مرتضى علي الحلي
29-01-2012, 07:46 AM
(( الإمامُ الحَسنُ العسكريُّ:عليه السلام: يُؤَسِّس لمنهجيَّة قيادة الأمة وتدبيرها في زمن الغََيبة الصغرى والكبرى))
==============================
: وقفةٌ معرفيةٌ مع البنى والإرتكازات والمُعطيات القيميّة:
============================== بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
لقد تميَّزت فترة إمامة الإمام الحسن العسكري:ع: ما بين سنة :254:إلى سنة:260.للهجرة.
بمميزات مهمة جداً تستوقف الباحث المؤمن بصورة تشي إلى تحديد معالم جديدة في نمطية تعاطي الإمام المعصوم:ع: مع الأمة وشؤونها.
وخصوصا إنّ مرحلة ولادة وغيبة الإمام المهدي :ع: قد إقتربت آنذاك مما تتطلب من الإمام العسكري:ع:
إيجاد الصيغ الجديدة التي تُلبي حاجة الأمة وتُمكّن ولده الإمام المهدي:ع: من الإتصال غيرالمباشر بالقاعدة الصالحة والمؤمنة.
فمن أبرز بنى وإرتكازات المنهجية الجديدة التي عمل عليها الإمام العسكري:ع: في التأسيس لمعالم المرحلة الجديدة. هي كما يلي:
:1:إخفاء أمر ولادة الإمام المهدي:ع: والتستر على ذلك نتيجة صعوبة الوقت وجورالظالمين آنذاك .
فنص :ع: على ولادة الإمام المهدي:ع: واقعا وتعيِّنه كإمام منصوب إلهيا وخاتم للمعصومين:ع:
وأخبرَ وأشهدَ :ع: أصحابه على ذلك:
حيث قال الإمام العسكري عليه السلام :
( ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي ، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية )
وقال الإمام الغائب المنتظر عجل الله فرجه الشريف : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن جدي محمدا رسول الله ، وأنّ أبي أمير المؤمنين ، ثم عدَّ إماما إماما إلى أن بلغ إلى نفسه ، ثم قال :ع::
أللّهُمّ أنجز لي ما وعدتني ، وأتمم لي أمري ، وثبت وطأتي ، واملأ الأرض بي عدلا وقسطا
قال الله تعالى :
((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا . . . ))النور:55:
((ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض . . . ))القصص : 5 ، 6:
(( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين * وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين *)) الأنبياء : 105 – 107 :
:الإمامةُ والتبصِرةُ : ابن بابويه القمي:ص 4.
وعن محمد بن يحيى عن أحمد بن اسحاق عن ابي هاشم الجعفري قال:
(( قلتُ لأبي محمد (العسكري):ع: جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك ؟
فقال :ع: سَلْ
قُلتُ : يا سيدي هل لك ولد؟
فقال:ع: نعم ))
:اصول الكافي:الكليني:ج1:ص328.
كتاب باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار.
وقد أخرج الشيخ الصدوق عن أحمد بن الحسن بن اسحاق القمي قال:
(( لما ولد الخلف الصالح (الإمام المهدي):عليه السلام:
ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي (العسكري) على جدي أحمد بن اسحاق كتاب وإذا فيه مكتوب بخط يده:ع: الذي كان يردُّ به التوقيعات عليه:
ولِدَ المولود (يعني الإمام المهدي:ع:)
فليكن عندك مستورا وعن جميع الناس مكتوما
فإنّا لم نُظهِر عليه إلاّ الأقرب لقرابته والمولى لولايته أحببنا إعلامك ليسرّك الله به كما سرّنا والسلام))
:كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق: ص434.
وعن أحمد ابن إسحاق بن سعد ، قال :
سمعتُ أبا محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام يقول :
( الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلقا وخلقا ، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ويظهره فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما )
: كفاية الأثر :الخزاز القمي: ص295.
وتحدّثّ الشيخ المفيد:رحمه الله :أيضا:
بخصوص ولادة الإمام المهدي:ع: وقال:
(وخلَّفَ ابنه المُنتَظر لدولة الحق .
وكان قد أخفى مولده وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وشدة طلب سلطان الزمان له ، واجتهاده في البحث عن أمره ، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه ، وعُرِفَ من انتظارهم له
فلم يظهر ولده عليه السلام في حياته:
:وهذه الفقرة تحتمل إحتمالين هما أي أنّ الإمام العسكري:ع: لم يُظهِر ولده المهدي:ع: في حياته إلاّ للخواص من أصحابه
أو أنّ نفس الإمام المهدي:ع: لم يَظهر بشخصه الشريف للعامة من الناس إلاّ الخواص الخُلَّص من أصحاب أبيه:
ولا عرفه الجمهور بعد وفاته :
:وهذه الفقرة تشي إلى وقوع الغيبة الصغرى للإمام المهدي:ع: بعد شهادة أبيه الإمام العسكري:ع: مما تطلّبت الحياطة الوجودية عدم ظهوره :ع: العام والعلني لعامّة الناس )
: الأرشاد :المفيد :ج2: ص336.
:2: إيجاد النُخبة الواعية رساليا وفقهيا وفكريا وأخلاقيا والتي تتمكن في حال غياب الإمام المعصوم:ع: ظاهراً وأعني الإمام المهدي:ع: من تدبير وإدارة شؤون المسلمين والمؤمنين فقهيا وإجتماعيا وفي كل المجالات البشرية حياتيا.
