السيد الكربلائي
09-12-2011, 02:58 PM
http://up.arab-x.com/Nov11/iwW26807.jpg
مسألة كلامية في البَداء:
إستجابة لإلتماس بعض أعزائنا من علماء وفضلاء الحوزة العلمية وبعض الأخوة المؤمنين في تبيين وتوضيح عقيدة البداء التي تقول بها الطائفة الإمامية اعزها الله، وبعد أن إستجبت لطلبهم حمدت الله كثيراً، وصليت على من اختاره للعباد هادياً وعلى أهل بيته وفيراً، ودعوته أن يثبتني على القول الثابت وأن يكون لي نصيراً، وتوكلت عليه اولا وأخيراً، وقلت بعد ما عصرت عقلي وتبصّرت في ألفاظي كثيراً ما لفظه:
البداء من محكمات عقائد الامامية بلا ريب، وقبل بيانه لابد من تعريفه، فالبداء بفتح الباء كما هو الصحيح هو الإسم من بدا، يبدو، وهو لغة ظهور الشيء بعد أن كان مخفياً (وبدا لهم سيئات ما عملوا) (ولا يبدين زينتهن).
وأما في الإصطلاح أي عند علماء الكلام، أي في حال إضافته الى الله جلّ وعلا، عندما نقول: بداء الله، أو بدا لله، وله معنيان، أحدهما جائز والآخر غير جائز:
الأول: وهو ظهور رأي جديد لله تعالى بعد ان كان له رأي سابق فيه اي بدا له شيء غير ما كان اولاً فغيّره، وهذا ربما يعني استصواب شيء علم بعد ان لم يعلم صوابه، وبعبارة أخرى تغيير الرأي على ما كان عليه، وهذا غير جائز، لأنه يؤدي الى الجهل على الله تعالى عن ذلك علوا كبيراً لأن معناه حصول العلم لله بعد ان لم يكن موجوداً له، وهذا المعنى هو الذي فهمه بعض علماء السنة من البداء الذي تقول به الإمامية وراح البعض منهم يتهم الشيعة بأنهم ينسبون الجهل الى الله والعياذ بالله، فبعض علماء السنة ومنهم الفخر الرازي صوّروا البداء بمعنى لازمه الجهل على الله أي أنه بداء ندامة ، والشيعة لا يقولون بالبداء بهذا المعنى ابداً، فانهم لا يقولون بداء ندامة.
الثاني: وهو الإظهار والإيجاد والإنشاء لشيء سواءٌ أكان لا يوجد قبله شيء أم بعد وجود شيء كان موجوداً، ولكنه انتهى أمده تكوينا فحلّ مكانه هذا الأمرٌ الآخر، أي ان الله أبدى شيئاً جديداً لمصلحة اقتضت ذلك، فهو ليس تبديل وتغيير تشريعي، بل بداء حكمة ومصلحة أي تبديل تكويني، وبعبارة أخرى فهو الإبداء وليس البداء، واقترحت على علماء عصرنا ان يغيّروا هذه اللفظة من البداء الى الإبداء، أي أن يبتدأ الشيء أولاً ويوجده، سواءٌ أكان هناك شيء آخر أم لم يكن، فان كان هناك شيء آخر فمعناها أنه أوجد شيئا جديداً لأن ذلك الشيء أنتهى أمد وجوده لإنتهاء المصلحة منه فارتفع لوحده من دون تشريع لرفعه وحل مكانه شيء آخر، وإذا لم يكن موجوداً فالأمر واضح لإقتضاء المصلحة في ايجاد هذا الشيء في هذا الوقت دون من عداه من الأوقات، لأن لله علماً مكنوناً مخزوناً يكون منه البداء وله علم مبذول يكون فيه البداء، وهذا فيه تمام الرد على معتقد اليهود حينما قالوا (ان الله عالم في الأزل بمقتضيات الأشياء فقدّر كل شيء على وفق علمه) فهذا معناه ان الله خلق كل شيء منذ الأزل ولا يخلق بعد هذا أي شيء ولا يتدخل في أي شيء، فالبداء يعني أنه يمكن للمولى أن يخلق شيئا في المستقبل لم يكن موجوداً سابقاً أو يفعل فعلا لم يكن موجوداً سابقاً لمصلحة هو رآها، أو لم يكن ظاهراً للعباد، وهذا فيه انقطاع العبد الى مولاه في كل حال، ومن هذا صح الحديث (ما عُظّم الله بمثل البداء) (ما بعث الله نبيا حتى يقر له بالبداء) أي يقر له بقضاء مجدد في كل يوم بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهراً عندهم.
