسائل العقائدية، فإني أود أن أقول لك باختصار، أن هنالك نوعين من الأصول العقائدية، الأول: أصول الإسلام، وهي التوحيد والنبوة والمعاد، وهذه الأصول لا يختلف فيها اثنان من أي مذهب، وكل من يعتقد بهذه الأصول يكون مسلماً، وتترتب عليه جميع الواجبات والحقوق للمسلم الآخر. أما الثاني: فأصول المذهب -الجعفري أو الإمامي أو الشيعي- وهي خمسة: التوحيد، العدل الإلهي، النبوة، الإمامة، المعاد. وكل من يعتقد بهذه الأصول يكون مؤمناً.
أحمد: عذراً لك يا أبي عن المقاطعة، فأنا أفهم من كلامك أن كل مؤمن هو بالضرورة مسلم، ولكن ليس كل مسلمٍ مؤمنا، وأن المؤمن أعلى درجة في الكمال من المسلم. أليس كذلك؟
الأب: تماماً كما فهمتَ، فالقرآن الكريم وصف أقواماً ادّعوا الإيمان -بولاية علي× وإمامته- ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا كذلك؛ لأن الإيمان في القلب لا باللسان، بل رد عليهم بأنهم تلفّظوا بالشهادتين فقط بلسانهم، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14]،
ونحن نختلف مع أهل السنة كما لاحظت في مسألة الإمامة؛ لأنهم يدمجون مسألة العدل الإلهي في الأصل الأول وهو التوحيد، أما من يخلف النبي’ (الإمامة أو الخلافة)- لا يعدّونها أصلاً من أصول الدين، بل أمراً خاضعاً للإجتهاد، حاله كحال أية مسألة من مسائل الفقه. في حين أن الصراع والإختلاف الذي حصل بين المسلمين، منذ اليوم الذي توفي فيه الرسول’، إلى يومنا هذا، مصدره الإختلاف في أمر الإمامة، ومن المفيد أن أنقل لك قول محمد بن عبد الكريم الشهرستاني أحد علماء السنة الكبار، حيث يقول: >وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان<.( )
لذلك ينبغي لصديقك عثمان، وكل من يريد البحث عن الحقيقة وطريق الهداية والصواب، أن لا يشتغل بأية مسألة خلافية غير الإمامة؛ لأن الباحث عن الحقيقة لو أنه أراد أن يتحقق ويبحث في كل مسألة خلافية -عدا الإمامة- على حِدة، فسوف يموت قبل أن يهتدي إلى الحقيقة ويتوصّل إليها، حيث إنه توجد وتطرح الآف الإشكالات التي تُوجّه ضد مذهب أهل البيت^، وبخاصة التراكمات والتبعات التي خلّفها الحكام الأمويين والعباسيين وغيرهم؛ لأنهم يعدّون أهل البيت^ هم العقبةَ الوحيدة أمامهم، فإذا عرف الإنسان المسلم الأئمةَ الذين اختارهم الله لدينه، لم يبق عليه إلا طاعتهم والإنضمام تحت لوائهم، ولا يجوز مخالفتهم والإعتراض عليهم؛ لأنهم لن يُخرِجوا الأمة من طاعة الله عز وجل، ولن يدخلوهم معصيتَه سبحانه وتعالى، وأن المتمسك بهم لن يضلّ أبدا، وفقاً لما جاء في أحاديث النبي’ الصحيحة المتفق عليها لدى جميع فرق المسلمين.
أحمد: عرفت منك مسبقاً أن أصول الدين لا يجوز التقليد فيها، حتى تقليد من يمتلك درجة عالية من العلم، فضلاً عن تقليد الآباء والأجداد، وأن الإمامة أحد أصول الدين، فهل يمكنك أن ترشدني وتدلني إلى أفضل المصادر؛ كي يسهل عليّ وعلى كل من يريد البحث في هذا الموضوع؛ لاختصار الطريق وللوصول إلى معرفة ذلك، لأنك مطّلعٌ ومحيطٌ بالموضوع؟
الأب: هناك العديد من المصادر في هذا الشأن، ومن المناسب في مرحلتك، أن تغتني بقراءة كتاب (المراجعات) للمرحوم السيد عبد الحسين شرف الدين، فهو عبارة عن مناظرات في شكل رسائل متبادلة بين عالم كبير من علماء السنة وشيخ الأزهر في وقته، وعالم شيعي من مراجع عصره، وهذه المناظرات تدور حول موضوع الإمامة عامةً، وإمامة أهل البيت^ خاصةً، وبطريقة علمية وجامعة لشروط الحوار العلمي الجاد والبنّاء، وكتابٍ آخر صغير في حجمه عظيم في قدره، وهو (بحث حول الولاية) للشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده).
إعداد الأستاد: حبيب الكسّار:
تحقيق : مرتضى علي الحلي :النجف الأشرف: