مصر الشيعة
25-02-2012, 12:36 AM
*كلما ادلهمت الخطوب, وأحاط الكرب, وازدادت الهموم فتح الله تعالى لعباده أبواب الفرج, وطاقات الأمل ونور الحياة, ومنحهم ما يزيل به أسباب الظلام الدامس
*وكلما زاد الظلم, وعلا الطغيان, وأخذت الأرض زخرفها وازينت لأهلها وظن أهلها أنهم قادرون عليها جعل الله لأهل الإيمان ملاذا آمنا به يلوذون وركنا شديدا إليه يلجأون .
*لقد تجمعت كل معاني الفرج بعد الشدة, والملاذ الآمن بعد الخوف “في الدعاء”هذا الباب العظيم الذي فتحه الله لعباده المؤمنين ,وجعل منه اتصالا ووصلا فيما بينهم وبين الخالق الأعظم تبارك وتعالى ,بل إن الله ندبهم إلى الدعاء وأمرهم به حيث قال عز وجل:”وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ” فأمر سبحانه بالدعاء ووعد عليه الإجابة في بيان جازم وآية محكمة .كما قال تعالى “ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين “فأمر بالدعاء تضرعا وتذللا بين يديه سبحانه وخضوعا لجنابه الأعلى ,وأمر بالدعاء خفية فيما بين العبد وربه سواء كان ذلك في واضح النهار أم في سبحات الليل البهيم إذ كل ذلك عند الله سواء.
*إن أنبياء الله ورسله في ساعات كربهم ,وإيذاء المخالفين لهم,واضطهاد أتباعهم ,تسلحوا بسلاح الدعاء فآدم عليه السلام يرفع إلى ربه آهات الندم ,وأنَّات الألم ويتضرع إلى ربه في كلمات حانية “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين “ويقول القرآن الكريم عن نوح عليه السلام” ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم”,ويقول عن إبراهيم في كلمات كأنها نظم الذهب أو عقد اللؤلؤ”رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء”وما أكثر دعاء إبراهيم في القرآن الكريم ,وورد كذلك عن أيوب “وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين “كما تحدث القرآن عن يونس عليه السلام ودعوته التي أولها توحيد وأوسطها تسبيح وأخرها اعتراف بالذنب “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” وكذلك حكا القرآن عن زكريا و موسى و عيسى و داوّد و سليمان و غيرهم من الأنبياء والمرسلين ليفتح بذلك باب الأمل للمذنبين وباب الفرج للمكروبين وباب النور لمن أحدق بهم الظلام .وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يرفعها كلمات ضارعة إلى الله تعالى “اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي, وقلة حيلتي ,وهواني على الناس ,إلى من تكلني ,إلى بعيد يتجهمني أم إلي قريب ملكته أمري , أنت رب المستضعفين وأنت ربي , إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولا حول ولا قوة إلا بك ” وهكذا كان دائم الضراعة ليلا ونهارا صباحا ومساء في كل حركة وفي كل سكنة لا يترك الدعاء ولا التضرع والابتهال إلي الله تعالــــــــــــــــــى.
*وعلي نفس الدرب سار أهل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان الدعاء ديدنهم ، وكان التضرع سبيلهم استجابوا لله فاستجاب الله لهم كما وعد سبحانه وتعالي في قوله ” وإذا سألك عبادي عني فأني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان , فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشد ون” . إن دعاء أهل البيت لم يكن في وقت الحاجة فقط أو في وقت الشدة وينتهي, ولكن دعاءهم كان دوما لا ينقطع لأن للدعاء عند أهل البيت معني عظيم سوف تدركه حينما نستعرض نماذج من دعاء سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام .
*لقد كان الدعاء عند الإمام الحسين (ع)فن عظيم يجد فيه راحته ,ويجد فيه إيمانه ,ويجد فيه قربه من ربه عز وجل .
لقد كان دعاء الإمام الحسين توحيدا لله وإيمانا به وكان تسبيحا لله وتنزيها
له ,وكان مدحا لله وإجلالا لعظمته ,بل كان مزيجا من التذكرة بآلاء الله ونعمه فهو بذلك يعلمنا كيف ندعوا ربنا عز وجل دعاءً يليق بعظمة الألوهية وكمال الربوبية وصفات الوحدانية
ففي دعائه المعروف بدعاء يوم عرفة يفتتح دعائه بقوله “الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ,ولا لعطائه مانع ,ولا كصنعه صنع صانع ,وهو الجواد الواسع ,فطر أجناس البدائع,وأتقن بحكمته الصنائع ,لا تخفي عليه الطلائع ,ولا تضيع عنده الودائع ,جازي كل صانع,ورائش كل قانع ,وراحم كل ضارع ومنزل المنافع ,والكتاب الجامع بالنور الساطع “
إلى أن قال:”فلا إله غيره ولا شئ يعدله,وليس كمثله شئ وهو السميع البصير ,اللطيف الخبير,وهو على كل شئ قدير,اللهم إني أرغب إليك,وأشهد بالربوبية لك ,مقرا بأنك ربي , وأن إليك مردي ,ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا ,وخلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب آمنا لريب المتون,واختلاف الدهور والسنين “——”
*فانظر رحمك الله كيف أن الإمام الحسين عليه السلام قد ابتدأ دعاءه بالحمد لله مثنيا على ربه عز وجل وذلك على ما جرت به عادة القرآن الكريم حيث ابتدأ الله كتابه بالثناء على ذاته المقدسة فقال تعالى في أول سورة الفاتحة “الحمد لله رب العالمين ,الرحمن الرحيم ,مالك يوم الدين “
فبدأ بالحمد والثناء على قدسه سبحانه وتعالى ووصف نفسه بالرحمة والمالكية المطلقة في يوم الدين كما حمد نفسه على أن خلق وفطر وأبدع فقال سبحانه في مطلع سورة الأنعام “الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور …..”
