تقوى القلوب
29-06-2012, 05:26 PM
لاشورى ولااهل عقد وحل بل فلتة وبدعة لايؤتى بمثله الاقتل فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون فيها
إن الامامة عند أهل السنة أشبه بسياسة وقتية زمنية، يقودها الحاكم العادي مع كفاءات ومؤهلات، تطابق شأنه. وعلى ذلك يرجع تعيين الإمام إلى نفس الأُمّة، لا إلى الله سبحانه ولا إلى رسوله، وهم قد اختلفوا فيما تنعقد به الإمامة على اقوال شتّى نأتي ببعضها:
1- قال الإسفرائيني: ( 344-406 هـ) في كتاب الجنايات: "وتنعقد الإمامة بالقهر والإستيلاء، ولو كان فاسقاً أو جاهلاً أو عجمياً"1.
2- قال الماوردي (م 450 هـ): "إختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى. فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كل بلد، ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى: أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة، خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنّ بَيْعة أبي بكر إنعقدت بخمسة إجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب، وأبو عُبّيدة بن الجراح، وأُسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حُذيفة.
والثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة. وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الإثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدَيْن، كما يصحّ عقد النكاح بِوَلي وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد، لأَنَّ العباس قال لعلي: امدُدْ يَدَكَ أُبايعك، فيقول النَّاس عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايعَ ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان. ولأنّه حُكْمٌ، وحكمُ واحد نافذٌ"2.
3- قال إمام الحرمين الجويني (م 478 هـ): "إعلموا أنّه لا يُشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة، وإن لم تُجْمع الأُمّة على عَقْدها. والدليل عليه أَنَّ الإمامة لمّا عُقدت لأبي بكر، إبتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى مَنْ نأى من الصحابة في الأقطار، ولم يُنكر عليه مُنْكِر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يَثْبت عدد معدود، ولا حدٌّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقدِ واحد من أهل الحَلّ والعقد"3.
4- قال القُرْطُبي: (م 671 هـ): "فإنْ عَقَدها واحدٌ من أهل الحلّ والعقد، فذلك ثابت، ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس، حيث قال: لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحلّ والعقد، ودليلنا: أنّ عُمَر عقد البيعة لأبي بكر، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك (ولعل القرطبي لم يقرأ مأساة السقيفة بين المهاجرين والأنصار، وإلاّ فالإعتراض والنزاع كان قائماً على قدم وساق ويكفي في ذلك مراجعة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وتاريخ الطبري، وسيرة إبن هشام، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري المتوفّى عام 280 هـ . وفيما يأتي من المباحث نشير إلى بعض تلك الوقائع). ولأنّه عَقْدٌ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود"4.
5- وقال القاضي عضد الدين الإيجي (م 757 هـ): "المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة، وأنّها تثبت بالنّصّ من الرسول، ومن الإمام السابق، بالإجماع، وتثبت ببَيْعَة أهل الحلّ والعقد. لنا، ثبوت إمامة أبي بكر بالبَيْعة".
وقال: "وإذا ثبت حصول الإمام بالإختيار والبَيْعة، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، اذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والإثنان من أهل الحلّ والعقد، كاف، لعِلْمِنا أنّ الصحابة، مع صلابتهم في الدين، اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، وعَقْد عبد الرحمن بن عوف لعُثْمان، ولم يشترطوا اجتماع مَنْ في المدينة، فضلاً عن إجماعهم هذا، ولم ينكر عليه أحد، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا"5.
6- وعلى ذلك مضى شارح المواقف السيد شريف الجرجاني (م 816 هـ)6.
7- وقال التفتازاني (م 791 هـ): "وتنعقد الإمامة بطرق: أحدها: بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد، ولا اتّفاق مَنْ في سائر البلاد، بل لو تعلّق الحّلُّ والعَقْدُ بواحد مطاع كفت بيعته.
الثاني: إستخلاف الإمام وعهده، وجعله الأمر شورى بمنزلة الإستخلاف، إلاّ أنّ المستخلَف عليه غير متعين فيتشاورون، ويتفقون على أحدهم، وإذا خَلَع الإمام نَفْسَه كان كموته، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.
الثالث: القَهْرُ والإستيلاء، فاذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف، وقَهَرَ الناس بشوكته، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر"7.
• يلاحظ على هذه الأقوال والنظريات
أولاً: إنّ موقف أصحاب هذه الأقوال في المسألة، موقفُ من اعتقد بصحة خلافة الخلفاء، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي، من انعقادها بواحد أو اثنين، أو اتّفاق من تيسّر حضوره، دون النائين من الصحابة، وغير ذلك.
