مصـshiaaـر
01-05-2012, 09:07 PM
كلام عن اصابة العين
الكاتب : آية الله الشيخ محمد هادي معرفة ( رحمه الله )
ردَّ علمي على شبهة مطروحة حول القرآن الكريم ، حيث زعم طارحها أن القرآن قد تأثر بالبيئة العربية الجاهلية لإعترافه بإصابة العين .
قالوا : و ممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربية الجاهلية اعترافه بإصابة العين في مواضع :
الأوّل : قوله تعالى ـ حكاية عن يعقوب ( عليه السَّلام ) ـ : ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [1] . قيل : خاف عليهم إصابة العين لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ و هيبةٍ و كمالٍ و هم إخوة أولاد رجلٍ واحد [2] .
الثاني : قوله تعالى : ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [3] . قيل : يزلقونك بمعنى يصيبونك بأعينهم . قال الطبرسي : و المفسّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية [4] .
الثالث : قوله تعالى : ﴿ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [5] . قيل : أي من شرّ عينه [6] . و عن ابن أبي عمير رفعه قال : أما رأيته إذا فتح عينيه و هو ينظر إليك هو ذاك [7] .
و الكلام هنا من جهتين :
الأولى : هل القرآن تعرّض لتأثير العين ، سواء كان حقّاً أم باطلاً ؟
الثاني : هل للعين تأثير سوءٍ ذاتياً مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن ؟
أمّا الجهة الأولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يدلّ على ذلك :
أمّا قولة يعقوب لبنيه : ﴿ ... لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ... ﴾ [8] فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الاُولى التي رجعوا منها خائبين . فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الاُولى بل وفي كلّ سفرةٍ وحلًّ وارتحال ، فيمنعهم أن يترافقوا في الأسفار على الإطلاق ، و لا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف .
قيل : إنّما قال لهم ذلك ـ في هذه المرّة ـ ليستخبر من حالة العزيز حين يدخل عليه كلّ أخٍ له ، فيستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدخول عليه حالته الخاصّة وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقة من اُمّه بنيامين [9] . و لعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم ، أنّه هو يوسف . فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف نفسه . الأمر الذي لا يُعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً . و من ثمّ لمّا دخل عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه . الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده . فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه .
و هذا يدلّ على فراسة يعقوب القوية ، حيث يقول عنه تعالى : ﴿ ... وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ... ﴾ [10] أي ذو فراسةٍ قوية .
قال إبراهيم النخعي ـ و هو تابعيّ كبير ـ : إنّ يعقوب ( عليه السَّلام ) كان يعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلاّ أنّ الله لم يأذن له في التصريح بذلك فلمّا بعث أبناءه إليه أوصاهم بالتفرقة عند الدخول وكان غرضه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته [11] .
و قوله تعالى : ﴿ ... مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ... ﴾ [12] إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه ، و لكن كانت تلك بغية أملٍ في نفس يعقوب ، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله .
و مما يبعّد إرادة إصابة العين ـ إضافة على ماذكرنا ـ أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة ، بل يكفي الدخول متعاقبين و في فترات . ثمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رفقة القافلة الحشدة بالأحمال و الأثقال ، فكيف يعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة من أبٍ واحد ؟
و كذا قوله تعالى : ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ... ﴾ [13] .
الزلَق : الزلّة . و أزلقه : أزلّه و نحّاه عن مكانه . و المزلق : المكان الذي ينزلق عليه و لا يمكن الثبات عليه .
و الإزلاق بالأبصار ، تحديق النظر إليه نظر ساخط بحيث يكون مُرعبا يوجب الوحشة و التراجع عمّا هو فيه خوفاً من إيقاع الأذى به .
و " إنْ " مخفّفة من المثقلة . أي كاد أن يزلّونك عن موضعك بشدّة السخط و الإرعاب و الإرهاب ، البادي هذلك من تحديق نظرهم المغضب إليك .
أي إنّهم لشدّة عدواتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظراً شزْراً [14] . حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله و تنبذ أصنامهم . [15]
و هذا نظير قوله تعالى : ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ... ﴾ [16] .
يقال : فزّه و استفزّه أي أزعجه .
فهذه النظرات الشزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصلب فتجعله يزلّ و يزلق و يفقد توازنه و ثباته على الأمر . و هو تعبير فائق عمّا تحمله هذه النظرات العدائية من غيظٍ وحنقٍ و شرًّ و نقمةٍ و ضغن ، و حمى و سمّ ﴿ ... لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ... ﴾ [17] . مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح و الشتم البذيء و الافتراء الذميم ﴿ ... وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [18] [19] .
و يدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين إنما تكون عند الإعجاب بشيء لا عن التنفّر و الانزجار . و الآية تصرّح بأنّهم كادوا يزلقونه لمّا سمعوا الذكر ، ماقتين عليه نافرين منه . فجعلوا يسلقونه بالسباب و الشتم و يرمونه بالجنون . فكيف و الحال هذه يحسدونه فيصيبونه بأعينهم ؟! الأمر الذي لا يلتئم و سياق الآية الكريمة .
