حبیب عساکره
16-12-2011, 12:35 AM
أوّل أئمة أهل البـيت
أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام
نافذة إلى معرفة الإمام
ليس ثمة من يجهل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مولى المتقين وأمير المؤمنين ووارث علم النبيين وخليفة رسول ربّ العالمين، منبع الفضائل ومنتهى المكارم والقمة الشامخة السامية التي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير.
فأنى للقلم أن يكتب في صفاته، وماذا عساه يسطر في بيان كمالاته، وقد حارت العقول والأفهام أمام شموخ فضائله التي ملأت الخافقين، ومكارم أخلاقه التي وسعت الكونين.
وشهد بفضله وعلوّ مقامه العدو قبل الصديق، لأن النور دائما أقوى من الظلام ووهج الحقيقة يأبى أن يكتمه تراكم الدخان، لذا سطع نور علي عالياً يضيء درب البشرية ويمدها بمنهاج الرسالة المحمدية الخالدة، وتسابقت الأقلام لتتشرف في تخليد هذه الشخصية العظيمة وتبجيلها.
قال الإمام الآجري: «شرفه الله الكريم بأعلى الشرف، سوابقه بالخير عظيمة، ومناقبه كثيرة، وفضله عظيم وخطره جليل، وقدره نبيل، أخو الرسول (صلى الله عليه وآله)، وابن عمه وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، وفارس المسلمين، ومفرج الكرب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقاتل الأقران، الإمام العادل، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتبع للحق المتأخر عن الباطل، المتعلق بكل خلق شريف، الله عز وجل ورسوله له محبّان، وهو لله والرسول محبّ، الذي لا يحبّه إلاّ مؤمن تقي ولا يبغضه إلاّ منافق شقي، معدن العقل والعلم، الصفحة 18 والحلم والأدب، رضي الله عنه»(1).
وحيث إن فضائل علي (عليه السلام) عظيمة شهيرة تناولتها كتب الفريقين، لذا لا نجد حاجة لسرد كلماتهم كما سيأتي التنويه إليه بعد قليل، وقبل ذلك نقدم للقارئ بطاقة تعريف بالإمام (عليه السلام):
ـ هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب (عليه السلام)، أبو الحسن الهاشمي القرشي.
ـ «وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، وهي بنت عم أبي طالب، كانت من المهاجرات»(2)، «و هي أول هاشمية ولدت هاشمياً، قد أسلمت وهاجرت»(3)، «وكانت بمحل عظيم من الأعيان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتوفيت في حياة رسول الله صلي الله عليه وآله، وصلّى عليها»(4).
عن أنس بن مالك قال: «لمّا ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني
____________
(1) نقلها المحقق آل زهوي في مقدمته على كتاب «خصائص الإمام علي» للنسائي: عن كتاب «الشريعة»: 3 / 119.
(2) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث وفيات (11 ـ 40 هـ) عهد الخلفاء الراشدين: 621، دار الكتاب العربي.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
(4) المستدرك على الصحيحين: 3 / 108، دار المعرفة.
الصفحة 19 وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة ثم أمر أن تغسل ثلاثاً، فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحضرون فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد، حفره رسول الله، بيده وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه، فقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين...»(1).
ـ ولد (عليه السلام) بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة، الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل(2).
قال الحاكم ووافقه الذهبي: «فقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، في جوف الكعبة»(3).
كنيته: أبو الحسن، وكنّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا تراب(4)، لمّا رآه ساجداً معفراً وجهه في التراب، ومن كُناه أيضاً: أبو الحسين، أبو السبطين أبو الريحانتين(5).
____________
(1) المعجم الكبير للطبراني: 24 / 351، دار إحياء التراث العربي.
(2) الإرشاد للمفيد: 1 / 5، مؤسسة آل البيت.
(3) المستدرك على الصحيحين وبها مشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 483، دار المعرفة.
(4) انظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
(5) انظر «إعلام الورى» للطبرسي: 1 / 307، مؤسسة آل البيت.
الصفحة 20 ألقابه: أمير المؤمنين(1)، والمرتضى والوصي(2)، وقد لقّبه رسول الله (صلى الله عليه وآله): سيد المسلمين وإمام المتّقين، وقائد الغر المحجّلين وسيد الأوصياء وسيد العرب(3).
ـ كان علي (عليه السلام) هو الإمام والخليفة الشرعي للمسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى ذلك النصوص الصريحة الصحيحة في كتب الفريقين وسيأتي التعرّض لبعضها أثناء البحث.
ـ كان علي (عليه السلام) أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام(4).
ـ كان من السابقين الأولين، شهد بدراً ومابعدها(5)، وثبت في الصحيحين أنه (صلى الله عليه وآله) أعطاه الراية في يوم خيبر، وأخبر أن الفتح يكون على يديه، وأحواله في الشجاعة وآثاره في الحروب مشهورة(6).
ـ اشتهرت مناقبه وفضائله وملأت الخافقين وقد صرح أحمد بن حنبل وغيره بأنه: «لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد، أكثر مما جاء في علي»، وسيأتي التعرّض لذلك بعد قليل إن شاء الله.
____________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث (11 ـ 40 هـ) عهد الخلفاء الراشدين: 621، دار الكتاب العربي.
(2) مطالب السؤول لمحمد بن طلحة الشافعي: 1 / 59، مؤسسة أم القرى.
(3) إعلام الورى للطبرسي: 1 / 307، مؤسسة آل البيت.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
(5) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث (11 ـ 40 هـ) عهد الخلفاء الراشدين: 622، دار الكتاب العربي.
(6) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
الصفحة 21 عاش بعد النبي تسعاً وثلاثين سنة قضاها في الجهاد الشريف والدفاع عن حياض الشريعة والحفاظ على الرسالة المحمدية من الضياع.
ـ استشهد (عليه السلام) في شهر رمضان في اليوم الحادي والعشرين منه سنة أربعين للهجرة، (21 / رمضان / سنة 40 هـ) وكان عمره الشريف ثلاثاً وستين سنة (63 سنة)(1). قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ وقد خرج لصلاة الفجر ليلة تسع عشرة من شهر رمضان وهو ينادي «الصلاة الصلاة»، في المسجد الأعظم بالكوفة، فضربه بالسيف على أمّ رأسه، وقد كان ارتصده من أول الليل لذلك وكان سيفه مسموماً، فمكث (عليه السلام) يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من الليل، ثم قضى نحبه (عليه السلام)(2).
ـ نصّ النبي في الصحيح من حديثه على أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب هو أشقى الناس.
قال السيوطي: «وأخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعلي: «أشقى الناس رجلان، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل منه هذه من الدم ـ يعني لحيته ـ»(3).
____________
(1) أصول الكافي للكليني: 1 / 524، دار التعارف للمطبوعات، و «إعلام الورى» للطبرسي: 1/ 309، مؤسسة آل البيت.
(2) إعلام الورى للطبرسي: 1 / 309، مؤسسة آل البيت.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 134، دار الكتاب العربي.
الصفحة 22 والحديث صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي(1)، وكذا صحّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير»(2)، وفي «الصحيحة»(3) مضافاً لتصحيح السيوطي المتقدم.
ـ دفن (عليه السلام) في النجف الأشرف، وقبره معلوم معروف تتجه إليه الألوف المؤلفة لزيارته والتوسل إلى الله به.
* * *
بناؤنا في هذا الكتاب على استعراض كلمات علماء وأعلام أهل السنة في أئمة أهل البيت، ولكن في خصوص (علي والحسنين) نجد كثرة في ما ورد في فضائلهما من القرآن والسنّة النبوية الشريفة، ومعها لا نجد حاجة لذكر كلماتهم في المقام لذا سنقتصر في هذين الفصلين على ذكر الفضائل من الكتاب والسنّة، ولكن حيث صرّح كبار حفّاظ وعلماء أهل السنة بكثرة ما ورد في علي من الفضائل ارتأينا أن نبتدئ بحثنا بذكر بعض الكلمات في ذلك، ثم ننتقل لذكر نماذج من فضائله، والله المستعان.
____________
(1) المستدرك على الصحيحين وبهامشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 141، دار المعرفة.
(2) صحيح الجامع الصغير: 1 / 505، المكتب الإسلامي.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة: 4 / 324 ـ 325، حديث رقم (1743)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.
أقوال في كثرة فضائله
1 ـ قال أحمد(1) و إسماعيل القاضي(2) والنسائي(3) وأبو علي النيسابوري(4):
«لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي»(5).
____________
(1) هو الإمام المحدث أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، صاحب المذهب.
(2) هو الإمام العلامة الحافظ شيخ الاسلام، أبو اسحاق، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن محدث البصرة حماد بن زيد بن درهم الأزدي، مولاهم البصري المالكي قاضي بغداد، وصاحب التصانيف، المتوفى 282 هـ. انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء»: 13 / 393، مؤسسة الرسالة.
