المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذهب أهل الفلسفة والعرفان


بو هاشم الموسوي
15-03-2012, 08:36 PM
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
وصلّى الله على علّة الوجود النبيّ الأعظم محمّد وعلى أهل بيته الطّاهرين ولعنة الله تعالى جاحدي إمامتهم ومبغضيهم ومنكري فضائلهم ومخالفيهم إلى قيام يوم الدّين لا سيّما صنمي قريش وابنتيهما وأتباعهم ومن والاهم ومن مال إليهم



موجز عن حياة المؤلّف

قال الشّيخ جعفر بن جواد بن المحسن بن الحسين الخرّاساني - ابن المترجم له - ومحقّق كتاب "هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة":
"هو الشّيخ محمد جواد بن المحسن بن الحسين بن المحسن بن محمّد صادق المَحوِلاتي الخرّاساني. ولد في مشهد المقدّسة، في الخامس والعشرين من ربيع الأوّل سنة 1331هـ، ودرس المقدّمات على يد والده الشّيخ محسن (رحمه الله)، وأكمل باقي مراحل درسه عند فضلاء وعلماء مشهد المعروفين في زمانه. ورحل إلى النجف الأشرف حيث أكمل هناك المراحل المتقدّمة من الدراسة، حتّى مُنح إجازة الإجتهاد وهو لا يزال في الرّابعة والعشرين من عمره، وذلك من قبل أساتذته المعروفين: الأصفهاني، الاصطبهباناتي والعراقي والشاهرودي وغيرهم (نوّر الله مضاجعهم). وأقام آخر حياته في طهران، حيث عكف على التّحقيق والتّأليف، فألّف ما يربو على ستّة وأربعين كتابًا في علوم مختلفة: كالفقه والأصول والأدب واللّغة والتّفسير والرّجال والحكمة والمعارف الأخرى"(1).


وقال الشّيخ زكريا داوود في ذكر مؤسّس ورواد مدرسة التفكيك: "أن تيار مدرسة التفكيك لم يتبلور كمدرسة فكرية ذات أسس منهجية واضحة إلا في بداية القرن الرابع عشر للهجرة، حيث تأسست في خراسان مدرسة نشطت بشكل كبير وبدأت معالمها تتضح وخياراتها تتبلور مع مجيء المؤسس الميرزا مهدي الأصفهاني (1303-1365هـ/ 1885-1946م)، ويأتي بعد الأصفهاني تلامذته الذين أخذوا المعارف منه وتلقّوا أصول العقائد والحكمة عنده، وهم كثيرون لكن أبرزهم: هو: آية الله الشّيخ محمد جواد بن المحسن بن الحسين الخراساني (1331-1397هـ/1913-1977م)، وهو أحد شارحي أراء مدرسة التّفكيك، وقد منحه أستاذه الأصفهاني إجازة الإجتهاد، أبرز كتبه التي أوضح فيها آراء مدرسة التفكيك هو "هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة" وقد حمل فيه على الفلسفة والتصوّف، واعتبر كتابه هذا أول كتاب من نوعه، حيث شرح فيه فقط مسألة التوحيد وما يتعلق بها من قضايا"(2).


وفاته
توفي (رحمه الله) في شهر ربيع المولود من سنة 1397هـ، بعد أن أمضى عمرًا في نهاية الزّهد والتّقوى، وبعد كثرة المعاناة والآلام واشتداد الأسقام، ودُفن في قم المقدّسة"(3).