قال الزجّاج : معنى الآية ، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عدواةٍ و بغضٍ وإنكارٍ لما يسمعونه و تعجّبٍ منه ، فيكادون يصرعونك بحدّة نظرهم و يزيلونك عن موضعك . وهذا مستعمل في الكلام ، يقولون : نظر إليَّ فلان نظراًَ يكاد يصرعني ونظراً يأكلني فيه . و تأويله كلّه أنّه نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل [20] .
و هكذا قال الجبائي : إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) نظر استحسان و إعجاب بل نظر مقتٍ و نقص [21] .
و هكذا قوله : ﴿ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [22] ـ في سورة الفلق ـ أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضرر بالمحسود . أي استعذ بالله من شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده ، بالسعي و الجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده ، فهو يعمل الحيل و ينصب شبائكه لإيقاع المحسود في الضرر و الخسران ، و ربّما بأدقّ الوسائل و الذرائع ، و ليس في الاستطاعة الوقوف على ما يدبّره من مكائد إلاّ أن يُستعان عليه بربّ الفَلَق أي مسبّب الفرج و الخلاص من كيد الكائدين ، و الإحباط من مساعيهم الخبيثة [23] .
نظرة فاحصة عن إصابة العين
أمّا الجهة الاُخرى ـ و هو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها في النفوس و الأموال ـ فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائية و ربما في أوساط متحضّرة أيضاً ، و في ذلك نوع من الاعتراف بحقيقة إجمالياً . و ربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعية ترجع إلى نفس العاين . قالوا : هي تشعشعات تموّجيه تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ و الأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث ، و ربما من غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس . و هي خاصّية غريبة قد توجه شديدة في البعض و خفيفة في الآخرين .
و هذه التشعشعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائية تؤثّر في المتكهرب بها تأثيراً بالفعل ، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً ، و إن كان لم يعلم كنهها و لا عُرفت حدودها و مشخّصاتها و لا إمكان مقابلتها مقابلة علمية فيما سوى الدعاء و الصدقة والتوكّل على الله تعالى .
قال الشيخ ابن سينا : إنّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه [24] .
و قال أبو عثمان الجاحظ : لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة متّصلة به و تؤثّر فيه ، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين كالخواصّ للأشياء [25] .
قال ـ في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره و الحِرص و نفوسهم ـ : كان علماء الفرس و الهند و أطبّاء اليونان و دُهاة العرب و أهل التجربة من نازلة الأمصار و حُذّاق المتكلّمين يكرهون الأكل بين يدي السباع ، يخافون نفوسها و عيونها ، للّذي فيها من الشَرَه و الحِرص و الطَلَب و الكَلَب ، لما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء ، و ينفصل من عيونها من الاُمور المفسدة ، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته . و لذلك كانوا يكرهون قيام الخَدَم بالمذابّ ( مطردة الذباب ) و الأشربة على رؤوسهم و هم يأكلون ، مخافة النفس و العين . و كانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، و كانوا يقولون في السنّور و الكلب إما أن تطرده قبل أن تأكل و إمّا أن تُشغله بشيء يأكله و لو بعظم يطرح له .
قال : و رأيت بعض الحكماء و قد سقط من يده لقمة ، فرفع رأسه فإذا عين غلام تحدَّق نحو لقمته ، و هو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة ، و كان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام ، و يضيّق على غلمانه .
و قالت الحكماء : إنّ نفوس السباع و أعينها في هذا الباب أردأ و أخبث لفرط شرهها و شرّها . قال الجاحظ : بين هذا المعنى و بين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شركةً و قرابة . ذلك أنّهم قالوا : قد رأينا أناساً يُنسب إليهم ذلك ، و رأيناهم و فيهم من إصابة العين مقدار من العدد ، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الإتفاق . و ليس إلى ردّ الخبر " العين حقّ " سبيل ، لتواتره و ترادفه . و لأنّ العَيان قد حقّقه و التجربة قد ضُمَّت إليه .
قالوا : و لولا فاصل ينفصل من عين الرائي المُعجَب إلى الشيء المعجَب به ـ حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه ـ لما جاز أن يلقى المصاب بالعين مكروهاً من قبل العاين ، من غير تماسّ و لا تصادم و لا رابط يربط أحدهما بالآخر .
قال الأصمعي : رأيتُ رجلاً عيوناً ( الشديد الإصابة بالعين ) كان يذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وَجَدَ حرارةًَ تخرج من عينه [26] .
و أضاف الجاحظ ـ ردّاً على مَن زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد ـ : أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافٌ بسنّة الله الجارية في الخلق و التدبير ، و ليس أمراً خارجاً عن طوع إرادته تعالى . قال : و مَن زعم أنّ التوحيد لا يصحّ إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حملَ عجزَه على الكلام في التوحيد . و إنّما يأنس منك الملحد إذا لم يدعك التوفُّرُ على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع ، لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها . و إذا كانت الأعيان هي الدالّة على الله فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه [27] .