(3) هو الحافظ الشهير أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 هـ)، صاحب السنن.
(4) هو أبو علي الحسن بن علي بن زيد بن داود النيسابوري (ت: 349 هـ)، قال عنه الذهبي: الحافظ الإمام العلامة الثبت...، انظر «سير أعلام النبلاء»: 16 / 51، مؤسسة الرسالة.
(5) أرسل هذا القول إرسال المسلّمات (مع اختلاف قليل في اللفظ) في كلمات جملة من الحفاظ منهم ابن عبد البر في «الاستيعاب»: 3 / 1115، دار الجيل، لكنه اقتصر على نسبة القول إلى الثلاثة ولم يذكر أبا علي النيسابوري، وابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: 7 / 91، دار السلام، وابن حجر الهيتمي في «الصواعق المحرقة»: 186، دار الكتب العلمية. وقد أفرد لفظاً لاحمد وآخر للثلاثة، والمباركفوري في «تحفة الأحوذي»: 10 / 44، دار الكتب العلمية. واللفظ منقول من «فتح الباري»، كما أخرج قول أحمد مسنداً ـ مع اختلاف قليل في اللفظ ـ جمع كثير منهم الحاكم في «المستدرك على الصحيحين»: 3 / 107، دار المعرفة والثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان»: 4 / 81، دار إحياء التراث العربي. والحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل»: 1 / 18 ـ 19، الأحاديث: 7، 8، 9، وابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 42/ 419، دار الفكر، وشمس الدين الجزري في «أسنى المطالب في مناقب سيدنا علي بن أبي طالب»: 47. وقد صرح في مقدمة كتابه بصحة كل ما جاء فيه. وأورد قوله أيضاً ابن الأثير في «الكامل»: 3 / 339، دار الفكر، مرسلاً إياه إرسال المسلمات، والذهبي في «تاريخ الإسلام»: حوادث وفيات (11 ـ 40 هـ)، ص 638، دار الكتاب العربي، نقلاً بواسطة محمد بن منصور الطوسي، (الثقة عندهم)، كما أرسله ابن حجر إرسال المسلّمات في «الإصابة»: 2 / 507، دار الفكر. كما نقل المناوي قول أحمد والنيسابوري كلاً على انفراد مرسلاً إياهما إرسال المسلّمات في «فتح القدير شرح الجامع الصغير»: 4 / 468، دار الكتب العلمية.
الصفحة 24
2 ـ قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 655هـ) في «شرح نهج البلاغة»:
«فأما فضائله (عليه السلام)، فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها» إلى أن قال: «وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّاً، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه، وكلّما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلى حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى»(1).
3 ـ قال السمهودي (ت: 911 هـ) في «جواهر العقدين»:
«ومناقب علي رضي الله عنه جليلة عظيمة شهيرة كثيرة حتى قال الإمام
____________
(1) شرح نهج البلاغة: 1 / 17، دار الكتب العلمية. طبعة مصورة على طبعة دار إحياء الكتب العربية.
الصفحة 25 أحمد بن حنبل (رحمه الله): ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه»(1).
4 ـ قال ابن العماد الحنبلي (ت: 1089 هـ) في «شذرات الذهب»:
«و مناقبه لا تعد؛ من أكبرها تزويج البتول ومؤاخاة الرسول ودخوله في المباهلة والكساء وحمله في أكثر الحروب اللواء، وقول النبي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى وغير ذلك مما يطول ذكره ويعزّ حصره»(2).
5 ـ قال الحافظ أحمد بن الصديق المغربي (ت: 1380 هـ) في «فتح الملك العلي»:
«فإنّ الأحاديث الصحيحة الواردة بفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عديدة متكاثرة، وشهيرة متواترة، حتى قال جمع من الحفاظ: إنّه لم يرد من الفضائل لأحد من الصحابة بالأسانيد الصحيحة الجياد ما ورد لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)»(3).
ومن هنا لا نجد حاجة لبسط كلمات علماء وأعلام أهل السنّة في فضله ومدحه والثناء عليه، وسنقتصر في هذا الفصل على ذكر جملة مما ورد في فضله من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
____________
(1) جواهر العقدين: 251، دار الكتب العلمية.
(2) شذرات الذهب: 1 / 85، دار الكتب العلمية.
(3) فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي: [مقدمة الكتاب].
الصفحة 26
فضائل علي في القرآن والسنّة النبوية
المبحث الأول
من فضائل علي في القرآن الكريم
الآية الأولى:
آية التطهير: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).
وحيث إن الآية الكريمة صريحة في تكريم أهل البيت، وتمييزهم وخصهم بكرامة عالية ومنقبة جلية سامية، ألا وهي إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً؛ لذا نقصر الكلام على بيان المراد من أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الآية:
وقد دلّت الأخبار الصحيحة المتظافرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) على اختصاص أهل البيت بأصحاب الكساء وهم: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
وروى ذلك عدد كبير من الصحابة كابن عباس وأبي سعيد الخدري وعمر بن أبي سلمة وواثلة بن الأسقع وجابر بن عبدالله الأنصاري وسعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وأم سلمة وعائشة وغيرهم، وإليك نماذج من الروايات في ذلك:
1 ـ أخرج مسلم في «صحيحه» بسنده إلى عائشة، قالت: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
____________
(1) الأحزاب: 33.
الصفحة 27 تطهيراً»(1).
2 ـ أخرج الترمذي في «سننه» بسنده إلى شهر بن حوشب عن أم سلمة، قالت: «إنّ النبي جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي(2)، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب(3).
3 ـ أخرج أحمد في «مسنده» بسنده إلى شهر بن حوشب عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: ائتني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم فألقى عليهم كساءً فدكياً، قال: ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إنّ هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وآل محمد إنّك حميد مجيد، قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال:
____________
(1) صحيح مسلم: 7 / 130، باب فضائل أهل بيت النبي، دار الفكر. وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»: 7 / 501، دار الفكر. والحاكم النيسابوري صحّحه في «المستدرك على الصحيحين»: 3/147، دار المعرفة، وغيرهم.
(2) حامّة الإنسان: خاصته، ومن يقرب منه وهو الحميم أيضاً، «النهاية في غريب الحديث»: 1 / 429.
(3) سنن الترمذي: 5 / 361، ما جاء في فضل فاطمة (رضي الله عنها)، ط. دار الفكر، وأخرجه أحمد في مسنده 18 / 272، حديث رقم 26476، دار الحديث، القاهرة، وحسّنه حمزة أحمد الزين محقق الكتاب حيث قال: «إسناده حسن». كما أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده: 12 / 451، دار المأمون للتراث، وأورده الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: 3 / 283، في ترجمة الحسين الشهيد، مؤسسة الرسالة، قائلاً: «إسناده جيد، روي من وجوه عن شهر وفي بعضها يقول: دخلتُ عليها أعزيها على الحسين».
الصفحة 28 إنك على خير(1).
4 ـ أخرج الترمذي في «سننه» بسنده إلى عطاء بن أبي رياح عن عمر بن أبي سلمة (ربيب النبي صلى الله عليه وسلم)، قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء وعلي خلف ظهره، فجلله بكساء، ثم قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً»، قالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنتِ على مكانك وأنتِ إلى خير»(2).
قال الشيخ الألباني: «صحيح»(3).
5 ـ أخرج ابن عساكر الشافعي في «الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين» بسنده إلى أبي سعيد الخدري عن أمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: نزلت هذه
____________
(1) مسند أحمد: 18 / 314، حديث رقم 26625، دار الحديث، القاهرة. وقد حسّن الحديث محقق الكتاب حمزة أحمد الزين بقوله في الهامش: «إسناده حسن»، وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده: 12 / 344، حديث رقم 6912، وبسند آخر إلى شهر في: 12 / 456، حديث رقم 7026، ط. دارالمأمون للتراث. والطبراني في «المعجم الكبير»: 3 / 53، حديث رقم 2664، ط. دار إحياء التراث العربي. وكذا في: 23 / 336، وابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 13 / 203، و14 / 141، ط. دار الفكر، وأورده السيوطي في «الدر المنثور»: 5 / 198، ط. الفتح، جدة.
(2) سنن الترمذي: 5 / 328، كتاب تفسير القرآن، دار الفكر، بيروت.
(3) صحيح سنن الترمذي: 3 / 306، كتاب تفسير القرآن، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. وأخرجه ابن جرير الطبري في «جامع البيان»: مجلد12 ج22 ص11، دار الفكر، والطحاوي في مشكل الآثار: 1 / 335، دار صادر.
الصفحة 29 الآية في بيتي {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قلت يا رسول الله: ألستُ من أهل البيت؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: وأهل البيت: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن عساكر: هذا حديث صحيح(1).
6 ـ أخرج أحمد في «مسنده» بسنده إلى علي بن زيد عن أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً(2).