فمن جملة من ترَبّوا على يد الإمام العسكري:ع:على مستوى الإعداد العام.
كعيَّنة من عشرات الأصحاب والتلامذة هما:
:1:
محمد بن الحسن بن فروخ الصفار : أبو جعفر الأعرج والذي كان وجهاً في الأصحاب القميين وهو ثقة عظيم عده الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام العسكري:ع: له كتب منها : بصائر الدرجات . مات بقم سنة 290 ه .
:رجال النجاشي : ص354 :
:2:
سعد بن عبد الله : أبو القاسم الأشعري ، من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام ، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، سمع من حديث العامة شيئا كثيرا ، توفي سنة إحدى وثلاثمائة ، وقيل سنة مائتين وتسع وتسعين ،
: رجال النجاشي : ص126.
و هذان الفقيهان وأمثالهما من أصحاب الإمام العسكري:ع: أسهموا بصورة كبيرة في إنماء النتاج المعرفي والعلمي في مناشط الفقه والكلام والتفسير وغيرها.
أما على مستوى الإعداد الخاص والأخص فقد عمل الإمام الحسن العسكري:ع: على توفير وتهيأة أصحاب يصلحون تماما
لما يُسمى في الإصطلاح بالنيابة الخاصة أو السفارة الخاصة والمنصوص عليها عن الإمام المعصوم:ع:
فمثلا ورد عنه :ع:حينما سأله سائل:بخصوص الرجوع إلى الأصحاب ومشروعية ذلك:
فقال :ع:
((العمري :عثمان بن سعيد الأسدي: وابنه : محمد :
ثقتان ، فما أدّيا إليكَ عني فعني يؤديان ، وما قالا لكَ فعني يقولان ، فإسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان))
:الكافي :الكليني:ج1: 330.
وهذا الإعداد والتأسيس للنيابة الخاصة عن الإمام المعصوم:ع: قد أتى أُكله في مرحلة الغيبة الصغرى للإمام المهدي:ع:
إذ أنّ أول سفير ونائب خاص عن الإمام المهدي:ع: كان هو الثقة العمري:عثمان بن سعيد :رحمه الله تعالى:
والذي مارس دور ووظيفة النيابة الخاصة من سنة :260:إلى سنة :265.للهجرة
ومن ثمّ جاء من بعده ابنه محمد:والتي استمرت سفارته إلى سنة 304 أو 305.للهجرة
وهكذا أخذت منهجية الإمام العسكري:ع: في التأسيس للعهد الجديد تبسط المشروعية والعملانية في تدبير وإدارة أمور المسلمين والمؤمنين في وقت الغيبة الصغرى
فبعد موت السفير الثاني تم تعيين::
الحسين بن روح النوبختي : وهو السفير الثالث للحجة المنتظر صلوات الله عليه ، وبابه ونائبه ، أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي .
و كان قبل تشرفه بمقام السفارة وكيلا للنائب الثاني ، أبي جعفر محمد بن عثمان العمري
فكان ينظر له في أملاكه سنين عديدة ، ويلقى بأسراره الرؤساء من الشيعة ، وكان خصيصا به .
فحصل له في أنفس الشيعة مقام جليل ، لمعرفتهم باختصاصه بالعمري ، وتوثيقه عندهم ، ونشر فضله ودينه
فتمهدت له الحال في طول حياة العمري إلى أن انتهت الوصية إليه بالنص عليه ، فلم تختلف الشيعة في أمره .
كان أبو القاسم رضوان الله عليه من أعقل الناس عند المخالف والموافق ، ويستعمل التقية ، وكانت العامة أيضا تعظمه .
بقي نائبا أكثر من عشرين عاما حتى وافته المنية سنة 326:للهجرة.
:الغيبة: الشيخ الطوسي : ص227 :
وأخير وصل أمر النيابة الخاصة إلى السفير الرابع:
أبي الحسن علي بن محمد السمري :
حيث قام بالأمر بعد النوبختي إلى أن توفي عام 329 للهجرة.
وقد صدر التوقيع الشريف من قبل الصاحب: عليه السلام: على يده إعلاما بانتهاء دور النيابة الخاصة والغيبة الصغرى
وبعد ذلك بدأت الغيبة الكبرى وصار الأمر إلى الفقهاء الذين يعبر عنهم ب ( النواب العامة) للإمام المهدي :عليه السلام:
:الرسائل العشر: الطوسي: هامش:ص 16.
حيثُ صدر التوقيع الشريف عن شخص الإمام المهدي:ع:إلى السفير الأخير السمري:
والذي نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام
فإجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة الثانية (أو التامة)
فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جورا ،
وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة
ألا فمن ادعى المشاهدة(أي: النيابة الخاصة)
قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مُفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
قال:أي المُحَدِّث: أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب :
فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ،
فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيك من بعدك ؟
فقال : لله أمرٌ هو بالغه .
ومضى رضي الله عنه ، فهذا آخر كلام سمع منه)
: كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق: ص516.
وبعد نجاح منظومة النيابة الخاصة المُؤسَّسة من لدن الإمام العسكري:ع: في أداء مهامها الشرعية والعقدية
في فترة الغيبة الصغرى للإمام المهدي:ع:
بدأ العمل بمنهجية ومنظومة النيابة العامة الثانوية عن مقام الإمام المهدي:ع: في غيبته الكبرى كحل إستثنائي مؤقّت يصب في صالح وصلاح الأمة في وقت الغيبة الكبرى.
