حميد م
28-04-2012, 02:47 PM
أبو ذر الغفاري : جُندب بن جَنادة .
رمز اليقظة في الضمير الانساني المتعب ، كما هو في الضمير الاسلامي .
أتمثله شيخاً حاني الظهر ، ترتسم على وجهه سيماء الأولياء والصالحين ، وفي عينيه ألق ظل مشعاً بالأمل والحياة على هاتيك الفئات المظلومة من الناس .
أتمثله ، وهو ينهب الأرض بقدميه ، في رحلته التأريخية الثأرية ، حاملا على ظهره هموم المظلومين والمعذبين ، وعلى لسانه تتجسد صرختهم .
فهو هكذا أراد ، أراد أن يخرج عن حدود الزمان والمكان ، ويرقى قمة الحرية . . حرية الكلمة ، وحرية التعبير ، فكان منبر الاسلام في فترة من فترات الحكم . لقد بايع أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، على أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وعلى أن يقول الحق ، ولو كان مُرَّا .
فالتزم ببيعته . فكان جريئاً في جنب الله آخر عمره ، كما كان في أول أمره .
ولعل أجرأ نداء صريح في مسمع حاكم ظالم ، كان نداء أبي ذر ( رض ) على أبواب الخضراء . . « أتتكم القطار بحمل النار ! اللهم إلعن الآمرين بالمعروف التاركين له . اللهم العن الناهين عن المنكر ، المرتكبين له » .
هذا هو أبو ذر ، صاحب الكلمة الجريئة ، التي لا تعرف المداهنة ، ولا الرياء ولا الوجل .
خاطب معاوية ذات مرة ، مجيباً إياه : « ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليك مرات أن لا تشبع .
فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
فقال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ! أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعته يقول ، وقد مررتَ به : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه إلا بالتراب . . » .
وخُيِّل لجلاديه الحاكمين ، أن غضبه إنما كان لنفسه . وأنه ربما كان عن فاقة ألمِّت به ، أو مطمع يدفعه الى ذلك . فساوموه رجاء أن يسكت أو يكف ، لكنهم وجدوا خلاف ما كانوا يتوقعون .
بعث اليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، قبلتها . وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها »
وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة : « لك عندي يا أبا ذر ، ألف درهم ، وخادم ، وخمسمائة شاة .
قال أبو ذر : إعطِ خادمك ، وألفَكَ ، وشويهاتِكَ ، من هو أحوج الى ذلك مني ! فاني إنما أسأل حقي في كتاب الله . . ! » .
بهذه الصراحة ، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه ، إنه لم يكن ليثأر ، ويغضب لنفسه ، بل للحق الذي طالب بتثبيته ، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين الى المطالبة بحقوقهم ، وعرض ظلاماتهم . فكان في تصرفاته تلك رائدا من رواد الحق ، يجازف بنفسه من أجل الآخرين .
وما أغناه عن أن يقاسي ما قاسى ، لو أراد .
لقد كان بوسعه أن يعيش حياة الرفاهية والترف ، شأن بعض الصحابة ممن هم دونه في الفضل بمراتب . لو أراد .
ولكن في هذه النقطة تكمن احدى الفوارق ما بين الانسان الرسالي ، والانسان العادي .
بين الانسان الذي يحمل هموم ومستقبل أمة بأسرها ، وبين انسان ينشغل بنفسه ولهوه ، متخماً يتجشأ على موائد الترف !
نعم . كان أبو ذر انساناً رسالياً ، ولم يكن انساناً عادياً . وكان في بعض مواقفه يمثل مواقف أمير المؤمنين علي عليه السلام . ولا غرو ولا عجب ، فهو تلميذ الإمام وواحد من أكثر الناس إخلاصاً له .
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
« ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريق الى مُصفى هذا العسلِ ، ولُبابِ هذا القمح ، ونَسائجِ هذا القزِّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جَشعي الى تخيُّرِ الأطعمة ، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة ، من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أوَ أبيت مبطاناً ، وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرَّى ، أوَ أكونُ كما قال القائل :
وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحِنُّ الى القِدِّ
لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يقول هذا ، ومقدرات الأمة تحت قبضة يده ، بل المعروف أن صدقاته الخاصة وحدها كانت تساوي آلاف الدنانير ذهباً .