والقول بالبداء بهذا المعنى الصحيح ليس شيئاً غريباً، فقد صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة الرعد (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) )) وما روي عن الرضا عليه السلام (ما بُعِث نَبيّاً قط إلا بتحريم الخمر ، وأن يُقرَّ له بالبداء).
فاذن ما نسميه بالبداء هو في حقيقته إبداء وإيجاد، وان الحكم الاول السابق أو أي فعل لا ينافي الحكم الثاني الجديد، لان الأول محدود الأمد في واقعه الأولي، ولكن لم يتم اظهار ذلك ويبيّن أنه محدود الأمد لمصلحة يراها المولى، والحكم الثاني قد حان وقت مجيئه لمصلحة رآها المولى، فالحكم الثاني ليست له علاقة بالحكم الأول حتى نقول انه بدا له شيء جديد في الحكم الأول فغيره، بل الحكم الأول لما انتهى أمده ارتفع لفوره.
فالرب تبارك تعالى هو المهيمن المحيط الذي لا تخفى عليه خافية فحكمه جزمي قطعي، وإظهاره وإبداءه للحكم الأول المؤقت بصورة الحكم الدائم كان لمصلحة تقتضي ذلك وهذا لا تعني تخميناً او ظناً بالحكم الذي لازمه الجهل، بل هو العلم الجازم بعينه لان الحكم الاول مع هذه المصلحة سيكون متلائماً متوائماً مع الحكم الثاني الآتي بلا تصادم او تنافي إطلاقاً.
وما يشير االى ذلك رواية عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه السلام): (مَا بَدَا لله فِي شَيْءٍ إِلا كَانَ فِي عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ) وكذلك خبر الجهني عند (عليه السلام): (إِنَّ الله لَمْ يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ).
فلو قرأ المنكرون على الامامية قولهم بالبداء مثل هذه الاخبار من الائمة الاطهار وتأملّوا في تفسيرهم الصحيح لما بادروا الى اتهام الامامية بنسبة الجهل اليه تعالى والعياذ بالله.
فالبداء على هذا المعنى هو نسخ، ولكنه نسخ تكويني، أي ان الحكم الأول ينتهي لإنتهاء أمده ومن جذوره ويمحوه ويحل محله حكم آخر، أو لا يحل محله شيء آخر، فاذن النسخ والبداء من واد واحد، فالبداء نسخ تكويني أي أنه إزالة لشيء ومحوه من دون تشريع وقول بل ينتهي أوتماتيكياً كما يعبرون، كما في توقيف العقاب على قوم يونس النبي، فانه تبدل تكوينا، وليس تشريعاً، بل رد القضاء والعقاب بذلك الدعاء، بينما النسخ هو بداء تشريعي، أي أنه إظهار جعلي بتشريع الشارع، ولولا التشريع لما انتهى، كما في آية التصدق عند مناجاة النبي (ص) فانها محيت تشريعاً وليس تكويناً، وبعد ذلك هل يستطيع بعض علماء السنة أن ينكروا النسخ؟! فلماذا اذن ينكرون البداء رأساً ومن دون تأمل في دليل الشيعة؟
فالنتيجة: أننا نُرجع البداء الى النسخ ولكنه نسخ في التكوينيات، أي انهما وجهان لحقيقة واحدة في بابي التشريع والتكوين، وهو التفكيك بين عالمي الثبوت الواقعي والاثبات الظاهري لمصلحة يلحظها المولى في هذا التفكيك سواءٌ أكان المورد من التشريعيات وهو النسخ أم من التكوينيات وهو البداء.
أي ان الله تعالى هو الذي يُبلّغ الحكم الاول الذي هو صرف حكم اثباتي ظاهري على خلاف الثبوت والواقع الى النبي او الولي لمصلحة يراها المولى في هذا التفكيك بين الواقع الثبوتي وبين ما يعطى للنبي او الولي من بيان اثباتي، فما ذكرناه يمثل الحكم الداعية للائمة (عليهم السلام) على الاصرار بالقول بالبداء.