لذا نجد الإمام العسكري:ع: كان قد أسس لهذا المُرتكز الأصيل في حديثه الشريف والشهير والذي نصه ما يلي:
((فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه))
:الإحتجاج :الطبرسي :ج2:ص263.
وإنما جاء هذا التأسيس كتمهيد وإعداد للأمة والقاعدة الصالحة ولجعلها قادرة على التكيّف مع المرحلة الجديدة لتكون مؤهلة نفسيا وعمليا للتعاطي مع فروضات الغيبة الكبرى للإمام المهدي:ع:
وكذلك الإمام المهدي:ع: قد صنع مثل ما أسس أبوه الإمام العسكري:ع: في بناء المنظومة الجديدة في عهد الغيبة الكبرى لشخصه الشريف:ع:
من تدريب المؤمنين على ضرورة تفهم وضع المعصوم:ع: في حال عدم قدرتهم على الإتصال به والرجوع إلى النواب العامين وبالشروط التي ذكرها الإمام العسكري:ع:
والتي تُشابه اليوم في عصرنا هذا عصر الغيبة الكبرى (شرائط المجتهد المؤهل للتقليد والجامع للفقاهه والعدالة والإيمان:أي :مؤمن بإمامة المعصومين :ع: وغيرها من الضوابط الشرعية والأخلاقية)
حيث قال: عجّلَ الله تعالى فرجه الشريف:
في توقيعه الشريف:
( أما الحوادث الواقعة فإرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله )
:كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق: ص484.
فالمقصود بالنائب العام أي: غير المُعيَّن مباشرة من لدن الإمام المهدي:ع:
وهو الفقيه العادل الجامع للشرائط الذي يقوم مقام الإمام: سلام الله عليه :
في تبليغ أحكام الدين وفي إدارة شؤون المسلمين وحفظ بيضة الإسلام .
والذين يستند إلى مصادر التشريع المتعارفة ، مصادر الإستنباط ، الكتاب:القرآن الكريم: والسنة والإجماع والعقل .
:3: إيجاد القاعدة الصالحة التي ترتكز على أرضيّة الإستقامة والإيمان والعمل الصالح والوعي المتحرِّك.
والطاعة لإمام الوقت المعصوم:ع:
لأنّ إيجاد القاعدة الصالحة هو مُعادلٌ قيمي لوجود النخبة القيادية في الأمة الصالحة
بإعتبار أنّ الأساس الصالح يُولِّد إنسانا صالحا وقائدا في نفس الوقت وأيضا يُوفّر كوادر قيادية نخبوية في حال موت أوشهادة القادة.
وهذا ما توفّرت عليه خطابات الإمام العسكري:ع:
فلم تكن تلك الخطابات مجرد بيانات لغوية أو إجتماعية لا بل كانت بيانات تأسيسية راقية في مفاداتها الحكمية.
بمعنى أنّها كانت ترصد الظاهرة وتتكفل بخطابها المؤسّس والمُرشِد والمقوِّم:
فمثلا:
(عن القاسم الهروي قال خرج توقيع من أبي محمد :الإمام العسكري:ع:
إلى بعض بني أسباط
قال كتبتُ إليه أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل فكتبَ:ع:
إليَّ:
وإنّما خاطب الله عز وجل العاقل وليس لأحد يأتي بآية ويُظهر دليلا أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين .
فقالوا ساحر وكاهن وكذاب وهدى الله من اهتدى
وغير أنّ الأدلة يسكن إليها كثير من الناس
وذلك أنّ الله عز وجل يأذن لنا فنتكلم ويمنع فنصمت
ولو أحب أن لا يظهر حقا ما بعثَ النبيين مبشرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوة وينطقون في أوقات ليقضي الله امره وينفذ حكمه.
الناسُ في طبقات شتى::
المُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ
:وطبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.
: وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.
فدع من ذهب يذهب يمينا وشمالا .
فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي.
وذكرتَ ما اختلف فيه موالي.
فإذا كانت الرفعة والكبر فلا ريب
ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم .
أحسن رعاية من استرعيت.
وإيّاك والإذاعة وطلب الرياسة فإنهما يدعوان إلى الهلكة.
ذكرتَ شخوصك إلى فارس فأشخص خار الله لكَ
وتدخل مصر إن شاء الله آمنا
واقرأ من تثق به من موالي السلام .
ومرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة
وأعلمهم أنّ المذيع علينا حرب لنا .
قال :الراوي :
فلما قرأتُ وتدخل مصر إن شاء الله آمنا لم أعرف معنى ذلك فقدمتُ بغداد وعزيمتي الخروج إلى فارس فلم يتهيأ ذلك فخرجت إلى مصر )
:كشف الغمة: الأربلي :ج3: ص213.
وفي هذا الخطاب السديد يتجلى الزخم الدلالي القيمي وتنفتح أفاق المعنى على نافذة الواقع وعلاجه عمليا.
وهنا ينثر الإمام العسكري:ع: مفردات كبيرة وأهمها :
مخاطبة العاقل: والدليل المُطمئن: والإستبصار سبيل النجاة : ومرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة:
:وهذه كلّها وظائف إرشادية عملية تؤمِّن لنا سبلا وحلولا واقعية لما نواجه في هذه الحياة من إختلاف أو مُعوّقات.
وبما أنّ هذا الخطاب يختص بتربية وإعداد القاعدة الصالحة نلحظ الإمام العسكري:ع: يُصنّف الناس إلى طبقات شتى:فيقول:ع:
الناسُ في طبقات شتى::
: المُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ
:وطبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.
: وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.
وهذا التصنيف الرائع هومُستنبَط إبداعيٌ من كلام جده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب: عليه السلام:
حين قال:ع:
: يا كميل بن زياد إحفظ ما أقول لك:
: القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، الناس ثلاثة:
فعالم رباني ،:
ومتعلم على سبيل نجاة ،
: وهمج رعاع أتباع كل ناعق .
وذكر الحديث بطوله إلى آخره
:كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق :ص292.
فالمُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ
هو مفهوم عميق يشمل:
العالم الرباني فعلاً وهو الذي يمكن له أن يكون من النخبة القيادية:
ويشمل القاعدة الصالحة أيضا :أي: المتعلِّم على سبيل نجاة:
وأما الطبقتان :
:طبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.
: وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.
فهما متوزعتان على شريحة الهمج الرعاع:
كما في قول الإمام علي:ع:
: وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور علم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق :
فالإمام العسكري: ( عليه السلام ) في هذا الكلام يقسم الناس في مجتمعه أو مطلق الناس إلى ثلاث مجموعات :
:1: المجموعة الأولى : وهم مَنْ عرفوا الحق والحقيقة فعقيدتهم وعملهم ومواقفهم الفردية والاجتماعية على أساس المعاييرالقيمية الصحيحة شرعا وعقلا:
، وهم من عبَّرعنهم: بقوله:ع:
(المُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ)
:2: المجموعة الثانية :
وهم مَنْ لم يبلغوا الحق والحقيقة بعد بسبب عدم معرفتهم للحق ذاته ومن ثم جهلهم بأهل الحق
فلذا كانوا مذبذبين مع كل تيار ينعق في أوساط الفتنة:
وهذا ماقصده:ع: بقوله:
(وطبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.)
:3:المجموعة الثالثة :
وهم أناسٌ لم يعرفوا الحق والحقيقة أيضا:
فيكونوا من أهل الحق المستبصرين به وبأهله:
ولا هم أهل تحقيق وتفكر ومعرفة
وإنما هم أناس لا يتيحون لأنفسهم فرصة التفكير والتحقيق
وقد عبر الإمام :ع: عن هذا القبيل من الناس بقوله :
(وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.)
وأخطر طبقة على المجتمع هما:
الطبقة الثانية و الثالثة:
والتي لا تمنح نفسها فرصة التفكير فهي التي يرتفع صوتها حيثما ارتفعت صيحة ما دون أن يُعرَف صاحبها أو ما إذا كانت الصيحة على حق أم على باطل
فشأنها التموج الفكري والسلوكي كراكب البحر تدفعه الريح حيثما هبَّت و يميل معها حيث تميل .
والرد على أهل الحق ومقاطعته ودفعه بالباطل.
ويرى الإمام العسكري:( عليه السلام ):
أنّ العلة في انحدار هؤلاء الناس إلى هذا الدرك من الضعة والدناءة في عدم معرفتهم للحق وأهل الحق
هي عدم ثقتهم بالحق وتذبذبهم نفسيا وذهنيا
وإفتقارهم إلى عقيدة وأفكار تنبني على أسس قويمة وصحيحة.
وهذا التصنيف الذي صنفه الإمام العسكري:ع:
( عليه السلام ) لأفراد المجتمع ، هو يماثل أيضا ما روي عن النبي محمّد:( صلى الله عليه وآله )
كُن عالما أو متعلما ولا تكن إمّعة)) ((
:أضواء البيان: الشنقيطي :ج7: ص327.
فإذن يتحصَّل بحثيا من خلال التعرّف على منهجية الإمام العسكري:ع: ولو إجمالاً:
أنّ التغيير بإتجاه الصلاح والصالح العام في بنيوية المجتمع الإنساني هو مرهون بتوفير وتنمية القادة النخبويين والذين يُختزل بيدهم بناء القاعدة الصالحة بشريا .
لأنّ بناء الطبيعة البشرية هو عملية ترصيص وتثبيت لتذبذبات النفس والفكر والسلوك بصورة تُنتج كتلة قوية يصعب إختراقها من الخارج .
وهذا المفهوم البنيوي قد أشار إليه القرآن الكريم في منظومته المعرفية المعصومة والمتكاملة:
حيثُ قال تعالى:
((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ)) الصف:4
بمعنى:
إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان متراص:مُلزَقٌ بعضه إلى بعض وثابت:
ومُحكم لا ينفذ منه العدو.
وفي الآية بيان فضل الجهاد والمجاهدين؛ لمحبة الله سبحانه لعباده المؤمنين إذا صفُّوا مواجهين لأعداء الله, يقاتلونهم في سبيله.
وأخيراً إنّ كل مشروعٍ إصلاحي وقيمي هومرهونٌ في إنجازه وتحقيقه واقعاً
بتغيير الذات والطبيعة البشرية إلى الأفضل والأصلح من الفكر والسلوك .
وهذا ما أكّده القرآن الكريم مرارا كقانون سنني لايقبل الإختلاف ولا التخلّف تطبيقا.
قال الله تعالى:
((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ))الرعد:11
(( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))الأنفال53
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
وسلامٌ على الإمام الحسن العسكري في العالمين
وعجَّلَ الله تعالى فرج إمامنا المهدي:ع: وجعلنا سبحانه من أنصاره الواعين والعاملين بين يديه.