إلى غير ذلك من الروايات الصحيحة الكثيرة الشهيرة في هذا الباب والتي تثبت بوضوح اختصاص أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بأربعة وهم علي وفاطمة والحسن والحسين؛ لذا قرأنا في ما صحّ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه جذب الثوب من أمّ سلمة حين أرادت الدخول وقال لها: إنّك على خير أو منعها من الدخول معهم وقال لها: أنتِ على مكانك وأنتِ إلى خير. كما عرفنا أنه كان يمرّ ببيت
____________
(1) الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين: 106.
(2) مسند أحمد بن حنبل 11 / 257، حديث رقم 13663، وأخرجه بسند آخر إلى علي بن زيد في: 11 / 336، حديث رقم 13973، دار الحديث، القاهرة. وقد حسّن محقق الكتاب حمزة أحمد الزين كلا الطريقين قائلاً: «إسناده حسن» في تهميشه على كل منهما. وأخرج الحديث الترمذي في سننه: 5 / 31، كتاب تفسير القرآن، دار الفكر. قائلاً: «هذا حديث حسن»، وأخرجه الحاكم النيسابوري في «المستدرك»: 3 / 158، ذكر مناقب فاطمة، دار المعرفة، قائلاً: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وأقرّه الذهبي في التلخيص.
الصفحة 30 فاطمة ـ وهو بيت علي والحسنين ـ مدة ستة أشهر ويقول: الصلاة يا أهل البيت، ثم يتلو الآية الكريمة ولم نقرأ ولم نسمع أنّه مرّ ساعة واحدة على أحد بيوت أزواجه وفعل مثل ذلك. أفليس ذلك من باب تعميق وتأكيد معنى أهل البيت في نفوس المسلمين، ثم إنّ نفس وضع الكساء على هؤلاء الأربعة وقوله: اللهم هؤلاء أهل بيتي فيه قرينة حالية واضحة على حصر أهل البيت في زمانه بهؤلاء الأربعة، وبهذا يندفع القول بأنها شاملة لنساء النبي فضلاً عن القول باختصاصها بهن.
فإن عمدة ما يمكن أن يستدل به على شمولها لنساء النبي هو سياق الآيات القرآنية المتحدثة عن نساء النبي، صدراً وعجزاً، مما يدلل على أن الآية ظاهرة في إرادة نساء النبي، وبضميمة الروايات الصحيحة تكون شاملة للأربعة المذكورين من أهل بيت النبي وغير مختصة بهم.
وفيه: بعد التسليم بوحدة السياق وعدم إبراز احتمال كون هذا المقطع ليس في سياق تلك الآية حيث إن القرآن الموجود غير مرتب على حسب النزول(1)، أقول: بعد التسليم بوحدة السياق(2)، فإن التمسك به متوقف على عدم وجود نص شرعي مبيـّن له، وحيث إنّ النص موجود فالتمسك بوحدة السياق ممنوع، إذ لا معنى مع بيان النبي وتصريحه مراراً، وتأكيده على أنّ
____________
(1) وقد دلّت الروايات الصحيحة على أن آية }إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ...{ نزلت في بيت أم سلمة، وقد تقدم ذكر بعض الروايات في ذلك: «انظر رواية رقم (4) ورواية رقم (5)»، وفيها ظهور بيّن على أنّ هذه الآية نزلت منفصلة عن بقية الآيات الواردة في نساء النبي.
(2) أي لو فرضنا أن آية التطهير نزلت في سياق واحد مع الآيات المتحدثة عن نساء النبي.
الصفحة 31 المراد من أهل البيت هم الأربعة، لا معنى للتمسك بوحدة السياق فإن وحدة السياق تفيد ظهور الكلام في المعنى المراد ومع تصريح النبي بخلافه ينتهي ذلك الظهور، خصوصاً مع منعه دخول أم سلمة في الكساء، قاطعاً بذلك السبيل على من أراد إدخال نسائه في الآية المذكورة.
ومما يؤكد على عدم دخول نساء النبي في الآية الكريمة هو عدم ادّعاء واحدة من نساء النبي تلك المزيّة والمنقبة حتى إن السيدة عائشة في قتالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم تدع ذلك ولو كان، لرفعته شعاراً في تجييشها الجيوش ونادت به وأقامت الدنيا وما أقعدتها.
هذا مضافاً لما روي عنها في الصحيح ما يدل على عدم شمولها بآية التطهير؛ فقد جاء في صحيح البخاري أن عائشة قالت: «ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري»(1) ولوكانت مشمولة بآية التطهير، لكان ذكرها أولى من ذكر غيرها، مع أنّ لفظها في الرواية ظاهر في حصر الآيات النازلة فيها؛ أي أنّ الله لم ينزل شيئاً في عائشة سوى الآية النازلة في برائتها مما رميت به(2).
و بعد سقوط القول بشمول آية التطهير لنساء النبي يتضح وهن وضعف القول باختصاصها بهن، ولا بأس أن نشير إلى أنّ هذا القول نُسِب إلى ابن
____________
(1) صحيح البخاري: 6 / 42، دار الفكر.
(2) وتقصد من الآية النازلة في عذرها، قوله تعالى: (إنَّ الَذينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شراً لَكُمْ بَلْ هو خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ ما اكْتسَبَ مِنَ الإثْمِ والّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، النور: 11.
الصفحة 32 عباس عن طريق عكرمة الخارجي، ونقل أنّ عكرمة كان يقول: «من شاء باهلته، إنها نزلت في أزواج النبي» وروي عنه عند نزول الآية: «ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النبي»(1).
وفيه:
أولاً: أنّه مخالف للصحيح الصريح المتظافر من النبي (صلى الله عليه وآله) في أن الآية مختصة بأصحاب الكساء.
ثانياً: أنها مخالفة لما ثبت وصح عن ابن عباس نفسه في أنّ النبي أخذ ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً»(2).
____________
(1) الدر المنثور للسيوطي: 5 / 198، مطبعة الفتح، جدة.
(2) أخرج الحاكم في مستدركه بسنده إلى عمرو بن ميمون قال: إني جالس عند ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا من بين هؤلاء، قال فقال ابن عباس: بل أنا أقوم معكم، قال وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى، قال: فابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ماقالوا، قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول أف وتف وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره، وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبداً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فاستشرف لها مستشرف فقال: أين علي؟ فقالوا إنه في الرحى يطحن، قال وما كان أحدهم ليطحن، قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أنْ يبصر، قال فنفث في عينيه ثم هزّ الراية ثلاثاً فأعطاها إياه فجاء علي بصفية بنت حيي، قال ابن عباس، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلاناً بسورة التوبة فبعث علياً خلفه فأخذها منه وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه، فقال ابن عباس: وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة قال وعلي جالس معهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله واقبل على رجل رجل منهم أيكم يواليني في الدنيا والآخرة فأبوا فقال لعلي أنت وليي في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة رضي الله عنها، قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً...».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد».
وقال الذهبي في التلخيص: «صحيح»، انظر «المستدرك على الصحيحين»: 3 / 133 - 134، وبذيله «تلخيص المستدرك» للذهبي، دار المعرفة، بيروت.
وأخرج الحديث أحمد في «مسنده»: 1 / 331، دار صادر، بيروت.
وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد»: 9 / 119، دار الكتب العلمية..
وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» باختصار.
الصفحة 33 ثالثاً: أنّ قول عكرمة قول شاذ ونادر، ولم يعبأ به أحد من المسلمين، بل إنّ إجماعهم على خلافه.
رابعاً: أنّ عكرمة متهم بالكذب، مضافاً لكونه خارجياً(1) مبغضاً لعلي بن
____________
(1) قال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، وقال أبو خلف الخزار عن يحيى البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتقِ الله ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وقال جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد على باب الحش، قال: قلتُ ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي وقال هشام بن سعد عن عطاء الخراساني: قلتُ لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله تزوج ميمونة وهو محرم، فقال: كذب مخبثان [يعني الخبيث].
و قال فطر بن خليفة: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: سبق الكتاب، المسح على الخفين، فقال: كذب عكرمة سمعت ابن عباس يقول: امسح على الخفين وإن خرجت من الخلاء.
وقال إسرائيل عن عبدالكريم الجزري عن عكرمة أنه كره كراء الأرض، قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذب عكرمة، سمعت ابن عباس يقول: إن أمثل ما أنتم صانعون استيجار الأرض البيضاء سنة بسنة.
وقال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري: كان كذاباً، وقال إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى وغيره: كان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه.
وقال الدوري عن ابن معين: كان مالك يكره عكرمة.
وقال الربيع عن الشافعي: «وهو ـ يعني مالك بن أنس ـ سيء الرأي في عكرمة، قال: «لا أرى لأحد أن يقبل حديثه» (تجد هذه الأقوال في «تهذيب التهذيب»: 5 / 634 - 635، دار الفكر).