وهذا النَّمَط من الإستدلال، إستدلال بالمُدّعى على نفس المُدّعى، وهو دور واضح. والعجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الإعتراضات الهائلة الّتي توجهت من نفس الصحابة من الأنصار والمهاجرين على خلافة الخلفاء، الذين تمّت بَيْعتهم، بِبَيْعة الخمسة في السقيفة، أو بَيْعة أبي بكر لعمر، أو بشورى السِّتَّة، فإنّ من كان مُلِمّاً بالتاريخ ومهتماً به، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالإعتراض. حتى أنّ الزُبير وقف في السقيفة أمام المبايعين، وقد اخترط سيفه، وهو يقول: "لا أُغمده حتى يبايَعَ عليٌّ". فقال عمر: "عليكم الكلب"!. فأخذ سيفه من يده، وضرب به الحجر، وكُسِرَ8.
ويكفي في ذلك قول الطبري أنّه قام الحباب بن المنذر "وانتضى سيفه" وقال: "أَنا جُذَيْلُها المُحَكَكُ، وعُذَيْقُها المُرَجَّب، أنا أبو شبل، في عرينة الأسد، يعزى إليّ الأَسد، فحامله عمر، فضرب يده، فندر السيف، فأَخذه، ثم وثب على سعد (بن عبادة) ووثبوا على سعد وتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية، قام أبو بكر دونها، وقال قائل حين أُوطيء سعد: قتلتم سعداً. فقال عمر: قتله الله، إنّه منافق. واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه9. (وفي رواية أخرى للطبري أنّ عمر قام على رأس سعد، وقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ سعد بلحية عمر، وقال: والله لو حصحصت منه شعرة ما رَجِعْتَ وفيك واضَحة، أما والله لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُجْحِرك وأصحابك (أي يلزمهم دخول الجحر، وهو كناية عن شدّة التضييق)، أما والله، إذاً لألحقنّك بقوم كُنْتَ فيهم تابعاً غير متبوع، احملوني من هذا المكان". فحملوه، فأدخلوه في داره. وتُرك إياماً، ثم بعث إليه أن أَقْبل، فبايع، فقد بايع الناس، وبايَعَ قومُك. فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأُخَضِّب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما مَلِكَتْهُ يدي، وأُقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل. وأَيْمُ الله، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أُعرَضَ على ربّي، وأعلم ما حسابي". فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يُجْمع معهم، ولا يفيض معهم إفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر10. وسعد بن عبادة سيد الخزرجيين).
هذه نبذة يسيرة من الأصوات المُدَوّية الّتي عارضت الخلافة والخليفة المنتخب، وكم لها من نظير في السقيفة والشورى وغيرهما ضربنا عنه صفحاً. أفيصح بعد ذلك قول القرطبي: "ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك"، وكأَن الحباب، وسعداً، وابنه قيس، وعامة الخزرجيين، وبني هاشم، والزبير، لم يكونوا من الصحابة؟!.
وثانياً: إنّ هذا الإختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة، يعرب عن بطلان نفس الأصل لأنّه إذا كانت الإمامة مفوضة إلى الأُمّة، كان على النبي الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة، وأنّه هل تنعقد بواحد أو إثنين من الصحابة؟ أو تنعقد بأهل الحلّ والعقد منهم؟ أو بالصحابة الحضور عند رحلة النبي أو رحلة الإمام السابق؟ أو باتّفاق جميع المسلمين بأنفسهم، أو بممثليهم؟
وليس عقد الإمامة لرجل، أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الّذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده، كما اهتمت السنّة على الخصوص بشؤونه وأحكامه. والعجب أنّ عقد الإمامة الّذي تتوقف عليه حياة الأُمّة، لم يطرح في النصوص، لا كتاباً ولا سنّة "على زعم القوم" ولم تُبَيَّن حدوده ولا شرائطه، ولا سائر مسائله الّتي كان يواجهها المسلمون بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة!!
وجملة القول، إنّ اختلافهم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه، جعل الخلافة وبالاً على المسلمين، حتى أخذت لنفسها شكلاً يختلف كلّ الإختلاف عن الشكل الّذي ينبغي أن تكون عليه. فقد أصبحت الخلافة الإسلامية، إمبراطورية، وملكاً عضوضاً، يتناقلها رجال العَيْث والفساد، من يد فاسق، إلى آخر فاجر غارق في الهوى، إلى ثالث سفّاك متعصّب. وقد أعانهم في تسنم ذورة تلك العروش، مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين، فبرروا أفعالهم، ووجّهوا أعمالهم توجيهاً ملائماً للظروف السائدة، وصحّحوا إتجاهاتهم السياسية الخاصة، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل، لتدعيم مراكزهم السياسية، ويكفيك النموذج التالي، لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة.
رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهُدايَ، ولا يَسْتَنّون بسُنَّتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال الراوي: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضَرَبَ ظهرَك، وأَخَذَ مالَك، فاسمع وأَطع"11.
رواية السقيفة رويت بطرق مختلفة وبما ان جميع اهل السنة تقريبا يقبلون بما يرويه البخاري فسنتامل في السقيفة وروايتها المروية في صحيح البخاري لنرى ما تدل عليه من دلالات عميقة على اهل السنة ان يتاملوا فيها بعين بصيرة وليس بفكر مسبق الراي.
فالرواية تدل على ان البيعة تمت في حال صخب وليس في حال تشاور وتدل على ان اهل الحل والعقد لم يقبلوا بما جرى في السقيفة بل كان ذلك رغما عنهم ومداراتهم للوضع بعد ذلك خوفا من الفساد، كل ذلك من كلام عمر بن الخطاب فاقرا معي الرواية والتعليقات.
- صحيح البخارى - البخاري ج 8 ص 25 :
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني ابراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال كنت اقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما انا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع الي عبد الرحمن فقال لو رأيت رجلا اتى امير المؤمنين اليوم فقال يا امير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فو الله ما كانت بيعة أبي بكر الا فلته فتمت فغضب عمر ثم قال اني ان شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذي يريدون ان يغصبوهم امورهم
قال عبد الرحمن فقلت يا امير المؤمنين لا تفعل فان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وانا اخشى ان تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وان لا يعوها وان لا يضعوها على مواضعها فامهل حتى تقدم المدينة فانها دار الهجرة والسنة فتخلص باهل الفقه واشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي اهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها
فقال عمر اما والله ان شاء الله لاقومن بذلك اول مقام اقومه بالمدينة
قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى اجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته
فلم انشب ان خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فانكر علي وقال ما عسيت ان يقول ما لم يقل قبله
فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو اهله ثم قال اما بعد فاني قائل لكم مقلة قد قدر لي ان اقولها لا ادري لعلها بين يدي اجلي فمن عقلهاووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي ان لا يعقلها فلا احل لاحد ان يكذب علي ان الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وانزل عليه الكتاب فكان مما انزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فاخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة انزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا احصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف
ثم انا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ان لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم ان ترغبوا عن آبائكم أو ان كفرا بكم ان ترغبوا عن آبائكم
الا ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما اطرى عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله
ثم انه بلغني ان قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ ان يقول انما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت الا وانها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس منكم من تقطع الاعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا
وانه قد كان من خبرنا حين توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان الانصار خالفونا واجتمعوا باسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لابي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الانصار
فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان فذكرا ما تمالى عليه القوم فقالا اين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد اخواننا هؤلاء من الانصار فقالا لا عليكم ان لا تقربوهم اقضوا امركم فقلت والله لنأتينهم
فانطلقنا حتى اتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا قالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ماله قالوا يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله لما هو اهله ثم قال اما بعد فنحن انصار الله وكتيبة الاسلام وانتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فاذاهم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر فلما سكت اردت ان اتكلم وكنت زورت مقالة اعجبتني اريد ان اقدمها بين يدي أبي بكر وكنت اداري منه بعض الحد فلما اردت ان اتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت ان اغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو احلم مني واوقر والله ما ترك من كلمة اعجبتني في تزويري الا قال في بديهته مثلها أو افضل حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فانتم له اهل ولم يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش هم اوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين فبايعوا ايهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم اكره مما قال غيرها كان والله ان اقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم احب الي من ان اتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم الا ان تسول الي نفسي عند الموت شيأ لا اجده الآن
