شيعية موالية
18-08-2006, 03:53 PM
يمّمتُ وجهي شَطْرَ كربلاء.. وقصدتُ بقلبي قبراً لسبط سيّد الأنبياء، لصاحب الضريح الأقدس البهيّ، الحسين بن عليّ. فإذا بي أرى قبراً مُلحَقاً به! سألت عنه فقيل لي: إنّه قبر ولده الزكيّ، عليّ بن الحسين بن عليّ، دُفن عند رِجلَي أبيه سيّد الشهادة، خفضاً للجَناح إلى يوم القيامة.
وإذ أنظر إلى ذلك القبرالنيّر.. كأنّي بشاعر ينشد، اقتربتُ منه فأنصتُّ إليه فاذا هو يقول مناشداً:
قِفْ بي على ذاك الضريحِ الأنوَرِ بتفـجّـعٍ لنـوى علـيِّ الأكبـرِ
وضَعِ الشفاهَ عليه وانشقْ تَـربةً نَفَحتْ بطِيبِ شذا نسيـمِ العنبـرِ
للهِ قبرٌ ضـمّ منـه ضـريحُـهُ مكنـونَ لؤلؤةٍ بعِقـدٍ جـوهـرِ
فوقف خاشعاً أمام قبر الشابّ الشهيد الذي قُتل بين يدَي أبيه.. وقفت أستذكر التاريخ عن أوصافه، وعن مَحْتِدهِ وأُرومَته.. فإذا بشاعر يهمس في أُذُني:
نَدْبٌ تَحدّرَ من سُلالةِ فتيـةٍ ملأوا رباعَ الأرض بالآلاءِ
بدرٌ تُتوِّجُهُ خلائقُ أحـمـدٍ بفصاحةٍ، وسماحةٍ، ومضاءِ
مُتَجلبِبٌ من حيدرٍ بشجاعةٍ ومن الحسينِ مُوَشَّحٌ بإبـاءِ
فامتلأ قلبي إعجاباً وحبّاً لهذا الفتى الهاشميّ العلَويّ، لكنّ روحي ما تزال ظامئةً إلى الاقتراب منه والتعرّف على المزيد.. فإذا بشاعرٍ كأنّه يستجيب لنداء الروح، فيقول:
لم تَرَ عـيـنٌ نَـظَـرتْ مِثـلَـهُ مِن مُحتَفٍ يمشي ومـن نـاعِـلِ
كـان إذا شُـبَّـت لــه نــارُهُ أوقـدَهـا بـالـشـرفِ القـابـلِ
كيمـا يـراهـا بائـسٌ مُـرْمِـلٌ أو فـردُ حـيٍّ لـيـس بـالآهـلِ
لا يُـؤْثـرُ الدنـيا علـى ديـنـهِ ولا يبيـعُ الـحـقَّ بـالبـاطــلِ
أعني ابن ليلى ذا النَّدى والسُّـدى أعني ابنَ بنتِ الحسَبِ الفـاضـلِ
ـ أيُّها التاريخ، افتح لي صدر صفحاتك الزاهية، واسطع بأسطرك الذهبيّة البهيّة، وقلْ لي: مَن هذا عليّ الأكبر ؟
فأجاب التاريخ وقد خَنَقتْه العَبرة:
ـ عليّ الأكبر.. ذلك المتفرّع عن الشجرة النبويّة والدَّوحة الهاشميّة، الوارث للمآثر الطيّبة.
أبوه سيّد شباب أهل الجنّة.
وجدُّه لأبيه سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء، صاحب المناقب الفريدة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
وأمُّه ليلى بنت أبي مُرّة الثقفيّ، المرأة الطاهرة الصالحة الوفيّة.
وجدّته لأبيه فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليها السّلام.
أمّا جدّه الأعلى فهو سيّد الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلائق أجمعين، محمّد المصطفى الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الطيّبين.