وترجمه الذهبي في «ميزان الاعتدال»: وقال: «...وأما مسلم فتجنبه وروى له قليلاً مقروناً بغيره، وأعرض عنه مالك وتحايده إلا في حديث أو حديثين»، وروى روايات في تضعيفه وأنه كان يلعب النرد ويسمع الغناء ويرى رأي الخوارج «ميزان الاعتدال»: 3 / 93 ـ 97، دار الفكر، وبهذا يثبت أن عكرمة كان متهماً بالكذب ولا حاجة لسرد مزيد كلمات.
الصفحة 34 أبي طالب (عليه السلام)، وقد صحّ عن النبي قوله لعلي (عليه السلام) أنّه: «لا يحبك إلاّ مؤمن ولايبغضك إلاّ منافق»(1)، فعكرمة منافق بنص قول النبي فكيف يعتمد عليه في بيان أمور الدين وما يتعلق بشريعة سيد المرسلين(2).
خامساً: إن نفس قول عكرمة: «من شاء باهلته»، أو: «ليس بالذي تذهبون»، فيه دلالة واضحة وصريحة على أنّ المسلمين كانوا يذهبون إلى خلاف رأيه.
وبهذا اتضح أنّ الآية مختصة بالخمسة أصحاب الكساء وهم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين ـ عليهم جميعاً سلام الله ورضوانه ـ بحسب ما صحّ عن النبي (صلى الله عليه وآله). ولذا نرى جمعاً من علماء أهل السنة ذهبوا إلى هذا القول منهم القرطبي في كتابه المفهم حيث
____________
(1) تجد الحديث بألفاظ مختلفة في مصادر عديدة منها: «صحيح مسلم»: 1 / 61، دار الفكر و «مسند أحمد»: 1 / 95، دار صادر، و «سنن النسائي»: 8 / 116 دار الفكر وغيرها.
(2) ومن المؤسف حقاً مانراه من علماء أخواننا من أهل السنة في توثيقهم للخوارج والنواصب المبغضين لعلي بن أبي طالب، وهم منافقون بنصّ قول النبي المتقدم.
الصفحة 35 قال: «وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} دليل على أن أهل البيت المعنيين في الآية: هم المغطون بذلك المرط في ذلك الوقت»(1) ومنهم الطحاوي في «مشكل الآثار»(2)، ووافقه عليه قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن موسى الحنفي في كتابه «المعتصر من المختصر من مشكل الآثار»(3)، وهو كتاب مختصر لـ «المختصر من مشكل الآثار» لمؤلفه القاضي أبي الوليد بن رشد، ويظهر أن أبا الوليد وافق الطحاوي أيضاً إذ لم نر من أبي المحاسن أي إشارة إلى الخلاف عند التعرض لهذا المطلب مع أنه وعد في مقدمة كتابه التنبيه إلى اختلافات أبي الوليد مع الطحاوي.
ومنهم ابن عساكر الشافعي المتوفى (620 هـ) في كتابه «الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين»(4) وغيرهم.
الآية الثانية:
آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنا ونِسَاءَكُمْ وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكاذِبِينَ}(5).
____________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 6 / 302 ـ 303، دار ابن كثير.
(2) انظر «مشكل الآثار»: 1 / 336 ـ 337 ـ 338 ـ 339، دار صادر.
(3) انظر «المعتصر من المختصر من مشكل الآثار»: 2 / 267، عالم الكتب.
(4) انظر «الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين»: 106.
(5) آل عمران: 61.
الصفحة 36 سنصب البحث في هذه الآية مختصراً، على ثلاثة أمور:
الأول: في بيان المراد من المباهلة مع ذكر مختصر لحادثة المباهلة.
الثاني: في بيان المقصودين من آية المباهلة.
الثالث: في بيان معطيات آية المباهلة.
أما الأول: فالمباهلة كما في «لسان العرب» هي: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا...
والابتهال: الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عزوجل، وفي التنزيل العزيز: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكاذِبِينَ}، أي نخلص ويجتهد كل منّا في الدعاء، واللعن على الكاذب منا(1)؛ فالمراد بقوله: «نبتهل» في الآية هو أنْ نجتهد في الدعاء إلى الله تعالى في أن يجعل لعنته على الكاذبين.
و قد أمر الله، سبحانه وتعالى نبيه في أن يباهل نصارى نجران، حيث كانوا يعاندون في قضية عيسى (عليه السلام)، ويعتقدون بألوهيته ويجادلون النبي في ذلك، ونقتصر في ذكر الحادثة على ما نقله الفخر الرازي في تفسيره، قال: «روي أنه (عليه السلام) لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصرّوا على جهلهم، فقال (عليه السلام): «إن الله أمرني إنْ لم تقبلوا الحجة أنْ أباهلكم» فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فلما رجعوا، قالوا للعاقب: وكان ذا رأيهم، يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم،
____________
(1) انظر «لسان العرب»: 11 / 72، دار إحياء التراث العربي.
الصفحة 37 والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي الله عنه خلفها، وهو يقول: إذا دعوت فأمِّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم: رأينا أنْ لا نباهلك وأنْ نقرك على دينك، فقال صلوات الله عليه فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أنْ لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أنْ نؤدي إليك في كل عام ألفي جلة: ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا، لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا(1)، وروي أنه (عليه السلام) لمّا جاء في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله، ثم
____________
(1) تفسير الفخر الرازي: مجلد4، ج8، ص79 ـ 90، دار الفكر، وانظر «تفسير الثعلبي»: 3 / 85، دار إحياء التراث العربي، وقد أرسل الخبر إرسال المسلمات.
الصفحة 38 جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي الله عنهما ثم قال: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} واعلم أنّ هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث»(1).
هذا ملخص ما يقال في الأمر الأول.
الثاني: في بيان المقصودين من آية المباهلة:
اتضح من قصة المباهلة أن المقصودين من الآية هم الخمسة أصحاب الكساء الواردة فيهم آية التطهير وهم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وولداهما الإمامان الهمامان الحسن والحسين عليهما السلام.
و الأخبار في ذلك متواترة ومن ضمنها الصحيحة الصريحة في ذلك.
قال الحاكم النيسابوري: «وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم ثم قال: هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا فهلمّوا أنفسكم وابناءكم ونساءكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين(2) ».
وذهب الجصاص إلى عدم الخلاف في ذلك فقال في «أحكام القرآن»: «فنقل رواة السير ـ ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه ـ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ ثم دعا
____________
(1) المصدر نفسه: مجلد 4 ج8 ص90.
(2) معرفة علوم الحديث: 48، ط. دار الآفاق الجديدة.
الصفحة 39 النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة...»(1).
هذا وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والحاكم وابن الأثير وابن حجر وغيرهم بسندهم إلى سعد بن أبي وقاص، قال: «...وأنزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنا ونِسَاءَكُمْ وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي»(2).
وقال القرطبي في تفسيره لهذه الآية عند بلوغه كلمة (أبناءنا): «[أبناءنا] دليل على أنّ أبناء البنات يسمّون أبناء، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفهما وهو يقول لهم: «إن أنا دعوت فأمّنوا...»(3) فهو إذن أرسل الخبر إرسال المسلّمات.
و أخرج ابن مردويه بسنده إلى الشعبي عن جابر بن عبدالله، قال: «قدم على النبي العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرّا له بالخراج. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «والذي بعثني بالحق لو قال: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً». قال
____________
(1) أحكام القرآن: 2 / 18، دار الكتب العلمية.
(2) انظر «صحيح مسلم»: 7 / 120، دار الفكر، و «مسند أحمد»: 1 / 85، دار صادر، و «سنن الترمذي»: 4/ 293، دار الفكر، وقال عنه: «هذا حديث حسن غريب صحيح»، و «مستدرك الحاكم»: 3 / 150، دار المعرفة، وصحّحه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، و «أسد الغابة» لابن الأثير: 4 / 114، دار إحياء التراث العربي. و «الإصابة» لابن حجر: 4 / 468، دار الكتب العلمية، واللفظ للأخير.
(3) تفسير القرطبي المسمّى «الجامع لأحكام القرآن»: 4 / 104، دار الكتاب العربي.
أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام
نافذة إلى معرفة الإمام
ليس ثمة من يجهل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مولى المتقين وأمير المؤمنين ووارث علم النبيين وخليفة رسول ربّ العالمين، منبع الفضائل ومنتهى المكارم والقمة الشامخة السامية التي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير.
فأنى للقلم أن يكتب في صفاته، وماذا عساه يسطر في بيان كمالاته، وقد حارت العقول والأفهام أمام شموخ فضائله التي ملأت الخافقين، ومكارم أخلاقه التي وسعت الكونين.
وشهد بفضله وعلوّ مقامه العدو قبل الصديق، لأن النور دائما أقوى من الظلام ووهج الحقيقة يأبى أن يكتمه تراكم الدخان، لذا سطع نور علي عالياً يضيء درب البشرية ويمدها بمنهاج الرسالة المحمدية الخالدة، وتسابقت الأقلام لتتشرف في تخليد هذه الشخصية العظيمة وتبجيلها.