فقال قائل الانصار انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا امير ومنكم امير يا معشر قريشفكثر اللغط وارتفعت الاصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت ابسط يدك يا ابا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الانصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة
قال عمر وانا والله ما وجدنا فيما حضرنا من امر اقوى من مبايعة أبي بكر خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يبايعوا رجلا منهم بعدنا فاما بايعناهم على ما لا نرضى واما نخالفهم فيكون فساد
فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا
وفي هذه الرواية
اولا:
ان بيعة ابي بكر فلتة لم تكن من الله ولا من رسوله((فلا يغترن امرؤ ان يقول انما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت الا وانها قد كانت كذلك))فتكون بيعته بدعة وليست سنة ليؤخذ بها وتتبع
ثانيا:
ان رئيس الانصار سعد بن عبادة وراس الهاشميين علي بن ابي طالب وكذلك الزبير من الهاشميين كانوا مخالفين لهم وهم كبار اهل الحل والعقد فعلي زعيم الهاشميين وسعد زعيم الانصار فمن اهل الحل والعقد اذا لم يكن هؤلاء فالبيعة لم يقبل بها اهل الحل والعقد
ثالثا:
ان الانصار كانوا يريدون ابعاد ابي بكر وجماعته عن الخلافة والاستئثار بها ((وقد دفت دافة من قومكم فاذاهم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر))فاين اعتقاد الانصار استحقاق ابي بكر بالخلافة وهم يريدون ان يختزلوهم من اصلهم وهي تدل على ان الانصار يعتقدون ان لا استحقاق لهم في الخلافة
رابعا:
ان ابا بكر لا يعتقد انه منصب من رسول الله ولذلك قدم على نفسه احد رجلين وامر الناس ان تبايع احدهما فالصلاة لم تكن ترشيحا له للخلافة كما يدعون والا لما عرض الخلافة على غيره ((وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين فبايعوا ايهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ))
خامسا:
ان البيعة تمت في حال حرب ولغط وليست في حال شورى ((فقال قائل الانصار انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا امير ومنكم امير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الاصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت ابسط يدك يا ابا بكر فبسط يده فبايعته))
فالبيعة تمت في حال اختلاف شديد وليس في حال وفاق
سادسا:
نزوا على سعد بن عبادة رئيس الانصار وكادوا يقتلوه لانه معترض على قبول البيعة فاين الشورى اليس سعد بن عبادة من اهل الحل والعقد ((ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة))والمفروض ان يكون له راي في القبول او العدم لا ان يداس بالاقدام ويدعى عليه بالقتل لانه لم يقبل بخلافتهم
سابعا:
ان ابا بكر وعمر عجلا بالخلافة قبل تجهيز رسول الله لانهم يخافون ان تذهب الخلافة لغيرهم فيكونوا في احد حالين
الاول: ان يبايعوا رجلا لا يرتضونه
الثاني : ان يخالفوا فيكون الفساد
وعليه فقد كشف عمر عن سر خطير وهو ان الناس تبايع الاول ولا تبايع الافضل فمن بايعوه اولا لا يعدلوا به الى غيره وان كان غيره اصلح ويحتاج اصلاح الامر الى المخالفة وحصول الفساد
وهو عذر على السنة ان يعرفوه في اعتذار للامام علي عليه السلام حينما لم يحارب بعد ان بايعوا لانه لو خالف لحصل الفساد(( خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يبايعوا رجلا منهم بعدنا فاما بايعناهم على ما لا نرضى واما نخالفهم فيكون فساد))
ثامنا:
ان بيعة ابي بكر عن غير مشورة ولكنها فلتة فالمفروض ان لا تعاد مرة اخرى ولا يبايع غيره بدون مشورة ولا يبايع من بايعه ايضا
وهذا يعني ان المفروض ان لا يبايع عمر لانه بايع ابا بكر عن غير مشورة بل استغل لغط الناس وبايعه والطروحات مازالت قائمة لم تستنفذ ((فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا))
فتكون خلافة ابي بكر قهر واستيلاء وبدعة وفلتة لايؤتى بمثلها الا قتل
إن الامامة عند أهل السنة أشبه بسياسة وقتية زمنية، يقودها الحاكم العادي مع كفاءات ومؤهلات، تطابق شأنه. وعلى ذلك يرجع تعيين الإمام إلى نفس الأُمّة، لا إلى الله سبحانه ولا إلى رسوله، وهم قد اختلفوا فيما تنعقد به الإمامة على اقوال شتّى نأتي ببعضها:
1- قال الإسفرائيني: ( 344-406 هـ) في كتاب الجنايات: "وتنعقد الإمامة بالقهر والإستيلاء، ولو كان فاسقاً أو جاهلاً أو عجمياً"1.
2- قال الماوردي (م 450 هـ): "إختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم، على مذاهب شتّى. فقالت طائفة: لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحلّ من كل بلد، ليكون الرضا به عامّاً، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها، ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أخرى: أقلُّ ما تنعقد به منهم الإمامة، خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنّ بَيْعة أبي بكر إنعقدت بخمسة إجتمعوا عليها ثم تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب، وأبو عُبّيدة بن الجراح، وأُسيد بن حضير، وبشر بن سعد، وسالم مولى أبي حُذيفة.