كان الإمام الحسين عليه السّلام على صِغر سنّه الشريف قد فُجع بوفاة جدّه وحبيبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فخلّف ذلك حزناً وشوقاً إلى تلك الطلعة النبويّة الغرّاء، عاش ذلك كلُّه في قلب الحسين عليه السّلام منذ صباه.. حتّى رُزق بولده «عليّ الأكبر» الذي تكشّفت ملامحه الغرّاء عن نورٍ خاصّ، فأصبح مرآة الجمال النبويّ، ومثالَ خلُقهِ السماويّ، وتعارف عند أهل البيت أنّه أشبَهُ الناس خَلْقاً وخُلُقاً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فكان الإمام الحسين عليه السّلام يرى في ولده عليٍّ صورةَ جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا برز للقتال ظهيرة عاشوراء.. لم يكن من أبيه الحسين إلاّ أن يرفع شيبتَه المقدّسة نحو السماء، ثمّ يقول مخاطباً ربَّه جلّ وعلا:
« اللهمّ اشهدْ على هؤلاء القوم، فقد بَرَز إليهم غلامٌ أشبَهُ الناس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطِقاً برسولك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكنّا إذا اشتَقنا إلى وجهِ رسولك نَظَرنا إلى وجهه ».
ذلك أنّ مُحيّا عليّ الأكبر كان يحكي مُحيّا جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.. حتّى أنِسَ بذلك والدُه الحزين. إيه! ما أحلى الولد وهو ينشأ على الإيمان والهدى والطهر، وطاعة والدَيه وحبّهما. وقد روى الإمام الصادق عليه السّلام أنّ رجلاً قال:
ـ إنّي كنتُ زاهداً في الولد حتّى وقفت بعرفة، فإذا إلى جنبي غلام شابّ يدعو ويبكي ويقول: يا ربّ، والدَيَّ والديّ.. فرغّبني في الولد حين سمعتُ ذلك.
وهنا ينبّهني التاريخ قائلاً: أروي لك في هذا المقام أنّه لمّا كان السَّحَر من الليلة التي بات بها الحسين عليه السّلام عند قصر بني مُقاتِل في طريقه إلى كربلاء.. خَفَق برأسه خفقةً ثمّ انتبه وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين ـ كرّرها. فما أسرعَ أن أقبل إليه ولده الحبيب عليّ الأكبر فقال: يا أبتِ! جُعلتُ فداك، ممّ استرجعتَ وحِمدتَ الله ؟! فقال: يا بُنيّ، إنّي خفقتُ برأسي خفقةً فعَنّ لي فارسٌ على فَرَسٍ فقال: القومُ يسيرون.. والمنايا تسري إليهم! فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعِيتْ إلينا.
فقال عليّ: يا أبتِ! لا أراك اللهُ سوءً، ألسنا على الحقّ ؟ أجابه أبوه بيقينه المعهود: بلى والذي إليه مرجعُ العباد. فقال عليّ وهو نبعته الصافية وعلى سرّ أبيه وهُداه: إذَن لا نبالي نموت مُحِقّين. وتنزل العبارة طيّبة هانئةً على قلب أبيه الحسين صلوات الله عليه فيفرح بها حتّى كأنّها المواساة، فيدعو له: جزاك الله من ولدٍ خيرَ ما جزى ولداً عن والده.
لكنّ عليّاً الأكبر سلام الله عليه لن يكتفِ بتلك الكلمات التي اثلجت قلب أبيه على ظمئه، بل أردَفَها بمواقفَ معبّرةٍ عن الإخلاص والوفاء، والثبات الصادق المضحّي، فنزل ساحة الشهادة يوم الطفّ.. وهناك شدّ الحسين على قلبه وهو ينظر إلى بضعته الزاكية الطاهرة تتوجّه نحو القُساة، فيعيش بين شفقة الأب ورحمته.. وفخره وبشارته وهو يراه يدخل الميدان ويجول بين الصفوف كرّاً وعَدْواً وأجسادُ الأعداء تتساقط مقطعةً عن يمينه وشماله عشرات!