وسر التوجيه الصحيح لهذا البداء وسببه هو أن نقول:
ان تأثير الشيء في شيء آخر له نحوان:
الأول: أن يكون بنحو العلية التامة التي لا تتخلف عنها المعلولات اطلاقاً، كالإحراق للنار، فتأثير النار في الإحراق لا يتخلف عنه ابداً بعد استكمال شروطه.
الثاني: أن يكون التأثير بنحو الاقتضاء أي انه القابل لكل من التفعيل او التعطيل، كوجود الإنسان في بيئة الكفر، فهذا الوجود فيه قابلية على ان يكون كافراً ولكنه ليس حتمياً، بل بيد الشخص ان شاء فعّل هذا الإقتضاء وكفر وإن شاء عطّله وآمن.
ومن المعلوم الثابت، ان هناك لوحين في عالم الملكوت الإلهي :
احدهما: هو عالم اللوح المحفوظ أو أم الكتاب وهو الذي يمثل عين الواقع الثبوتي النفس أمري للحوادث والوقائع وهذا لا يتبدل ولا يتغير فهو علة تامة لما يؤثر فيه .
وثانيهما: وهو اللوح الآخر هو لوح المحو والاثبات وهو عالم الظاهر والإثبات الخارجي وهو الناظر الى الاقتضاءات للحوادث التي ربما يمنع عنها مانع كصدقة او دعاء او صلة رحم او اغاثة ملهوف، كما نطقت الاخبار واشار الى ذلك القرآن الكريم.
والمراد بالمحو في (ويمحو الله ويثبت..) انما هو المحو بلحاظ مرحلة الظاهر وعالم الاثبات، والا فان الواقع النفس امري في اللوح المحفوظ وام الكتاب ثابت لا يطاله المحو بتاتاً، فاذن المحو ليس محواً والغاءاً واقعياً، بل هو محو ظاهري اثباتي بلحاظ ما اقتضته المصلحة الآتية من لطف المولى بعباده أي الملحوظة من قبل المولى اللطيف على الاطلاق التي تقتضي التفكيك بين الواقع الثبوتي والابراز والإظهار والإبداء الاثباتي الظاهري.
فاذن نعود ونؤكد على أن المحو هو بلحاظ عالم الاثبات والاظهار من دون عالم الواقع والثبوت، وهو امر في غاية الاهمية وهذا يؤيد قولنا من كون البداء بمعنى الابداء، واطلاق البداء يكون بنحو من التوسع والمسامحة في التعبير .
بقي شيء في الختام: وهو في غاية الفائدة من البداء وهو الاشارة الى الآثار الحميدة المترتية على الاعتقاد بالبداء وهو الوقوف على عبادة الله حق عبادته وتعظيمه بعد ان عرفنا ان الله يقضي بقضاء متجدد في كل يوم بحسب مصالح العباد، وكالاعتقاد بأهمية الصدقة والدعاء وصلة الرحم وإغاثة الملهوف في رد القضاء، مثلها ما ورد في قصة يونس بعد ما أخبره الله بنزول العذاب على قومه ظاهراً ولكنه في عالم الواقع لا ينزل عليهم العذاب، فلما دعوا الله رد عليهم هذا القضاء، ومثل ذلك إخبار عيسى (عليه السلام) بوفاة العروس التي كانت تزف الى زوجها، ولما لم يحدث ذلك تبين ان تحت فراشها ثعباناً ساماً لكنه لم يقتلها لما قامت به في تلك الليلة من الصدقة على الفقراء والمساكين.
فالنتيجة ان البداء من مرتكزات الإمامية الرصينة بهذا المعنى، أي هو النسخ في التكوينيات، وليس بذلك المعنى الذي لازمه الجهل على الله والعياذ بالله.