والسلام عليكم ورحمة اله وبركاته
: مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :
==============================
: وقفةٌ معرفيةٌ مع البنى والإرتكازات والمُعطيات القيميّة:
============================== بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
لقد تميَّزت فترة إمامة الإمام الحسن العسكري:ع: ما بين سنة :254:إلى سنة:260.للهجرة.
بمميزات مهمة جداً تستوقف الباحث المؤمن بصورة تشي إلى تحديد معالم جديدة في نمطية تعاطي الإمام المعصوم:ع: مع الأمة وشؤونها.
وخصوصا إنّ مرحلة ولادة وغيبة الإمام المهدي :ع: قد إقتربت آنذاك مما تتطلب من الإمام العسكري:ع:
إيجاد الصيغ الجديدة التي تُلبي حاجة الأمة وتُمكّن ولده الإمام المهدي:ع: من الإتصال غيرالمباشر بالقاعدة الصالحة والمؤمنة.
فمن أبرز بنى وإرتكازات المنهجية الجديدة التي عمل عليها الإمام العسكري:ع: في التأسيس لمعالم المرحلة الجديدة. هي كما يلي:
:1:إخفاء أمر ولادة الإمام المهدي:ع: والتستر على ذلك نتيجة صعوبة الوقت وجورالظالمين آنذاك .
فنص :ع: على ولادة الإمام المهدي:ع: واقعا وتعيِّنه كإمام منصوب إلهيا وخاتم للمعصومين:ع:
وأخبرَ وأشهدَ :ع: أصحابه على ذلك:
حيث قال الإمام العسكري عليه السلام :
( ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي ، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية )
وقال الإمام الغائب المنتظر عجل الله فرجه الشريف : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن جدي محمدا رسول الله ، وأنّ أبي أمير المؤمنين ، ثم عدَّ إماما إماما إلى أن بلغ إلى نفسه ، ثم قال :ع::
أللّهُمّ أنجز لي ما وعدتني ، وأتمم لي أمري ، وثبت وطأتي ، واملأ الأرض بي عدلا وقسطا
قال الله تعالى :
((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا . . . ))النور:55:
((ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض . . . ))القصص : 5 ، 6:
(( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون * إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين * وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين *)) الأنبياء : 105 – 107 :
:الإمامةُ والتبصِرةُ : ابن بابويه القمي:ص 4.
وعن محمد بن يحيى عن أحمد بن اسحاق عن ابي هاشم الجعفري قال:
(( قلتُ لأبي محمد (العسكري):ع: جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك ؟
فقال :ع: سَلْ
قُلتُ : يا سيدي هل لك ولد؟
فقال:ع: نعم ))
:اصول الكافي:الكليني:ج1:ص328.
كتاب باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار.
وقد أخرج الشيخ الصدوق عن أحمد بن الحسن بن اسحاق القمي قال:
(( لما ولد الخلف الصالح (الإمام المهدي):عليه السلام:
ورد من مولانا أبي محمد الحسن بن علي (العسكري) على جدي أحمد بن اسحاق كتاب وإذا فيه مكتوب بخط يده:ع: الذي كان يردُّ به التوقيعات عليه:
ولِدَ المولود (يعني الإمام المهدي:ع:)
فليكن عندك مستورا وعن جميع الناس مكتوما
فإنّا لم نُظهِر عليه إلاّ الأقرب لقرابته والمولى لولايته أحببنا إعلامك ليسرّك الله به كما سرّنا والسلام))
:كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق: ص434.
وعن أحمد ابن إسحاق بن سعد ، قال :
سمعتُ أبا محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام يقول :
( الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلقا وخلقا ، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ويظهره فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما )
: كفاية الأثر :الخزاز القمي: ص295.
وتحدّثّ الشيخ المفيد:رحمه الله :أيضا:
بخصوص ولادة الإمام المهدي:ع: وقال:
(وخلَّفَ ابنه المُنتَظر لدولة الحق .
وكان قد أخفى مولده وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وشدة طلب سلطان الزمان له ، واجتهاده في البحث عن أمره ، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه ، وعُرِفَ من انتظارهم له
فلم يظهر ولده عليه السلام في حياته:
:وهذه الفقرة تحتمل إحتمالين هما أي أنّ الإمام العسكري:ع: لم يُظهِر ولده المهدي:ع: في حياته إلاّ للخواص من أصحابه
أو أنّ نفس الإمام المهدي:ع: لم يَظهر بشخصه الشريف للعامة من الناس إلاّ الخواص الخُلَّص من أصحاب أبيه:
ولا عرفه الجمهور بعد وفاته :
:وهذه الفقرة تشي إلى وقوع الغيبة الصغرى للإمام المهدي:ع: بعد شهادة أبيه الإمام العسكري:ع: مما تطلّبت الحياطة الوجودية عدم ظهوره :ع: العام والعلني لعامّة الناس )
: الأرشاد :المفيد :ج2: ص336.
:2: إيجاد النُخبة الواعية رساليا وفقهيا وفكريا وأخلاقيا والتي تتمكن في حال غياب الإمام المعصوم:ع: ظاهراً وأعني الإمام المهدي:ع: من تدبير وإدارة شؤون المسلمين والمؤمنين فقهيا وإجتماعيا وفي كل المجالات البشرية حياتيا.
فمن جملة من ترَبّوا على يد الإمام العسكري:ع:على مستوى الإعداد العام.
كعيَّنة من عشرات الأصحاب والتلامذة هما:
:1:
محمد بن الحسن بن فروخ الصفار : أبو جعفر الأعرج والذي كان وجهاً في الأصحاب القميين وهو ثقة عظيم عده الشيخ في رجاله من أصحاب الإمام العسكري:ع: له كتب منها : بصائر الدرجات . مات بقم سنة 290 ه .