حول الكتاب
"كتاب: *هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة* تأليف: محمّد جواد بن المحسن بن الحسين الخراساني (1331-1397هـ).
مَعَارِفِ الأئِمَّة: أُرجوزة ألفيّة علمية، نظّمها المصنّف مُلخِّصاً فيها مضمون كتابه معارف الشيعة، المتضمّن: مذهب أهل البيت عليهم السلام في توحيد الله سبحانه وعدله، المعارف الاِلهية والاَُمور الاعتقادية، أحاديث أئمة الهدى عليهم السلام وأقوالهم وتوجيهاتهم في هذا الباب، الكشف عن جملة من الإعتقادات الفاسدة المدسوسة الدخيلة على عقائد الاِسلام من قبل أهل الفلسفة والعرفان والتصوّف المتظاهرين بالتشيّع والموالاة لأهل البيت عليهم السّلام .
والكتاب هذا شرحٌ - لناظم الأُرجوزة - عليها، وبيانٌ لرموزها وعباراتها، وتخريج لأقوال المعصومين عليهم السّلام المشار إليها في الأُرجوزة تصريحًا أو تلميحًا.
متناولًا توحيد الله بمقاصد خمسة مرتّبة - حسب مقاصد الأُرجوزة - في: إثبات وجوده سبحانه، ذاته تعالى، صفاته الذاتية، أفعاله، أسماؤه الحسنى جلّ وعلا. صدر الكتاب مع تعليقات وتخريجات لإبن المؤلّف. نشر: مؤسّسة البعثة - قم/ 1416هـ"(4).
</b></i>

بو هاشم الموسوي
15-03-2012, 08:37 PM
- قال آية الله الشّيخ محمّد بن جواد الخرّاساني (رضي الله عنه) في مقدّمة كتابه "هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة":
"انتصار المذهب، تخليصه من بين المذاهب، ثمّ نشره
أنّي رأيت أنّ كلّ مذهب أو دين، إنّما يتقوّم بأمرين، ويقسّم إلى قسمين:
الأوّل: المعارف الإلهيّة؛ أي الأمور الإعتقاديّة بالنّسبة إلى الربّ تعالى وصفاته وشؤونه، وتسمّى بـ"الأصول"، والثّاني: الأحكام العمليّة المتعلّقة بالعبادات وغيرها، وتسمّى بـ"الفروع"؛ ثمّ رأيت أنّّ علماء الشّيعة (كثّر الله أمثالهم) من فقهائهم ومحدّثيهم، قد اعتنوا في نشر مذهب الإماميّة وتخليصه من بين المذاهب، بالقسم الثّاني منه؛ فاهتمّوا غاية الإهتمام؛ فبذلوا هممهم وجهودهم فيه، جمعًا وترتيبًا وتفصيلًا وتبويبًا؛ فأكثروا في التّأليف والتّصنيف فقهًا وحديثًا بما لا يُحصى ولا يوصف بالتّعريف، فأعلنوا وأبرزوا بتلك التآليف الرّشيقة، مذهب أئمّتهم في الأحكام، خالصًا، متميّزًاعن غيره على رؤوس الأعلام، فأفردوه من بين المذاهب وأظهروه كالبدر من بين السّحائب؛ فسهّلوا لغيرهم سُبل الإستعلام، لو أراد أن يطّلع ما لأئمّتهم من الأحكام.


عدم تأليف كتاب مستقلّ في الأصول على مذهب الإماميّة
وبالرّغم من ذلك، لم أرَ لهم في القسم الأوّل مثل هذا الإهتمام، مع أنّه الأصل والأَوْلى، بل الأوجب بالنشر والإعلام. فلم يهتمّوا بالتّأليف فيه مستقلًّا، بالتّخصي مميّزًا عن غير المذاهب بالتخليص، فضلًا عن توفير المؤلّفات وتكثير المصنّفات.
بلى، عقد له المحدّثون بابًا في طيّ الأبواب، وقلّ منهم مثل: "الصّدوق"، من يخصّه بكتاب؛ واكتفى الأكثرون عن ذلك بتصنيف الكتب الكلاميّة، فذكروا في جملة المذاهب: "مذهب الإماميّة".
ولكن ذلك منهم لا يغني في نشر مذهب الإماميّة (عليهم السّلام) بالخصوص. هذا، مع أنّهم مقتصرون في تلك الكتب على بعض النّصوص، وعلم الكلام، ممّا يشترك فيه كلّ الفرق، وليس ممّا استفرد به أهل الحقّ. فوا أسفاه! لو سأل سائل عن كتاب جامع في أصول الإماميّة، ليس لنا إلّا الإرجاع إلى الكتب الكلاميّة!
هذا، مع إنّ جلّ الباحثين فيها، إنّما بحثوا فيها على أذواقهم الفلسفيّة، ومشاربهم العرفانيّة. ولذلك اختلط مذهب الإماميّة في القرون اللّاحقة لا سيّما في عصرنا الحاضر بتلك المذاهب؛ فاشتبه على الفاحص الطّالب ما هو الحقّ الخالص من بين المطالب. ولذلك كثُرَ الإختلاف في النّاس والإفتراق حسب اختلاف أُولي الأذواق. [ . . . ].