وحمد نفسه عند ذكر آياته فقال:”وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها”
وحمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال تعالى :”فَـقُطِع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين “
فكان النهج القرآني هو سبيل الإمام الحسين في تضرعه وفي ثنائه على الله تعالى
كما استلهم الإمام الحسين نهج جده صلى الله عليه وآله وسلم في كثرة حمد الله والثناء عليه وخاصة عند ذكر النعم
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمد الله إذا استيقظ من نومه فكان يقول”الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي في ذكره”وكان يوصي بها.
وكان يحمد الله في بداية خطبه “الحمد لله نحمده ونستعينه”
وكان يكثر من قول “سبحان الله وبحمده”ويكثر من سبحان الله والحمد لله”ويوصي بالإكثار من ذلك وهو القائل “والحمد لله تملؤ الميزان”صلى الله عليه وآله وسلم
وعن أنس بن مالك (ض)قال:مَرّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد ابن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا حنان يا منان ,يا بديع السموات والأرض ,يا ذا الجلال و الإكرام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ,وإذا سئل به أعطى ”
(رواه أحمد وابن ماجه وأبو داوّد)
وعن فضالة بن عبيد الله (ض) قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم
قاعداً إذ دخل رجل فصلى فقال:اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :عجلت أيها المصلي ,إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله ,وصلّ عليّ ثم ادعه ,قال :ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أيها المصلي :”ادع تُجَب”أي يستجيب الله دعائك
(الحديث رواه أحمد والترمذي واللفظ له)
وهكذا استلهم الإمام الحسين أدب دعائه من جده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك نجد دعاء الحسين غارقا في بحار الأنوار من ثناء وإيمان وتوحيد. إن الإمام في دعائه قد أقر بإيمانه بالقضاء والقدر ,والقضاء والقدر لا يتم الإيمان إلا به
ألا ترى إلى حديث جبريل الطويل المشهور وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ,والقدر خيره وشره ” وأقر الإمام الحسين في دعائه بأنه لا مانع لعطاء الله حيث كان من دعاء جده عليه الصلاة والسلام ” اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ,ولا ينفع ذا الجد منك الجد “أي لا ينفع ذو الغنى والقوة إذ الغنى والقوة منك وحدك لا شريك لك .
ثم يثني على الله ببديع صنعه ,وسعة جوده واختراعه البديع ,وإتقانه الرفيع,وأنه سبحانه المجازي لكل صانع , والموسع على كل قانع ,والراحم لكل داع وضارع , والموصل للمنافع والمنزل للكتاب بالنور الساطع .
*لقد اشتمل هذا الدعاء أيضا على وصف الله بأنه لا إله إلا هو ,وأنه ليس كمثله شئ ,وأنه على كل شئ قدير وشهد كذلك بالربوبية معترفا أن الله ابتدأه بنعمه قبل أن يكون شيئا مذكوراً , وأنه أسكنه أصلاب الرجال الطاهرين وحماه من تقلب الدهور والسنين .
وهكذا ينبغي لكل داع أن يحذو حذو أبي عبد الله الحسين (ع) في حمده لربه وتسبيحه وتقديسه وتوحيده والاعتراف بربوبيته والإيمان بقضائه الذي ليس له دافع وقدره الذي لا مرد له .
إن الداعي ينبغي له وهو يتضرع بين يدي الله سبحانه وتعالى أن يذكر نعم الله تعالى عليه وأن يذكر إساءته لنفسه وعصيانه لربه فإن ذلك مما يعين على صدق اللجوء إلى الله تعالى وإخلاص الدعاء له .