والثاني: أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة. وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الإثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدَيْن، كما يصحّ عقد النكاح بِوَلي وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد، لأَنَّ العباس قال لعلي: امدُدْ يَدَكَ أُبايعك، فيقول النَّاس عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايعَ ابن عمّه، فلا يختلف عليك اثنان. ولأنّه حُكْمٌ، وحكمُ واحد نافذٌ"2.
3- قال إمام الحرمين الجويني (م 478 هـ): "إعلموا أنّه لا يُشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الإمامة، وإن لم تُجْمع الأُمّة على عَقْدها. والدليل عليه أَنَّ الإمامة لمّا عُقدت لأبي بكر، إبتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى مَنْ نأى من الصحابة في الأقطار، ولم يُنكر عليه مُنْكِر. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يَثْبت عدد معدود، ولا حدٌّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقدِ واحد من أهل الحَلّ والعقد"3.
4- قال القُرْطُبي: (م 671 هـ): "فإنْ عَقَدها واحدٌ من أهل الحلّ والعقد، فذلك ثابت، ويلزم الغير فعله، خلافاً لبعض الناس، حيث قال: لا تنعقد إلاّ بجماعة من أهل الحلّ والعقد، ودليلنا: أنّ عُمَر عقد البيعة لأبي بكر، ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك (ولعل القرطبي لم يقرأ مأساة السقيفة بين المهاجرين والأنصار، وإلاّ فالإعتراض والنزاع كان قائماً على قدم وساق ويكفي في ذلك مراجعة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وتاريخ الطبري، وسيرة إبن هشام، وكتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري المتوفّى عام 280 هـ . وفيما يأتي من المباحث نشير إلى بعض تلك الوقائع). ولأنّه عَقْدٌ، فوجب أن لا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود"4.
5- وقال القاضي عضد الدين الإيجي (م 757 هـ): "المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة، وأنّها تثبت بالنّصّ من الرسول، ومن الإمام السابق، بالإجماع، وتثبت ببَيْعَة أهل الحلّ والعقد. لنا، ثبوت إمامة أبي بكر بالبَيْعة".
وقال: "وإذا ثبت حصول الإمام بالإختيار والبَيْعة، فاعلم أنّ ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، اذ لم يقم عليه دليل من العقل أو السمع، بل الواحد والإثنان من أهل الحلّ والعقد، كاف، لعِلْمِنا أنّ الصحابة، مع صلابتهم في الدين، اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر، وعَقْد عبد الرحمن بن عوف لعُثْمان، ولم يشترطوا اجتماع مَنْ في المدينة، فضلاً عن إجماعهم هذا، ولم ينكر عليه أحد، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا"5.
6- وعلى ذلك مضى شارح المواقف السيد شريف الجرجاني (م 816 هـ)6.
7- وقال التفتازاني (م 791 هـ): "وتنعقد الإمامة بطرق: أحدها: بيعة أهل الحلّ والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه النّاس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد، ولا اتّفاق مَنْ في سائر البلاد، بل لو تعلّق الحّلُّ والعَقْدُ بواحد مطاع كفت بيعته.
الثاني: إستخلاف الإمام وعهده، وجعله الأمر شورى بمنزلة الإستخلاف، إلاّ أنّ المستخلَف عليه غير متعين فيتشاورون، ويتفقون على أحدهم، وإذا خَلَع الإمام نَفْسَه كان كموته، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.
الثالث: القَهْرُ والإستيلاء، فاذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف، وقَهَرَ الناس بشوكته، انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر"7.
• يلاحظ على هذه الأقوال والنظريات
أولاً: إنّ موقف أصحاب هذه الأقوال في المسألة، موقفُ من اعتقد بصحة خلافة الخلفاء، فاستدلّ به على ما يرتئيه من الرأي، من انعقادها بواحد أو اثنين، أو اتّفاق من تيسّر حضوره، دون النائين من الصحابة، وغير ذلك.