هذا الكلام اعتصرته اعتصاراً وألممته الماماً واسهلته إيساراً لأوصله الى الأفهام بأبين بيان وأفصح لسان، ومع ذلك فلا يفهمه الا من جاس خلال الديار وفتش في ذرات الغبار، والحمد لله رب العالمين
(فاضل البديري 13المحرم الحرام 1433هـ)
مسألة كلامية في البَداء:
إستجابة لإلتماس بعض أعزائنا من علماء وفضلاء الحوزة العلمية وبعض الأخوة المؤمنين في تبيين وتوضيح عقيدة البداء التي تقول بها الطائفة الإمامية اعزها الله، وبعد أن إستجبت لطلبهم حمدت الله كثيراً، وصليت على من اختاره للعباد هادياً وعلى أهل بيته وفيراً، ودعوته أن يثبتني على القول الثابت وأن يكون لي نصيراً، وتوكلت عليه اولا وأخيراً، وقلت بعد ما عصرت عقلي وتبصّرت في ألفاظي كثيراً ما لفظه:
البداء من محكمات عقائد الامامية بلا ريب، وقبل بيانه لابد من تعريفه، فالبداء بفتح الباء كما هو الصحيح هو الإسم من بدا، يبدو، وهو لغة ظهور الشيء بعد أن كان مخفياً (وبدا لهم سيئات ما عملوا) (ولا يبدين زينتهن).
وأما في الإصطلاح أي عند علماء الكلام، أي في حال إضافته الى الله جلّ وعلا، عندما نقول: بداء الله، أو بدا لله، وله معنيان، أحدهما جائز والآخر غير جائز:
الأول: وهو ظهور رأي جديد لله تعالى بعد ان كان له رأي سابق فيه اي بدا له شيء غير ما كان اولاً فغيّره، وهذا ربما يعني استصواب شيء علم بعد ان لم يعلم صوابه، وبعبارة أخرى تغيير الرأي على ما كان عليه، وهذا غير جائز، لأنه يؤدي الى الجهل على الله تعالى عن ذلك علوا كبيراً لأن معناه حصول العلم لله بعد ان لم يكن موجوداً له، وهذا المعنى هو الذي فهمه بعض علماء السنة من البداء الذي تقول به الإمامية وراح البعض منهم يتهم الشيعة بأنهم ينسبون الجهل الى الله والعياذ بالله، فبعض علماء السنة ومنهم الفخر الرازي صوّروا البداء بمعنى لازمه الجهل على الله أي أنه بداء ندامة ، والشيعة لا يقولون بالبداء بهذا المعنى ابداً، فانهم لا يقولون بداء ندامة.
الثاني: وهو الإظهار والإيجاد والإنشاء لشيء سواءٌ أكان لا يوجد قبله شيء أم بعد وجود شيء كان موجوداً، ولكنه انتهى أمده تكوينا فحلّ مكانه هذا الأمرٌ الآخر، أي ان الله أبدى شيئاً جديداً لمصلحة اقتضت ذلك، فهو ليس تبديل وتغيير تشريعي، بل بداء حكمة ومصلحة أي تبديل تكويني، وبعبارة أخرى فهو الإبداء وليس البداء، واقترحت على علماء عصرنا ان يغيّروا هذه اللفظة من البداء الى الإبداء، أي أن يبتدأ الشيء أولاً ويوجده، سواءٌ أكان هناك شيء آخر أم لم يكن، فان كان هناك شيء آخر فمعناها أنه أوجد شيئا جديداً لأن ذلك الشيء أنتهى أمد وجوده لإنتهاء المصلحة منه فارتفع لوحده من دون تشريع لرفعه وحل مكانه شيء آخر، وإذا لم يكن موجوداً فالأمر واضح لإقتضاء المصلحة في ايجاد هذا الشيء في هذا الوقت دون من عداه من الأوقات، لأن لله علماً مكنوناً مخزوناً يكون منه البداء وله علم مبذول يكون فيه البداء، وهذا فيه تمام الرد على معتقد اليهود حينما قالوا (ان الله عالم في الأزل بمقتضيات الأشياء فقدّر كل شيء على وفق علمه) فهذا معناه ان الله خلق كل شيء منذ الأزل ولا يخلق بعد هذا أي شيء ولا يتدخل في أي شيء، فالبداء يعني أنه يمكن للمولى أن يخلق شيئا في المستقبل لم يكن موجوداً سابقاً أو يفعل فعلا لم يكن موجوداً سابقاً لمصلحة هو رآها، أو لم يكن ظاهراً للعباد، وهذا فيه انقطاع العبد الى مولاه في كل حال، ومن هذا صح الحديث (ما عُظّم الله بمثل البداء) (ما بعث الله نبيا حتى يقر له بالبداء) أي يقر له بقضاء مجدد في كل يوم بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهراً عندهم.