** إننا نلمح ذلك في دعاء الإمام الحسين عليه السلام فنجده يقول: ” يا من هو قائم على كل نفس بما كسبت ، يا من قل له شكري فلم يحرمني ، وعَظَُمَتْ خطيئتي فلم يفضحني ، ورآني على المعاصي فلم يشهرني ، يا من حفظني في صغري ، يا من رزقني في كبري ، يا من أياديه عندي لا تحصى ، ونعمه لا تجازَى ، يا من عارضني بالخير والإحسان ، وعارضته بالإساءة والعصيان ، يا من هداني للإيمان من قبل أن أعرف شكر الامتنان ، يا من دعوته مريضاً فشفاني ، وعرياناً فكساني ، وجائعاً فأشبعني ، وعطشاناً فأرواني ، وذليلاً فأعزني ، وجاهلاً فعَرّفَني ، ووحيداً فكثَّرني ، وغائباً فردني ، ومُقِلاًّ فأغناني ، ومنتصراً فنصرني ، وغنياً فلم يسلبني ، وأمسكت عن جميع ذلك فابتدأني فلك الحمد والشكر …”
*إن الإمام في هذه اللمحة يذكر أن الله قائم على كلِ نفس وأن الله تعالى لا يحرم العبد إذا لم يشكر ، ولا يفضحه إذا أخطأ وأن الله هو الحافظ في الصغر ، وهو الرازق في الكبر ، وهو الذي لا تحصى نعمه ، وأنه سبحانه تقدم للعبد بالخير والإحسان ، وتقدم إليه العبد بالإساءة والعصيان ، وأنه سبحانه هو الذي يشفي من المرض ، ويكسو من العرى ، ويُشبع من الجوع ، ويكثِّربعدالوحدة ، ويرد بعد الغيبة ، ويغني بعد القِلة ، وأن العبد إذا لم يسأل شيئاً من ذلك أعطاه الله بغير سؤال .
** لقد وردت هذه المعاني الراشدة فيما روي في بعض الكتب السماوية حيث ورد بها :
” يا بن آدم جعلت لك قراراً في بطن ِأمك ، وغشيت وجهك بغشاء لئلا تفزع من الرحم ، وجعلت وجهك إلى ظهر أمك لئلا تؤذيك رائحة الطعام ، وجعلت لك متكأ عن يمينك ومتكأ عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فالكبد ، وأما الذي عن شمالك فالطحال ، وعلمتك القيام والقعود في بطن ِأمك ، فهل يقدر على ذلك أحد غيري ؟ ، فلما أن تمت مدة حملك أوحيت إلى الملك الموكل بالأرحام أن يُخرِجك فأخرَجَك على ريشة من جناحه ، لا لك سن يقطع ، ولا يد تبطش ، ولا قدم تسعى بها ، وأنْبعْت لك عرقين رقيقين في صدرِ أمك يجريان لبناً خالصاً حاراً في الشتاء بارداً في الصيف ، وألقيت محبتك في قلب أبويك فلا يشبعان حتى تشبع ، ولا يرقدان حتى ترقد ، فلما قوي ظهرك ، واشتد أزرك بارزتني بالمعاصي ، واعتمدت على المخلوقين ولم تعتمد علي ، وتَسَتَّرت ممن يراك ، وبارزتني بالمعاصي في خلواتك ولم تستح مني ، ومع ذلك إن دعوتني أجبتك ، وإن سألتني أعطيتك ، وإن تُبت إليَّ قبلتك ” .
** وفي بعض دعاء الإمام الحسين عليه السلام لمحات مباركة من قول الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام : ” الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي أطمعُ أن يغفر لي خطيئَتي يوم الدين ” ( سورة الشعراء )
ولا ريب أن الحسين قد تأدب بآداب القرآن وتربى في مدرسة جده عليه الصلاة والسلام .
** وفي بعض دعائه السابق أيضا رشفة من حديث قدسي مبارك يقول فيه الحق جل وعلا : ” … يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكُم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني اَكْسُكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم … ”
والحديث بطوله رواه مسلم ( 2577 ).
* هذا هو تضرع الحسين (ع ) بين يدي ربه ومولاه ، شاكراً لأنعم الله ، معترفاً بفضل ربه ومولاه ، رافعاً حاجته إلى من لا يرد من دعاه ، فيا ليتنا نتعلم أدب الدعاء وفن الدعاء من أبى الشهداء الإمام الحسين أبي عبد الله (ع)
* لقد كان الإمام الحسين (ع) عند شدته يدعو ربه في كلمات حانية ، وضمير يقظ ، وتوحيد لا يعرف الكفر يقول (ع) ” يا عدتي عند شدتي ، ويا غوثي في كربتي ، احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يرام ، وارحمني بقدرتك عليَّ ، فلا أهلك وأنت رجائي ، اللهم إنك أكبر وأجلّ وأقدر مما أخاف وأحذر ، اللهم بك أدرأ في نحره ، وأستعيذ بك من شره إنك على كل شيء قدير” .
*ثم لننظر إلى دعائه (ع) وهو يتحصن ضد من يؤذيه :”يا من شأنه الكفاية ,
وسرادقه الرعاية ,يا من هو الغاية والنهاية ,يا صَارِف السوء و السواية والضر,اصرف عني أذية العالمين من الجن والإنس أجمعين ,واجعلني اللهم في حرزك وفي حزبك وفي عياذك ,وفي سترك وفي كنفك من كل شيطان مارد وعدو راصد ,ولئيم معاند,وضد كنود ,ومن كل حاسد ببسم الله استشفيت ,وببسم الله استكفيت وعلى الله توكلت ,وبه استعنت ,وإليه استعديت على كل ظالم ظلم ,وغاشم غشم ,وطارق طرق ,وزاجر زجر ,”فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين “.
