د. حامد العطية
20-02-2012, 05:37 AM
معذرة كاساندرا وزرقاء اليمامة ونبيل فياض فالعقول الصماء تكذب العيون المبصرة
د. حامد العطية
كلنا قرأنا أو سمعنا بزرقاء اليمامة، صدقت فكذبوها، لغايات في أنفسهم، فكان عاقبتهم الهزيمة النكراء والقتل وقلع عيني الزرقاء.
نبيل فياض لا يمتلك حدة بصر زرقاء اليمامة، قد نختلف معه على أشياء ولكننا نتفق معه على آخرى، والأهم من هذا وذاك تحليله للتاريخ وتنبؤه بالمستبقل، لا على أساس الضرب بالرمل أو قراءة الفنجان أو الاستخارة كعادة الكثير منا بل على أساس قراءة البيانات وتحليلها واستخلاص النتائج العقلانية المحتملة.
في 1995م كتب نبيل فياض في مقدمة كتابه يوم انحدر الجمل من السقيفة محذراً: " لقد كانت ثمة فرصة عظيمة بعد ضرب جماعات الإرهاب المستتر بالدين لخلق ما يمكن تسميته بالمعجزة السورية على غرار المعجزة الكورية والمعجزة اليابانية. لكن جماعات البداوة الحضارية، كالجراثيم التي تغير من تركيبها لتقاوم مضاد حيوي، تأقلمت بسرعة مع الجو الجديد وراحت تنتشر ببطء ورسوخ، حتى صارت لدينا تنظيمات (بخر جهراً وكفر سراً) خاصة على أيدي الشيخات، تحت شعارات اجتماعية – دينية، غاية في الدقة والانضباط، والتي يمكن أن تنقلب إلى سياسية بين عشية وضحاها – هل نذكر مثلاً: جمعية الفتح الإسلامي والأخوات القبيسيات؟ إن حالة التخلف المعرفي التي نعيش، تقف على ساقين رئيستين: الشيخات المهتاجات اللواتي يعممن الجهل والطائفية والتفتيت، ويسعين للسيطرة على المدارس لتضليل الجيل منذ الطفولة، ومعرض الكتاب السنوي الذي تنطلق عبره، بالطرق الشرعية وغير الشرعية كتب التكفير والأشباح والجن والشياطين لتتوزع في مكتبات الحلبوني... لسنا ضد أحد لكننا سنقاوم بكل السبل سعي إسرائيل، عن طريق عملائها، لنقل صراعنا الوجودي معها من حدودها إلى صراعات داخلية في كل قطر عربي".
لم يكتفي نبيل فياض بالتشخيص بل اقترح الحلول أيضاً: " إن الجهل هو أساس التعصب الطائفي: الجهل بالآخر لا يواجه إلا بالمعرفة والتعصب الطائفي لا يفرغ إلا بالتواصل... الورقة الطائفية هي الأخطر في معظم الدول العربية، ورقة حاضرة أبداً، خاصة في ظل الظروف الحالية، لخدمة أطماع أولئك الذين لا يهمهم سوى إشغال المنطقة بصراعات داخلية لصرفها عن صراعها الحضاري" ويؤكد على أن الحل لا يكون عن طريق "مغازلة رموز التعصب الطائفي ومحاولة احتوائها وخطب ودها عن طريق اعطائها هوامش إضافية لممارسة تأثير أوسع على شرائح عريضة من العامة،" وإنما من خلال التواصل وتغليب العقلانية ( الصفحة 18).
كنت جاراً لواحدة من هذه الشيخات التي حذر منها نبيل فياض، اثناء اقامتي في سورية، ولم تكن جيرتها طيبة، اسمعتنا الشكوى والتذمر، بدون سبب، ولم نقابلها بالمثل، مع وجود المبرر، صراخ وعويل وبكاء وأصوات تهشم اثاث، تصاعدت وعلى مدى سنين من شقة الشيخة، أزعجتنا وأثارت شفقتنا في نفس الوقت، كانت الخلافات بين أفراد عائلة الشيخة مستعرة، لم تنتهي بطرد أم زوجها من البيت، ولم نفاجأ عندما سمعنا بإصابة زوجها بجلطة دماغية، ومن ثم وفاته – رحمه الله - وفي عمر مبكر، تقول جارة اخرى بأنها حضرت مجلساً للشيخة كانت توصي المستمعات بصلة الرحم، وعندما رأتها شاهدت الحرج مرتسماً على ملامحها، فهي أمرت الحاضرات بالبر ونسيت نفسها، فاتني أن اذكر أن الشقة التي تسكنها الشيخة وعائلتها ملك تديره الأوقاف الحكومية، سكنتها من دون مقابل، لذا يستحق نبيل فياض اعتذاراً من الحكومة السورية لأن تشخيصه صائب وحلوله ناجعة وكل ما حذر منه تحقق بالفعل.
