مشاهدة النسخة كاملة : ألمـُـنـعــَـطــَــف
زكي الياسري
16-07-2012, 09:22 AM
بسم الله الرحمن الرحيم .. السلام عليكم يا رواد ( انا شيعي ) الاعزاء ..
هذه قصة .. تدور احداثها في احدى القرى الصغيرة في قلب قارة اورپا .. تتكون من ثلاثة اجزاء .. وهي اول محاولة لي في هذا المضمار الجميل و العميق الاغوار .. دخلته من قبل راشفاً من نمير مبدعيه .. و ها انا اليوم ادخله ساكباً فيه من كأسي البائس كلمات ..
عنوانها ( المُنعَطــَـف )
أتمنى ان تروق لكم فهي قصة حقيقية .. حفزتني لكتابتها القصة الرائعة للاخت المؤمنة ( في الروح تسكن ) التي تحمل عنوان
... حين يغزوني الدُجى انت سراجي يا علي (http://www.imshiaa.com/vb/showthread.php?t=148558) ...
و حفزني لنشرها رجائي أن تنفع من قد يمر عليها من المؤمنين .. و قد سَردتُ بينَ طيات سطورها .. جُلَ صِراع النفس و الضمير فالتمسكم العذر ان افلت زمام القلم .. او أفرَطـَـت اناملي في عفويَّـتِـها .. و الله تعالى من وراء القصد .
-------------------------------------------------------------------------------------
الجزء الاول
مزرعة فولتمان
توبياس .. شاب في اواخر الثامنة عشرة من العمر .. يُسمّيه جميع عُمال مزرعة الزهور اختصاراً : توبي
و انا .. دخلت بالامس اول يوم من ربيعي الاول بعد العشرين .. لقد كان حقاً يوماً مـُـثيراً
لم اك في ما مضى اعيرُ اهتماما لذكرى ميلادي .. كنت في اعيش في بلدٍ .. أفترست ابتساماته ضِباعَ البر .. و جثمَت على صدرهِ وحوش الفلوات .. و تشوَّهَت ملامحه بدخان الحروب .. فاختنقت احلام ابنائه قبل ان تــُبصر نوراً .. يُسمى الحياة ..
هنا كانت دنياً جديدة ... لم اعهدها من قبل .. اصبح توبي صديقاً لي يزورني او ازوره دائماً في عطلة نهاية الاسبوع .. و كنت اشاكِسهُ مازحاً آنذاك بقولي : ألا يكفي اني اراكَ يومياً في العمل ؟؟
يبتسم .. و يجيبني بسؤال : كيف يمكنك البقاء وحيداً في البيت في عطلة نهاية الاسبوع ؟؟ هل انت مجنون ؟؟
فاقول له : اين اذهب في هذه القرية الصغيرة التي لا اعرف فيها سواك أيها الابله ؟؟ !!
انا مسلم و لا يمكنني الذهاب مثلكم الى الحانات التي هي ملجأكم الوحيد في تلك الليالي !! فيقول : ليست حاناتٍ فقط .. بل هناك سينما و بليارد و بولنغ و ديسكو و موسيقى و صالات القمار و نوادي و ملاعب و تنس و و و
كان يقول لي بلغة الواثق : سأغيّر وضعك يوماً ما .. سأساعدك على هذا.. انت لطيف المعشر و يجب ان تتعرف على اصدقاء اكثر لكي تندمج مع هذا المحيط ولكي لا تشعر بالوَحدةِ و الملل ... فأجيبه متهكماً كالعادة .. لم و لن تستطيع ..
الخميس 29 فبراير .. في استراحة الضهيرة .
وضعت مفاتيحي و محفظة نقودي و علبة سجائري على الطاولة .. و فتحت العلبة التي وضعت فيها طعامي لكي اتناول منه بعض ما يسد جوعي .. فقد كان العمل شاقاً في ذلك اليوم الطويل ..
اخذ توبي محفظة النقود و فـتحها و سحب منها بطاقتي الشخصية .. بفضولهِ و شقاوتهِ التي تعودت عليها ..
قهقه توبي بصوت عالٍ .. ساخراً من صورتي التي كانت مضحكة بعض الشي في البطاقة ..
لم افوت الفرصة وقلت له بغضب :
عليك اولاً بالنظر الى وجهك في المرآة قبل ان تضحك من منظر صورتي أيها المجنون .. فأنفك لا يحتاج إلا بعض اللكمات مني لكي يعتدل و انا مستعد لاسداء هذه الخدمة لك بدون مقابل و بذلك ستوفر مصاريف عمليات التجميل الباهضة الثمن ...