* ثم لننظر كيف يستقبل الإمام الحسين (ع)يومه وليلته حيث يقول في دعائه
صباح مساء :”بسم الله ,وبالله ,ومن الله,وإلى الله ,وفي سبيل الله ,وعلى ملة رسول الله ,وتوكلت على الله , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ,اللهم إني أسلمت نفسي إليك , ووجهت وجهي إليك , وفوضت أمري إليك ,إياك أسأل العافية من كل سوء في الدنيا والآخرة ,اللهم إنك تكفيني من كل أحد ,ولا يكفيني أحد منك ,فاكفني من كل أحد ما أخاف وأحذر ,واجعل لي من أمري فرجا ومخرجا إنك تعلم ولا أعلم ,وتقدر ولا أقدر , وأنت على كل شئ قدير , برحمتك يا أرحم الراحمين “.
*ثم أنظر إلى دعائه عليه السلام وهو ساجد يعفر وجهه بالتراب “سيدي ومولاي ألمِقامِع الحديد خلقت أعضائي؟ أم لشرب الحميم خلقت أمعائي ؟إلهي لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بكرمك ,ولئن حبستني مع الخاطئين لأخبرنهم بحبي لك ,سيدي إن طاعتي لا تنفعك ,ومعصيتي لا تضرك فهب لي ما لا ينفعك واغفر لي ما لا يضرك فإنك أرحم الراحمين “.
*أما دعاء الإمام الحسين عليه السلام في شدته وكربته فإنه لما كانت ليلة عاشوراء نام جند الأعداء وغطوا في نومهم فهذا كان حالهم بالنهار تعب وعناء أو مرح وغرور وزهوة ,وبالليل نوم لا يدرون معه متى يصبح الصباح.
أما آل سيدنا محمد صلى الله وسلم عليهم جميعاً فلهم في الدنيا نظرة ثاقبة ,وعبرة باصرة ,إنهم يقطعون نهارهم في ذكر الله عملا وجهادا ودعوة للناس وهداية لطالب الهدى أما ليلهم فأقدامهم لله مصفوفة ,وأيديهم إليه مرفوعة ,وجباههم له ساجدة ,وأجسادهم بين يديه خاضعة متذللة لأنهم أهل بيت هو أعظم البيوت التي عرفتها الدنيا بأسرها .
**في ليلة عاشوراء التي كان صباحها موعد مع القدر المحتوم يناجي إمامنا
الحسين ربه عز وجل ويتضرع إليه وينزل حاجته به فيقول:”اللهم أنت ثقتي في كل كرب ,وأنت رجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدة ,كم من هم يضعف فيه الفؤاد ,وتقل فيه الحيلة ,ويخذل فيه الصديق ,ويشمَت فيه العدو ,أنزلته بك وشكوته إليك ,رغبة مني إليك عمن سواك ,ففرجته عني وكشفته ,فأنت ولي كل نعمة ,وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة “
هكذا تضرع الإمام الحسين ليلة عاشوراء لا ثقة له ولا رجاء إلا في الله عز وجل ,فهو سبحانه ثقة كل مؤمن ورجاء كل مؤمل .
وفي صباح عاشوراء من عام 61هـ كان الموعد مع القدر حيث فتحت النار أبوابها لاستقبال يزيد بن معاوية لعنه الله وجنده الذين قتلوا الإمام الحسين ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم واستقبال أعوانه ومؤيديه .
وفَتَحَتْ الجنة أبوابها لاستقبال الإمام الزاهد المجاهد أبو الشهداء سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين ومن كان معه من أهل بيته وأصحابه المخلصين .
ولم يرحم جيش الطغيان صغيرا من أهل البيت ولا كبيرا حتى أجهزوا على الإمام الحسين وكل من كان معه من رجال وغلمان أهل البيت ماعدا سيدنا علياً زين العابدين الذي لم يشارك لشدة مرضه ووجعه .
وقُتل الجميع ومُثل بهم حتى قال القائل:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمد *** متزملا بدمائـــــــــــه تزميــــــــــلا
وكأنما بك يا بن بنت محمــــــد *** قتـــلوا جهارا عامدين رســــــــــولا
قـتلوك عطشانا ولما يرقبــــــوا *** في قتلك التأويـــــل و التنزيــــــــلا
ويكبرون بأن قُـتِلـــت وإنمـــــا *** قتـــلوا بـــك التكـــبيرَ والتهليــــــــلا
ـــــــــــــــــــــــ
ولكن الملتقى عند الله سبحانه , وعنده ستجتمع الخصوم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ــــــــــــــــــــــ
ألا فلنتعلم الدعاء من إمامنا الحسين (ع)وكيف كان دعاؤه توحيدا وتنزيها وتحميدا وذكرا لله تعالى ولنعلم أن أحب الأشياء إلى الله تعالى هو مدحه وأن الدعاء هو أعظم سلاح بيد المؤمن ,وأن أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأن أبخل الناس من بخل بالسلام “وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين “
فسلام الله على من علمنا فن الدعاء أبي عبد الله الحسين سلام عليه يوم ولد ,ويوم أستشهد ,ويوم يبعث حياً وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين والحمد لله رب العَالمين .