وهذا النَّمَط من الإستدلال، إستدلال بالمُدّعى على نفس المُدّعى، وهو دور واضح. والعجب من هؤلاء الأعلام كيف سكتوا عن الإعتراضات الهائلة الّتي توجهت من نفس الصحابة من الأنصار والمهاجرين على خلافة الخلفاء، الذين تمّت بَيْعتهم، بِبَيْعة الخمسة في السقيفة، أو بَيْعة أبي بكر لعمر، أو بشورى السِّتَّة، فإنّ من كان مُلِمّاً بالتاريخ ومهتماً به، يرى كيف كانت عقيرة كثير من الصحابة مرتفعة بالإعتراض. حتى أنّ الزُبير وقف في السقيفة أمام المبايعين، وقد اخترط سيفه، وهو يقول: "لا أُغمده حتى يبايَعَ عليٌّ". فقال عمر: "عليكم الكلب"!. فأخذ سيفه من يده، وضرب به الحجر، وكُسِرَ8.
ويكفي في ذلك قول الطبري أنّه قام الحباب بن المنذر "وانتضى سيفه" وقال: "أَنا جُذَيْلُها المُحَكَكُ، وعُذَيْقُها المُرَجَّب، أنا أبو شبل، في عرينة الأسد، يعزى إليّ الأَسد، فحامله عمر، فضرب يده، فندر السيف، فأَخذه، ثم وثب على سعد (بن عبادة) ووثبوا على سعد وتتابع القوم على البيعة، وبايع سعد، وكانت فلتة كفلتات الجاهلية، قام أبو بكر دونها، وقال قائل حين أُوطيء سعد: قتلتم سعداً. فقال عمر: قتله الله، إنّه منافق. واعترض عمر بالسيف صخرة فقطعه9. (وفي رواية أخرى للطبري أنّ عمر قام على رأس سعد، وقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ سعد بلحية عمر، وقال: والله لو حصحصت منه شعرة ما رَجِعْتَ وفيك واضَحة، أما والله لو أنّ بي قوة ما أقوى على النهوض لسمعت مني في أقطارها وسككها زئيراً يُجْحِرك وأصحابك (أي يلزمهم دخول الجحر، وهو كناية عن شدّة التضييق)، أما والله، إذاً لألحقنّك بقوم كُنْتَ فيهم تابعاً غير متبوع، احملوني من هذا المكان". فحملوه، فأدخلوه في داره. وتُرك إياماً، ثم بعث إليه أن أَقْبل، فبايع، فقد بايع الناس، وبايَعَ قومُك. فقال: أما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي وأُخَضِّب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما مَلِكَتْهُ يدي، وأُقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل. وأَيْمُ الله، لو أنّ الجنّ اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أُعرَضَ على ربّي، وأعلم ما حسابي". فكان سعد لا يصلّي بصلاتهم ولا يُجْمع معهم، ولا يفيض معهم إفاضتهم، فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر10. وسعد بن عبادة سيد الخزرجيين).
هذه نبذة يسيرة من الأصوات المُدَوّية الّتي عارضت الخلافة والخليفة المنتخب، وكم لها من نظير في السقيفة والشورى وغيرهما ضربنا عنه صفحاً. أفيصح بعد ذلك قول القرطبي: "ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك"، وكأَن الحباب، وسعداً، وابنه قيس، وعامة الخزرجيين، وبني هاشم، والزبير، لم يكونوا من الصحابة؟!.
وثانياً: إنّ هذا الإختلاف الفاحش في كيفية عقد الإمامة، يعرب عن بطلان نفس الأصل لأنّه إذا كانت الإمامة مفوضة إلى الأُمّة، كان على النبي الأكرم بيان تفاصيلها وخصوصياتها وخطوطها العريضة، وأنّه هل تنعقد بواحد أو إثنين من الصحابة؟ أو تنعقد بأهل الحلّ والعقد منهم؟ أو بالصحابة الحضور عند رحلة النبي أو رحلة الإمام السابق؟ أو باتّفاق جميع المسلمين بأنفسهم، أو بممثليهم؟
وليس عقد الإمامة لرجل، أقلّ من عقد النكاح بين الزوجين الّذي اهتمّ القرآن والسنّة ببيانه وتحديده، كما اهتمت السنّة على الخصوص بشؤونه وأحكامه. والعجب أنّ عقد الإمامة الّذي تتوقف عليه حياة الأُمّة، لم يطرح في النصوص، لا كتاباً ولا سنّة "على زعم القوم" ولم تُبَيَّن حدوده ولا شرائطه، ولا سائر مسائله الّتي كان يواجهها المسلمون بعد وفاة النبي الأكرم مباشرة!!