:رجال النجاشي : ص354 :
:2:
سعد بن عبد الله : أبو القاسم الأشعري ، من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام ، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، سمع من حديث العامة شيئا كثيرا ، توفي سنة إحدى وثلاثمائة ، وقيل سنة مائتين وتسع وتسعين ،
: رجال النجاشي : ص126.
و هذان الفقيهان وأمثالهما من أصحاب الإمام العسكري:ع: أسهموا بصورة كبيرة في إنماء النتاج المعرفي والعلمي في مناشط الفقه والكلام والتفسير وغيرها.
أما على مستوى الإعداد الخاص والأخص فقد عمل الإمام الحسن العسكري:ع: على توفير وتهيأة أصحاب يصلحون تماما
لما يُسمى في الإصطلاح بالنيابة الخاصة أو السفارة الخاصة والمنصوص عليها عن الإمام المعصوم:ع:
فمثلا ورد عنه :ع:حينما سأله سائل:بخصوص الرجوع إلى الأصحاب ومشروعية ذلك:
فقال :ع:
((العمري :عثمان بن سعيد الأسدي: وابنه : محمد :
ثقتان ، فما أدّيا إليكَ عني فعني يؤديان ، وما قالا لكَ فعني يقولان ، فإسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان))
:الكافي :الكليني:ج1: 330.
وهذا الإعداد والتأسيس للنيابة الخاصة عن الإمام المعصوم:ع: قد أتى أُكله في مرحلة الغيبة الصغرى للإمام المهدي:ع:
إذ أنّ أول سفير ونائب خاص عن الإمام المهدي:ع: كان هو الثقة العمري:عثمان بن سعيد :رحمه الله تعالى:
والذي مارس دور ووظيفة النيابة الخاصة من سنة :260:إلى سنة :265.للهجرة
ومن ثمّ جاء من بعده ابنه محمد:والتي استمرت سفارته إلى سنة 304 أو 305.للهجرة
وهكذا أخذت منهجية الإمام العسكري:ع: في التأسيس للعهد الجديد تبسط المشروعية والعملانية في تدبير وإدارة أمور المسلمين والمؤمنين في وقت الغيبة الصغرى
فبعد موت السفير الثاني تم تعيين::
الحسين بن روح النوبختي : وهو السفير الثالث للحجة المنتظر صلوات الله عليه ، وبابه ونائبه ، أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي .
و كان قبل تشرفه بمقام السفارة وكيلا للنائب الثاني ، أبي جعفر محمد بن عثمان العمري
فكان ينظر له في أملاكه سنين عديدة ، ويلقى بأسراره الرؤساء من الشيعة ، وكان خصيصا به .
فحصل له في أنفس الشيعة مقام جليل ، لمعرفتهم باختصاصه بالعمري ، وتوثيقه عندهم ، ونشر فضله ودينه
فتمهدت له الحال في طول حياة العمري إلى أن انتهت الوصية إليه بالنص عليه ، فلم تختلف الشيعة في أمره .
كان أبو القاسم رضوان الله عليه من أعقل الناس عند المخالف والموافق ، ويستعمل التقية ، وكانت العامة أيضا تعظمه .
بقي نائبا أكثر من عشرين عاما حتى وافته المنية سنة 326:للهجرة.
:الغيبة: الشيخ الطوسي : ص227 :
وأخير وصل أمر النيابة الخاصة إلى السفير الرابع:
أبي الحسن علي بن محمد السمري :
حيث قام بالأمر بعد النوبختي إلى أن توفي عام 329 للهجرة.
وقد صدر التوقيع الشريف من قبل الصاحب: عليه السلام: على يده إعلاما بانتهاء دور النيابة الخاصة والغيبة الصغرى
وبعد ذلك بدأت الغيبة الكبرى وصار الأمر إلى الفقهاء الذين يعبر عنهم ب ( النواب العامة) للإمام المهدي :عليه السلام:
:الرسائل العشر: الطوسي: هامش:ص 16.
حيثُ صدر التوقيع الشريف عن شخص الإمام المهدي:ع:إلى السفير الأخير السمري:
والذي نصه:
(بسم الله الرحمن الرحيم
يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام
فإجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة الثانية (أو التامة)
فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عز وجل وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جورا ،
وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة
ألا فمن ادعى المشاهدة(أي: النيابة الخاصة)
قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مُفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
قال:أي المُحَدِّث: أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب :
فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ،
فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيك من بعدك ؟
فقال : لله أمرٌ هو بالغه .
ومضى رضي الله عنه ، فهذا آخر كلام سمع منه)
: كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق: ص516.
وبعد نجاح منظومة النيابة الخاصة المُؤسَّسة من لدن الإمام العسكري:ع: في أداء مهامها الشرعية والعقدية
في فترة الغيبة الصغرى للإمام المهدي:ع:
بدأ العمل بمنهجية ومنظومة النيابة العامة الثانوية عن مقام الإمام المهدي:ع: في غيبته الكبرى كحل إستثنائي مؤقّت يصب في صالح وصلاح الأمة في وقت الغيبة الكبرى.
لذا نجد الإمام العسكري:ع: كان قد أسس لهذا المُرتكز الأصيل في حديثه الشريف والشهير والذي نصه ما يلي:
((فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه))
:الإحتجاج :الطبرسي :ج2:ص263.