و للسيّد الشريف الرضي ( قُدِّسَ سِرُّه ) كلامٌ لطيفٌ عند شرحه لقول النبي ( صلى الله عليه و آله ) : " العين حقّ تستنزل الحالق " [28] . قال : و هذا مجاز ، و المراد أن الإصابة بالعين من قوّة تأثيرها و تحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه ، و تَسْتَقْلِقُ ( أي تُزحزح ) الثابت بعد استقراره . و الحالق ، المكان المرتفع من الجبل و غيره . فجعل عليه الصلاة و السلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل من شدّة بطشها وحِدَّة أخذها . و قد تناصرت ( تضافرت ) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ [29] . و الذي يقوله أصحابنا : إنّ الله سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها و الأقدار التي يقدّرها . و إذا تقرّرت هذه القاعدة ، فغير ممتنع أن يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحة لعمرو ، و اذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو لم يسلب زيدا نعمته و يخفض منزلته أقبل على الدنيا بوجهه و نأى عن الآخرة بعطفه و أقدم على المغاوي و ارتكس في المهاوي ، و إذا سلب سبحانه نعمة زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً . و إذا كان ذلك كما قلنا ـ و قد روى عنه ( صلى الله عليه و آله ) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره و صغّر أمره ـ [30] لم ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه و استحسانه له و عِظَمِه في صدره و فخامته في عينه . كما روي أنّه ( صلى الله عليه و آله ) قال : لمّا سُبِقَتْ ناقَته العَضْباء [31] . و كانت إذا سوبق بها لم تُسْبَق ـ : " ما رفع العباد من شيء إلاّ وضع الله منه " [32] . فيمكن أن يتأوّل قوله عليه الصلاة و السلام : " العينُ حقّ " على هذا الوجه . و يجوز أن يكون ما أمَرَ بِهِ المُستَحسِنَ للشيء عند رؤيته له من إعاذته بالله و الصلاة على رسول الله [33] . بقائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المُستَحسَنِ ، فلا تُغَيَّر عند ذلك ، لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى الله سبحانه و الإخبات له ، و أعاذ ذلك المرئي به ، فكأنّه غيرُ راكنٍ إلى الدنيا و لا مغترٌّ بها واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها .
قال : و لعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به ، و ذلك أنّه يقول : إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستُحسَن أجزاءٌ لطيفة فتؤثر فيه و تجني عليه . و يكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأعين كالخواصّ في الأشياء . قال : و على هذا القول اعتراضات طويلة و فيه مطاعن كثيرة . . .[34] .
و هذا الكلام نقلناه بطوله لما فيه من فوائد جمّة و تنبيهٌ على أنّ من حكمته تعالى القيام بمصالح العباد ، فربما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغو العاين فيخرج عن حدّه ، ثمّ إنّه تعالى يعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به . و قد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لما فرط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين . لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة الله الحكيمة .
و هكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وفق ما أودع الله من خصائص في طبيعة الأشياء .
قال سيّد قطب : و الحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمنّي زوالها . و سواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد و الغيظ ، أو وقف عند حدّ الانفعال النفسي ، فإنّ شرّاً يمكن أن يعقّب هذا الانفعال .
قال : و نحن مضطرّون أن نطامن من حدّة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود و أسرار النفس البشرية و أسرار هذا الجهاز الإنساني . فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، و لا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً . هنالك مثلاً التخاطر على البُعد ، و كذلك التنويم المغناطيس . و قد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة ، و هو مجهول السرّ و الكيفيّة . و غير التخاطر و التنويم كثير من أسرار الوجود و أسرار النفس و أسرار هذا الجهاز الإنساني .
فإذا حسد الحاسد و وجّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم و أدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر و كيفيّته , فنحن لا ندري إلاّ القليل في هذا الميدان ، و هذا القليلُ يُكشَفُ لنا عنه مصادفةً في الغالب ، ثمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك . فهنا شرٌّ يُستعاذ منه بالله [35] [36] .
[1] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 243 .
[2] مجمع البيان : 5 / 249 .
[3] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 و 52 ، الصفحة : 566 .
[4] مجمع البيان : 10 / 341 .
[5] القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 604 .
[6] مجمع البيان : 10 / 569 .
[7] معاني الأخبار للصدوق : 216 طبعة النجف .
[8] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 243 .
[9] راجع : تفسير المراغي : 13 / 16 .
[10] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 68 ، الصفحة : 243 .
[11] راجع : التفسير الكبير : 18 / 174 ؛ و الدر المنثور : 4 / 557 .
[12] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 68 ، الصفحة : 243 .
[13] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 566 .
[14] يقال : شزر إليه أي نظر إليه بجانب عينه مع إعراض أو غضب .
[15] راجع : تفسير المراغي : 29 / 47 .
[16] القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 76 ، الصفحة : 290 .
[17] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 566 .
[18] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 566 .
[19] في ظلال القرآن ، مجلد 8 ، صفحة 243 ؛ 29 / 67 .
[20] مجمع البيان : 10 / 341 .
[21] بحار الانوار : 60 / 39 .
[22] القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 604 .
[23] راجع : تفسير المراغي : 30 / 268 ـ 269 ، و تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده ، جزء عم / 183 ـ 184 .
[24] في النمط الاخير من كتاب الاشارات ( هامش مجمع البيان : 5 / 249 ) .
[25] مجمع البيان : 5 / 249 ، تفسير سورة يوسف . و لعله اخذه من الشريف الرضي في كتابه المجازات النبوية : 369 ، بتغيير يسير سوف ننقله .