ضحك و هو ما زال يمسك ببطاقتي الشخصية كما ضحك كل من كان جالساً في حجرة الاستراحة من جوابي .. كان ذلك في مزرعة زهور فولتمان الصغيره التي نعمل بها انا و توبي و بعض العمال و العاملات ..
فجأةً .. صرخ توبي بوجهي بلهجة المتعجب !!!
أنت ... بعد غدٍ هو يوم ميلادك !!
قلت : نعم و ماذا في ذلك ؟؟
توبي : لم لم تدعوني للإحتفال ؟ ألستُ صديقك العزيز ؟؟؟
قلت : اي احتفال ؟
توبي : احتفال عيد ميلادك يا مجنون !!
قلت : نحن لا نحتفل بعيد الميلاد .. اصلاً انا لم انتبه قبل مجيئي الى بلدكم الى تأريخ ميلادي و لم اعره اهتمامي يوماً !! فقد كنت في بلدٍ تمطر عليه السماء جراحاً .. و كانت ايامه تترى بالمحن .. و الموت ..
توبي : هذا جنون .. هل يعقل ان احداً لا يحتفل بميلاده ؟؟؟
قلت : أجل .. انا ..
توبي ضاحكاً : لاااا يا صديقى .. انت الان في بلدنا ويجب عليك ان تحتفل بعيد ميلادك من اليوم فصاعداً .. تماماً كما نفعل .. و هي فرصة رائعة لكي تندمج في هذا المجتمع الذي مازلت تحس فيه بالغربة .. و هي فرصة لتتعرف على اصدقاء جدد .. كما انها فرصة لترى زملاء العمل بغير ملابس العمل الخضراء التي من المؤكد انك مللت النظر اليها .. هذا ناهيك عن ان كل المدعوين سيشترونَ لك الهدايا و يكتبون لك عبارات التبريك على بطاقات تبقى ذكرى لديك مدى العمر .. و يمكنك ان تضعها في البوم الصور التي سنلتقطها في يوم ميلادك .. فأنا افعل ذلك في كل سنة و قد اصبح لدي الكثير من الالبومات التي اعاينها بين الحين و الحين لكي استعيد بعض الذكريات الجميلة .. انا سوف ارتّب لك احتفالاً و ادعوا بعض اصدقائي .. لا تقل لي ( لا ) لاني سوف اجبرك على ذلك ... هُنا تدَخل فرانك - صاحب المزرعة التي كنا نعمل فيها – قائلاً :
عليك ان تقبل بنصيحة توبي يا عزيزي ... و لن تندم فأصدقاء توبي لـُطفاء و صديقاتهِ حسناوات ! كما ان من محاسن الصُدف ان ميلادك جاء مع عطلة نهاية الاسبوع لكي نحظره كلنا .. ثم هَمَس فرانك في اذني بصوتٍ لم يسمعه غيري قائلاً : ( و تذكر يا عزيزي .. سوف يكون يوم ميلادك منعطفاً في حياتك لن تنساه ) .. و انا سأكون موجوداً بلا شك مع زوجتي إنزا و هدية تليق بجهودك في المزرعة .. و قال هايو - وهو ايضاً زميلنا في العمل - انا سأكون حاضراً مع زوجتي و هديتين .. ضحكت من قوله .. و ما مرت ثوانٍ .. إلا وقد اعلن جميع العُمال – وهم اربعة فتيان و خمس فتيات - عن عزمهم حضور هذا الاحتفال .. و انا في وسطهم احاول تجنب نظراتهم التي تسلطت كلها في تلك اللحظة عليّ و كأنني ابن الرئيس .. خصوصاً و انا بطبعي .. اكره ان اكون محط الانظار .. احسست بان رفضي لطلبهم سيتسبب لي باحراج شديد .. فأجبتهم ببسمةٍ خجوله .. بالايجاب بشرط عدم جلب الكحول الى الاحتفال فقبلوا شرطي بعد اعتراض لم يدم طويلاً .. نعم قبلت الاقتراح الذي اشعل في داخلي نارين .. نار الخوف من هذه الخطوة الجديدة على قاموس تصرفاتي .. و نار الفضول و حب الاستطلاع إضافةً الى الشوق للهدايا التي سوف يجلبونها لي ..
ابدى توبي فرحاً لموافقتي .. و وعدني بإعداد كل ما يلزم للاحتفال .. و لم يخفِ تذمره من شرطي السالف ذكره ..