ويعود إلى ولده فيراه بين قرّة عينه وبهجته، وحرصه عليه وحيرته.. فلا سبيل إلاّ إلى الجهاد والشهادة، ولكن ليس هنالك قطرة ماء تبلّ صدر الكبر ليواصل قتاله الحقّ وقد أخذ الإرهاق والظمأ منه مأخذه.. فيرجع إلى الميدان.
وتُلاحِق عينا الإمام الحسين عليه السّلام ولدَه عليّاً وكأن قلبه يطير إليه ويحلّق فوق ويريد أن يهبط عليه يضمّه ويحيمه.. ولكنّ هذا الغلام الشَّهْم يغوص في الصفوف وكأنّه مصرٌّ على ملاقاة الحُتوف ببأسٍ شديد وحِفاظٍ مرٍّ ونفس أبيّة.
وكان أبوه الحسين عليه السّلام قد ودّعه ولم يَرتَوِ منه بعد، وكان الوداع اشتباكاً بالأذرع، وضمّاً إلى الصدر بل إلى القلب، وكان تجاوباً بالدموع والعبرات المقدّسة.. أمّا النساء فقد أحطْنَ به وتعلّقن به: هذه عمّته قد أقبلت عليه، زينب التي جَلّلها الحزن، وتلك أمّه وقد اعتصرها الهلع على فلذة كبدها، وهؤلاء أخواته يُناشِدنَه أن يرحم غربتَهنّ. ولكن لا سبيل إلى غير الرجوع نحو ساحة المعركة.
وما أسرع أن امتدّت اليد الغادرة التي كانت مستعدّة لقتل أهل بيت النبوّة بما فيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. امتدّت إلى عليّ الأكبر طاعنةً قلب الحسين الصابر، الذي كان يصبّر ولده الأكبر قبل قليل وقد سمعه يشكو إليه العطش الممض: واغوثاه، ما أسرعَ الملتقى بجَدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها. ثمّ ما أسرع أن نادى الولد البارّ على أبيه المفجوع وكأنّه يعزّيه ويواسيه: عليك مني السّلام أبا عبدالله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، وهو يقول إنّ لك كأساً مذخورة.
أمّا الإمام الحسين عليه السّلام فكم وكم أرخى عينيه للبكاء، وقال: على الدنيا بعدك العَفاء، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول! ولسان حاله:
بُنيَّ اقتطعتُكَ مِن مهجـتـي علامَ قطعتَ جميلَ الوصالِ!
بُنيّ عَراك خسوفُ الـردى وشأنُ الخسوف قُبيلَ الكمالِ
بُنيَّ حـرامٌ علَـيَّ الرقـاد وأنت عفيرٌ بحَرِّ الـرمـالِ
بُنيّ أبيتَ سوى القاصـرات وخلّفتَ عنديَ سُمرَ العوالي
عجلتَ لحوضِ أبيك النبـيّ وسارعتَ بعد الظَّما للزُّلالِ
وأتاه فألقى بنفسه عليه ولم يترجّلْ من فرسه، فوضع خدَّه على خدّه، وتمدّد إلى جنبه في حالاتٍ من النزع كأنّها احتضارٌ بطيء، ثمّ أخذ ينظر إلى ولده الحبيب وهو على تلك الحالة:
فأحلَّ رأسَ وليدِهِ في حِجْرهِ وانصاعَ يمسحُ عَثْيرَ الغَبراءِ
يا نبَعةً غذّيتُهـا بدمِ الحشـا وغَرَستُها في روضةٍ غنّـاءِ
ووقيتُها لَفْحَ الهجيرِ وحِطتُها بأضالعي بدلاً عن الإحنـاءِ
ولم ينتهِ التاريخُ من حديثه هذا حتّى وجدني قد ضممتُ وجهي بين حِجْري وعَشري وأنا أجهش بالبكاء، فغمزني وقد شاطرني حزني وقال لي: لا أنهاك عن العَبرة، لكن هل مِن عِبرة ؟ قلت: نعم.. التأسي والمواساة، والصدق والوفاء، وطِيب الأبوّة والنبوّة.. وما أحلى عليَّ الأكبر فتى كربلاء، وحبيبَ سيّد الشهداء!