لعلكم تتساؤلون عن صلة كاساندرا بالموضوع؟ هي ليست بطلة ذلك المسلسل، الذي أدمن العرب على مشاهدته حتى اضطرتهم البطالة وتردي الأوضاع المعيشية للخروج إلى الشوارع، كاساندرا هنا مصدرها الميثولوجيا اليونانية، إذ تروي الاساطير اليونانية بأنها ابنة الملك برايام ملك طروادة، أغرم الآله الخرافي أبولو بجمالها وحباها بالقدرة على التنبؤ، لكنها تعففت رافضة اغراءات معبود الإغريق الوثني فعاقبها بأن جعل الناس لا يصدقون نبوءاتها، وإن كانت صادقة، ومن هذه الحكاية الأسطورية استوحى المفكر الفرنسي كاستون باشيلارد مصطلح "عقدة كاساندرا".
على مدى اثنى عشر شهراً حدثت تحولات كبيرة في عدد من الدول العربية، نتج عنها الإطاحة بالنظم السياسية في مصر وتونس وليبيا، وما زال الوضع في اليمن والبحرين وسورية مضطرباً، والحاجة للتغيير نشأت بسبب فشل النظم العربية الحاكمة في هذه الدول وغيرها في تلبية طموح وتوقعات شعوبها، وكان من مظاهر ونتائج فشل هذه النظم وغيرها تنامي الحركات الأصولية المتطرفة والطائفية، والتي نشهد انتشارها وقوتها في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وهنا تذكرت تحذيرات نبيل فياض، التي اغفلها النظام السوري، وهو اليوم يدفع وشعبة ابهض الأثمان بسبب ذلك.
لتبرهن حكومات وشعوب العرب والمسلمين بأنها غير مصابة بعقدة تكذيب كاساندرا فلا يستهينوا أو يستخفوا بتنبؤات وتوقعات ونصائح المحللين المخلصين أمثال نبيل فياض، وسيندمون أشد الندم لو مضوا قدماً في النكوص للوراء، ليسقطوا جميعاً في مستنقع الطائفية والعنصرية والقبلية، فتستعر الخلافات بينهم، وتتبدد قواهم، وتتفتت بلدانهم، آنذاك يفرح أعداؤهم الصهاينة وحماتهم الغربيون.
19 شباط 2012م
د. حامد العطية
كلنا قرأنا أو سمعنا بزرقاء اليمامة، صدقت فكذبوها، لغايات في أنفسهم، فكان عاقبتهم الهزيمة النكراء والقتل وقلع عيني الزرقاء.
نبيل فياض لا يمتلك حدة بصر زرقاء اليمامة، قد نختلف معه على أشياء ولكننا نتفق معه على آخرى، والأهم من هذا وذاك تحليله للتاريخ وتنبؤه بالمستبقل، لا على أساس الضرب بالرمل أو قراءة الفنجان أو الاستخارة كعادة الكثير منا بل على أساس قراءة البيانات وتحليلها واستخلاص النتائج العقلانية المحتملة.
في 1995م كتب نبيل فياض في مقدمة كتابه يوم انحدر الجمل من السقيفة محذراً: " لقد كانت ثمة فرصة عظيمة بعد ضرب جماعات الإرهاب المستتر بالدين لخلق ما يمكن تسميته بالمعجزة السورية على غرار المعجزة الكورية والمعجزة اليابانية. لكن جماعات البداوة الحضارية، كالجراثيم التي تغير من تركيبها لتقاوم مضاد حيوي، تأقلمت بسرعة مع الجو الجديد وراحت تنتشر ببطء ورسوخ، حتى صارت لدينا تنظيمات (بخر جهراً وكفر سراً) خاصة على أيدي الشيخات، تحت شعارات اجتماعية – دينية، غاية في الدقة والانضباط، والتي يمكن أن تنقلب إلى سياسية بين عشية وضحاها – هل نذكر مثلاً: جمعية الفتح الإسلامي والأخوات القبيسيات؟ إن حالة التخلف المعرفي التي نعيش، تقف على ساقين رئيستين: الشيخات المهتاجات اللواتي يعممن الجهل والطائفية والتفتيت، ويسعين للسيطرة على المدارس لتضليل الجيل منذ الطفولة، ومعرض الكتاب السنوي الذي تنطلق عبره، بالطرق الشرعية وغير الشرعية كتب التكفير والأشباح والجن والشياطين لتتوزع في مكتبات الحلبوني... لسنا ضد أحد لكننا سنقاوم بكل السبل سعي إسرائيل، عن طريق عملائها، لنقل صراعنا الوجودي معها من حدودها إلى صراعات داخلية في كل قطر عربي".