الجمعـــة 18محرم1432هـ ***24ديســـــــمبر2010م
(المستشــــــار/ مصطفى جابر النجـــــــــار)
رئيس اللجنة الدينية بنقابة الأشراف بالبحيرة
منقول
*وكلما زاد الظلم, وعلا الطغيان, وأخذت الأرض زخرفها وازينت لأهلها وظن أهلها أنهم قادرون عليها جعل الله لأهل الإيمان ملاذا آمنا به يلوذون وركنا شديدا إليه يلجأون .
*لقد تجمعت كل معاني الفرج بعد الشدة, والملاذ الآمن بعد الخوف “في الدعاء”هذا الباب العظيم الذي فتحه الله لعباده المؤمنين ,وجعل منه اتصالا ووصلا فيما بينهم وبين الخالق الأعظم تبارك وتعالى ,بل إن الله ندبهم إلى الدعاء وأمرهم به حيث قال عز وجل:”وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ” فأمر سبحانه بالدعاء ووعد عليه الإجابة في بيان جازم وآية محكمة .كما قال تعالى “ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين “فأمر بالدعاء تضرعا وتذللا بين يديه سبحانه وخضوعا لجنابه الأعلى ,وأمر بالدعاء خفية فيما بين العبد وربه سواء كان ذلك في واضح النهار أم في سبحات الليل البهيم إذ كل ذلك عند الله سواء.
*إن أنبياء الله ورسله في ساعات كربهم ,وإيذاء المخالفين لهم,واضطهاد أتباعهم ,تسلحوا بسلاح الدعاء فآدم عليه السلام يرفع إلى ربه آهات الندم ,وأنَّات الألم ويتضرع إلى ربه في كلمات حانية “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين “ويقول القرآن الكريم عن نوح عليه السلام” ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم”,ويقول عن إبراهيم في كلمات كأنها نظم الذهب أو عقد اللؤلؤ”رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء”وما أكثر دعاء إبراهيم في القرآن الكريم ,وورد كذلك عن أيوب “وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين “كما تحدث القرآن عن يونس عليه السلام ودعوته التي أولها توحيد وأوسطها تسبيح وأخرها اعتراف بالذنب “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” وكذلك حكا القرآن عن زكريا و موسى و عيسى و داوّد و سليمان و غيرهم من الأنبياء والمرسلين ليفتح بذلك باب الأمل للمذنبين وباب الفرج للمكروبين وباب النور لمن أحدق بهم الظلام .وهكذا كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يرفعها كلمات ضارعة إلى الله تعالى “اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي, وقلة حيلتي ,وهواني على الناس ,إلى من تكلني ,إلى بعيد يتجهمني أم إلي قريب ملكته أمري , أنت رب المستضعفين وأنت ربي , إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولا حول ولا قوة إلا بك ” وهكذا كان دائم الضراعة ليلا ونهارا صباحا ومساء في كل حركة وفي كل سكنة لا يترك الدعاء ولا التضرع والابتهال إلي الله تعالــــــــــــــــــى.
*وعلي نفس الدرب سار أهل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان الدعاء ديدنهم ، وكان التضرع سبيلهم استجابوا لله فاستجاب الله لهم كما وعد سبحانه وتعالي في قوله ” وإذا سألك عبادي عني فأني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان , فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشد ون” . إن دعاء أهل البيت لم يكن في وقت الحاجة فقط أو في وقت الشدة وينتهي, ولكن دعاءهم كان دوما لا ينقطع لأن للدعاء عند أهل البيت معني عظيم سوف تدركه حينما نستعرض نماذج من دعاء سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام .
*لقد كان الدعاء عند الإمام الحسين (ع)فن عظيم يجد فيه راحته ,ويجد فيه إيمانه ,ويجد فيه قربه من ربه عز وجل .
لقد كان دعاء الإمام الحسين توحيدا لله وإيمانا به وكان تسبيحا لله وتنزيها
له ,وكان مدحا لله وإجلالا لعظمته ,بل كان مزيجا من التذكرة بآلاء الله ونعمه فهو بذلك يعلمنا كيف ندعوا ربنا عز وجل دعاءً يليق بعظمة الألوهية وكمال الربوبية وصفات الوحدانية
ففي دعائه المعروف بدعاء يوم عرفة يفتتح دعائه بقوله “الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ,ولا لعطائه مانع ,ولا كصنعه صنع صانع ,وهو الجواد الواسع ,فطر أجناس البدائع,وأتقن بحكمته الصنائع ,لا تخفي عليه الطلائع ,ولا تضيع عنده الودائع ,جازي كل صانع,ورائش كل قانع ,وراحم كل ضارع ومنزل المنافع ,والكتاب الجامع بالنور الساطع “
إلى أن قال:”فلا إله غيره ولا شئ يعدله,وليس كمثله شئ وهو السميع البصير ,اللطيف الخبير,وهو على كل شئ قدير,اللهم إني أرغب إليك,وأشهد بالربوبية لك ,مقرا بأنك ربي , وأن إليك مردي ,ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئا مذكورا ,وخلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب آمنا لريب المتون,واختلاف الدهور والسنين “——”
*فانظر رحمك الله كيف أن الإمام الحسين عليه السلام قد ابتدأ دعاءه بالحمد لله مثنيا على ربه عز وجل وذلك على ما جرت به عادة القرآن الكريم حيث ابتدأ الله كتابه بالثناء على ذاته المقدسة فقال تعالى في أول سورة الفاتحة “الحمد لله رب العالمين ,الرحمن الرحيم ,مالك يوم الدين “
فبدأ بالحمد والثناء على قدسه سبحانه وتعالى ووصف نفسه بالرحمة والمالكية المطلقة في يوم الدين كما حمد نفسه على أن خلق وفطر وأبدع فقال سبحانه في مطلع سورة الأنعام “الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور …..”