قال الإمام الآجري: «شرفه الله الكريم بأعلى الشرف، سوابقه بالخير عظيمة، ومناقبه كثيرة، وفضله عظيم وخطره جليل، وقدره نبيل، أخو الرسول (صلى الله عليه وآله)، وابن عمه وزوج فاطمة، وأبو الحسن والحسين، وفارس المسلمين، ومفرج الكرب عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقاتل الأقران، الإمام العادل، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتبع للحق المتأخر عن الباطل، المتعلق بكل خلق شريف، الله عز وجل ورسوله له محبّان، وهو لله والرسول محبّ، الذي لا يحبّه إلاّ مؤمن تقي ولا يبغضه إلاّ منافق شقي، معدن العقل والعلم، الصفحة 18 والحلم والأدب، رضي الله عنه»(1).
وحيث إن فضائل علي (عليه السلام) عظيمة شهيرة تناولتها كتب الفريقين، لذا لا نجد حاجة لسرد كلماتهم كما سيأتي التنويه إليه بعد قليل، وقبل ذلك نقدم للقارئ بطاقة تعريف بالإمام (عليه السلام):
ـ هو الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب (عليه السلام)، أبو الحسن الهاشمي القرشي.
ـ «وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، وهي بنت عم أبي طالب، كانت من المهاجرات»(2)، «و هي أول هاشمية ولدت هاشمياً، قد أسلمت وهاجرت»(3)، «وكانت بمحل عظيم من الأعيان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتوفيت في حياة رسول الله صلي الله عليه وآله، وصلّى عليها»(4).
عن أنس بن مالك قال: «لمّا ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني وتعرين وتكسيني
____________
(1) نقلها المحقق آل زهوي في مقدمته على كتاب «خصائص الإمام علي» للنسائي: عن كتاب «الشريعة»: 3 / 119.
(2) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث وفيات (11 ـ 40 هـ) عهد الخلفاء الراشدين: 621، دار الكتاب العربي.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
(4) المستدرك على الصحيحين: 3 / 108، دار المعرفة.
الصفحة 19 وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة ثم أمر أن تغسل ثلاثاً، فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحضرون فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد، حفره رسول الله، بيده وأخرج ترابه بيده، فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه، فقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين...»(1).
ـ ولد (عليه السلام) بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة، الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل(2).
قال الحاكم ووافقه الذهبي: «فقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، في جوف الكعبة»(3).
كنيته: أبو الحسن، وكنّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا تراب(4)، لمّا رآه ساجداً معفراً وجهه في التراب، ومن كُناه أيضاً: أبو الحسين، أبو السبطين أبو الريحانتين(5).
____________
(1) المعجم الكبير للطبراني: 24 / 351، دار إحياء التراث العربي.
(2) الإرشاد للمفيد: 1 / 5، مؤسسة آل البيت.
(3) المستدرك على الصحيحين وبها مشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 483، دار المعرفة.
(4) انظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
(5) انظر «إعلام الورى» للطبرسي: 1 / 307، مؤسسة آل البيت.
الصفحة 20 ألقابه: أمير المؤمنين(1)، والمرتضى والوصي(2)، وقد لقّبه رسول الله (صلى الله عليه وآله): سيد المسلمين وإمام المتّقين، وقائد الغر المحجّلين وسيد الأوصياء وسيد العرب(3).
ـ كان علي (عليه السلام) هو الإمام والخليفة الشرعي للمسلمين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى ذلك النصوص الصريحة الصحيحة في كتب الفريقين وسيأتي التعرّض لبعضها أثناء البحث.
ـ كان علي (عليه السلام) أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة وصهره على فاطمة سيدة نساء العالمين عليها السلام(4).
ـ كان من السابقين الأولين، شهد بدراً ومابعدها(5)، وثبت في الصحيحين أنه (صلى الله عليه وآله) أعطاه الراية في يوم خيبر، وأخبر أن الفتح يكون على يديه، وأحواله في الشجاعة وآثاره في الحروب مشهورة(6).
ـ اشتهرت مناقبه وفضائله وملأت الخافقين وقد صرح أحمد بن حنبل وغيره بأنه: «لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد، أكثر مما جاء في علي»، وسيأتي التعرّض لذلك بعد قليل إن شاء الله.
____________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث (11 ـ 40 هـ) عهد الخلفاء الراشدين: 621، دار الكتاب العربي.
(2) مطالب السؤول لمحمد بن طلحة الشافعي: 1 / 59، مؤسسة أم القرى.
(3) إعلام الورى للطبرسي: 1 / 307، مؤسسة آل البيت.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
(5) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث (11 ـ 40 هـ) عهد الخلفاء الراشدين: 622، دار الكتاب العربي.
(6) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 128، دار الكتاب العربي.
الصفحة 21 عاش بعد النبي تسعاً وثلاثين سنة قضاها في الجهاد الشريف والدفاع عن حياض الشريعة والحفاظ على الرسالة المحمدية من الضياع.
ـ استشهد (عليه السلام) في شهر رمضان في اليوم الحادي والعشرين منه سنة أربعين للهجرة، (21 / رمضان / سنة 40 هـ) وكان عمره الشريف ثلاثاً وستين سنة (63 سنة)(1). قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ وقد خرج لصلاة الفجر ليلة تسع عشرة من شهر رمضان وهو ينادي «الصلاة الصلاة»، في المسجد الأعظم بالكوفة، فضربه بالسيف على أمّ رأسه، وقد كان ارتصده من أول الليل لذلك وكان سيفه مسموماً، فمكث (عليه السلام) يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها وليلة الحادي والعشرين إلى نحو الثلث من الليل، ثم قضى نحبه (عليه السلام)(2).
ـ نصّ النبي في الصحيح من حديثه على أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب هو أشقى الناس.
قال السيوطي: «وأخرج أحمد والحاكم بسند صحيح عن عمار بن ياسر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعلي: «أشقى الناس رجلان، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل منه هذه من الدم ـ يعني لحيته ـ»(3).
____________
(1) أصول الكافي للكليني: 1 / 524، دار التعارف للمطبوعات، و «إعلام الورى» للطبرسي: 1/ 309، مؤسسة آل البيت.
(2) إعلام الورى للطبرسي: 1 / 309، مؤسسة آل البيت.
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 134، دار الكتاب العربي.
الصفحة 22 والحديث صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي(1)، وكذا صحّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير»(2)، وفي «الصحيحة»(3) مضافاً لتصحيح السيوطي المتقدم.
ـ دفن (عليه السلام) في النجف الأشرف، وقبره معلوم معروف تتجه إليه الألوف المؤلفة لزيارته والتوسل إلى الله به.
* * *
بناؤنا في هذا الكتاب على استعراض كلمات علماء وأعلام أهل السنة في أئمة أهل البيت، ولكن في خصوص (علي والحسنين) نجد كثرة في ما ورد في فضائلهما من القرآن والسنّة النبوية الشريفة، ومعها لا نجد حاجة لذكر كلماتهم في المقام لذا سنقتصر في هذين الفصلين على ذكر الفضائل من الكتاب والسنّة، ولكن حيث صرّح كبار حفّاظ وعلماء أهل السنة بكثرة ما ورد في علي من الفضائل ارتأينا أن نبتدئ بحثنا بذكر بعض الكلمات في ذلك، ثم ننتقل لذكر نماذج من فضائله، والله المستعان.
____________
(1) المستدرك على الصحيحين وبهامشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 141، دار المعرفة.
(2) صحيح الجامع الصغير: 1 / 505، المكتب الإسلامي.
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة: 4 / 324 ـ 325، حديث رقم (1743)، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.
أقوال في كثرة فضائله
1 ـ قال أحمد(1) و إسماعيل القاضي(2) والنسائي(3) وأبو علي النيسابوري(4):
«لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في علي»(5).
____________
(1) هو الإمام المحدث أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)، صاحب المذهب.
(2) هو الإمام العلامة الحافظ شيخ الاسلام، أبو اسحاق، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن محدث البصرة حماد بن زيد بن درهم الأزدي، مولاهم البصري المالكي قاضي بغداد، وصاحب التصانيف، المتوفى 282 هـ. انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء»: 13 / 393، مؤسسة الرسالة.
(3) هو الحافظ الشهير أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 هـ)، صاحب السنن.
(4) هو أبو علي الحسن بن علي بن زيد بن داود النيسابوري (ت: 349 هـ)، قال عنه الذهبي: الحافظ الإمام العلامة الثبت...، انظر «سير أعلام النبلاء»: 16 / 51، مؤسسة الرسالة.