نعم . كان يقول هذا ـ ويعمل بما يقول مع نفسه ـ ليلفت أنظار المسلمين الى ضرورة تفقد الضعفاء ، والمقهورين ، والمدفوعين عن حقوقهم ، ويلفت انظار الولاة الى الرفق بالرعية وتفقد أحوالهم .
وكان أبو ذر ـ تلميذ الإمام ـ ممن سار على هذا الهدي ، فقد كان عطاؤه السنوي اربعماية ديناراً ذهباً . ومع هذا فانه كان لا يدخر منها
شيئاً . وكان يندد بالكانزين للذهب والفضة الذين لا يخرجون الزكاة الواجبة منها ، أو الذين أخذوها من طرق غير مشروعة أيام عثمان . وكان يطلب حقه ( في كتاب الله ) كما تقدم . ويرفض الألف درهم ، والعبد والخمسماية شاة .
أجل . انه لم يكن ليفعل هذا عن فاقة ، أو مطمع ، بل كان يريد إلفات المسؤولين ـ في حينه ـ الى انصاف المظلومين ، وايصال كل ذي حق الى حقه .
وأعيت الحيلة غرماءه الحاكمين في إسكاته ، فعمدوا الى طريقة ثانية قرروا فيها إسكاته ، وكانت طريقة ناجحة ـ في نظرهم ـ فنفوه الى الربذة .
حمل من الشام الى المدينة على مركب وعر ، حتى تسلخ فخذاه ، ثم بعد ذلك ، نفي الى الربذة * بعيداً عن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومواطن الايمان ، حتى توفي غريباً هناك !
رحم الله أبا ذر ، لقد كان ينسى كل جراحه وآلامه في رحلته الثأرية تلك ، ليكتب على رمال الصحراء ملحمته الخالدة .
ملحمته التي ستبقى مع الشمس تشرق ، ولكنها لا تغيب !!
وللكلام تتمه انشاء الله
رمز اليقظة في الضمير الانساني المتعب ، كما هو في الضمير الاسلامي .
أتمثله شيخاً حاني الظهر ، ترتسم على وجهه سيماء الأولياء والصالحين ، وفي عينيه ألق ظل مشعاً بالأمل والحياة على هاتيك الفئات المظلومة من الناس .
أتمثله ، وهو ينهب الأرض بقدميه ، في رحلته التأريخية الثأرية ، حاملا على ظهره هموم المظلومين والمعذبين ، وعلى لسانه تتجسد صرختهم .
فهو هكذا أراد ، أراد أن يخرج عن حدود الزمان والمكان ، ويرقى قمة الحرية . . حرية الكلمة ، وحرية التعبير ، فكان منبر الاسلام في فترة من فترات الحكم . لقد بايع أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، على أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، وعلى أن يقول الحق ، ولو كان مُرَّا .
فالتزم ببيعته . فكان جريئاً في جنب الله آخر عمره ، كما كان في أول أمره .
ولعل أجرأ نداء صريح في مسمع حاكم ظالم ، كان نداء أبي ذر ( رض ) على أبواب الخضراء . . « أتتكم القطار بحمل النار ! اللهم إلعن الآمرين بالمعروف التاركين له . اللهم العن الناهين عن المنكر ، المرتكبين له » .
هذا هو أبو ذر ، صاحب الكلمة الجريئة ، التي لا تعرف المداهنة ، ولا الرياء ولا الوجل .
خاطب معاوية ذات مرة ، مجيباً إياه : « ما أنا بعدو لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله ، أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر ، ولقد لعنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا عليك مرات أن لا تشبع .
فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
فقال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ! أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمعته يقول ، وقد مررتَ به : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه إلا بالتراب . . » .
وخُيِّل لجلاديه الحاكمين ، أن غضبه إنما كان لنفسه . وأنه ربما كان عن فاقة ألمِّت به ، أو مطمع يدفعه الى ذلك . فساوموه رجاء أن يسكت أو يكف ، لكنهم وجدوا خلاف ما كانوا يتوقعون .