[26] الحيوان للجاحظ : 2 / 264 ـ 269 ، تحقيق يحيى الشامي ، مع بعض التعديل حسب نقل ابن ابي حديد في شرح النهج : 19 / 376 ـ 377 .
[27] المصدر : 266 .
[28] حديث متواتر رواه الفريقان بعدة اسانيد و في مختلف الالفاظ و العبارات . راجع : مسند احمد : 1 / 274 , و سائر المسانيد الست ؛ و بحار الانوار : 60 / 25 ـ 26 ، و سائر الكتب الحديثية المعتبرة .
[29] و قد عقد العلامة المجلسي في بحاره بابا في ذلك ، راجع المجلد 60 ، كتاب السماء و العالم .
[30] إشارة إلى ما رواه احمد في مسنده الآتي و في النهج " ما قال الناس لشيء طوبى له الا و قد خبأ الدهر له يوم سوء " . قصار الحكم ، رقم 286 ، صفحة 526 . و في نوادر الرواندي : 128 : " ما رفع الناس أبصارهم إلى شيء إلا وضعه الله " . و راجع : بحار الأنوار : 60/ 27 .
[31] العضباء : الناقة المشقوقة الاذن . و كان هذا الاسم لقبا لناقة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و لم تكن مشقوقة الاذن . قال الزمخشري : ناقة عضباء ، قصير اليد .
[32] روى أحمد في مسنده : 3 / 103 ـ 253 و غيره أنّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) كانت له ناقة تسمّى العضباء ، و كانت لا تُسبَق في مسابقةٍ ، حتّى جاء أعرابيّ على قعودٍ ( ما اُعدّ للحمل و الركوب من الدوابّ و من الإبل ما تجاوز السنتين و لم يبلغ الستّ ) فسبقها ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فلمّا رأى ما في وجوههم قال : إنّ حقّاً على الله أن لا يرفع شيئاً في الدنيا إلاّ وضعه . و الحديث منقول في الكتب بألفاظ مختلفة .
[33] قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : " من أعجبه من أخيه شيءٌ فليذكر الله في ذلك ، فإنّه إذا ذكر الله لم يضرَّه " . و الأحاديث بهذا المعنى كثيرة . راجع : بحار الأنوار : 60/ 25 .
[34] المجازات النبوية للسيّد الشريف الرضي : 367 ـ 369 ، رقم 285 .
[35] في ظلال القرآن ، المجلّد 8 / 710 ـ 711 ، المجلد 30 / 292 ـ 293 .
[36] اخذت هذه المقالة من كتاب : شبهات و ردود حول القرآن الكريم : 231 ـ 237 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الاسلامية الإيرانية .
الكاتب : آية الله الشيخ محمد هادي معرفة ( رحمه الله )
ردَّ علمي على شبهة مطروحة حول القرآن الكريم ، حيث زعم طارحها أن القرآن قد تأثر بالبيئة العربية الجاهلية لإعترافه بإصابة العين .
قالوا : و ممّا نجد القرآن متأثّراً بالبيئة العربية الجاهلية اعترافه بإصابة العين في مواضع :
الأوّل : قوله تعالى ـ حكاية عن يعقوب ( عليه السَّلام ) ـ : ﴿ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [1] . قيل : خاف عليهم إصابة العين لأنّهم كانوا ذوي جمالٍ و هيبةٍ و كمالٍ و هم إخوة أولاد رجلٍ واحد [2] .
الثاني : قوله تعالى : ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [3] . قيل : يزلقونك بمعنى يصيبونك بأعينهم . قال الطبرسي : و المفسّرون كلّهم على أنّه المراد من الآية [4] .
الثالث : قوله تعالى : ﴿ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [5] . قيل : أي من شرّ عينه [6] . و عن ابن أبي عمير رفعه قال : أما رأيته إذا فتح عينيه و هو ينظر إليك هو ذاك [7] .
و الكلام هنا من جهتين :
الأولى : هل القرآن تعرّض لتأثير العين ، سواء كان حقّاً أم باطلاً ؟
الثاني : هل للعين تأثير سوءٍ ذاتياً مع قطع النظر عمّا جاء في القرآن ؟
أمّا الجهة الأولى فليس في ظاهر تعبير القرآن ما يدلّ على ذلك :
أمّا قولة يعقوب لبنيه : ﴿ ... لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ... ﴾ [8] فإنّما كانت في عودتهم إلى مصر بعد سفرتهم الاُولى التي رجعوا منها خائبين . فلو كان يخاف عليهم العين لأمرهم بذلك في المرّة الاُولى بل وفي كلّ سفرةٍ وحلًّ وارتحال ، فيمنعهم أن يترافقوا في الأسفار على الإطلاق ، و لا خصوصية لهذه المرّة من الدخول على يوسف .
قيل : إنّما قال لهم ذلك ـ في هذه المرّة ـ ليستخبر من حالة العزيز حين يدخل عليه كلّ أخٍ له ، فيستعلم من تأثير كلّ واحدٍ عند الدخول عليه حالته الخاصّة وما يظهر على أسارير وجهه وحركات عينيه حين رؤية شقيقة من اُمّه بنيامين [9] . و لعلّ يعقوب استشعر من ردّ العزيز إخوته ليأتوا بأخٍ آخر لهم من أبيهم ، أنّه هو يوسف . فحاول بهذه التجربة معرفة شخصية العزيز ولعلّه يوسف نفسه . الأمر الذي لا يُعلم إذا دخلوا عليه كلّهم جماعةً واحدةً . و من ثمّ لمّا دخل عليه أخوه بنيامين آواه وأفشى نفسه لديه . الأمر الذي يدلّ على دخوله عليه لوحده . فقد تحقّق تدبير يعقوب في تفرّسه .