(5) أرسل هذا القول إرسال المسلّمات (مع اختلاف قليل في اللفظ) في كلمات جملة من الحفاظ منهم ابن عبد البر في «الاستيعاب»: 3 / 1115، دار الجيل، لكنه اقتصر على نسبة القول إلى الثلاثة ولم يذكر أبا علي النيسابوري، وابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: 7 / 91، دار السلام، وابن حجر الهيتمي في «الصواعق المحرقة»: 186، دار الكتب العلمية. وقد أفرد لفظاً لاحمد وآخر للثلاثة، والمباركفوري في «تحفة الأحوذي»: 10 / 44، دار الكتب العلمية. واللفظ منقول من «فتح الباري»، كما أخرج قول أحمد مسنداً ـ مع اختلاف قليل في اللفظ ـ جمع كثير منهم الحاكم في «المستدرك على الصحيحين»: 3 / 107، دار المعرفة والثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان»: 4 / 81، دار إحياء التراث العربي. والحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل»: 1 / 18 ـ 19، الأحاديث: 7، 8، 9، وابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 42/ 419، دار الفكر، وشمس الدين الجزري في «أسنى المطالب في مناقب سيدنا علي بن أبي طالب»: 47. وقد صرح في مقدمة كتابه بصحة كل ما جاء فيه. وأورد قوله أيضاً ابن الأثير في «الكامل»: 3 / 339، دار الفكر، مرسلاً إياه إرسال المسلمات، والذهبي في «تاريخ الإسلام»: حوادث وفيات (11 ـ 40 هـ)، ص 638، دار الكتاب العربي، نقلاً بواسطة محمد بن منصور الطوسي، (الثقة عندهم)، كما أرسله ابن حجر إرسال المسلّمات في «الإصابة»: 2 / 507، دار الفكر. كما نقل المناوي قول أحمد والنيسابوري كلاً على انفراد مرسلاً إياهما إرسال المسلّمات في «فتح القدير شرح الجامع الصغير»: 4 / 468، دار الكتب العلمية.
الصفحة 24
2 ـ قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 655هـ) في «شرح نهج البلاغة»:
«فأما فضائله (عليه السلام)، فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها» إلى أن قال: «وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّاً، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه، وكلّما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلى حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى»(1).
3 ـ قال السمهودي (ت: 911 هـ) في «جواهر العقدين»:
«ومناقب علي رضي الله عنه جليلة عظيمة شهيرة كثيرة حتى قال الإمام
____________
(1) شرح نهج البلاغة: 1 / 17، دار الكتب العلمية. طبعة مصورة على طبعة دار إحياء الكتب العربية.
الصفحة 25 أحمد بن حنبل (رحمه الله): ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه»(1).
4 ـ قال ابن العماد الحنبلي (ت: 1089 هـ) في «شذرات الذهب»:
«و مناقبه لا تعد؛ من أكبرها تزويج البتول ومؤاخاة الرسول ودخوله في المباهلة والكساء وحمله في أكثر الحروب اللواء، وقول النبي أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى وغير ذلك مما يطول ذكره ويعزّ حصره»(2).
5 ـ قال الحافظ أحمد بن الصديق المغربي (ت: 1380 هـ) في «فتح الملك العلي»:
«فإنّ الأحاديث الصحيحة الواردة بفضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) عديدة متكاثرة، وشهيرة متواترة، حتى قال جمع من الحفاظ: إنّه لم يرد من الفضائل لأحد من الصحابة بالأسانيد الصحيحة الجياد ما ورد لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)»(3).
ومن هنا لا نجد حاجة لبسط كلمات علماء وأعلام أهل السنّة في فضله ومدحه والثناء عليه، وسنقتصر في هذا الفصل على ذكر جملة مما ورد في فضله من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
____________
(1) جواهر العقدين: 251، دار الكتب العلمية.
(2) شذرات الذهب: 1 / 85، دار الكتب العلمية.
(3) فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي: [مقدمة الكتاب].
الصفحة 26
فضائل علي في القرآن والسنّة النبوية
المبحث الأول
من فضائل علي في القرآن الكريم
الآية الأولى:
آية التطهير: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(1).
وحيث إن الآية الكريمة صريحة في تكريم أهل البيت، وتمييزهم وخصهم بكرامة عالية ومنقبة جلية سامية، ألا وهي إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم تطهيراً؛ لذا نقصر الكلام على بيان المراد من أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الآية:
وقد دلّت الأخبار الصحيحة المتظافرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) على اختصاص أهل البيت بأصحاب الكساء وهم: رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
وروى ذلك عدد كبير من الصحابة كابن عباس وأبي سعيد الخدري وعمر بن أبي سلمة وواثلة بن الأسقع وجابر بن عبدالله الأنصاري وسعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وأم سلمة وعائشة وغيرهم، وإليك نماذج من الروايات في ذلك:
1 ـ أخرج مسلم في «صحيحه» بسنده إلى عائشة، قالت: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال: إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
____________
(1) الأحزاب: 33.
الصفحة 27 تطهيراً»(1).
2 ـ أخرج الترمذي في «سننه» بسنده إلى شهر بن حوشب عن أم سلمة، قالت: «إنّ النبي جلّل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، ثم قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي(2)، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب(3).
3 ـ أخرج أحمد في «مسنده» بسنده إلى شهر بن حوشب عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: ائتني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم فألقى عليهم كساءً فدكياً، قال: ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إنّ هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على محمد وآل محمد إنّك حميد مجيد، قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي وقال:
____________
(1) صحيح مسلم: 7 / 130، باب فضائل أهل بيت النبي، دار الفكر. وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»: 7 / 501، دار الفكر. والحاكم النيسابوري صحّحه في «المستدرك على الصحيحين»: 3/147، دار المعرفة، وغيرهم.
(2) حامّة الإنسان: خاصته، ومن يقرب منه وهو الحميم أيضاً، «النهاية في غريب الحديث»: 1 / 429.
(3) سنن الترمذي: 5 / 361، ما جاء في فضل فاطمة (رضي الله عنها)، ط. دار الفكر، وأخرجه أحمد في مسنده 18 / 272، حديث رقم 26476، دار الحديث، القاهرة، وحسّنه حمزة أحمد الزين محقق الكتاب حيث قال: «إسناده حسن». كما أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده: 12 / 451، دار المأمون للتراث، وأورده الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: 3 / 283، في ترجمة الحسين الشهيد، مؤسسة الرسالة، قائلاً: «إسناده جيد، روي من وجوه عن شهر وفي بعضها يقول: دخلتُ عليها أعزيها على الحسين».
الصفحة 28 إنك على خير(1).
4 ـ أخرج الترمذي في «سننه» بسنده إلى عطاء بن أبي رياح عن عمر بن أبي سلمة (ربيب النبي صلى الله عليه وسلم)، قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً، فجلّلهم بكساء وعلي خلف ظهره، فجلله بكساء، ثم قال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً»، قالت أمّ سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: «أنتِ على مكانك وأنتِ إلى خير»(2).
قال الشيخ الألباني: «صحيح»(3).
5 ـ أخرج ابن عساكر الشافعي في «الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين» بسنده إلى أبي سعيد الخدري عن أمّ سلمة رضي الله عنها، قالت: نزلت هذه
____________
(1) مسند أحمد: 18 / 314، حديث رقم 26625، دار الحديث، القاهرة. وقد حسّن الحديث محقق الكتاب حمزة أحمد الزين بقوله في الهامش: «إسناده حسن»، وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده: 12 / 344، حديث رقم 6912، وبسند آخر إلى شهر في: 12 / 456، حديث رقم 7026، ط. دارالمأمون للتراث. والطبراني في «المعجم الكبير»: 3 / 53، حديث رقم 2664، ط. دار إحياء التراث العربي. وكذا في: 23 / 336، وابن عساكر في «تاريخ دمشق»: 13 / 203، و14 / 141، ط. دار الفكر، وأورده السيوطي في «الدر المنثور»: 5 / 198، ط. الفتح، جدة.
(2) سنن الترمذي: 5 / 328، كتاب تفسير القرآن، دار الفكر، بيروت.
(3) صحيح سنن الترمذي: 3 / 306، كتاب تفسير القرآن، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. وأخرجه ابن جرير الطبري في «جامع البيان»: مجلد12 ج22 ص11، دار الفكر، والطحاوي في مشكل الآثار: 1 / 335، دار صادر.
الصفحة 29 الآية في بيتي {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}، قلت يا رسول الله: ألستُ من أهل البيت؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: وأهل البيت: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.
قال ابن عساكر: هذا حديث صحيح(1).
6 ـ أخرج أحمد في «مسنده» بسنده إلى علي بن زيد عن أنس بن مالك: أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر فيقول: الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً(2).
إلى غير ذلك من الروايات الصحيحة الكثيرة الشهيرة في هذا الباب والتي تثبت بوضوح اختصاص أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بأربعة وهم علي وفاطمة والحسن والحسين؛ لذا قرأنا في ما صحّ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه جذب الثوب من أمّ سلمة حين أرادت الدخول وقال لها: إنّك على خير أو منعها من الدخول معهم وقال لها: أنتِ على مكانك وأنتِ إلى خير. كما عرفنا أنه كان يمرّ ببيت
____________
(1) الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين: 106.