بعث اليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، قبلتها . وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها »
وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة : « لك عندي يا أبا ذر ، ألف درهم ، وخادم ، وخمسمائة شاة .
قال أبو ذر : إعطِ خادمك ، وألفَكَ ، وشويهاتِكَ ، من هو أحوج الى ذلك مني ! فاني إنما أسأل حقي في كتاب الله . . ! » .
بهذه الصراحة ، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه ، إنه لم يكن ليثأر ، ويغضب لنفسه ، بل للحق الذي طالب بتثبيته ، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين الى المطالبة بحقوقهم ، وعرض ظلاماتهم . فكان في تصرفاته تلك رائدا من رواد الحق ، يجازف بنفسه من أجل الآخرين .
وما أغناه عن أن يقاسي ما قاسى ، لو أراد .
لقد كان بوسعه أن يعيش حياة الرفاهية والترف ، شأن بعض الصحابة ممن هم دونه في الفضل بمراتب . لو أراد .
ولكن في هذه النقطة تكمن احدى الفوارق ما بين الانسان الرسالي ، والانسان العادي .
بين الانسان الذي يحمل هموم ومستقبل أمة بأسرها ، وبين انسان ينشغل بنفسه ولهوه ، متخماً يتجشأ على موائد الترف !
نعم . كان أبو ذر انساناً رسالياً ، ولم يكن انساناً عادياً . وكان في بعض مواقفه يمثل مواقف أمير المؤمنين علي عليه السلام . ولا غرو ولا عجب ، فهو تلميذ الإمام وواحد من أكثر الناس إخلاصاً له .
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
« ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريق الى مُصفى هذا العسلِ ، ولُبابِ هذا القمح ، ونَسائجِ هذا القزِّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جَشعي الى تخيُّرِ الأطعمة ، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة ، من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أوَ أبيت مبطاناً ، وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرَّى ، أوَ أكونُ كما قال القائل :
وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحِنُّ الى القِدِّ
لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يقول هذا ، ومقدرات الأمة تحت قبضة يده ، بل المعروف أن صدقاته الخاصة وحدها كانت تساوي آلاف الدنانير ذهباً .
نعم . كان يقول هذا ـ ويعمل بما يقول مع نفسه ـ ليلفت أنظار المسلمين الى ضرورة تفقد الضعفاء ، والمقهورين ، والمدفوعين عن حقوقهم ، ويلفت انظار الولاة الى الرفق بالرعية وتفقد أحوالهم .
وكان أبو ذر ـ تلميذ الإمام ـ ممن سار على هذا الهدي ، فقد كان عطاؤه السنوي اربعماية ديناراً ذهباً . ومع هذا فانه كان لا يدخر منها
شيئاً . وكان يندد بالكانزين للذهب والفضة الذين لا يخرجون الزكاة الواجبة منها ، أو الذين أخذوها من طرق غير مشروعة أيام عثمان . وكان يطلب حقه ( في كتاب الله ) كما تقدم . ويرفض الألف درهم ، والعبد والخمسماية شاة .
أجل . انه لم يكن ليفعل هذا عن فاقة ، أو مطمع ، بل كان يريد إلفات المسؤولين ـ في حينه ـ الى انصاف المظلومين ، وايصال كل ذي حق الى حقه .
وأعيت الحيلة غرماءه الحاكمين في إسكاته ، فعمدوا الى طريقة ثانية قرروا فيها إسكاته ، وكانت طريقة ناجحة ـ في نظرهم ـ فنفوه الى الربذة .
حمل من الشام الى المدينة على مركب وعر ، حتى تسلخ فخذاه ، ثم بعد ذلك ، نفي الى الربذة * بعيداً عن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومواطن الايمان ، حتى توفي غريباً هناك !
رحم الله أبا ذر ، لقد كان ينسى كل جراحه وآلامه في رحلته الثأرية تلك ، ليكتب على رمال الصحراء ملحمته الخالدة .
ملحمته التي ستبقى مع الشمس تشرق ، ولكنها لا تغيب !!
وللكلام تتمه انشاء الله