و هذا يدلّ على فراسة يعقوب القوية ، حيث يقول عنه تعالى : ﴿ ... وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ... ﴾ [10] أي ذو فراسةٍ قوية .
قال إبراهيم النخعي ـ و هو تابعيّ كبير ـ : إنّ يعقوب ( عليه السَّلام ) كان يعلم بفراسته بأنّ العزيز هو ابنه يوسف إلاّ أنّ الله لم يأذن له في التصريح بذلك فلمّا بعث أبناءه إليه أوصاهم بالتفرقة عند الدخول وكان غرضه أن يصل بنيامين وحده إلى يوسف في خلوةٍ من سائر إخوته [11] .
و قوله تعالى : ﴿ ... مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ... ﴾ [12] إنّ هذا التدبير الذي قام به يعقوب لم يكن يغيّر من المصلحة التي رعاها الله بشأنه ، و لكن كانت تلك بغية أملٍ في نفس يعقوب ، قضاها الله رعايةً لجانبه العزيز على الله .
و مما يبعّد إرادة إصابة العين ـ إضافة على ماذكرنا ـ أنّ التحرّز من ذلك لا يتوقّف على الدخول من أبوابٍ متفرّقة ، بل يكفي الدخول متعاقبين و في فترات . ثمّ إنّهم كانوا يدخلون مصر في جمعٍ غفيرٍ من رفقة القافلة الحشدة بالأحمال و الأثقال ، فكيف يعرف الناس أنّ هؤلاء إخوة من أبٍ واحد ؟
و كذا قوله تعالى : ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ ... ﴾ [13] .
الزلَق : الزلّة . و أزلقه : أزلّه و نحّاه عن مكانه . و المزلق : المكان الذي ينزلق عليه و لا يمكن الثبات عليه .
و الإزلاق بالأبصار ، تحديق النظر إليه نظر ساخط بحيث يكون مُرعبا يوجب الوحشة و التراجع عمّا هو فيه خوفاً من إيقاع الأذى به .
و " إنْ " مخفّفة من المثقلة . أي كاد أن يزلّونك عن موضعك بشدّة السخط و الإرعاب و الإرهاب ، البادي هذلك من تحديق نظرهم المغضب إليك .
أي إنّهم لشدّة عدواتهم وبغضائهم ينظرون إليك نظراً شزْراً [14] . حتّى ليكادون يزلّون قدمك بغضاً فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب الله و تنبذ أصنامهم . [15]
و هذا نظير قوله تعالى : ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ... ﴾ [16] .
يقال : فزّه و استفزّه أي أزعجه .
فهذه النظرات الشزرة تكاد تؤثّر في موقف الرسول الصلب فتجعله يزلّ و يزلق و يفقد توازنه و ثباته على الأمر . و هو تعبير فائق عمّا تحمله هذه النظرات العدائية من غيظٍ وحنقٍ و شرًّ و نقمةٍ و ضغن ، و حمى و سمّ ﴿ ... لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ... ﴾ [17] . مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسبّ القبيح و الشتم البذيء و الافتراء الذميم ﴿ ... وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [18] [19] .
و يدلّنا على عدم إرادة إصابة العين في هذه الآية الكريمة بالذات أنّ إصابة العين إنما تكون عند الإعجاب بشيء لا عن التنفّر و الانزجار . و الآية تصرّح بأنّهم كادوا يزلقونه لمّا سمعوا الذكر ، ماقتين عليه نافرين منه . فجعلوا يسلقونه بالسباب و الشتم و يرمونه بالجنون . فكيف و الحال هذه يحسدونه فيصيبونه بأعينهم ؟! الأمر الذي لا يلتئم و سياق الآية الكريمة .
قال الزجّاج : معنى الآية ، أنّهم ينظرون إليك عند تلاوة القرآن والدعاء إلى التوحيد نظر عدواةٍ و بغضٍ وإنكارٍ لما يسمعونه و تعجّبٍ منه ، فيكادون يصرعونك بحدّة نظرهم و يزيلونك عن موضعك . وهذا مستعمل في الكلام ، يقولون : نظر إليَّ فلان نظراًَ يكاد يصرعني ونظراً يأكلني فيه . و تأويله كلّه أنّه نظراً لو أمكنه معه أكلي أو يصرعني لفعل [20] .
و هكذا قال الجبائي : إنّ القوم ما كانوا ينظرون إلى النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) نظر استحسان و إعجاب بل نظر مقتٍ و نقص [21] .
و هكذا قوله : ﴿ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [22] ـ في سورة الفلق ـ أي إذا حاول السعي وراء حسده لغرض إيقاع الأذى والضرر بالمحسود . أي استعذ بالله من شرّ الحاسد إذا حاول إنفاذ حسده ، بالسعي و الجدّ في إزالة نعمة مَن يحسده ، فهو يعمل الحيل و ينصب شبائكه لإيقاع المحسود في الضرر و الخسران ، و ربّما بأدقّ الوسائل و الذرائع ، و ليس في الاستطاعة الوقوف على ما يدبّره من مكائد إلاّ أن يُستعان عليه بربّ الفَلَق أي مسبّب الفرج و الخلاص من كيد الكائدين ، و الإحباط من مساعيهم الخبيثة [23] .
نظرة فاحصة عن إصابة العين
أمّا الجهة الاُخرى ـ و هو البحث عن إصابة العين ومدى تأثيرها في النفوس و الأموال ـ فقد شاع الإشفاق منها في أوساط بدائية و ربما في أوساط متحضّرة أيضاً ، و في ذلك نوع من الاعتراف بحقيقة إجمالياً . و ربّما علّلوه بتعاليل تبدو طبيعية ترجع إلى نفس العاين . قالوا : هي تشعشعات تموّجيه تنبعث من عين الرائي الذي أعجبه شيء على أثر انفعاله النفسي الخاصّ و الأكثر إذا كان عن حسدٍ خبيث ، و ربما من غير شعور بهذا الانفعال النفسي المفاجئ في غالب الناس . و هي خاصّية غريبة قد توجه شديدة في البعض و خفيفة في الآخرين .
و هذه التشعشعات السامّة تشبه التيّارات الكهربائية تؤثّر في المتكهرب بها تأثيراً بالفعل ، الأمر الذي يكون طبيعياً وليس شيئاً خارقاً ، و إن كان لم يعلم كنهها و لا عُرفت حدودها و مشخّصاتها و لا إمكان مقابلتها مقابلة علمية فيما سوى الدعاء و الصدقة والتوكّل على الله تعالى .
قال الشيخ ابن سينا : إنّ لبعض النفوس تأثيراً في الخارج من بدنه بتعلّق روحاني كتعلّقه ببدنه [24] .
و قال أبو عثمان الجاحظ : لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستحسن أجزاء لطيفة متّصلة به و تؤثّر فيه ، فيكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين كالخواصّ للأشياء [25] .
قال ـ في كتاب الحيوان بصدد التحرّز من أعين ذوي الشره و الحِرص و نفوسهم ـ : كان علماء الفرس و الهند و أطبّاء اليونان و دُهاة العرب و أهل التجربة من نازلة الأمصار و حُذّاق المتكلّمين يكرهون الأكل بين يدي السباع ، يخافون نفوسها و عيونها ، للّذي فيها من الشَرَه و الحِرص و الطَلَب و الكَلَب ، لما يتحلّل عند ذلك من أجوافها من البخار الرديء ، و ينفصل من عيونها من الاُمور المفسدة ، ما إذا خالطت طبائع الإنسان نقضته . و لذلك كانوا يكرهون قيام الخَدَم بالمذابّ ( مطردة الذباب ) و الأشربة على رؤوسهم و هم يأكلون ، مخافة النفس و العين . و كانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، و كانوا يقولون في السنّور و الكلب إما أن تطرده قبل أن تأكل و إمّا أن تُشغله بشيء يأكله و لو بعظم يطرح له .
قال : و رأيت بعض الحكماء و قد سقط من يده لقمة ، فرفع رأسه فإذا عين غلام تحدَّق نحو لقمته ، و هو يزدرد ريقه لتحلّب فمه من الشهوة ، و كان ذلك الحكيم جيّد اللقم طيّب الطعام ، و يضيّق على غلمانه .
و قالت الحكماء : إنّ نفوس السباع و أعينها في هذا الباب أردأ و أخبث لفرط شرهها و شرّها . قال الجاحظ : بين هذا المعنى و بين قولهم في إصابة العين الشيء العجيب المستحسن شركةً و قرابة . ذلك أنّهم قالوا : قد رأينا أناساً يُنسب إليهم ذلك ، و رأيناهم و فيهم من إصابة العين مقدار من العدد ، لا نستطيع أن نجعل ذلك النسق من باب الإتفاق . و ليس إلى ردّ الخبر " العين حقّ " سبيل ، لتواتره و ترادفه . و لأنّ العَيان قد حقّقه و التجربة قد ضُمَّت إليه .
قالوا : و لولا فاصل ينفصل من عين الرائي المُعجَب إلى الشيء المعجَب به ـ حتّى يكون ذلك الداخل عليه هو الناقض لقُواه ـ لما جاز أن يلقى المصاب بالعين مكروهاً من قبل العاين ، من غير تماسّ و لا تصادم و لا رابط يربط أحدهما بالآخر .
قال الأصمعي : رأيتُ رجلاً عيوناً ( الشديد الإصابة بالعين ) كان يذكر عن نفسه أنّه إذا أعجبه الشيء وَجَدَ حرارةًَ تخرج من عينه [26] .
و أضاف الجاحظ ـ ردّاً على مَن زعم أن الاعتراف بصحّة إصابة العين ينافي التوحيد ـ : أنّ الاعتراف بالطبائع اعترافٌ بسنّة الله الجارية في الخلق و التدبير ، و ليس أمراً خارجاً عن طوع إرادته تعالى . قال : و مَن زعم أنّ التوحيد لا يصحّ إلاّ بإبطال حقائق الطبائع فقد حملَ عجزَه على الكلام في التوحيد . و إنّما يأنس منك الملحد إذا لم يدعك التوفُّرُ على التوحيد إلى بخس حقوق الطبائع ، لأنّ في رفع أعمالها رفع أعيانها . و إذا كانت الأعيان هي الدالّة على الله فرفعت الدليل فقد أبطلت المدلول عليه [27] .