(2) مسند أحمد بن حنبل 11 / 257، حديث رقم 13663، وأخرجه بسند آخر إلى علي بن زيد في: 11 / 336، حديث رقم 13973، دار الحديث، القاهرة. وقد حسّن محقق الكتاب حمزة أحمد الزين كلا الطريقين قائلاً: «إسناده حسن» في تهميشه على كل منهما. وأخرج الحديث الترمذي في سننه: 5 / 31، كتاب تفسير القرآن، دار الفكر. قائلاً: «هذا حديث حسن»، وأخرجه الحاكم النيسابوري في «المستدرك»: 3 / 158، ذكر مناقب فاطمة، دار المعرفة، قائلاً: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه»، وأقرّه الذهبي في التلخيص.
الصفحة 30 فاطمة ـ وهو بيت علي والحسنين ـ مدة ستة أشهر ويقول: الصلاة يا أهل البيت، ثم يتلو الآية الكريمة ولم نقرأ ولم نسمع أنّه مرّ ساعة واحدة على أحد بيوت أزواجه وفعل مثل ذلك. أفليس ذلك من باب تعميق وتأكيد معنى أهل البيت في نفوس المسلمين، ثم إنّ نفس وضع الكساء على هؤلاء الأربعة وقوله: اللهم هؤلاء أهل بيتي فيه قرينة حالية واضحة على حصر أهل البيت في زمانه بهؤلاء الأربعة، وبهذا يندفع القول بأنها شاملة لنساء النبي فضلاً عن القول باختصاصها بهن.
فإن عمدة ما يمكن أن يستدل به على شمولها لنساء النبي هو سياق الآيات القرآنية المتحدثة عن نساء النبي، صدراً وعجزاً، مما يدلل على أن الآية ظاهرة في إرادة نساء النبي، وبضميمة الروايات الصحيحة تكون شاملة للأربعة المذكورين من أهل بيت النبي وغير مختصة بهم.
وفيه: بعد التسليم بوحدة السياق وعدم إبراز احتمال كون هذا المقطع ليس في سياق تلك الآية حيث إن القرآن الموجود غير مرتب على حسب النزول(1)، أقول: بعد التسليم بوحدة السياق(2)، فإن التمسك به متوقف على عدم وجود نص شرعي مبيـّن له، وحيث إنّ النص موجود فالتمسك بوحدة السياق ممنوع، إذ لا معنى مع بيان النبي وتصريحه مراراً، وتأكيده على أنّ
____________
(1) وقد دلّت الروايات الصحيحة على أن آية }إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ...{ نزلت في بيت أم سلمة، وقد تقدم ذكر بعض الروايات في ذلك: «انظر رواية رقم (4) ورواية رقم (5)»، وفيها ظهور بيّن على أنّ هذه الآية نزلت منفصلة عن بقية الآيات الواردة في نساء النبي.
(2) أي لو فرضنا أن آية التطهير نزلت في سياق واحد مع الآيات المتحدثة عن نساء النبي.
الصفحة 31 المراد من أهل البيت هم الأربعة، لا معنى للتمسك بوحدة السياق فإن وحدة السياق تفيد ظهور الكلام في المعنى المراد ومع تصريح النبي بخلافه ينتهي ذلك الظهور، خصوصاً مع منعه دخول أم سلمة في الكساء، قاطعاً بذلك السبيل على من أراد إدخال نسائه في الآية المذكورة.
ومما يؤكد على عدم دخول نساء النبي في الآية الكريمة هو عدم ادّعاء واحدة من نساء النبي تلك المزيّة والمنقبة حتى إن السيدة عائشة في قتالها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لم تدع ذلك ولو كان، لرفعته شعاراً في تجييشها الجيوش ونادت به وأقامت الدنيا وما أقعدتها.
هذا مضافاً لما روي عنها في الصحيح ما يدل على عدم شمولها بآية التطهير؛ فقد جاء في صحيح البخاري أن عائشة قالت: «ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري»(1) ولوكانت مشمولة بآية التطهير، لكان ذكرها أولى من ذكر غيرها، مع أنّ لفظها في الرواية ظاهر في حصر الآيات النازلة فيها؛ أي أنّ الله لم ينزل شيئاً في عائشة سوى الآية النازلة في برائتها مما رميت به(2).
و بعد سقوط القول بشمول آية التطهير لنساء النبي يتضح وهن وضعف القول باختصاصها بهن، ولا بأس أن نشير إلى أنّ هذا القول نُسِب إلى ابن
____________
(1) صحيح البخاري: 6 / 42، دار الفكر.
(2) وتقصد من الآية النازلة في عذرها، قوله تعالى: (إنَّ الَذينَ جاءُوا بالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شراً لَكُمْ بَلْ هو خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ ما اكْتسَبَ مِنَ الإثْمِ والّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، النور: 11.
الصفحة 32 عباس عن طريق عكرمة الخارجي، ونقل أنّ عكرمة كان يقول: «من شاء باهلته، إنها نزلت في أزواج النبي» وروي عنه عند نزول الآية: «ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النبي»(1).
وفيه:
أولاً: أنّه مخالف للصحيح الصريح المتظافر من النبي (صلى الله عليه وآله) في أن الآية مختصة بأصحاب الكساء.
ثانياً: أنها مخالفة لما ثبت وصح عن ابن عباس نفسه في أنّ النبي أخذ ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً»(2).
____________
(1) الدر المنثور للسيوطي: 5 / 198، مطبعة الفتح، جدة.
(2) أخرج الحاكم في مستدركه بسنده إلى عمرو بن ميمون قال: إني جالس عند ابن عباس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا ابن عباس إما أن تقوم معنا وإما أن تخلو بنا من بين هؤلاء، قال فقال ابن عباس: بل أنا أقوم معكم، قال وهو يومئذ صحيح قبل أن يعمى، قال: فابتدأوا فتحدثوا فلا ندري ماقالوا، قال: فجاء ينفض ثوبه ويقول أف وتف وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره، وقعوا في رجل قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبعثن رجلاً لا يخزيه الله أبداً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فاستشرف لها مستشرف فقال: أين علي؟ فقالوا إنه في الرحى يطحن، قال وما كان أحدهم ليطحن، قال: فجاء وهو أرمد لا يكاد أنْ يبصر، قال فنفث في عينيه ثم هزّ الراية ثلاثاً فأعطاها إياه فجاء علي بصفية بنت حيي، قال ابن عباس، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلاناً بسورة التوبة فبعث علياً خلفه فأخذها منه وقال: لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه، فقال ابن عباس: وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة قال وعلي جالس معهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله واقبل على رجل رجل منهم أيكم يواليني في الدنيا والآخرة فأبوا فقال لعلي أنت وليي في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة رضي الله عنها، قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثوبه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً...».
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد».
وقال الذهبي في التلخيص: «صحيح»، انظر «المستدرك على الصحيحين»: 3 / 133 - 134، وبذيله «تلخيص المستدرك» للذهبي، دار المعرفة، بيروت.
وأخرج الحديث أحمد في «مسنده»: 1 / 331، دار صادر، بيروت.
وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد»: 9 / 119، دار الكتب العلمية..
وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» باختصار.
الصفحة 33 ثالثاً: أنّ قول عكرمة قول شاذ ونادر، ولم يعبأ به أحد من المسلمين، بل إنّ إجماعهم على خلافه.
رابعاً: أنّ عكرمة متهم بالكذب، مضافاً لكونه خارجياً(1) مبغضاً لعلي بن
____________
(1) قال مصعب الزبيري: كان عكرمة يرى رأي الخوارج، وقال أبو خلف الخزار عن يحيى البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتقِ الله ويحك يا نافع، ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وقال جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد على باب الحش، قال: قلتُ ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي وقال هشام بن سعد عن عطاء الخراساني: قلتُ لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله تزوج ميمونة وهو محرم، فقال: كذب مخبثان [يعني الخبيث].
و قال فطر بن خليفة: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: سبق الكتاب، المسح على الخفين، فقال: كذب عكرمة سمعت ابن عباس يقول: امسح على الخفين وإن خرجت من الخلاء.
وقال إسرائيل عن عبدالكريم الجزري عن عكرمة أنه كره كراء الأرض، قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذب عكرمة، سمعت ابن عباس يقول: إن أمثل ما أنتم صانعون استيجار الأرض البيضاء سنة بسنة.
وقال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري: كان كذاباً، وقال إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى وغيره: كان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه.
وقال الدوري عن ابن معين: كان مالك يكره عكرمة.
وقال الربيع عن الشافعي: «وهو ـ يعني مالك بن أنس ـ سيء الرأي في عكرمة، قال: «لا أرى لأحد أن يقبل حديثه» (تجد هذه الأقوال في «تهذيب التهذيب»: 5 / 634 - 635، دار الفكر).