وحمد نفسه عند ذكر آياته فقال:”وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها”
وحمد نفسه على إهلاك الظالمين فقال تعالى :”فَـقُطِع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين “
فكان النهج القرآني هو سبيل الإمام الحسين في تضرعه وفي ثنائه على الله تعالى
كما استلهم الإمام الحسين نهج جده صلى الله عليه وآله وسلم في كثرة حمد الله والثناء عليه وخاصة عند ذكر النعم
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمد الله إذا استيقظ من نومه فكان يقول”الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي في ذكره”وكان يوصي بها.
وكان يحمد الله في بداية خطبه “الحمد لله نحمده ونستعينه”
وكان يكثر من قول “سبحان الله وبحمده”ويكثر من سبحان الله والحمد لله”ويوصي بالإكثار من ذلك وهو القائل “والحمد لله تملؤ الميزان”صلى الله عليه وآله وسلم
وعن أنس بن مالك (ض)قال:مَرّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد ابن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا حنان يا منان ,يا بديع السموات والأرض ,يا ذا الجلال و الإكرام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ,وإذا سئل به أعطى ”
(رواه أحمد وابن ماجه وأبو داوّد)
وعن فضالة بن عبيد الله (ض) قال:بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم
قاعداً إذ دخل رجل فصلى فقال:اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :عجلت أيها المصلي ,إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله ,وصلّ عليّ ثم ادعه ,قال :ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أيها المصلي :”ادع تُجَب”أي يستجيب الله دعائك
(الحديث رواه أحمد والترمذي واللفظ له)
وهكذا استلهم الإمام الحسين أدب دعائه من جده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد ذلك نجد دعاء الحسين غارقا في بحار الأنوار من ثناء وإيمان وتوحيد. إن الإمام في دعائه قد أقر بإيمانه بالقضاء والقدر ,والقضاء والقدر لا يتم الإيمان إلا به
ألا ترى إلى حديث جبريل الطويل المشهور وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ,والقدر خيره وشره ” وأقر الإمام الحسين في دعائه بأنه لا مانع لعطاء الله حيث كان من دعاء جده عليه الصلاة والسلام ” اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ,ولا ينفع ذا الجد منك الجد “أي لا ينفع ذو الغنى والقوة إذ الغنى والقوة منك وحدك لا شريك لك .
ثم يثني على الله ببديع صنعه ,وسعة جوده واختراعه البديع ,وإتقانه الرفيع,وأنه سبحانه المجازي لكل صانع , والموسع على كل قانع ,والراحم لكل داع وضارع , والموصل للمنافع والمنزل للكتاب بالنور الساطع .
*لقد اشتمل هذا الدعاء أيضا على وصف الله بأنه لا إله إلا هو ,وأنه ليس كمثله شئ ,وأنه على كل شئ قدير وشهد كذلك بالربوبية معترفا أن الله ابتدأه بنعمه قبل أن يكون شيئا مذكوراً , وأنه أسكنه أصلاب الرجال الطاهرين وحماه من تقلب الدهور والسنين .
وهكذا ينبغي لكل داع أن يحذو حذو أبي عبد الله الحسين (ع) في حمده لربه وتسبيحه وتقديسه وتوحيده والاعتراف بربوبيته والإيمان بقضائه الذي ليس له دافع وقدره الذي لا مرد له .
إن الداعي ينبغي له وهو يتضرع بين يدي الله سبحانه وتعالى أن يذكر نعم الله تعالى عليه وأن يذكر إساءته لنفسه وعصيانه لربه فإن ذلك مما يعين على صدق اللجوء إلى الله تعالى وإخلاص الدعاء له .
** إننا نلمح ذلك في دعاء الإمام الحسين عليه السلام فنجده يقول: ” يا من هو قائم على كل نفس بما كسبت ، يا من قل له شكري فلم يحرمني ، وعَظَُمَتْ خطيئتي فلم يفضحني ، ورآني على المعاصي فلم يشهرني ، يا من حفظني في صغري ، يا من رزقني في كبري ، يا من أياديه عندي لا تحصى ، ونعمه لا تجازَى ، يا من عارضني بالخير والإحسان ، وعارضته بالإساءة والعصيان ، يا من هداني للإيمان من قبل أن أعرف شكر الامتنان ، يا من دعوته مريضاً فشفاني ، وعرياناً فكساني ، وجائعاً فأشبعني ، وعطشاناً فأرواني ، وذليلاً فأعزني ، وجاهلاً فعَرّفَني ، ووحيداً فكثَّرني ، وغائباً فردني ، ومُقِلاًّ فأغناني ، ومنتصراً فنصرني ، وغنياً فلم يسلبني ، وأمسكت عن جميع ذلك فابتدأني فلك الحمد والشكر …”
*إن الإمام في هذه اللمحة يذكر أن الله قائم على كلِ نفس وأن الله تعالى لا يحرم العبد إذا لم يشكر ، ولا يفضحه إذا أخطأ وأن الله هو الحافظ في الصغر ، وهو الرازق في الكبر ، وهو الذي لا تحصى نعمه ، وأنه سبحانه تقدم للعبد بالخير والإحسان ، وتقدم إليه العبد بالإساءة والعصيان ، وأنه سبحانه هو الذي يشفي من المرض ، ويكسو من العرى ، ويُشبع من الجوع ، ويكثِّربعدالوحدة ، ويرد بعد الغيبة ، ويغني بعد القِلة ، وأن العبد إذا لم يسأل شيئاً من ذلك أعطاه الله بغير سؤال .