و للسيّد الشريف الرضي ( قُدِّسَ سِرُّه ) كلامٌ لطيفٌ عند شرحه لقول النبي ( صلى الله عليه و آله ) : " العين حقّ تستنزل الحالق " [28] . قال : و هذا مجاز ، و المراد أن الإصابة بالعين من قوّة تأثيرها و تحقّق أفاعيلها كأنّها تستهبط العالي من ارتفاعه ، و تَسْتَقْلِقُ ( أي تُزحزح ) الثابت بعد استقراره . و الحالق ، المكان المرتفع من الجبل و غيره . فجعل عليه الصلاة و السلام العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل من شدّة بطشها وحِدَّة أخذها . و قد تناصرت ( تضافرت ) الأخبار بأنّ الإصابة بالعين حقّ [29] . و الذي يقوله أصحابنا : إنّ الله سبحانه يفعل المصالح بعباده على حسب ما يعلمه من الصلاح لهم في تلك الأفعال التي يفعلها و الأقدار التي يقدّرها . و إذا تقرّرت هذه القاعدة ، فغير ممتنع أن يكون تغييره تعالى نعمة زيدٍ مصلحة لعمرو ، و اذا كان تعالى يعلم من حال عمرو أنه لو لم يسلب زيدا نعمته و يخفض منزلته أقبل على الدنيا بوجهه و نأى عن الآخرة بعطفه و أقدم على المغاوي و ارتكس في المهاوي ، و إذا سلب سبحانه نعمة زيدٍ للعلّة الّتي ذكرناها عوّضه عنها وأعطاه بدلاً منها عاجلاً أو آجلاً . و إذا كان ذلك كما قلنا ـ و قد روى عنه ( صلى الله عليه و آله ) ما يدلّ على أنّ الشيء إذا عظم في صدور العباد وضع الله قدره و صغّر أمره ـ [30] لم ينكر تغيير حال بعض الأشياء عند نظر بعض الناظرين إليه و استحسانه له و عِظَمِه في صدره و فخامته في عينه . كما روي أنّه ( صلى الله عليه و آله ) قال : لمّا سُبِقَتْ ناقَته العَضْباء [31] . و كانت إذا سوبق بها لم تُسْبَق ـ : " ما رفع العباد من شيء إلاّ وضع الله منه " [32] . فيمكن أن يتأوّل قوله عليه الصلاة و السلام : " العينُ حقّ " على هذا الوجه . و يجوز أن يكون ما أمَرَ بِهِ المُستَحسِنَ للشيء عند رؤيته له من إعاذته بالله و الصلاة على رسول الله [33] . بقائماً في المصلحة مقام تغيير حالة الشيء المُستَحسَنِ ، فلا تُغَيَّر عند ذلك ، لأنّ الرائي قد أظهر الرجوع إلى الله سبحانه و الإخبات له ، و أعاذ ذلك المرئي به ، فكأنّه غيرُ راكنٍ إلى الدنيا و لا مغترٌّ بها واثقٌ بما يرى عليه أحوال أهلها .
قال : و لعمرو بن بحر الجاحظ في الإصابة بالعين مذهبٌ انفرد به ، و ذلك أنّه يقول : إنّه لا يُنكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشيء المستُحسَن أجزاءٌ لطيفة فتؤثر فيه و تجني عليه . و يكون هذا المعنى خاصّاً ببعض الأعين كالخواصّ في الأشياء . قال : و على هذا القول اعتراضات طويلة و فيه مطاعن كثيرة . . .[34] .
و هذا الكلام نقلناه بطوله لما فيه من فوائد جمّة و تنبيهٌ على أنّ من حكمته تعالى القيام بمصالح العباد ، فربما يحطّ من هيمنة المعيون كي لا يطغو العاين فيخرج عن حدّه ، ثمّ إنّه تعالى يعوّض المعيون بما يسدّ خلّة الضرر الوارد به . و قد يكون ذلك في مصلحة المعيون لتكون كفّارةً لما فرط منه من الغلوّ أو التفريط بشأن العاين . لكن هذا لا ينافي ما علّل به ابن سينا أو الجاحظ في بيان السبب الطبيعي الواقع تحت إرادة الله الحكيمة .
و هكذا ذهب المتأخّرون في بيان التعليل الطبيعي لإصابة العين وفق ما أودع الله من خصائص في طبيعة الأشياء .
قال سيّد قطب : و الحسد انفعالٌ نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمنّي زوالها . و سواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد و الغيظ ، أو وقف عند حدّ الانفعال النفسي ، فإنّ شرّاً يمكن أن يعقّب هذا الانفعال .
قال : و نحن مضطرّون أن نطامن من حدّة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود و أسرار النفس البشرية و أسرار هذا الجهاز الإنساني . فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، و لا نملك لها حتّى اليوم تعليلاً . هنالك مثلاً التخاطر على البُعد ، و كذلك التنويم المغناطيس . و قد أصبح الآن موضعاً للتجربة المتكرّرة المثبتة ، و هو مجهول السرّ و الكيفيّة . و غير التخاطر و التنويم كثير من أسرار الوجود و أسرار النفس و أسرار هذا الجهاز الإنساني .