لم يكتفي نبيل فياض بالتشخيص بل اقترح الحلول أيضاً: " إن الجهل هو أساس التعصب الطائفي: الجهل بالآخر لا يواجه إلا بالمعرفة والتعصب الطائفي لا يفرغ إلا بالتواصل... الورقة الطائفية هي الأخطر في معظم الدول العربية، ورقة حاضرة أبداً، خاصة في ظل الظروف الحالية، لخدمة أطماع أولئك الذين لا يهمهم سوى إشغال المنطقة بصراعات داخلية لصرفها عن صراعها الحضاري" ويؤكد على أن الحل لا يكون عن طريق "مغازلة رموز التعصب الطائفي ومحاولة احتوائها وخطب ودها عن طريق اعطائها هوامش إضافية لممارسة تأثير أوسع على شرائح عريضة من العامة،" وإنما من خلال التواصل وتغليب العقلانية ( الصفحة 18).
كنت جاراً لواحدة من هذه الشيخات التي حذر منها نبيل فياض، اثناء اقامتي في سورية، ولم تكن جيرتها طيبة، اسمعتنا الشكوى والتذمر، بدون سبب، ولم نقابلها بالمثل، مع وجود المبرر، صراخ وعويل وبكاء وأصوات تهشم اثاث، تصاعدت وعلى مدى سنين من شقة الشيخة، أزعجتنا وأثارت شفقتنا في نفس الوقت، كانت الخلافات بين أفراد عائلة الشيخة مستعرة، لم تنتهي بطرد أم زوجها من البيت، ولم نفاجأ عندما سمعنا بإصابة زوجها بجلطة دماغية، ومن ثم وفاته – رحمه الله - وفي عمر مبكر، تقول جارة اخرى بأنها حضرت مجلساً للشيخة كانت توصي المستمعات بصلة الرحم، وعندما رأتها شاهدت الحرج مرتسماً على ملامحها، فهي أمرت الحاضرات بالبر ونسيت نفسها، فاتني أن اذكر أن الشقة التي تسكنها الشيخة وعائلتها ملك تديره الأوقاف الحكومية، سكنتها من دون مقابل، لذا يستحق نبيل فياض اعتذاراً من الحكومة السورية لأن تشخيصه صائب وحلوله ناجعة وكل ما حذر منه تحقق بالفعل.
لعلكم تتساؤلون عن صلة كاساندرا بالموضوع؟ هي ليست بطلة ذلك المسلسل، الذي أدمن العرب على مشاهدته حتى اضطرتهم البطالة وتردي الأوضاع المعيشية للخروج إلى الشوارع، كاساندرا هنا مصدرها الميثولوجيا اليونانية، إذ تروي الاساطير اليونانية بأنها ابنة الملك برايام ملك طروادة، أغرم الآله الخرافي أبولو بجمالها وحباها بالقدرة على التنبؤ، لكنها تعففت رافضة اغراءات معبود الإغريق الوثني فعاقبها بأن جعل الناس لا يصدقون نبوءاتها، وإن كانت صادقة، ومن هذه الحكاية الأسطورية استوحى المفكر الفرنسي كاستون باشيلارد مصطلح "عقدة كاساندرا".
على مدى اثنى عشر شهراً حدثت تحولات كبيرة في عدد من الدول العربية، نتج عنها الإطاحة بالنظم السياسية في مصر وتونس وليبيا، وما زال الوضع في اليمن والبحرين وسورية مضطرباً، والحاجة للتغيير نشأت بسبب فشل النظم العربية الحاكمة في هذه الدول وغيرها في تلبية طموح وتوقعات شعوبها، وكان من مظاهر ونتائج فشل هذه النظم وغيرها تنامي الحركات الأصولية المتطرفة والطائفية، والتي نشهد انتشارها وقوتها في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وهنا تذكرت تحذيرات نبيل فياض، التي اغفلها النظام السوري، وهو اليوم يدفع وشعبة ابهض الأثمان بسبب ذلك.
لتبرهن حكومات وشعوب العرب والمسلمين بأنها غير مصابة بعقدة تكذيب كاساندرا فلا يستهينوا أو يستخفوا بتنبؤات وتوقعات ونصائح المحللين المخلصين أمثال نبيل فياض، وسيندمون أشد الندم لو مضوا قدماً في النكوص للوراء، ليسقطوا جميعاً في مستنقع الطائفية والعنصرية والقبلية، فتستعر الخلافات بينهم، وتتبدد قواهم، وتتفتت بلدانهم، آنذاك يفرح أعداؤهم الصهاينة وحماتهم الغربيون.
19 شباط 2012م