اختلاط معارف الشّيعة بالأذواق الفلسفيّة والعرفانيّة
أنّ "أهل الفلسفة والعرفان"، (ممّن يتظاهر بالتشيّع ويُسمّى عند عامّة النّاس بالشّيعة)، أدخلوا أدخلوا أذواقهم الفلسفيّة والعرفانيّة في معارف الشّيعة، وخلطوها بها خلطا فلا يعرفها إلّا الخبير، ولا يميّزها إلّا البصير. فاتّخذتها الشيعة منهم، وصيّرتها من جملة عقائدهم، جهلًا منهم بحقيقة الحال، وظنًّا منهم بوحدة المقال.


سبب هذا الاختلاط والامتزاج
وذلك لأنّ هؤلاء الطائفة من بدء حدوثهم إلى الغاية، لم يكونوا متميّزين عن الشّيعة كسائر الفرق من الزّيدية والفطحيّة و الواقفيّة و غيرهم حتّى يحترز منهم بل كانوا مختلطين بهم، متوافقين لهم في الفروع و متظاهرين معهم بالرّسوم. فَحَسُنَ ظنّ الشّيعة بهم واكتفوا بذلك منهم، زعمًا أنّ التشيّع بمحض ملازمة الفروع، ومراقبة الرسوم. فبذلك خلطوا أنفسهم الشّيعة، خلطًا لا يخطر ببال أهل الظّاهر غير الإتّحاد.
إذ هم لا يعرفون أنّ الوحدة في الفروع و الرسوم، غير الوحدة في "الإعتقاد". فأخذوا منهم ما أدخلوه بحسن الظنّ بهم من غير انتقاد؛ سيّما أنّهم اختلقوا في جميع المآرب، حتّى الشؤون والمناصب. فاختلطوا بهم في المحافل والجماعات والمدارسة والتدريس، والتأليف والتصنيف في الفقه والحديث و التفسير و غيرها، والقضاء والإفتاء ورئاسة العامّة، والوعظ والتذكير والمناظرة لأهل الخلاف والشّقاق بحيث لا يبقى مجال توهّم الافتراق. خصوصًا مع ملازمتهم للزهد في الحلال والتّقوى الظاهريّة الّتي تشهد بحسن الحال.
فلمّا تمكّن أهل الفلسفة في نفوس الشّيعة و وقعوا موقع القبول، وحسبت الشّيعة أنّهم موافقوهم في الفروع والأصول، دلّسوا على الضعفاء (ترويجًا لأذواقهم وتحكيمًا لعقائدهم، وصدًّا لهم عن مراجعة أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام)؛ لئلّا يظهر لهم خلاف ما أسّسوا أو شكّ فيما دسّسوا) بأمور، أوجبت مزيد الإعتماد عليهم، ومسارعة طلبة العلم إليهم. فاستبق إليهم قوم لم يستحكموا العلم ولم يستضيئوا بنور الهُدى، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق. فدرسوا عندهم وتعلّموا منهم، حتّى اشرب أذواقهم تلك الأذواق، ورسخت في قلوبهم رسوخ الماء في الأجسام الرّقاق. فحسبوا أنّها إفاضة وإشراق، فنشأوا عليها نشأ الشجر في الطّين؛ فزعموا أنّها هي الدّين.
ثمّ برزوا في الفنّ فأخذوا في التصنيف، فنمى اسمهم وسما ذكرهم، حتّى عرفوا برجال العلم والتّأليف. ثمّ خاضوا في التّدقيق بنقل الأقوال وضروب الإستدلال، حتّى وُصفوا بأهل التحقيق. فألبستهم الرّئاسة لباسها، وأحكمت لهم أساسها، فوطأت الرّجال أعقابهم، وزاحم النّاس أبوابهم، فاتّقى أهل البصيرة خلافهم، إذ صاروا كبراء القوم وأشرافهم؛ فإنّ مخالفة الأكابر من أكبر الذّنوب عند أهل الظاهر.
كذلك دُسّت الأذواق الفلسفيّة والعرفانيّة في معارف الشيعة الإمامية فجرت وسرت في عامّهم وخاصّهم، إلّا القليل ممّن عصمه اللّه، إلى أن آل الأمر في هذا الزّمان إلى أنّ الإسلام والإيمان لا يُعرفان إلّا بالفلسفة والعرفان. وهيهات! "إِنْ هُمْ إِلََّا يَظُنُّونَ".[البقرة:87]، و"إِنْ هُمْ إِلََّا يَخْرُصُونَ".[الأنعام:116]، "وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا".[المجادلة:2]، ويقولون ما لا يعلمون.