نهضنا من جديد لمتابعة العمل .. و كلمة فرانك ما زال صداها يتردد في أذني .. لماذا يا ترى قال ان يوم ميلادي سيكون منعطفا ؟؟؟
...........................
التالي : الجزء الثاني
زكي الياسري
16-07-2012, 09:26 AM
الجزء الثاني
محراب الصلاة
الجمعة .. 30 فبراير
.. قضيت جُل نهاري و انا افكر بالاحتفال .. كما اني لم اتحرر ليلتها من براثن الارق حينما غزا افكاري شكل عيد ميلادي الاول !! فقد تجاوزت العشرين من عمري .. ما جدوى هذه الخطوة الطفولية ؟؟ هذا كان اكثر التسائلات دوراناً في عقلي ..
امسكت بسماعة الهاتف :
هلووووو ... توبي .. كيف حالك يا عزيزي ؟
توبي : انا بخير .. لقد انتهينا للتو من شراء آخر مستلزمات الاحتفال .. وكيف حالك انت ؟
أثناء حديثه ايقنت باني لن استطيع التراجع عن قراري .. لانه مهتم به جداً و قد اشترى مستزماته ..
قلت له : كم شخص سيأتي ؟ انا لا اعرف ماذا افعل يا صديقي !! ماذا علي ان اشتري من السوق ؟ ما هي رغـ ...
قبل ان اكمل الجملة قاطعني توبي قائلاً : يا صغيري .. انه عيد ميلادك و انت طفلنا المدلل لمدة يومين .. ما عليك سوى ان تضع رجلاً على رجل و تطالع التلفاز .. و لا تشغل بالك بالاحتفال و تحضيراته .. نحن نتكفل بكل هذه الامور ...
قلت له : لكنني اريـ ..
توبي : لااااااا توجع رأسي بــ لكن و اخواتها .. و اغلِـق سماعة الهاتف قبل ان افعل انا ذلك ...
قلت ضاحكاً : حسناً حسناً .. افعل ما يحلو لك و انا بانتظاركم .
بعد ان ازاح كلامه اللطيف عن كاهلي بعض الرَهبة .. قمت بترتيب شقتي الصغيرة .. التي استاجرتها قبل ما يقارب الاربعة اشهر .. و انا افكر بكيفية ان تستوعب كل الضيوف !! فأنا لا املك سوى ثلاثة كراسي لا يشبه احدهما الآخر و اريكة طويلة مغطاة بقماش مخملي ناعم كنت انام عليها احياناً كثيرة مع ان سريري اكبر و انعم .. و طاولة مستديرة .. و بعض قطع الاثات .. و سجادة الصلاة و القرآن الكريم و تربة ..
وقع نظري على السجادة .. التي خصصت لها زاوية من زوايا حجرتي الوحيدة جعلتها محراباً لصلاتي .. طويت السجادة و القران الكريم و التربة بداخلها و وضعتهم في الجاروره .. خوفاً من ان يثير وجودها على الارض فضول ضيوف الغد .. خصوصاً و ان البعض منهم كان يتعجب مني لما كنت اقيم الصلاة في استراحة العمل .. كانوا يربطون السجادة باذهانهم بقصص البساط الطائر .. و كما ان بعضهم لم يكن يؤمن بوجود خالق اصلاً .. و بعضهم يعتقد ان الدين يخص كبار السن فقط ... لقد كان الحديث عن الإسلام آنذاك يُربط بالارهاب في كل القنوات .. بسبب هجمات المتطرفين في ايلول على مركز التجارة العالمي .. و لم تكن لغتي آنذاك تكفي لتبيان الفروق بيننا و بين أولئك المتطرفون ..
على كل حال .. انتهيت من ترتيب الشقة .. و عكس الامس .. فقد استسلمَت عيناي للنوم فور ما لامس خدي نعومة سريري الحبيب و المخدة التي احبها كثيراً .. رغم اني اجدها كل صباحٍ قد سقطت من على حافة السرير ..
فجر الأحد .. 1 مارس
.. إستيقظت فجراً حينما رن المنبه لصلاة الصبح .. لأجد في نقالي العديد من رسائل التبريك القصيرة من زملائي و زميلاتي في العمل .. عرفت فيما بعد ان من اعرافهم التبريك حال دخول يوم الميلاد .. اي بعد منتصف الليل بقليل ..