وإذ أنظر إلى ذلك القبرالنيّر.. كأنّي بشاعر ينشد، اقتربتُ منه فأنصتُّ إليه فاذا هو يقول مناشداً:
قِفْ بي على ذاك الضريحِ الأنوَرِ بتفـجّـعٍ لنـوى علـيِّ الأكبـرِ
وضَعِ الشفاهَ عليه وانشقْ تَـربةً نَفَحتْ بطِيبِ شذا نسيـمِ العنبـرِ
للهِ قبرٌ ضـمّ منـه ضـريحُـهُ مكنـونَ لؤلؤةٍ بعِقـدٍ جـوهـرِ
فوقف خاشعاً أمام قبر الشابّ الشهيد الذي قُتل بين يدَي أبيه.. وقفت أستذكر التاريخ عن أوصافه، وعن مَحْتِدهِ وأُرومَته.. فإذا بشاعر يهمس في أُذُني:
نَدْبٌ تَحدّرَ من سُلالةِ فتيـةٍ ملأوا رباعَ الأرض بالآلاءِ
بدرٌ تُتوِّجُهُ خلائقُ أحـمـدٍ بفصاحةٍ، وسماحةٍ، ومضاءِ
مُتَجلبِبٌ من حيدرٍ بشجاعةٍ ومن الحسينِ مُوَشَّحٌ بإبـاءِ
فامتلأ قلبي إعجاباً وحبّاً لهذا الفتى الهاشميّ العلَويّ، لكنّ روحي ما تزال ظامئةً إلى الاقتراب منه والتعرّف على المزيد.. فإذا بشاعرٍ كأنّه يستجيب لنداء الروح، فيقول:
لم تَرَ عـيـنٌ نَـظَـرتْ مِثـلَـهُ مِن مُحتَفٍ يمشي ومـن نـاعِـلِ
كـان إذا شُـبَّـت لــه نــارُهُ أوقـدَهـا بـالـشـرفِ القـابـلِ
كيمـا يـراهـا بائـسٌ مُـرْمِـلٌ أو فـردُ حـيٍّ لـيـس بـالآهـلِ
لا يُـؤْثـرُ الدنـيا علـى ديـنـهِ ولا يبيـعُ الـحـقَّ بـالبـاطــلِ
أعني ابن ليلى ذا النَّدى والسُّـدى أعني ابنَ بنتِ الحسَبِ الفـاضـلِ
ـ أيُّها التاريخ، افتح لي صدر صفحاتك الزاهية، واسطع بأسطرك الذهبيّة البهيّة، وقلْ لي: مَن هذا عليّ الأكبر ؟
فأجاب التاريخ وقد خَنَقتْه العَبرة:
ـ عليّ الأكبر.. ذلك المتفرّع عن الشجرة النبويّة والدَّوحة الهاشميّة، الوارث للمآثر الطيّبة.
أبوه سيّد شباب أهل الجنّة.
وجدُّه لأبيه سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء، صاحب المناقب الفريدة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
وأمُّه ليلى بنت أبي مُرّة الثقفيّ، المرأة الطاهرة الصالحة الوفيّة.
وجدّته لأبيه فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليها السّلام.
أمّا جدّه الأعلى فهو سيّد الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلائق أجمعين، محمّد المصطفى الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الطيّبين.