وتلك الأمور هذه:
الأوّل: دعوى أنّ حقيقة المعارف الإسلاميّة لا تُنال إلّا بالفلسفة والعرفان، وكذلك معنى كثير من الأحاديث لا يعرف إلّا بهما. وهذه دعوى يدّعيها كلّ فريق، والجميع كما قيل:
وكلّ يدّعي وصلًا بليلى ** وليلى لا تقرّ بذا وذاكا
وذلك لأنّهم يزعمون كما هم يزعمون، أنّهم على شيء، "وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ".[الأعراف:30] وهيهات! ليست الحقيقة إلّا في "بيوت أهل الوحي"، وليست الحقّ إلّا ما صدر عن أهل تلك البيوت. وما الّذي يدّعونه إلّا "كَسَرََابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مََاءً حَتََّى إِذََا جََاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا".[النور:39].
كلّا! فلا المعرفة التي أسّسوها ونسجوا عليها معرفة إسلاميّة بل هي فضول وزخارف سمّوها أصولا ومعارف. ولا فهم الحديث متوقّف على تلك المنسوجات ومبنيّ عليها، كما أنّ المعنى الّذي يفسّرون به بعض الأحاديث على مذاقهم ليس بمعناه بل هو تطبيق من غير انطباق، وتأويل على الأذواق، لا تفسير للمعنى المراد من الحاقّ. وإنّما الّذي يهدي إلى المعاني المرادة، نفس الأحاديث الواردة، فإنّ بعضها يفسّر بعضًا، ولكنّ الفهم والتّفريع من تأييد اللّه.
الثّاني: تكبير فنّهم وأكابرهم بشوامخ الأسامي والألقاب، والمبالغة و الإطراء في المدح والوصف العجاب. فمن تكبيرهم الفنّ، أنّ أهل الفلسفة، سمّوا فلسفتهم بـ"الحكمة"، ثمّ فسّروها بأنّها: "العلم بحقايق الأشياء على ما هي عليها"، وزاد قوم عليه "على حسب الطاقة البشريّة"، وقولهم: "أنّه لو لا الحكمة لم يستقم أمر الدّين، وأنّها موهبة إلهيّة يتطوّل بها على من يشاء"، وغير ذلك ممّا لسنا بصدد استقصائه.
ثمّ أوّلوا ونزّلوا عليها الآيات، مثل قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنََا لُقْمََانَ الْحِكْمَةَ".[لقمان:12]، وقوله: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا".[البقرة:269]، وكذلك من الأخبار نظائرها.
فمن ذا لا تعجبه الفلسفة بعد سماع ذلك؟! و من ذا يرغب عن مثل ذلك؟ فأمّا العامّي، فيغترّ به من غير نكير، وأمّا القاصر من أهل العلم وطلبته، فإنّه أيضًا يعجبه هذا الثناء؛ لأنّه غير خبير، وبفساد الدّعوى غير بصير. فلذلك ترى الطالب القاصر، يُسارع في ابتداء أمره إلى تعليم الفلسفة، اغترارًا بهذا الثناء والإطراء. فيحسبها أنّها فضل كبير لا يسعه الجهل بهذا الأمر الخطير، أو واجب مهمّ لا عذر له في التقصير؛ فيتعلّم الفنّ من مدّعيه ومعتقديه. فيخوض فيه خوض التّائه في بيداء التّيه، تقليدًا بحُسن ظنّه بمن يعلّمه ويربّيه. فيرسخ في قلبه شيئًا فشيئًا حتّى يتعوّد عليه أُنسه، وتركن إليه نفسه وينطبع عليه ذوقه وينقلب إليه شوقه، فيتدرّب له اطمئنان لا يدخله ريبة، فيتّخذه دينًا يدين به ربّه.