وإنما جاء هذا التأسيس كتمهيد وإعداد للأمة والقاعدة الصالحة ولجعلها قادرة على التكيّف مع المرحلة الجديدة لتكون مؤهلة نفسيا وعمليا للتعاطي مع فروضات الغيبة الكبرى للإمام المهدي:ع:
وكذلك الإمام المهدي:ع: قد صنع مثل ما أسس أبوه الإمام العسكري:ع: في بناء المنظومة الجديدة في عهد الغيبة الكبرى لشخصه الشريف:ع:
من تدريب المؤمنين على ضرورة تفهم وضع المعصوم:ع: في حال عدم قدرتهم على الإتصال به والرجوع إلى النواب العامين وبالشروط التي ذكرها الإمام العسكري:ع:
والتي تُشابه اليوم في عصرنا هذا عصر الغيبة الكبرى (شرائط المجتهد المؤهل للتقليد والجامع للفقاهه والعدالة والإيمان:أي :مؤمن بإمامة المعصومين :ع: وغيرها من الضوابط الشرعية والأخلاقية)
حيث قال: عجّلَ الله تعالى فرجه الشريف:
في توقيعه الشريف:
( أما الحوادث الواقعة فإرجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله )
:كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق: ص484.
فالمقصود بالنائب العام أي: غير المُعيَّن مباشرة من لدن الإمام المهدي:ع:
وهو الفقيه العادل الجامع للشرائط الذي يقوم مقام الإمام: سلام الله عليه :
في تبليغ أحكام الدين وفي إدارة شؤون المسلمين وحفظ بيضة الإسلام .
والذين يستند إلى مصادر التشريع المتعارفة ، مصادر الإستنباط ، الكتاب:القرآن الكريم: والسنة والإجماع والعقل .
:3: إيجاد القاعدة الصالحة التي ترتكز على أرضيّة الإستقامة والإيمان والعمل الصالح والوعي المتحرِّك.
والطاعة لإمام الوقت المعصوم:ع:
لأنّ إيجاد القاعدة الصالحة هو مُعادلٌ قيمي لوجود النخبة القيادية في الأمة الصالحة
بإعتبار أنّ الأساس الصالح يُولِّد إنسانا صالحا وقائدا في نفس الوقت وأيضا يُوفّر كوادر قيادية نخبوية في حال موت أوشهادة القادة.
وهذا ما توفّرت عليه خطابات الإمام العسكري:ع:
فلم تكن تلك الخطابات مجرد بيانات لغوية أو إجتماعية لا بل كانت بيانات تأسيسية راقية في مفاداتها الحكمية.
بمعنى أنّها كانت ترصد الظاهرة وتتكفل بخطابها المؤسّس والمُرشِد والمقوِّم:
فمثلا:
(عن القاسم الهروي قال خرج توقيع من أبي محمد :الإمام العسكري:ع:
إلى بعض بني أسباط
قال كتبتُ إليه أخبره عن اختلاف الموالي وأسأله إظهار دليل فكتبَ:ع:
إليَّ:
وإنّما خاطب الله عز وجل العاقل وليس لأحد يأتي بآية ويُظهر دليلا أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين .
فقالوا ساحر وكاهن وكذاب وهدى الله من اهتدى
وغير أنّ الأدلة يسكن إليها كثير من الناس
وذلك أنّ الله عز وجل يأذن لنا فنتكلم ويمنع فنصمت
ولو أحب أن لا يظهر حقا ما بعثَ النبيين مبشرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوة وينطقون في أوقات ليقضي الله امره وينفذ حكمه.
الناسُ في طبقات شتى::
المُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ
:وطبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.
: وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.
فدع من ذهب يذهب يمينا وشمالا .
فالراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون السعي.
وذكرتَ ما اختلف فيه موالي.
فإذا كانت الرفعة والكبر فلا ريب
ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم .
أحسن رعاية من استرعيت.
وإيّاك والإذاعة وطلب الرياسة فإنهما يدعوان إلى الهلكة.
ذكرتَ شخوصك إلى فارس فأشخص خار الله لكَ
وتدخل مصر إن شاء الله آمنا
واقرأ من تثق به من موالي السلام .
ومرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة
وأعلمهم أنّ المذيع علينا حرب لنا .
قال :الراوي :
فلما قرأتُ وتدخل مصر إن شاء الله آمنا لم أعرف معنى ذلك فقدمتُ بغداد وعزيمتي الخروج إلى فارس فلم يتهيأ ذلك فخرجت إلى مصر )
:كشف الغمة: الأربلي :ج3: ص213.
وفي هذا الخطاب السديد يتجلى الزخم الدلالي القيمي وتنفتح أفاق المعنى على نافذة الواقع وعلاجه عمليا.
وهنا ينثر الإمام العسكري:ع: مفردات كبيرة وأهمها :
مخاطبة العاقل: والدليل المُطمئن: والإستبصار سبيل النجاة : ومرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة:
:وهذه كلّها وظائف إرشادية عملية تؤمِّن لنا سبلا وحلولا واقعية لما نواجه في هذه الحياة من إختلاف أو مُعوّقات.
وبما أنّ هذا الخطاب يختص بتربية وإعداد القاعدة الصالحة نلحظ الإمام العسكري:ع: يُصنّف الناس إلى طبقات شتى:فيقول:ع:
الناسُ في طبقات شتى::
: المُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ
:وطبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.
: وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.