في حدود الثالثة عصراً وصل توبي مع صديقتهِ فيرونيكا و صديقتها الجميلة ناتاليا .. عانقوني واحداً تلو الآخر و انشدوا لي فور ان فتحت الباب .. انشودة الميلاد الشهيره .. و اغرقوني بوابلٍ من الازهار و الهدايا الجميله .. كما انهم احظروا معهم الكثير من مستلزمات الاحتفال .. و لم تتعدى ساعة من الزمن حتى دق جرس الباب من جديد .. كان القادم هو هايو و زوجته مارتينا .. عانقني هايو و اغرقني بعبارات التبريك و التهنئة بعد ان اعطاني باقة رائعة من الزهور وهدية .. و اردفته مارتينا بعناق احر من عناقهِ لي مع قبلة على خدي الايمن و اخرى على الايسر !! كما جاء تِباعاً بعض الزملاء و الاصدقاء الذين دعاهم توبي ..
لم اعهد هذا الامر من قبل .. انا لم اصافح أمرأةً في حياتي قط لحرمة هذا الامر فكيف سمحت لنفسي اليوم بذلك .. يا الهي .. لقد بدأ ضميري يقصفني بقذائف التأنيب التي دكت اعماق اعماقي ... و قد بدأ لهيب الندم يستعر في اوصالي
ماذا فعلت ؟؟؟
و سرعان ما خمد لهيب ضميري بانشغالي بوصول باقي الضيوف الذين دعاهم توبي للاحتفال .. و اكتمل عددهم بحضور فرانك و زوجته انزا .. بعض الحاضرين جلب معه مُسجلاً و بعض اسطوانات الموسيقى .. و قام بتشغيلهِ .. موسيقى في بيتي و انا ابتسم لكل من ينظر اليَّ من ضيوفي .. يا الهي .. الضمير كان في تلك اللحظات كالاسد الذي اطلقوا عليه رصاصة تخدير .. لكي يذهبوا به الى حديقة الحيوانات ... شباب و بنات و موسيقى و صخب .. كل هذا في بيتي .. بسبب لحظة قرارٍ ضعيف تم بلا مشورة العقل .. كانت عيني تقع بين الفينة و الفينة على الجارورة التي اخفيت فيها سجادتي و قرآني و التربة.. مر وقت صلاة المغرب .. العشاء .. تجاوز الوقت منتصف الليل .. و لم اصلِ .. و الضمير ينادي في آخر انفاسه قائلاً : الا تستحي من سجادتك ... قـُرآنك ... تربتك ... ؟؟ ماذا فعلت يابن علي ؟؟؟
كنت اتبسم في وجوههم .. و في اعماقي .. بركانٌ من ندمٍ .. على اتخاذي ذلك القرار الطفولي البائس ..
الكل يُحدّث الكل .. و انا بينهم .. تارةً اصارع الضمير الذي مازال فيهِ بعض رمق .. و اعتذر لسجادتي و تربتي و قرآني تارة اخرى ...
مرّت الساعات صاخبة لكنها كانت بطيئة الدقائق و طويلة الثواني .. بدأ بعض الضيوف بالرحيل .. توبي كان مُتعباً جداً .. وقد احتلّ جانباً من سريري الحبيب بعد ان استسلم للنوم .. و في حدود ساعة الفجر الثالثة .. غادر آخر الضيوف ما عدا فيرونيكا و ناتاليا .. و توبي النائم على سريري الحبيب ..
فيرونيكا : ما رأيك بالليلة ؟؟
قلت : انها ليلة فريدة .. لم ارى مثلها في حياتي ..
قالت : إذن ستقيم احتفال ميلادك في السنة القادمة ؟؟
قلت : بالتأكيد .... رغم ان في اعماقي عكس ذلك الجواب ...
ناتاليا تنظر الينا و تستمع وهي تداعب خصلة من خصل شعرها تتدلى على جبينها .. و رغم انها لم تنبت ببنت شفةٍ طوال تلك الليلة الليلاء .. لكني كنت اقرأ كثيراً من الكلمات في نظراتها التي ما فارقتني على مدار الوقت!!
فيرونيكا من جديد : هل اعجبتك الهدايا
قلت : بكل تأكيد .. لقد اعجبتي الهدايا و خصوصاً الازهار التي احبها .. ولكن قبل كل الهدايا اعجبني عظيم اهتمامكم بي و حجم الحنان الذي احطتموني به رغم ان صداقتنا ليست بالطويلة !!
قالت : لااااا تقل هذا .. هذا واجبنا .. و سرعان ما بدأت ناتاليا بالحديث - بعد ان اكتفت طوال الاحتفال بالصمت - بقولها لي : لقد عملنا كل هذا لانك عزيز علينا و ما زلنا مُقصرين .. أنت تستحق اكثر من ذلك ...