بدء حدوث الفلسفة في الإسلام
ولكن هيهات ثمّ هيهات! ليست الاطراءات والتكبيرات إلّا الدعاوى والتأويلات. ويكفي في كذب الجميع و بطلانها، أنّ الفلسفة التي سمّوها بالحكمة، قد حدثت في الإسلام بعد النبي (صلّى اللّه عليه وآله) في أثناء القرن الثاني، وصارت إليهم من (اليونان)، وقد قال تعالى: "لَقَدْ مَنَّ اللََّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيََاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتََابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ".[آل عمران:164]، ومثله في آيتين أيضًا.
فقد كان من وظائف النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) تعليم الحكمة للأمّة. فإن كان (صلّى اللّه عليه وآله) علّمهم، فالحكمة غير هذه الفلسفة الجائية من اليونان، وإن لم يعلّمهم، فقد قصّر في الوظيفة وقد خلت الأمّة عن الحكمة بزمان حتى منّ اللّه عليهم بأهل اليونان. وإذن، لم يكن في بعث النبيّ (صلّى اللّه عليه وآله) امتنان؛ على أنّ الفهيم البصير ربّما يُفهم من قوله تعالى: "وَإِنْ كََانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلََالٍ مُبِينٍ".[آل عمران:164]، إنّ ما كان من قبل الإسلام بين الأنام، ممّا لم يكن من وحيّ وإلهام، كلّه ضلال.
ومن تكبير "الصوفيّة" فنّهم، أنّهم سمّوا محصول التّصوف بـ(العرفان) ثمّ بالغوا في وصفه وأطرءوا في شأنه بأسنى شأن فيغترّ به الجاهل والقاصر والغافل، فيحسبه عرفانًا في الحقيقة، فيطلبه من أهل الطريقة. إذ العرفان من أكبر المواهب وممّا لا ينبغي أن يرغب عنه راغب، أو لا يطلبه طالب، لو لم يكن طلبه بواجب. وهو أيضًا كالحكمة، محض التّسمية الّتي لا واقع لها. بل العرفان، ليس إلّا محصول الفلسفة أو هو عينها والفنّ واحد، والإختلاف في الطريق، ودعوى أنّ نتيجتها "علم" ونتيجته "شهود".