والقول بالبداء بهذا المعنى الصحيح ليس شيئاً غريباً، فقد صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة الرعد (( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) )) وما روي عن الرضا عليه السلام (ما بُعِث نَبيّاً قط إلا بتحريم الخمر ، وأن يُقرَّ له بالبداء).
فاذن ما نسميه بالبداء هو في حقيقته إبداء وإيجاد، وان الحكم الاول السابق أو أي فعل لا ينافي الحكم الثاني الجديد، لان الأول محدود الأمد في واقعه الأولي، ولكن لم يتم اظهار ذلك ويبيّن أنه محدود الأمد لمصلحة يراها المولى، والحكم الثاني قد حان وقت مجيئه لمصلحة رآها المولى، فالحكم الثاني ليست له علاقة بالحكم الأول حتى نقول انه بدا له شيء جديد في الحكم الأول فغيره، بل الحكم الأول لما انتهى أمده ارتفع لفوره.
فالرب تبارك تعالى هو المهيمن المحيط الذي لا تخفى عليه خافية فحكمه جزمي قطعي، وإظهاره وإبداءه للحكم الأول المؤقت بصورة الحكم الدائم كان لمصلحة تقتضي ذلك وهذا لا تعني تخميناً او ظناً بالحكم الذي لازمه الجهل، بل هو العلم الجازم بعينه لان الحكم الاول مع هذه المصلحة سيكون متلائماً متوائماً مع الحكم الثاني الآتي بلا تصادم او تنافي إطلاقاً.
وما يشير االى ذلك رواية عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه السلام): (مَا بَدَا لله فِي شَيْءٍ إِلا كَانَ فِي عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ) وكذلك خبر الجهني عند (عليه السلام): (إِنَّ الله لَمْ يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ).
فلو قرأ المنكرون على الامامية قولهم بالبداء مثل هذه الاخبار من الائمة الاطهار وتأملّوا في تفسيرهم الصحيح لما بادروا الى اتهام الامامية بنسبة الجهل اليه تعالى والعياذ بالله.
فالبداء على هذا المعنى هو نسخ، ولكنه نسخ تكويني، أي ان الحكم الأول ينتهي لإنتهاء أمده ومن جذوره ويمحوه ويحل محله حكم آخر، أو لا يحل محله شيء آخر، فاذن النسخ والبداء من واد واحد، فالبداء نسخ تكويني أي أنه إزالة لشيء ومحوه من دون تشريع وقول بل ينتهي أوتماتيكياً كما يعبرون، كما في توقيف العقاب على قوم يونس النبي، فانه تبدل تكوينا، وليس تشريعاً، بل رد القضاء والعقاب بذلك الدعاء، بينما النسخ هو بداء تشريعي، أي أنه إظهار جعلي بتشريع الشارع، ولولا التشريع لما انتهى، كما في آية التصدق عند مناجاة النبي (ص) فانها محيت تشريعاً وليس تكويناً، وبعد ذلك هل يستطيع بعض علماء السنة أن ينكروا النسخ؟! فلماذا اذن ينكرون البداء رأساً ومن دون تأمل في دليل الشيعة؟
فالنتيجة: أننا نُرجع البداء الى النسخ ولكنه نسخ في التكوينيات، أي انهما وجهان لحقيقة واحدة في بابي التشريع والتكوين، وهو التفكيك بين عالمي الثبوت الواقعي والاثبات الظاهري لمصلحة يلحظها المولى في هذا التفكيك سواءٌ أكان المورد من التشريعيات وهو النسخ أم من التكوينيات وهو البداء.
أي ان الله تعالى هو الذي يُبلّغ الحكم الاول الذي هو صرف حكم اثباتي ظاهري على خلاف الثبوت والواقع الى النبي او الولي لمصلحة يراها المولى في هذا التفكيك بين الواقع الثبوتي وبين ما يعطى للنبي او الولي من بيان اثباتي، فما ذكرناه يمثل الحكم الداعية للائمة (عليهم السلام) على الاصرار بالقول بالبداء.