** لقد وردت هذه المعاني الراشدة فيما روي في بعض الكتب السماوية حيث ورد بها :
” يا بن آدم جعلت لك قراراً في بطن ِأمك ، وغشيت وجهك بغشاء لئلا تفزع من الرحم ، وجعلت وجهك إلى ظهر أمك لئلا تؤذيك رائحة الطعام ، وجعلت لك متكأ عن يمينك ومتكأ عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فالكبد ، وأما الذي عن شمالك فالطحال ، وعلمتك القيام والقعود في بطن ِأمك ، فهل يقدر على ذلك أحد غيري ؟ ، فلما أن تمت مدة حملك أوحيت إلى الملك الموكل بالأرحام أن يُخرِجك فأخرَجَك على ريشة من جناحه ، لا لك سن يقطع ، ولا يد تبطش ، ولا قدم تسعى بها ، وأنْبعْت لك عرقين رقيقين في صدرِ أمك يجريان لبناً خالصاً حاراً في الشتاء بارداً في الصيف ، وألقيت محبتك في قلب أبويك فلا يشبعان حتى تشبع ، ولا يرقدان حتى ترقد ، فلما قوي ظهرك ، واشتد أزرك بارزتني بالمعاصي ، واعتمدت على المخلوقين ولم تعتمد علي ، وتَسَتَّرت ممن يراك ، وبارزتني بالمعاصي في خلواتك ولم تستح مني ، ومع ذلك إن دعوتني أجبتك ، وإن سألتني أعطيتك ، وإن تُبت إليَّ قبلتك ” .
** وفي بعض دعاء الإمام الحسين عليه السلام لمحات مباركة من قول الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام : ” الذي خلقني فهو يهدين ، والذي هو يطعمني ويسقين ، وإذا مرضت فهو يشفين ، والذي يميتني ثم يحيين ، والذي أطمعُ أن يغفر لي خطيئَتي يوم الدين ” ( سورة الشعراء )
ولا ريب أن الحسين قد تأدب بآداب القرآن وتربى في مدرسة جده عليه الصلاة والسلام .
** وفي بعض دعائه السابق أيضا رشفة من حديث قدسي مبارك يقول فيه الحق جل وعلا : ” … يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكُم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني اَكْسُكم ، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم … ”
والحديث بطوله رواه مسلم ( 2577 ).
* هذا هو تضرع الحسين (ع ) بين يدي ربه ومولاه ، شاكراً لأنعم الله ، معترفاً بفضل ربه ومولاه ، رافعاً حاجته إلى من لا يرد من دعاه ، فيا ليتنا نتعلم أدب الدعاء وفن الدعاء من أبى الشهداء الإمام الحسين أبي عبد الله (ع)
* لقد كان الإمام الحسين (ع) عند شدته يدعو ربه في كلمات حانية ، وضمير يقظ ، وتوحيد لا يعرف الكفر يقول (ع) ” يا عدتي عند شدتي ، ويا غوثي في كربتي ، احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يرام ، وارحمني بقدرتك عليَّ ، فلا أهلك وأنت رجائي ، اللهم إنك أكبر وأجلّ وأقدر مما أخاف وأحذر ، اللهم بك أدرأ في نحره ، وأستعيذ بك من شره إنك على كل شيء قدير” .
*ثم لننظر إلى دعائه (ع) وهو يتحصن ضد من يؤذيه :”يا من شأنه الكفاية ,
وسرادقه الرعاية ,يا من هو الغاية والنهاية ,يا صَارِف السوء و السواية والضر,اصرف عني أذية العالمين من الجن والإنس أجمعين ,واجعلني اللهم في حرزك وفي حزبك وفي عياذك ,وفي سترك وفي كنفك من كل شيطان مارد وعدو راصد ,ولئيم معاند,وضد كنود ,ومن كل حاسد ببسم الله استشفيت ,وببسم الله استكفيت وعلى الله توكلت ,وبه استعنت ,وإليه استعديت على كل ظالم ظلم ,وغاشم غشم ,وطارق طرق ,وزاجر زجر ,”فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين “.