بدء حدوث التصوّف في الإسلام
"والتصوّف" أيضًا كالفلسفة حادث في الإسلام بعد مضيّ أعوام، مقارنًا لحدوث الفلسفة أو قريبًا منها. فيردّ عليه ما أوردنا عليها من تقصير النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في العرفان، ولا طريقه الموصل إليه، طريق النبيّ المبعوث بالتوحيد والإيمان.
ومن تكبير الفريقين أكابر فنّهم، قولهم: (الحكيم الإلهي، حكماء الإسلام، عرفاء الإسلام، الحكماء المتألّهون، العرفاء الشّامخون، الأكابر، الأعاظم، المشايخ الكبار، المحقّقون، أهل التحقيق، أهل الله، أهل الولاية، أهل الحقيقة، أهل الكشف، شمس الدّين، بدر الدّين، صدر الدّين) وأمثال ذلك. وهذا النّوع من التكبير والتجليل، لا يختصّ بهؤلاء، بل ذلك دعوى كلّ محقّ ومبطل، وإن كان المبطل يهتمّ بذلك أكثر ليروِّج به باطله.
ثمّ لا يخفى، إنّا إنّما ننكر من هذه التكبيرات ما يريدون بها من التلبيس ويدّعون أنّهم أكابر الدّين، وإلّا فنحن معترفون بأنّهم أكابر الفنّ؛ ولكن ليس كلّ كبير في كلّ فنّ كبيرًا في الدّين. نعم هم كبراء لهم في دينهم وفيما يعتقدون.
الثّالث: تحقير من خالفهم وأنكر عليهم بالتجهيل، كائنًا من كان، وإن كان من أجلّة من يستحقّ التبجيل والتجليل. فيرمون قاطبة الفقهاء وأهل الفضل والتحقيق في الفِرَق والفنون، بأنّهم: جاهلون، قاصرون عن درك الدقائق أو الوصول إلى صقع الحقائق، بل قاصرون عن فهم كلامنا؛ فكيف عن تحمّل مقامنا؟! وهم يعمّون بهذا الطعن كلّ من خالفهم من غير استثناء ولا استحياء، حتّى من كان منهم، فاستبصر، فضلًا عمّن كان بصيرًا منهم أو أبصر. وهذا من خواصّ هذين الفريقين، إذ ليس لهم عن الحقّ جواب، فيعارضون الخصوم، بالسِّباب، وهذه الرذيلة ممّن يدّعي الحكمة والعرفان عجاب!
وأمّا سائر الفِرَق، فإنّهم وإن كانوا على غير الحقّ، إنّما يقابلون خصمهم بالجواب، وإن كان غير صواب. ولكن الحكيم والعارف، أعرف بالسياسة، في دفع الخصوم والتدبير في افتتان النّاس بما يدّعونه من العلوم، فإنّه لا يُؤثر شيء في التفتين ووهن الخصم، مثل ما يؤثّر رميه بالجهل وقصور الفهم، وإنّه ليس بأهل، أو ليس له من هذا السهم.
الرّابع: إنّ الحكيم يقول: "إنّ معرفة الأصول من شأن العقل ومقام العقول". والعارف يقول: "إنّه مقام الشّهود ومن شأن القلب المزكّى عن التعيّنات والحدود". فالمعرفة إذن، أمر لا يتقوّم بالتّقليد، بل لا بدّ فيها إمّا من التّحقيق و التجريد، وبناؤها على الأحاديث ليس إلّا تقليدًا، إذ ليست إلّا تعبّدًا وتقييدًا.
وبهذا التمهيد، يجلبون النّاس إلى قبول ما يلفقون ويصدّونهم عن السّبيل ويحسبون أنّهم مهتدون. وهذا من أتمّ مصائدهم وشبكاتهم لإصطياد النّاس إلى أوهامهم وشبهاتهم. ولكن هذه الشبكة أوهن من بيت العنكبوت، لا يصطاد بها إلّا ضعفا صغار الحوت. وأمّا المطّلع بأصول المذاهب واخباره، فهو يعلم أنّ هذا القول مكيدة من ختّاره.
والجواب عنها، مضافًا إلى ما تقرأ في هذا الكتاب (من انهدام بنيان هذين الفنين بأساسهما، وأنّه لا أصل لهما إلّا كسراب وأنّ أساسهما مبنيّ على الفرض والخيال) إنّ العرفان على فرض صحّته بزعمهم، ليس له أساس غير أساس الفلسفة؛ بل هما شيء واحد.
والفرق، إنّ الفلسفة مقام التصوّر، والعرفان بزعم أهله مقام الإيقان والشهود. ومعلوم أنّ مقام التصوّر قبل مقام المعاينة، ومقام الإثبات ثبوتًا قبل مقام الإثبات شهودًا. فلا يمكن طلب الشّهود من دون تصوّر المقصود، ولا السّعي في طلب شيء قبل استحضاره في التصوّر.