اثارني كلامها الذي قالته بصوتها العذب الذي حرك في داخلي مشاعر كانت قد بدت بوادرها الاولى عندما سقطت اولى نظراتي عليها قبل ايام .. حينما التقيتها بالصدفة في زيارتي الاخيرة الى بيت توبي .. و استمرينا بالحديث انا و هي .. و فيرونكا كانت تتثائب بين الفينة و الفينة ...
وبعد ان كنت قبل دقائق اتمنى ان تنتهي الليلة بسرعةٍ لكي اخلد للنوم .. اصبحت اتمنى ان لا تنتهي أبداُ ... خصوصاً بعد ان اسلمت فيرونيكا المتعَبة هي الاخرى زمامها الى سُلطان الكـَـرى كما فعل قبلها توبي ...
بقينا انا و هي نتبادل اطراف و سطوح و اعماق الحديث ...
بعد برهة ... نظـَرَتْ إلى ساعتها .. قلت لها متعجباً و كاني استفقت للتو من غيبوبة : متى ستذهبين الى البيت ؟
أجابتني انها قد اخبرت امها بانها ستبيت الليلة عند فيرونيكا ..
قلت : هي تغط الان في نوم عميق .. واظن انها الان في حلم جميل و لا اعتقد رغم قرب بيتهم انها ستذهب الى هناك
ضحكت بصوت منخفض قائلةُ : اجل انا اظن ذلك ايظاً .. ثم سألتني : هل انت مُتعب ؟
قلت : الآن لااااا .. رغم اني كنت قبل حديثي معكِ في اشد الشوق لأحضان سريري الدافئ ..
قالت : لماذا ؟؟؟
قلت لها و انا انظر الى عينيها الناعِسَتَين ....... لا ادري !!
سادَ المكان صمتُ رهيب .... و اطفأت نسمة من نسمات الفجر .. أخر شموع الفجر الموقدة على الطاوله .. و كأن ملاكاً من ظلامٍ قد نفخ عليها إيذانا منهُ لبدء عهدٍ جديد ....
قالت .. بالتأكيد انك ستنام غداً طوال النهار
قلت : لا اظن .. فتوبي لن يسمح بذلك كما تعرفين شقاواتهِ وافعاله الصبيانية .. فهو لا يستخدم غير اسلوب قدح الماء في إيقاظي .. كلما بات ليلته عندي ...
ضحكت مرة اخرى بصوت خافِت ...
كنت اتعمد ان اضحكها لروعة ابتسامتها الجذابة التي سحرتي اول مرة .. و كل مرة ..
نظرت الى الجارورة مرة اخرى .. و اطلقت لاشعورياً آهة عميقة
قالت : هل انتَ على ما يرام ؟
قلت : في الحقيقة انا سعيد جدا .. و لكني في نفس الوقت حزين لاني اغضبت احداً آخر .
ناتاليا : من هو ؟؟ هل انت مرتبط ؟؟ قالتها بلهجة الغيورة وقد قطبّت حاجبيها .. و كأنني كنت خليلها منذ الازل
قلت : لا لا .. لا تذهب بكِ الافكار الى الضفة الاخرى .. انا سأخبركِ به في لقاءٍ آخر .. و أتمنى ان يكون قريب ..
ابتسمت ابتسامة رضا و بدت على وجهها الجميل علامات الفرحة و السرور لما قلت ..
كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة فجراً .. و لا اتذكر كيف ومتى استسلمت الى النوم الا بعد ان ايقظتني لسعات خيوط اشعة شمس منتصف النهار التي تسللت من خلال النافذة الصغيره .. لأجد نفسي وحيداً من جديد مُحاطاً بالهدايا و باقات الورد من كل جانب .. و فرحت من اعماقي حينما وجدتهم قد أعادوا الشقة الى ترتيبها الاول و كأن ما كان كان حُلماً جميلا ..
هنالك وقعت عيني على الطاولة .. كانت هناك ورقة الى جنب شمعة الفجر الاخيرة .. بداخلها رسم قلبٍ مكتوبٌ في داخلهِ :
أنتَ أنقى مما تصورت .. وقد احتلت كلماتك الجميلة مساحة في اعماقي .. لم يدخلها احدٌ قبلك .. و اشعلــَت نظراتك ناراً من مشاعرٍ في داخلي لا يطفئها سواك ...