* ثم لننظر كيف يستقبل الإمام الحسين (ع)يومه وليلته حيث يقول في دعائه
صباح مساء :”بسم الله ,وبالله ,ومن الله,وإلى الله ,وفي سبيل الله ,وعلى ملة رسول الله ,وتوكلت على الله , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ,اللهم إني أسلمت نفسي إليك , ووجهت وجهي إليك , وفوضت أمري إليك ,إياك أسأل العافية من كل سوء في الدنيا والآخرة ,اللهم إنك تكفيني من كل أحد ,ولا يكفيني أحد منك ,فاكفني من كل أحد ما أخاف وأحذر ,واجعل لي من أمري فرجا ومخرجا إنك تعلم ولا أعلم ,وتقدر ولا أقدر , وأنت على كل شئ قدير , برحمتك يا أرحم الراحمين “.
*ثم أنظر إلى دعائه عليه السلام وهو ساجد يعفر وجهه بالتراب “سيدي ومولاي ألمِقامِع الحديد خلقت أعضائي؟ أم لشرب الحميم خلقت أمعائي ؟إلهي لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بكرمك ,ولئن حبستني مع الخاطئين لأخبرنهم بحبي لك ,سيدي إن طاعتي لا تنفعك ,ومعصيتي لا تضرك فهب لي ما لا ينفعك واغفر لي ما لا يضرك فإنك أرحم الراحمين “.
*أما دعاء الإمام الحسين عليه السلام في شدته وكربته فإنه لما كانت ليلة عاشوراء نام جند الأعداء وغطوا في نومهم فهذا كان حالهم بالنهار تعب وعناء أو مرح وغرور وزهوة ,وبالليل نوم لا يدرون معه متى يصبح الصباح.
أما آل سيدنا محمد صلى الله وسلم عليهم جميعاً فلهم في الدنيا نظرة ثاقبة ,وعبرة باصرة ,إنهم يقطعون نهارهم في ذكر الله عملا وجهادا ودعوة للناس وهداية لطالب الهدى أما ليلهم فأقدامهم لله مصفوفة ,وأيديهم إليه مرفوعة ,وجباههم له ساجدة ,وأجسادهم بين يديه خاضعة متذللة لأنهم أهل بيت هو أعظم البيوت التي عرفتها الدنيا بأسرها .
**في ليلة عاشوراء التي كان صباحها موعد مع القدر المحتوم يناجي إمامنا
الحسين ربه عز وجل ويتضرع إليه وينزل حاجته به فيقول:”اللهم أنت ثقتي في كل كرب ,وأنت رجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدة ,كم من هم يضعف فيه الفؤاد ,وتقل فيه الحيلة ,ويخذل فيه الصديق ,ويشمَت فيه العدو ,أنزلته بك وشكوته إليك ,رغبة مني إليك عمن سواك ,ففرجته عني وكشفته ,فأنت ولي كل نعمة ,وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة “
هكذا تضرع الإمام الحسين ليلة عاشوراء لا ثقة له ولا رجاء إلا في الله عز وجل ,فهو سبحانه ثقة كل مؤمن ورجاء كل مؤمل .
وفي صباح عاشوراء من عام 61هـ كان الموعد مع القدر حيث فتحت النار أبوابها لاستقبال يزيد بن معاوية لعنه الله وجنده الذين قتلوا الإمام الحسين ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم واستقبال أعوانه ومؤيديه .
وفَتَحَتْ الجنة أبوابها لاستقبال الإمام الزاهد المجاهد أبو الشهداء سيد شباب أهل الجنة أبي عبد الله الحسين ومن كان معه من أهل بيته وأصحابه المخلصين .
ولم يرحم جيش الطغيان صغيرا من أهل البيت ولا كبيرا حتى أجهزوا على الإمام الحسين وكل من كان معه من رجال وغلمان أهل البيت ماعدا سيدنا علياً زين العابدين الذي لم يشارك لشدة مرضه ووجعه .
وقُتل الجميع ومُثل بهم حتى قال القائل:
جاءوا برأسك يا بن بنت محمد *** متزملا بدمائـــــــــــه تزميــــــــــلا
وكأنما بك يا بن بنت محمــــــد *** قتـــلوا جهارا عامدين رســــــــــولا
قـتلوك عطشانا ولما يرقبــــــوا *** في قتلك التأويـــــل و التنزيــــــــلا
ويكبرون بأن قُـتِلـــت وإنمـــــا *** قتـــلوا بـــك التكـــبيرَ والتهليــــــــلا
ـــــــــــــــــــــــ
ولكن الملتقى عند الله سبحانه , وعنده ستجتمع الخصوم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
ــــــــــــــــــــــ
ألا فلنتعلم الدعاء من إمامنا الحسين (ع)وكيف كان دعاؤه توحيدا وتنزيها وتحميدا وذكرا لله تعالى ولنعلم أن أحب الأشياء إلى الله تعالى هو مدحه وأن الدعاء هو أعظم سلاح بيد المؤمن ,وأن أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأن أبخل الناس من بخل بالسلام “وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين “
فسلام الله على من علمنا فن الدعاء أبي عبد الله الحسين سلام عليه يوم ولد ,ويوم أستشهد ,ويوم يبعث حياً وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين والحمد لله رب العَالمين .
الجمعـــة 18محرم1432هـ ***24ديســـــــمبر2010م
(المستشــــــار/ مصطفى جابر النجـــــــــار)
رئيس اللجنة الدينية بنقابة الأشراف بالبحيرة
منقول