وترجمه الذهبي في «ميزان الاعتدال»: وقال: «...وأما مسلم فتجنبه وروى له قليلاً مقروناً بغيره، وأعرض عنه مالك وتحايده إلا في حديث أو حديثين»، وروى روايات في تضعيفه وأنه كان يلعب النرد ويسمع الغناء ويرى رأي الخوارج «ميزان الاعتدال»: 3 / 93 ـ 97، دار الفكر، وبهذا يثبت أن عكرمة كان متهماً بالكذب ولا حاجة لسرد مزيد كلمات.
الصفحة 34 أبي طالب (عليه السلام)، وقد صحّ عن النبي قوله لعلي (عليه السلام) أنّه: «لا يحبك إلاّ مؤمن ولايبغضك إلاّ منافق»(1)، فعكرمة منافق بنص قول النبي فكيف يعتمد عليه في بيان أمور الدين وما يتعلق بشريعة سيد المرسلين(2).
خامساً: إن نفس قول عكرمة: «من شاء باهلته»، أو: «ليس بالذي تذهبون»، فيه دلالة واضحة وصريحة على أنّ المسلمين كانوا يذهبون إلى خلاف رأيه.
وبهذا اتضح أنّ الآية مختصة بالخمسة أصحاب الكساء وهم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين ـ عليهم جميعاً سلام الله ورضوانه ـ بحسب ما صحّ عن النبي (صلى الله عليه وآله). ولذا نرى جمعاً من علماء أهل السنة ذهبوا إلى هذا القول منهم القرطبي في كتابه المفهم حيث
____________
(1) تجد الحديث بألفاظ مختلفة في مصادر عديدة منها: «صحيح مسلم»: 1 / 61، دار الفكر و «مسند أحمد»: 1 / 95، دار صادر، و «سنن النسائي»: 8 / 116 دار الفكر وغيرها.
(2) ومن المؤسف حقاً مانراه من علماء أخواننا من أهل السنة في توثيقهم للخوارج والنواصب المبغضين لعلي بن أبي طالب، وهم منافقون بنصّ قول النبي المتقدم.
الصفحة 35 قال: «وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} دليل على أن أهل البيت المعنيين في الآية: هم المغطون بذلك المرط في ذلك الوقت»(1) ومنهم الطحاوي في «مشكل الآثار»(2)، ووافقه عليه قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن موسى الحنفي في كتابه «المعتصر من المختصر من مشكل الآثار»(3)، وهو كتاب مختصر لـ «المختصر من مشكل الآثار» لمؤلفه القاضي أبي الوليد بن رشد، ويظهر أن أبا الوليد وافق الطحاوي أيضاً إذ لم نر من أبي المحاسن أي إشارة إلى الخلاف عند التعرض لهذا المطلب مع أنه وعد في مقدمة كتابه التنبيه إلى اختلافات أبي الوليد مع الطحاوي.
ومنهم ابن عساكر الشافعي المتوفى (620 هـ) في كتابه «الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين»(4) وغيرهم.
الآية الثانية:
آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنا ونِسَاءَكُمْ وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكاذِبِينَ}(5).
____________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: 6 / 302 ـ 303، دار ابن كثير.
(2) انظر «مشكل الآثار»: 1 / 336 ـ 337 ـ 338 ـ 339، دار صادر.
(3) انظر «المعتصر من المختصر من مشكل الآثار»: 2 / 267، عالم الكتب.
(4) انظر «الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين»: 106.
(5) آل عمران: 61.
الصفحة 36 سنصب البحث في هذه الآية مختصراً، على ثلاثة أمور:
الأول: في بيان المراد من المباهلة مع ذكر مختصر لحادثة المباهلة.
الثاني: في بيان المقصودين من آية المباهلة.
الثالث: في بيان معطيات آية المباهلة.
أما الأول: فالمباهلة كما في «لسان العرب» هي: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا...
والابتهال: الاجتهاد في الدعاء وإخلاصه لله عزوجل، وفي التنزيل العزيز: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكاذِبِينَ}، أي نخلص ويجتهد كل منّا في الدعاء، واللعن على الكاذب منا(1)؛ فالمراد بقوله: «نبتهل» في الآية هو أنْ نجتهد في الدعاء إلى الله تعالى في أن يجعل لعنته على الكاذبين.
و قد أمر الله، سبحانه وتعالى نبيه في أن يباهل نصارى نجران، حيث كانوا يعاندون في قضية عيسى (عليه السلام)، ويعتقدون بألوهيته ويجادلون النبي في ذلك، ونقتصر في ذكر الحادثة على ما نقله الفخر الرازي في تفسيره، قال: «روي أنه (عليه السلام) لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصرّوا على جهلهم، فقال (عليه السلام): «إن الله أمرني إنْ لم تقبلوا الحجة أنْ أباهلكم» فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع فننظر في أمرنا، ثم نأتيك، فلما رجعوا، قالوا للعاقب: وكان ذا رأيهم، يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم،
____________
(1) انظر «لسان العرب»: 11 / 72، دار إحياء التراث العربي.
الصفحة 37 والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي رضي الله عنه خلفها، وهو يقول: إذا دعوت فأمِّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، ثم قالوا: يا أبا القاسم: رأينا أنْ لا نباهلك وأنْ نقرك على دينك، فقال صلوات الله عليه فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، فأبوا، فقال: فإني أناجزكم القتال، فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أنْ لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أنْ نؤدي إليك في كل عام ألفي جلة: ألفاً في صفر، وألفاً في رجب، وثلاثين درعاً عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال: والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا، لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً، ولاستأصل الله نجران وأهله، حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا(1)، وروي أنه (عليه السلام) لمّا جاء في المرط الأسود، فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله، ثم
____________
(1) تفسير الفخر الرازي: مجلد4، ج8، ص79 ـ 90، دار الفكر، وانظر «تفسير الثعلبي»: 3 / 85، دار إحياء التراث العربي، وقد أرسل الخبر إرسال المسلمات.
الصفحة 38 جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة، ثم علي رضي الله عنهما ثم قال: {إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} واعلم أنّ هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث»(1).
هذا ملخص ما يقال في الأمر الأول.
الثاني: في بيان المقصودين من آية المباهلة:
اتضح من قصة المباهلة أن المقصودين من الآية هم الخمسة أصحاب الكساء الواردة فيهم آية التطهير وهم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) والسيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وولداهما الإمامان الهمامان الحسن والحسين عليهما السلام.
و الأخبار في ذلك متواترة ومن ضمنها الصحيحة الصريحة في ذلك.
قال الحاكم النيسابوري: «وقد تواترت الأخبار في التفاسير عن عبد الله بن عباس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم المباهلة بيد علي وحسن وحسين وجعلوا فاطمة وراءهم ثم قال: هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا فهلمّوا أنفسكم وابناءكم ونساءكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين(2) ».
وذهب الجصاص إلى عدم الخلاف في ذلك فقال في «أحكام القرآن»: «فنقل رواة السير ـ ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه ـ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ ثم دعا
____________
(1) المصدر نفسه: مجلد 4 ج8 ص90.
(2) معرفة علوم الحديث: 48، ط. دار الآفاق الجديدة.
الصفحة 39 النصارى الذين حاجّوه إلى المباهلة...»(1).
هذا وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والحاكم وابن الأثير وابن حجر وغيرهم بسندهم إلى سعد بن أبي وقاص، قال: «...وأنزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وأَبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنا ونِسَاءَكُمْ وأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللهم هؤلاء أهلي»(2).
وقال القرطبي في تفسيره لهذه الآية عند بلوغه كلمة (أبناءنا): «[أبناءنا] دليل على أنّ أبناء البنات يسمّون أبناء، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم جاء بالحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفهما وهو يقول لهم: «إن أنا دعوت فأمّنوا...»(3) فهو إذن أرسل الخبر إرسال المسلّمات.
و أخرج ابن مردويه بسنده إلى الشعبي عن جابر بن عبدالله، قال: «قدم على النبي العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرّا له بالخراج. قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «والذي بعثني بالحق لو قال: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً». قال
____________
(1) أحكام القرآن: 2 / 18، دار الكتب العلمية.
(2) انظر «صحيح مسلم»: 7 / 120، دار الفكر، و «مسند أحمد»: 1 / 85، دار صادر، و «سنن الترمذي»: 4/ 293، دار الفكر، وقال عنه: «هذا حديث حسن غريب صحيح»، و «مستدرك الحاكم»: 3 / 150، دار المعرفة، وصحّحه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، و «أسد الغابة» لابن الأثير: 4 / 114، دار إحياء التراث العربي. و «الإصابة» لابن حجر: 4 / 468، دار الكتب العلمية، واللفظ للأخير.
(3) تفسير القرطبي المسمّى «الجامع لأحكام القرآن»: 4 / 104، دار الكتاب العربي.