كان الإمام الحسين عليه السّلام على صِغر سنّه الشريف قد فُجع بوفاة جدّه وحبيبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فخلّف ذلك حزناً وشوقاً إلى تلك الطلعة النبويّة الغرّاء، عاش ذلك كلُّه في قلب الحسين عليه السّلام منذ صباه.. حتّى رُزق بولده «عليّ الأكبر» الذي تكشّفت ملامحه الغرّاء عن نورٍ خاصّ، فأصبح مرآة الجمال النبويّ، ومثالَ خلُقهِ السماويّ، وتعارف عند أهل البيت أنّه أشبَهُ الناس خَلْقاً وخُلُقاً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فكان الإمام الحسين عليه السّلام يرى في ولده عليٍّ صورةَ جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإذا برز للقتال ظهيرة عاشوراء.. لم يكن من أبيه الحسين إلاّ أن يرفع شيبتَه المقدّسة نحو السماء، ثمّ يقول مخاطباً ربَّه جلّ وعلا:
« اللهمّ اشهدْ على هؤلاء القوم، فقد بَرَز إليهم غلامٌ أشبَهُ الناس خَلْقاً وخُلُقاً ومنطِقاً برسولك محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكنّا إذا اشتَقنا إلى وجهِ رسولك نَظَرنا إلى وجهه ».
ذلك أنّ مُحيّا عليّ الأكبر كان يحكي مُحيّا جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم.. حتّى أنِسَ بذلك والدُه الحزين. إيه! ما أحلى الولد وهو ينشأ على الإيمان والهدى والطهر، وطاعة والدَيه وحبّهما. وقد روى الإمام الصادق عليه السّلام أنّ رجلاً قال:
ـ إنّي كنتُ زاهداً في الولد حتّى وقفت بعرفة، فإذا إلى جنبي غلام شابّ يدعو ويبكي ويقول: يا ربّ، والدَيَّ والديّ.. فرغّبني في الولد حين سمعتُ ذلك.
وهنا ينبّهني التاريخ قائلاً: أروي لك في هذا المقام أنّه لمّا كان السَّحَر من الليلة التي بات بها الحسين عليه السّلام عند قصر بني مُقاتِل في طريقه إلى كربلاء.. خَفَق برأسه خفقةً ثمّ انتبه وهو يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين ـ كرّرها. فما أسرعَ أن أقبل إليه ولده الحبيب عليّ الأكبر فقال: يا أبتِ! جُعلتُ فداك، ممّ استرجعتَ وحِمدتَ الله ؟! فقال: يا بُنيّ، إنّي خفقتُ برأسي خفقةً فعَنّ لي فارسٌ على فَرَسٍ فقال: القومُ يسيرون.. والمنايا تسري إليهم! فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعِيتْ إلينا.
فقال عليّ: يا أبتِ! لا أراك اللهُ سوءً، ألسنا على الحقّ ؟ أجابه أبوه بيقينه المعهود: بلى والذي إليه مرجعُ العباد. فقال عليّ وهو نبعته الصافية وعلى سرّ أبيه وهُداه: إذَن لا نبالي نموت مُحِقّين. وتنزل العبارة طيّبة هانئةً على قلب أبيه الحسين صلوات الله عليه فيفرح بها حتّى كأنّها المواساة، فيدعو له: جزاك الله من ولدٍ خيرَ ما جزى ولداً عن والده.
لكنّ عليّاً الأكبر سلام الله عليه لن يكتفِ بتلك الكلمات التي اثلجت قلب أبيه على ظمئه، بل أردَفَها بمواقفَ معبّرةٍ عن الإخلاص والوفاء، والثبات الصادق المضحّي، فنزل ساحة الشهادة يوم الطفّ.. وهناك شدّ الحسين على قلبه وهو ينظر إلى بضعته الزاكية الطاهرة تتوجّه نحو القُساة، فيعيش بين شفقة الأب ورحمته.. وفخره وبشارته وهو يراه يدخل الميدان ويجول بين الصفوف كرّاً وعَدْواً وأجسادُ الأعداء تتساقط مقطعةً عن يمينه وشماله عشرات!
ويعود إلى ولده فيراه بين قرّة عينه وبهجته، وحرصه عليه وحيرته.. فلا سبيل إلاّ إلى الجهاد والشهادة، ولكن ليس هنالك قطرة ماء تبلّ صدر الكبر ليواصل قتاله الحقّ وقد أخذ الإرهاق والظمأ منه مأخذه.. فيرجع إلى الميدان.