وجملة القول، إنّ اختلافهم في شرائط الإمام وطرق تنصيبه، جعل الخلافة وبالاً على المسلمين، حتى أخذت لنفسها شكلاً يختلف كلّ الإختلاف عن الشكل الّذي ينبغي أن تكون عليه. فقد أصبحت الخلافة الإسلامية، إمبراطورية، وملكاً عضوضاً، يتناقلها رجال العَيْث والفساد، من يد فاسق، إلى آخر فاجر غارق في الهوى، إلى ثالث سفّاك متعصّب. وقد أعانهم في تسنم ذورة تلك العروش، مرتزقة من رجال متظاهرين باسم الدين، فبرروا أفعالهم، ووجّهوا أعمالهم توجيهاً ملائماً للظروف السائدة، وصحّحوا إتجاهاتهم السياسية الخاصة، فخلقوا في ذلك أحاديث وسنن مفتعلة على صاحب الرسالة، واصطنعوا لهذا وذاك فضائل، لتدعيم مراكزهم السياسية، ويكفيك النموذج التالي، لتقف على حقيقة تلك الأحاديث المفتراة.
رووا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهُدايَ، ولا يَسْتَنّون بسُنَّتي وسيقوم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال الراوي: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير، وإن ضَرَبَ ظهرَك، وأَخَذَ مالَك، فاسمع وأَطع"11.
رواية السقيفة رويت بطرق مختلفة وبما ان جميع اهل السنة تقريبا يقبلون بما يرويه البخاري فسنتامل في السقيفة وروايتها المروية في صحيح البخاري لنرى ما تدل عليه من دلالات عميقة على اهل السنة ان يتاملوا فيها بعين بصيرة وليس بفكر مسبق الراي.
فالرواية تدل على ان البيعة تمت في حال صخب وليس في حال تشاور وتدل على ان اهل الحل والعقد لم يقبلوا بما جرى في السقيفة بل كان ذلك رغما عنهم ومداراتهم للوضع بعد ذلك خوفا من الفساد، كل ذلك من كلام عمر بن الخطاب فاقرا معي الرواية والتعليقات.
- صحيح البخارى - البخاري ج 8 ص 25 :
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني ابراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال كنت اقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما انا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع الي عبد الرحمن فقال لو رأيت رجلا اتى امير المؤمنين اليوم فقال يا امير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فو الله ما كانت بيعة أبي بكر الا فلته فتمت فغضب عمر ثم قال اني ان شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذي يريدون ان يغصبوهم امورهم
قال عبد الرحمن فقلت يا امير المؤمنين لا تفعل فان الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فانهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وانا اخشى ان تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وان لا يعوها وان لا يضعوها على مواضعها فامهل حتى تقدم المدينة فانها دار الهجرة والسنة فتخلص باهل الفقه واشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي اهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها
فقال عمر اما والله ان شاء الله لاقومن بذلك اول مقام اقومه بالمدينة
قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلنا الرواح حين زاغت الشمس حتى اجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته
فلم انشب ان خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فانكر علي وقال ما عسيت ان يقول ما لم يقل قبله
فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو اهله ثم قال اما بعد فاني قائل لكم مقلة قد قدر لي ان اقولها لا ادري لعلها بين يدي اجلي فمن عقلهاووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي ان لا يعقلها فلا احل لاحد ان يكذب علي ان الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وانزل عليه الكتاب فكان مما انزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فاخشى ان طال بالناس زمان ان يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة انزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا احصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف
ثم انا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله ان لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم ان ترغبوا عن آبائكم أو ان كفرا بكم ان ترغبوا عن آبائكم
الا ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما اطرى عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله
ثم انه بلغني ان قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ ان يقول انما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت الا وانها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس منكم من تقطع الاعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا
وانه قد كان من خبرنا حين توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان الانصار خالفونا واجتمعوا باسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لابي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى اخواننا هؤلاء من الانصار
فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا رجلان منهم صالحان فذكرا ما تمالى عليه القوم فقالا اين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد اخواننا هؤلاء من الانصار فقالا لا عليكم ان لا تقربوهم اقضوا امركم فقلت والله لنأتينهم