فإذن، التّحقيق المُخرج عن التقليد بزعم الفريقين في البداية، منحصر بالعقل؛ إلّا أنّ العارف يدّعي بعد ذلك في النّهاية، الخروج عن العقل والنقل، فيرى الحكيم متوقّفًا في العقل ومقلّدًا للعقل والبرهان، ويرى نفسه خارجًا عن كلّ تقليد بالعيان. وعليه، فليس لنا من العارف جواب آخر في مقام الإثبات. والّذي يدّعيه بعد الإثبات، لا ينظر إليه إلّا بعد الفراغ عنه، و"دون إثباته خرط القتاد".
فاعلم في الجواب، أنّ كذب هذه المكيدة والتلبيس، من أبين المبان لمن طالع "أخبار اهل البيت (عليهم السّلام) في التّوحيد والعرفان". فمن يطالعها، يظهر له أنّ هذه النّسبة كذب وبهتان؛ فإنّهم (عليهم السّلام) لم يتكلّموا في ذلك إلّا بالعقل والبرهان.
ولعمري! إنّ هذ من سوء الظنّ بمن اصطفاه الله على أهل العقول، ليكونوا هداة لهم إلى السُّبل، "لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ".[النساء: 4/ 165]؛ كيلا يعملوا بالقياس، فيضلّوا بغير علم ويُضلّوا النّاس. فإذا هم على خلاف ذلك، يدعون العقول إلى التعبّد بالقبول من غير حجّة، ويطلبون منهم التّسليم والإقتداء من غير تبيين محجّة. كلّا! ما هكذا الظنّ به ولا بهم. ولكن المخالفين لهم والصادّين عنهم سوّلت لهم أنفسهم، فصنعوا مثل هذه المكيدة، ليستدرجوا النّاس إلى فساد العقيدة. إذ ليست عامّة النّاس ولا خاصّتهم في إبتداء أمرهم، مطّلعة على أحاديث آل الرّسول (عليهم السّلام) في المعارف والأصول؛ فيقبلون منهم تقليدًا من غير تحقيق، أنّ الرّجوع إلى الحديث في التّوحيد يكون من التقليد.
أوَ ليس يُسئل عنهم كيف صار قبول قول أرسطو وأفلاطون والفارابي والغزالي وجنيد وبايزيد وغيرهم، من التحقيق دون التّقليد، وقبول قول الرّسول وآل الرّسول (سلام الله عليهم أجمعين) من التّقليد في الأصول؟! "تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى" فهل لهم في ذلك جواب غير أن يقولوا: إنّ قبول قول هؤلاء، ليس من باب الإتّكاء على المنقول، ولا الإعتماد على القائل في القبول؛ بل من باب أنّهم تكلّموا بالعقول، فالإعتماد إذن على العقول، لا على شخص القائل ولا المعقول؟
فنحن أيضًا نقول بمثل ذلك: إنّا لا نعتمد على الأحاديث في الأُصول، بما أنّها من آل الرّسول (عليهم السّلام) كاعتمادنا عليها في الفروع، بل بما أنّها مبنيّة على العقول.
وذلك، لأنّ الفروع ممّا لا تصل إلى وجهها وحِكَمها إلى العقول بالإستقلال، "إنّ دين الله عزّ وجلّ لا يُصاب بالعقول".[كمال الدّين: 1/ 303، ح9، باب31]، وليس على الله بيان الوجه والإستدلال، بل على النّاس القبول بعد الإيمان ومعرفة الرّسول (صلّى الله عليه وآله)، فلا مجال فيها إلّا التعبّد والتّسليم.
وأمّا الأصول، فتصديق إجمالها مقصول على العقول، ولا يمكن جبر العقل بالقبول قبل وضوحه لديه وثبوته عليه؛ وإدراك تفصيلها عندنا، موقوف على إرشاد الرّسول وآل الرّسول (عليهم السّلام) بحجّة واضحة، يستنكف العقل عن النكول. وليس للعقل الإستقلال بنفسه في مقام التّفصيل، لعدم إحاطته التّامّة، ولو تكلّف بالدّليل. فلو تكلّف فيما ليس من حدّه، لم يكن جهده إلّا في تضليل. ولذلك ترى الفلاسفة يناقض بعضهم بعضًا في هذه الباب وغيره؛ وكلّ يدّعي العقل والبرهان، وهذا شاهد جليّ على خطأ العقل والفكر في إدراك الأشياء تفصيلًا بحقائقها، لو لا إرشاد بارئها إيّاه. "سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا".[البقرة:32].