وسر التوجيه الصحيح لهذا البداء وسببه هو أن نقول:
ان تأثير الشيء في شيء آخر له نحوان:
الأول: أن يكون بنحو العلية التامة التي لا تتخلف عنها المعلولات اطلاقاً، كالإحراق للنار، فتأثير النار في الإحراق لا يتخلف عنه ابداً بعد استكمال شروطه.
الثاني: أن يكون التأثير بنحو الاقتضاء أي انه القابل لكل من التفعيل او التعطيل، كوجود الإنسان في بيئة الكفر، فهذا الوجود فيه قابلية على ان يكون كافراً ولكنه ليس حتمياً، بل بيد الشخص ان شاء فعّل هذا الإقتضاء وكفر وإن شاء عطّله وآمن.
ومن المعلوم الثابت، ان هناك لوحين في عالم الملكوت الإلهي :
احدهما: هو عالم اللوح المحفوظ أو أم الكتاب وهو الذي يمثل عين الواقع الثبوتي النفس أمري للحوادث والوقائع وهذا لا يتبدل ولا يتغير فهو علة تامة لما يؤثر فيه .
وثانيهما: وهو اللوح الآخر هو لوح المحو والاثبات وهو عالم الظاهر والإثبات الخارجي وهو الناظر الى الاقتضاءات للحوادث التي ربما يمنع عنها مانع كصدقة او دعاء او صلة رحم او اغاثة ملهوف، كما نطقت الاخبار واشار الى ذلك القرآن الكريم.
والمراد بالمحو في (ويمحو الله ويثبت..) انما هو المحو بلحاظ مرحلة الظاهر وعالم الاثبات، والا فان الواقع النفس امري في اللوح المحفوظ وام الكتاب ثابت لا يطاله المحو بتاتاً، فاذن المحو ليس محواً والغاءاً واقعياً، بل هو محو ظاهري اثباتي بلحاظ ما اقتضته المصلحة الآتية من لطف المولى بعباده أي الملحوظة من قبل المولى اللطيف على الاطلاق التي تقتضي التفكيك بين الواقع الثبوتي والابراز والإظهار والإبداء الاثباتي الظاهري.
فاذن نعود ونؤكد على أن المحو هو بلحاظ عالم الاثبات والاظهار من دون عالم الواقع والثبوت، وهو امر في غاية الاهمية وهذا يؤيد قولنا من كون البداء بمعنى الابداء، واطلاق البداء يكون بنحو من التوسع والمسامحة في التعبير .
بقي شيء في الختام: وهو في غاية الفائدة من البداء وهو الاشارة الى الآثار الحميدة المترتية على الاعتقاد بالبداء وهو الوقوف على عبادة الله حق عبادته وتعظيمه بعد ان عرفنا ان الله يقضي بقضاء متجدد في كل يوم بحسب مصالح العباد، وكالاعتقاد بأهمية الصدقة والدعاء وصلة الرحم وإغاثة الملهوف في رد القضاء، مثلها ما ورد في قصة يونس بعد ما أخبره الله بنزول العذاب على قومه ظاهراً ولكنه في عالم الواقع لا ينزل عليهم العذاب، فلما دعوا الله رد عليهم هذا القضاء، ومثل ذلك إخبار عيسى (عليه السلام) بوفاة العروس التي كانت تزف الى زوجها، ولما لم يحدث ذلك تبين ان تحت فراشها ثعباناً ساماً لكنه لم يقتلها لما قامت به في تلك الليلة من الصدقة على الفقراء والمساكين.
فالنتيجة ان البداء من مرتكزات الإمامية الرصينة بهذا المعنى، أي هو النسخ في التكوينيات، وليس بذلك المعنى الذي لازمه الجهل على الله والعياذ بالله.
هذا الكلام اعتصرته اعتصاراً وألممته الماماً واسهلته إيساراً لأوصله الى الأفهام بأبين بيان وأفصح لسان، ومع ذلك فلا يفهمه الا من جاس خلال الديار وفتش في ذرات الغبار، والحمد لله رب العالمين
(فاضل البديري 13المحرم الحرام 1433هـ)