فانطلقنا حتى اتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا قالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ماله قالوا يوعك فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله لما هو اهله ثم قال اما بعد فنحن انصار الله وكتيبة الاسلام وانتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فاذاهم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر فلما سكت اردت ان اتكلم وكنت زورت مقالة اعجبتني اريد ان اقدمها بين يدي أبي بكر وكنت اداري منه بعض الحد فلما اردت ان اتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت ان اغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو احلم مني واوقر والله ما ترك من كلمة اعجبتني في تزويري الا قال في بديهته مثلها أو افضل حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فانتم له اهل ولم يعرف هذا الامر الا لهذا الحي من قريش هم اوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين فبايعوا ايهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم اكره مما قال غيرها كان والله ان اقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من اثم احب الي من ان اتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم الا ان تسول الي نفسي عند الموت شيأ لا اجده الآن
فقال قائل الانصار انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا امير ومنكم امير يا معشر قريشفكثر اللغط وارتفعت الاصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت ابسط يدك يا ابا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الانصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة
قال عمر وانا والله ما وجدنا فيما حضرنا من امر اقوى من مبايعة أبي بكر خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يبايعوا رجلا منهم بعدنا فاما بايعناهم على ما لا نرضى واما نخالفهم فيكون فساد
فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا
وفي هذه الرواية
اولا:
ان بيعة ابي بكر فلتة لم تكن من الله ولا من رسوله((فلا يغترن امرؤ ان يقول انما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت الا وانها قد كانت كذلك))فتكون بيعته بدعة وليست سنة ليؤخذ بها وتتبع
ثانيا:
ان رئيس الانصار سعد بن عبادة وراس الهاشميين علي بن ابي طالب وكذلك الزبير من الهاشميين كانوا مخالفين لهم وهم كبار اهل الحل والعقد فعلي زعيم الهاشميين وسعد زعيم الانصار فمن اهل الحل والعقد اذا لم يكن هؤلاء فالبيعة لم يقبل بها اهل الحل والعقد
ثالثا:
ان الانصار كانوا يريدون ابعاد ابي بكر وجماعته عن الخلافة والاستئثار بها ((وقد دفت دافة من قومكم فاذاهم يريدون ان يختزلونا من اصلنا وان يحضنونا من الامر))فاين اعتقاد الانصار استحقاق ابي بكر بالخلافة وهم يريدون ان يختزلوهم من اصلهم وهي تدل على ان الانصار يعتقدون ان لا استحقاق لهم في الخلافة
رابعا:
ان ابا بكر لا يعتقد انه منصب من رسول الله ولذلك قدم على نفسه احد رجلين وامر الناس ان تبايع احدهما فالصلاة لم تكن ترشيحا له للخلافة كما يدعون والا لما عرض الخلافة على غيره ((وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين فبايعوا ايهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ))
خامسا:
ان البيعة تمت في حال حرب ولغط وليست في حال شورى ((فقال قائل الانصار انا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا امير ومنكم امير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الاصوات حتى فرقت من الاختلاف فقلت ابسط يدك يا ابا بكر فبسط يده فبايعته))
فالبيعة تمت في حال اختلاف شديد وليس في حال وفاق
سادسا:
نزوا على سعد بن عبادة رئيس الانصار وكادوا يقتلوه لانه معترض على قبول البيعة فاين الشورى اليس سعد بن عبادة من اهل الحل والعقد ((ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة))والمفروض ان يكون له راي في القبول او العدم لا ان يداس بالاقدام ويدعى عليه بالقتل لانه لم يقبل بخلافتهم
سابعا:
ان ابا بكر وعمر عجلا بالخلافة قبل تجهيز رسول الله لانهم يخافون ان تذهب الخلافة لغيرهم فيكونوا في احد حالين
الاول: ان يبايعوا رجلا لا يرتضونه
الثاني : ان يخالفوا فيكون الفساد
وعليه فقد كشف عمر عن سر خطير وهو ان الناس تبايع الاول ولا تبايع الافضل فمن بايعوه اولا لا يعدلوا به الى غيره وان كان غيره اصلح ويحتاج اصلاح الامر الى المخالفة وحصول الفساد
وهو عذر على السنة ان يعرفوه في اعتذار للامام علي عليه السلام حينما لم يحارب بعد ان بايعوا لانه لو خالف لحصل الفساد(( خشينا ان فارقنا القوم ولم تكن بيعة ان يبايعوا رجلا منهم بعدنا فاما بايعناهم على ما لا نرضى واما نخالفهم فيكون فساد))
ثامنا:
ان بيعة ابي بكر عن غير مشورة ولكنها فلتة فالمفروض ان لا تعاد مرة اخرى ولا يبايع غيره بدون مشورة ولا يبايع من بايعه ايضا
وهذا يعني ان المفروض ان لا يبايع عمر لانه بايع ابا بكر عن غير مشورة بل استغل لغط الناس وبايعه والطروحات مازالت قائمة لم تستنفذ ((فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة ان يقتلا))
فتكون خلافة ابي بكر قهر واستيلاء وبدعة وفلتة لايؤتى بمثلها الا قتل