وتُلاحِق عينا الإمام الحسين عليه السّلام ولدَه عليّاً وكأن قلبه يطير إليه ويحلّق فوق ويريد أن يهبط عليه يضمّه ويحيمه.. ولكنّ هذا الغلام الشَّهْم يغوص في الصفوف وكأنّه مصرٌّ على ملاقاة الحُتوف ببأسٍ شديد وحِفاظٍ مرٍّ ونفس أبيّة.
وكان أبوه الحسين عليه السّلام قد ودّعه ولم يَرتَوِ منه بعد، وكان الوداع اشتباكاً بالأذرع، وضمّاً إلى الصدر بل إلى القلب، وكان تجاوباً بالدموع والعبرات المقدّسة.. أمّا النساء فقد أحطْنَ به وتعلّقن به: هذه عمّته قد أقبلت عليه، زينب التي جَلّلها الحزن، وتلك أمّه وقد اعتصرها الهلع على فلذة كبدها، وهؤلاء أخواته يُناشِدنَه أن يرحم غربتَهنّ. ولكن لا سبيل إلى غير الرجوع نحو ساحة المعركة.
وما أسرع أن امتدّت اليد الغادرة التي كانت مستعدّة لقتل أهل بيت النبوّة بما فيهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. امتدّت إلى عليّ الأكبر طاعنةً قلب الحسين الصابر، الذي كان يصبّر ولده الأكبر قبل قليل وقد سمعه يشكو إليه العطش الممض: واغوثاه، ما أسرعَ الملتقى بجَدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها. ثمّ ما أسرع أن نادى الولد البارّ على أبيه المفجوع وكأنّه يعزّيه ويواسيه: عليك مني السّلام أبا عبدالله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، وهو يقول إنّ لك كأساً مذخورة.
أمّا الإمام الحسين عليه السّلام فكم وكم أرخى عينيه للبكاء، وقال: على الدنيا بعدك العَفاء، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول! ولسان حاله:
بُنيَّ اقتطعتُكَ مِن مهجـتـي علامَ قطعتَ جميلَ الوصالِ!
بُنيّ عَراك خسوفُ الـردى وشأنُ الخسوف قُبيلَ الكمالِ
بُنيَّ حـرامٌ علَـيَّ الرقـاد وأنت عفيرٌ بحَرِّ الـرمـالِ
بُنيّ أبيتَ سوى القاصـرات وخلّفتَ عنديَ سُمرَ العوالي
عجلتَ لحوضِ أبيك النبـيّ وسارعتَ بعد الظَّما للزُّلالِ
وأتاه فألقى بنفسه عليه ولم يترجّلْ من فرسه، فوضع خدَّه على خدّه، وتمدّد إلى جنبه في حالاتٍ من النزع كأنّها احتضارٌ بطيء، ثمّ أخذ ينظر إلى ولده الحبيب وهو على تلك الحالة:
فأحلَّ رأسَ وليدِهِ في حِجْرهِ وانصاعَ يمسحُ عَثْيرَ الغَبراءِ
يا نبَعةً غذّيتُهـا بدمِ الحشـا وغَرَستُها في روضةٍ غنّـاءِ
ووقيتُها لَفْحَ الهجيرِ وحِطتُها بأضالعي بدلاً عن الإحنـاءِ
ولم ينتهِ التاريخُ من حديثه هذا حتّى وجدني قد ضممتُ وجهي بين حِجْري وعَشري وأنا أجهش بالبكاء، فغمزني وقد شاطرني حزني وقال لي: لا أنهاك عن العَبرة، لكن هل مِن عِبرة ؟ قلت: نعم.. التأسي والمواساة، والصدق والوفاء، وطِيب الأبوّة والنبوّة.. وما أحلى عليَّ الأكبر فتى كربلاء، وحبيبَ سيّد الشهداء!