وهذا التصنيف الرائع هومُستنبَط إبداعيٌ من كلام جده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب: عليه السلام:
حين قال:ع:
: يا كميل بن زياد إحفظ ما أقول لك:
: القلوب أوعية فخيرها أوعاها ، الناس ثلاثة:
فعالم رباني ،:
ومتعلم على سبيل نجاة ،
: وهمج رعاع أتباع كل ناعق .
وذكر الحديث بطوله إلى آخره
:كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق :ص292.
فالمُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ
هو مفهوم عميق يشمل:
العالم الرباني فعلاً وهو الذي يمكن له أن يكون من النخبة القيادية:
ويشمل القاعدة الصالحة أيضا :أي: المتعلِّم على سبيل نجاة:
وأما الطبقتان :
:طبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.
: وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.
فهما متوزعتان على شريحة الهمج الرعاع:
كما في قول الإمام علي:ع:
: وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور علم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق :
فالإمام العسكري: ( عليه السلام ) في هذا الكلام يقسم الناس في مجتمعه أو مطلق الناس إلى ثلاث مجموعات :
:1: المجموعة الأولى : وهم مَنْ عرفوا الحق والحقيقة فعقيدتهم وعملهم ومواقفهم الفردية والاجتماعية على أساس المعاييرالقيمية الصحيحة شرعا وعقلا:
، وهم من عبَّرعنهم: بقوله:ع:
(المُستَبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق متعلق بفرع أصلٍ غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ)
:2: المجموعة الثانية :
وهم مَنْ لم يبلغوا الحق والحقيقة بعد بسبب عدم معرفتهم للحق ذاته ومن ثم جهلهم بأهل الحق
فلذا كانوا مذبذبين مع كل تيار ينعق في أوساط الفتنة:
وهذا ماقصده:ع: بقوله:
(وطبقه لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه.)
:3:المجموعة الثالثة :
وهم أناسٌ لم يعرفوا الحق والحقيقة أيضا:
فيكونوا من أهل الحق المستبصرين به وبأهله:
ولا هم أهل تحقيق وتفكر ومعرفة
وإنما هم أناس لا يتيحون لأنفسهم فرصة التفكير والتحقيق
وقد عبر الإمام :ع: عن هذا القبيل من الناس بقوله :
(وطبقه استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفع الحق بالباطل حسدا من عند أنفسهم.)
وأخطر طبقة على المجتمع هما:
الطبقة الثانية و الثالثة:
والتي لا تمنح نفسها فرصة التفكير فهي التي يرتفع صوتها حيثما ارتفعت صيحة ما دون أن يُعرَف صاحبها أو ما إذا كانت الصيحة على حق أم على باطل
فشأنها التموج الفكري والسلوكي كراكب البحر تدفعه الريح حيثما هبَّت و يميل معها حيث تميل .
والرد على أهل الحق ومقاطعته ودفعه بالباطل.
ويرى الإمام العسكري:( عليه السلام ):
أنّ العلة في انحدار هؤلاء الناس إلى هذا الدرك من الضعة والدناءة في عدم معرفتهم للحق وأهل الحق
هي عدم ثقتهم بالحق وتذبذبهم نفسيا وذهنيا
وإفتقارهم إلى عقيدة وأفكار تنبني على أسس قويمة وصحيحة.
وهذا التصنيف الذي صنفه الإمام العسكري:ع:
( عليه السلام ) لأفراد المجتمع ، هو يماثل أيضا ما روي عن النبي محمّد:( صلى الله عليه وآله )
كُن عالما أو متعلما ولا تكن إمّعة)) ((
:أضواء البيان: الشنقيطي :ج7: ص327.
فإذن يتحصَّل بحثيا من خلال التعرّف على منهجية الإمام العسكري:ع: ولو إجمالاً:
أنّ التغيير بإتجاه الصلاح والصالح العام في بنيوية المجتمع الإنساني هو مرهون بتوفير وتنمية القادة النخبويين والذين يُختزل بيدهم بناء القاعدة الصالحة بشريا .
لأنّ بناء الطبيعة البشرية هو عملية ترصيص وتثبيت لتذبذبات النفس والفكر والسلوك بصورة تُنتج كتلة قوية يصعب إختراقها من الخارج .
وهذا المفهوم البنيوي قد أشار إليه القرآن الكريم في منظومته المعرفية المعصومة والمتكاملة:
حيثُ قال تعالى:
((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ)) الصف:4
بمعنى:
إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان متراص:مُلزَقٌ بعضه إلى بعض وثابت:
ومُحكم لا ينفذ منه العدو.
وفي الآية بيان فضل الجهاد والمجاهدين؛ لمحبة الله سبحانه لعباده المؤمنين إذا صفُّوا مواجهين لأعداء الله, يقاتلونهم في سبيله.
وأخيراً إنّ كل مشروعٍ إصلاحي وقيمي هومرهونٌ في إنجازه وتحقيقه واقعاً
بتغيير الذات والطبيعة البشرية إلى الأفضل والأصلح من الفكر والسلوك .
وهذا ما أكّده القرآن الكريم مرارا كقانون سنني لايقبل الإختلاف ولا التخلّف تطبيقا.
قال الله تعالى:
((إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ))الرعد:11
(( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))الأنفال53
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
وسلامٌ على الإمام الحسن العسكري في العالمين
وعجَّلَ الله تعالى فرج إمامنا المهدي:ع: وجعلنا سبحانه من أنصاره الواعين والعاملين بين يديه.
والسلام عليكم ورحمة اله وبركاته
: مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف :