فنون الليل
15-05-2012, 02:17 AM
(2)
لم تمض ِ مدة طويلة حتى سمعنا صوت "أم ساجدة" وهي تتلمس طريقها إلينا تريد ابنتها استعداداً لمغادرة المنزل ، بادرتها أمي بعبارات المواساة إذ أنها إحدى جارات الحي اللاتي اعتادت أمي مجالستهن. هوت "أم ساجدة" على الأرض و كشفت عن وجهها فبدت لي مختلفة جداً عن صورتها المرتسمة في ذهني ، لم يعد وجهها مورقاً كما أَلفتهُ ، كان كأرض ٍ يباب ٍ لا حياة فيها بالرغم من ماء الحياة المنهمر بغزارة من عينيها. عيناها فقط كانتا تشعان بضوء حاد ، شدني ذلك الضوء المتسرب من خلال دموعها فوجدتُ نفسي أُبحرُ في وجعها ، وكان هذا ديدني معها منذ ذلك الحين فقد تعودتُ الإبحار و جمع لآلئ عينيها لأصنع منها أحرازاً وعوذات تطرد شياطيناً خناسة. وكقدر كل الأشياء فقد وهن و تلاشى ذلك الضوء بمرور السنين ، ولم تعد تشعله أحياناً إلا نار ذكرياتها المصطلية فتشع أحداقها لبرهة صغيرة وما تلبث أن تنطفئ.
حاولتْ أمي تهدئتها وحثها على الصبر و التماسك ، ولكنها التزمتْ الصمت ربما لأنها أدركت أنها تتحدث بلغة لا يفهمها غيرها. أخذت ْ طفلتها و ضمتها إلى حضنها بقوة لا لتعطي ابنتها حناناً تحتاجه في هذه اللحظات القاسية ، و لكني أحسست أن "أم ساجدة" هي من تبحث عن الحب و الحنان في أحضان طفلتها. ارتفع من الخارج صوتٌ ينادي عليها فأجزلت لأمي كلمات الشكر وانسحبت بصحبة طفلتها وهي تجر أذيال آخر هزائمها إذ لم أسمعها تدق طبول الحرب مجدداً بعد تلك الليلة.
لم أدرك حدود حزن "أم ساجدة" و أطفالها دفعة واحدة بل شذرة شذرة ، فكلما زاد ارتباطي بهم انكشفت لي دروب حزن لم أقطعها من قبل. تعلمتُ أن الحزن أفعى ماجنة تهوى العربدة على كل ما ينبض فينا وتستلذ ببث سمومها بين حنايانا ، حتى إذا اعتصرنا الوجع وصرنا نطلبها سعياً للخلاص راوغتنا وبدأت بتغيير جلدها لتتلون بوجع جديد ولتفاجئنا بزعافٍ جديد كل مرة. قُدِّر للإنسان أن يحيا و هو يُؤوي بين جنبيه أوكار أفاعي ماجنة ، و قُدِّر للدعاء أن يكون عصا موسى اللاقفة لكل المجون وكل العربدة!!.
كانت "أم ساجدة" أماً لخمسة أطفال وكانت تعيش حياة زوجية مثلها مثل باقي النسوة ، حتى تزوج زوجها من امرأة أخرى يقال أنها كانت تتردد على محله لبيع الملابس. بعد زواجه الثاني بدأت أنجم سعدها بالأفول واحداً تلو الآخر فلم يبقَ لها أي نور يضيء عتمة أيامها. مال قلبه بالكامل لزوجته الجديدة ولم يعد فيه متسع لموطئ قدم "أم ساجدة". صار يعاملها كأنها سقط متاع فاض عن حاجته فجأة فركنه في مخزن للخردة، ولم تقبل هي بهذا الإمساك الخالي من المعروف. ويبدو أن عدم قبولها بأن تكون خردة في مخزن أيام حياته وفر له حجة لكي يهجر المنزل الذي أصبح لا يجد فيه السعادة. كان يزورهم في الشهر مرتين أو ثلاثة ليترك لهم إحتياجات المنزل عند عتبة الباب و يغادر مسرعاً حتى لا يضطر لمواجهة حقيقته البشعة. ولأنه جبان لايجرؤ على مواجهة صورته في أعين الناس كأب فاقد لمعاني الأبوة و كرجل فاقد لمعاني الرجولة فقد قرر أن يلبس ثوب الزوج الضحية ، فصار ينشر أكاذيب عن معاناته مع "أم ساجدة" طوال سنين و ينسج أباطيل عن سوء تبعلها ونشوزها ليبرر للناس سبب هجرانه لها وتنصله من مسولياته تجاه أطفاله. و ليكسب إحترام الناس له أعلن أنه لن يطلقها رحمةً بها وبصغارها وهذا تفضل كبير على امرأة سوء مثلها.
كان هذا السبب الذي انتفضت لأجله "أم ساجدة" ، فبالرغم من معاملته السيئة و تنكره لها فجأة ، لا لشيء إلا أنه أصبحت لديه زوجة تغنيه عنها ، إلا أنها التزمت الصمت ولم تشكو حالها حتى لأفراد أسرتها المقربين أملاً في إنصلاح حاله.
ولكن يبدو أنه استرخصها لدرجة أنه لم يضع أي اعتبار لصورتها في أعين الناس. بدأت تسمع تلميحات مشينة بحقها ، ولكنها عزتها لحب الثرثرة المتأصل في البشر و لم يخطر ببالها أن من أخذت منه ميثاقاً غليظاً هو من يحاول أن يحطمها ليقف منتصراً فوق ركامها. تمكن من خداع أسرتها فنال تعاطف والدها وأخوتها ولم يُبقي لها إلا غضبهم و قسوتهم .
عندما طلبتْ لأول مرة من والدها أن يتدخل ليجد حلاً لها وكان ذلك بعد أن هجر زوجها المنزل ، تفاجأتْ بسيل اتهامات من والدها يخبرها فيها أنها تستحق ما يحدث لها. أحست كأن مَقلَعْ حجارة انهار فوق رأسها فدك كيانها. لم يجدي إنكارها في تغيير نظرة والدها و إخوتها فقد قابلوها بالإتهام ولم يصدقوا أن زوجها أختلق أكاذيب ضدها. بعدما انكشفت دناءة زوجها لها أصرتْ على الطلاق و لكنها لم تجدْ أذناً واعية، يبدو أنه لم يكن أحد يبالي بالظلم الذي وقع عليها و بكرامتها المهدورة . كان الجميع يطالبها بعدم افتعال المشاكل و التضحية من أجل أبنائها. لم يفهم أحدٌ أنه أصبح كبؤرة خسة في نظرها ، ومن تقبل أن تكون لخسة حقوق عليها؟! كان كطعامٍ فاسدٍ ساقته لها الأيام فتناولته و لكن بعد أن فاح عفنه في جوفها استفرغته قيئاً، وهاهم يريدون الآن إرغامها على إرجاع القيء إلى جوفها من جديد.
بعد أن أفصحت عن رغبتها في الطلاق وقف الجميع ضدها ولم يقيموا وزناً لهذه الرغبة الصادرة من عقل ناقص لا يجيد وزن الأمور، فما كان منها بعد أن سُدت جميع الطرق في وجهها إلا أن أتت لأمي طالبةً أن تنقل رغبتها في الطلاق للشيخ علّه يحررها.
أثارت هذه الخطوة الجريئة حرباً ضروس ضدها أنهكت كل قواها فقد كان التماسها لمساعدة الشيخ بنفسها وإن كان عن طريق زوجة الشيخ يعد خروجاً سافراً على النواميس و تأكيداً على كل الإتهامات التي ألصقها بها زوجها ، فمن تتجرأ على القيام بشأن من شؤون الرجال فهي ليست جديرة بأي إحترام. لم يتمكن "الشيخ" من تحريرها فالقول قول والدها وكان والدها رافضاً للطلاق. أُرغمت "أم ساجدة"على العودة إلى منزلها و كان في يدها كيسٌ مملوء بقيء تفوح منه رائحة الخسة .
يتبع…
لم تمض ِ مدة طويلة حتى سمعنا صوت "أم ساجدة" وهي تتلمس طريقها إلينا تريد ابنتها استعداداً لمغادرة المنزل ، بادرتها أمي بعبارات المواساة إذ أنها إحدى جارات الحي اللاتي اعتادت أمي مجالستهن. هوت "أم ساجدة" على الأرض و كشفت عن وجهها فبدت لي مختلفة جداً عن صورتها المرتسمة في ذهني ، لم يعد وجهها مورقاً كما أَلفتهُ ، كان كأرض ٍ يباب ٍ لا حياة فيها بالرغم من ماء الحياة المنهمر بغزارة من عينيها. عيناها فقط كانتا تشعان بضوء حاد ، شدني ذلك الضوء المتسرب من خلال دموعها فوجدتُ نفسي أُبحرُ في وجعها ، وكان هذا ديدني معها منذ ذلك الحين فقد تعودتُ الإبحار و جمع لآلئ عينيها لأصنع منها أحرازاً وعوذات تطرد شياطيناً خناسة. وكقدر كل الأشياء فقد وهن و تلاشى ذلك الضوء بمرور السنين ، ولم تعد تشعله أحياناً إلا نار ذكرياتها المصطلية فتشع أحداقها لبرهة صغيرة وما تلبث أن تنطفئ.
حاولتْ أمي تهدئتها وحثها على الصبر و التماسك ، ولكنها التزمتْ الصمت ربما لأنها أدركت أنها تتحدث بلغة لا يفهمها غيرها. أخذت ْ طفلتها و ضمتها إلى حضنها بقوة لا لتعطي ابنتها حناناً تحتاجه في هذه اللحظات القاسية ، و لكني أحسست أن "أم ساجدة" هي من تبحث عن الحب و الحنان في أحضان طفلتها. ارتفع من الخارج صوتٌ ينادي عليها فأجزلت لأمي كلمات الشكر وانسحبت بصحبة طفلتها وهي تجر أذيال آخر هزائمها إذ لم أسمعها تدق طبول الحرب مجدداً بعد تلك الليلة.
لم أدرك حدود حزن "أم ساجدة" و أطفالها دفعة واحدة بل شذرة شذرة ، فكلما زاد ارتباطي بهم انكشفت لي دروب حزن لم أقطعها من قبل. تعلمتُ أن الحزن أفعى ماجنة تهوى العربدة على كل ما ينبض فينا وتستلذ ببث سمومها بين حنايانا ، حتى إذا اعتصرنا الوجع وصرنا نطلبها سعياً للخلاص راوغتنا وبدأت بتغيير جلدها لتتلون بوجع جديد ولتفاجئنا بزعافٍ جديد كل مرة. قُدِّر للإنسان أن يحيا و هو يُؤوي بين جنبيه أوكار أفاعي ماجنة ، و قُدِّر للدعاء أن يكون عصا موسى اللاقفة لكل المجون وكل العربدة!!.
كانت "أم ساجدة" أماً لخمسة أطفال وكانت تعيش حياة زوجية مثلها مثل باقي النسوة ، حتى تزوج زوجها من امرأة أخرى يقال أنها كانت تتردد على محله لبيع الملابس. بعد زواجه الثاني بدأت أنجم سعدها بالأفول واحداً تلو الآخر فلم يبقَ لها أي نور يضيء عتمة أيامها. مال قلبه بالكامل لزوجته الجديدة ولم يعد فيه متسع لموطئ قدم "أم ساجدة". صار يعاملها كأنها سقط متاع فاض عن حاجته فجأة فركنه في مخزن للخردة، ولم تقبل هي بهذا الإمساك الخالي من المعروف. ويبدو أن عدم قبولها بأن تكون خردة في مخزن أيام حياته وفر له حجة لكي يهجر المنزل الذي أصبح لا يجد فيه السعادة. كان يزورهم في الشهر مرتين أو ثلاثة ليترك لهم إحتياجات المنزل عند عتبة الباب و يغادر مسرعاً حتى لا يضطر لمواجهة حقيقته البشعة. ولأنه جبان لايجرؤ على مواجهة صورته في أعين الناس كأب فاقد لمعاني الأبوة و كرجل فاقد لمعاني الرجولة فقد قرر أن يلبس ثوب الزوج الضحية ، فصار ينشر أكاذيب عن معاناته مع "أم ساجدة" طوال سنين و ينسج أباطيل عن سوء تبعلها ونشوزها ليبرر للناس سبب هجرانه لها وتنصله من مسولياته تجاه أطفاله. و ليكسب إحترام الناس له أعلن أنه لن يطلقها رحمةً بها وبصغارها وهذا تفضل كبير على امرأة سوء مثلها.