والحاصل:
إنّا نتّبع في التّوحيد والعرفان، حكومة العقل والبرهان، إلّا أنّ في تقريرهما اتّبعنا أهل بيت الوحيّ (عليهم السّلام) المعصومين عن الخطأ؛ دون كبراء النّاس المستبدّين بالآراء لا لمحض أنّهم أهل الوحيّ والعصمة فهم مأمونون عن الخطأ، بل لأنّ تقريرهم (عليهم السّلام) تقرير امعانيّ، وجدانيّ، ظاهر، باهر، كظهور الشّمس على الأبصار، ليس ممّا يُرتاب ولا يُحتمل غير الصّواب؛ فتقْبَلُهُ العقول حيث لا تجد مساغًا للنّكول.
"فَأَنَّى تُؤْفَكُون".[غافر:62]، "فَأَنَّى تُصْرَفُون".[يونس:32]، "فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُون".[الزُّخرُف:83]، "فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُون".[الطور:45].
وإنّي لم أرد بتصنيف هذا الكتاب إلّا نشر معارف الأئمّة (عليهم السّلام) وظهور حقّانيتها على أولي الألباب. "إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب".[هود:88]. "فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ".[الكهف:29]، "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا".[الإنسان:3]. ومن شاء فليمدح ومن شاء فليقدح، "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ".[البقرة:256]، "فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً".[المزَّمل:19].
عليك بالتأمّل في هذه المقدمة؛ فإنّها تهدي إلى وجه الإعراض عن معارف الأئمّة (عليهم السّلام)، ووجه اختلاط غيرها بها وانتشار غيرها بين الشّيعة دونها لتظفر بذلك على حقيقة خفيّة مذهلة"(5).اهـ.


ـــــــ

(1) مقدّمة محقّق كتاب: "هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة".
(2) زكريا داوود، قضايا إسلاميّة وفكريّة: مجلّة البصائر، www.albasaer.org/index.php/post/253 (http://www.albasaer.org/index.php/post/253).
(3) مقدّمة محقّق كتاب: "هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة".
(4) مؤسّسة آل البيت (قم-إيران)، مجلّة تُراثنا، ذو الحجّة 1417هـ، السّنة الحادية عشر، العدد الرّابع، ج48، ص488-489.
(5) جواد بن المحسن بن الحسين الخرّاساني(1397هـ)، هِدَايَةُ الأُمَّة إلى مَعَارِفِ الأئِمَّة، تحقيق جعفر بن جواد بن المحسن بن الحسين الخرّاساني، الطبعة الأولى، قم (إيران)، مؤسّسة البعثة، 1416هـ، ص1-10.





اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم والعن عدوّهم ،،،

ابو محمد الاسدي
31-03-2012, 11:19 PM
بوركت اخي
تقبل مروري