فإذا حسد الحاسد و وجّه انفعالاً نفسيّاً معيّناً إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرّد أنّ ما لدينا من العلم و أدوات الاختبار لا تصل إلى سرّ هذا الأثر و كيفيّته , فنحن لا ندري إلاّ القليل في هذا الميدان ، و هذا القليلُ يُكشَفُ لنا عنه مصادفةً في الغالب ، ثمّ يستقرّ واقعةً بعد ذلك . فهنا شرٌّ يُستعاذ منه بالله [35] [36] .
[1] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 243 .
[2] مجمع البيان : 5 / 249 .
[3] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 و 52 ، الصفحة : 566 .
[4] مجمع البيان : 10 / 341 .
[5] القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 604 .
[6] مجمع البيان : 10 / 569 .
[7] معاني الأخبار للصدوق : 216 طبعة النجف .
[8] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 67 ، الصفحة : 243 .
[9] راجع : تفسير المراغي : 13 / 16 .
[10] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 68 ، الصفحة : 243 .
[11] راجع : التفسير الكبير : 18 / 174 ؛ و الدر المنثور : 4 / 557 .
[12] القران الكريم : سورة يوسف ( 12 ) ، الآية : 68 ، الصفحة : 243 .
[13] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 566 .
[14] يقال : شزر إليه أي نظر إليه بجانب عينه مع إعراض أو غضب .
[15] راجع : تفسير المراغي : 29 / 47 .
[16] القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 76 ، الصفحة : 290 .
[17] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 566 .
[18] القران الكريم : سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 566 .
[19] في ظلال القرآن ، مجلد 8 ، صفحة 243 ؛ 29 / 67 .
[20] مجمع البيان : 10 / 341 .
[21] بحار الانوار : 60 / 39 .
[22] القران الكريم : سورة الفلق ( 113 ) ، الآية : 5 ، الصفحة : 604 .
[23] راجع : تفسير المراغي : 30 / 268 ـ 269 ، و تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده ، جزء عم / 183 ـ 184 .
[24] في النمط الاخير من كتاب الاشارات ( هامش مجمع البيان : 5 / 249 ) .
[25] مجمع البيان : 5 / 249 ، تفسير سورة يوسف . و لعله اخذه من الشريف الرضي في كتابه المجازات النبوية : 369 ، بتغيير يسير سوف ننقله .
[26] الحيوان للجاحظ : 2 / 264 ـ 269 ، تحقيق يحيى الشامي ، مع بعض التعديل حسب نقل ابن ابي حديد في شرح النهج : 19 / 376 ـ 377 .
[27] المصدر : 266 .
[28] حديث متواتر رواه الفريقان بعدة اسانيد و في مختلف الالفاظ و العبارات . راجع : مسند احمد : 1 / 274 , و سائر المسانيد الست ؛ و بحار الانوار : 60 / 25 ـ 26 ، و سائر الكتب الحديثية المعتبرة .
[29] و قد عقد العلامة المجلسي في بحاره بابا في ذلك ، راجع المجلد 60 ، كتاب السماء و العالم .
[30] إشارة إلى ما رواه احمد في مسنده الآتي و في النهج " ما قال الناس لشيء طوبى له الا و قد خبأ الدهر له يوم سوء " . قصار الحكم ، رقم 286 ، صفحة 526 . و في نوادر الرواندي : 128 : " ما رفع الناس أبصارهم إلى شيء إلا وضعه الله " . و راجع : بحار الأنوار : 60/ 27 .
[31] العضباء : الناقة المشقوقة الاذن . و كان هذا الاسم لقبا لناقة رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) و لم تكن مشقوقة الاذن . قال الزمخشري : ناقة عضباء ، قصير اليد .
[32] روى أحمد في مسنده : 3 / 103 ـ 253 و غيره أنّ رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) كانت له ناقة تسمّى العضباء ، و كانت لا تُسبَق في مسابقةٍ ، حتّى جاء أعرابيّ على قعودٍ ( ما اُعدّ للحمل و الركوب من الدوابّ و من الإبل ما تجاوز السنتين و لم يبلغ الستّ ) فسبقها ، فشقّ ذلك على المسلمين ، فلمّا رأى ما في وجوههم قال : إنّ حقّاً على الله أن لا يرفع شيئاً في الدنيا إلاّ وضعه . و الحديث منقول في الكتب بألفاظ مختلفة .
[33] قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : " من أعجبه من أخيه شيءٌ فليذكر الله في ذلك ، فإنّه إذا ذكر الله لم يضرَّه " . و الأحاديث بهذا المعنى كثيرة . راجع : بحار الأنوار : 60/ 25 .
[34] المجازات النبوية للسيّد الشريف الرضي : 367 ـ 369 ، رقم 285 .
[35] في ظلال القرآن ، المجلّد 8 / 710 ـ 711 ، المجلد 30 / 292 ـ 293 .
[36] اخذت هذه المقالة من كتاب : شبهات و ردود حول القرآن الكريم : 231 ـ 237 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الاسلامية الإيرانية .