كان هذا السبب الذي انتفضت لأجله "أم ساجدة" ، فبالرغم من معاملته السيئة و تنكره لها فجأة ، لا لشيء إلا أنه أصبحت لديه زوجة تغنيه عنها ، إلا أنها التزمت الصمت ولم تشكو حالها حتى لأفراد أسرتها المقربين أملاً في إنصلاح حاله.
ولكن يبدو أنه استرخصها لدرجة أنه لم يضع أي اعتبار لصورتها في أعين الناس. بدأت تسمع تلميحات مشينة بحقها ، ولكنها عزتها لحب الثرثرة المتأصل في البشر و لم يخطر ببالها أن من أخذت منه ميثاقاً غليظاً هو من يحاول أن يحطمها ليقف منتصراً فوق ركامها. تمكن من خداع أسرتها فنال تعاطف والدها وأخوتها ولم يُبقي لها إلا غضبهم و قسوتهم .
عندما طلبتْ لأول مرة من والدها أن يتدخل ليجد حلاً لها وكان ذلك بعد أن هجر زوجها المنزل ، تفاجأتْ بسيل اتهامات من والدها يخبرها فيها أنها تستحق ما يحدث لها. أحست كأن مَقلَعْ حجارة انهار فوق رأسها فدك كيانها. لم يجدي إنكارها في تغيير نظرة والدها و إخوتها فقد قابلوها بالإتهام ولم يصدقوا أن زوجها أختلق أكاذيب ضدها. بعدما انكشفت دناءة زوجها لها أصرتْ على الطلاق و لكنها لم تجدْ أذناً واعية، يبدو أنه لم يكن أحد يبالي بالظلم الذي وقع عليها و بكرامتها المهدورة . كان الجميع يطالبها بعدم افتعال المشاكل و التضحية من أجل أبنائها. لم يفهم أحدٌ أنه أصبح كبؤرة خسة في نظرها ، ومن تقبل أن تكون لخسة حقوق عليها؟! كان كطعامٍ فاسدٍ ساقته لها الأيام فتناولته و لكن بعد أن فاح عفنه في جوفها استفرغته قيئاً، وهاهم يريدون الآن إرغامها على إرجاع القيء إلى جوفها من جديد.
بعد أن أفصحت عن رغبتها في الطلاق وقف الجميع ضدها ولم يقيموا وزناً لهذه الرغبة الصادرة من عقل ناقص لا يجيد وزن الأمور، فما كان منها بعد أن سُدت جميع الطرق في وجهها إلا أن أتت لأمي طالبةً أن تنقل رغبتها في الطلاق للشيخ علّه يحررها.
أثارت هذه الخطوة الجريئة حرباً ضروس ضدها أنهكت كل قواها فقد كان التماسها لمساعدة الشيخ بنفسها وإن كان عن طريق زوجة الشيخ يعد خروجاً سافراً على النواميس و تأكيداً على كل الإتهامات التي ألصقها بها زوجها ، فمن تتجرأ على القيام بشأن من شؤون الرجال فهي ليست جديرة بأي إحترام. لم يتمكن "الشيخ" من تحريرها فالقول قول والدها وكان والدها رافضاً للطلاق. أُرغمت "أم ساجدة"على العودة إلى منزلها و كان في يدها كيسٌ مملوء بقيء تفوح منه رائحة الخسة .
يتبع…