يا الهي .. اذهلتني تلك الكلمات التي لم اكن اتصور في يوم من الايام ان تخاطبني بها انثى .. بجمال و رقة ناتاليا
مرت الدقائق و الساعات بل كل اليوم .. و انا بين مد الضمير و جزر العواطف ....
كانت تجربتي الاولى مع الخوض في لجة ذلك البحر العميق المسمى الحُب ....
انا ابن علي
هذه العبارة كانت دوماً في مقدمة كل فكرة تأخذني اليها .. ولكن رغم كل انتفاضات الضمير و مقاومة العقل .. كنت اشتاق الى ابتسامتها البديعة .. و حديثها العذب .. وعيونها الناعسة
الجمعة 6 مارس
توت توت .. توت توت .. رن جرس النقال معلناً من جديد وصول رسالة قصيرة منها .. كانت الرسائل القصيرة تتوالي علي طوال الاسبوع الفائت .. ونبضات الفؤاد كانت تتسارع في كل مرة ..
المرسِل : ناتاليا
الرسالة : كيف ستقضي الليلة ؟؟ بودي ان نقوم سوية بعمل ما .. انا اشعر بالملل و اتمنى ان توافق على دعوتي اياك الى المطعم الصيني ..
كتبت لها : انا احب اكلات المطبخ الصيني .. لكن هذا ليس السبب الوحيد لقبولي الدعوة !!
و التقينا
كانت ليلة مليئة بالحكايا الجميلة و الضحكات الرائعة و و المشاعر الصادقة .. التي لم آلفها من قبل .. و كان الوقت يمضي بسرعة البرق .. كعادة الزمن الجميل
كان اول سؤال سالتنيه هو عن آهة ليلة الميلاد التي اثارت فضولها ..
قلت لها : انتِ تعلمين بانني مسلمٌ و قد هاجرت الى هذا البلد خوفاً من الموت في بلدي
و تعلمين اني شرقي التربية و الطباع .. و آهتي في تلك الليلة كانت بسبب تقصيري في أداء الصلاة ..
قالت : لماذا لم تصلي اذن ؟
ضحكت و قلت لها : نحن لا نصلي كما تصلون انتم النصارى .. فانتم تغمضون اعينكم و تتوجهون بافكاركم الى الله بعد شبككم اياديكم بعضها ببعض ثم تطلبون منه تحقيق بعض الاماني .. و القليل منكم يفعل ذلك .. اما نحن فصلاتنا تختلف .. ولها مقدمات و مواعيد محددة و حركات معينة لم اكن استطيع ادائها في تلك الاجواء حيث كانت شقتي ملئى بالضيوف .. بالاضافة الى الموسيقى و الاجواء الصاخبة التي لا تتناسب مع الصلاة حسب معتقدي .. ولو صليت في تلك الليلة امام الجميع لسخروا مني .. نعم لقد كنت اشعر بالذنب لإقامتي ذلك الاحتفال .. رغم ان الاحتفال كان جميلاً بوجودكم ..
قالت : هل انت مُتدين الى هذا الحد ؟؟
قلت : انا احب ديني لاني احس باني في احسن الاحوال حينما اكون قريباً من الله و هذا لا يتم الا بالمحافظة على الصلاة و الاخلاق الحميدة .. و نفسي تكون اكثر اطمئنانا حينما اكون بعيداً عن الامور المحرمة من قبل السماء .
قالت : ولكنك في مقتبل العمر و الدين هو للكبار فقط
قلت : سيكون كلامك صحيحاً لو علم الانسان متى يموت .. فيعبد الله تعالى في اخر سني عمره .. و هذا غير معقول و هو مفهوم خاطئ .. فربما سأموت بعد لحظات !! نحن نعتقد ان وجود الانسان على الارض هو في مصلحة الانسان و لكي يبلغ اعلى درجات الكمال كي يدخل بعد ذلك الى الجنة .. وذلك لا يتم الا اذا كانت العلاقة مع الله و الناس في احسن صورة .. و احسن علاقة مع الله هي العلاقة التي هو من وضع قواعدها و منها الصلاة .. و سردت لها بعض تعاليم الاسلام التي كانت خافية عنها الى ان وصلنا الى المرأه في الاسلام و الحجاب و تنظيم الاسلام للعلاقة بين الرجل و المراة .. الامر الذي اثار فضولها و طلبت مني ان افصله لها .. ففعلت ..
مرت الايام و علاقتنا تزداد عمقاً .. و قلوبنا تقترب الى دائرة الانسجام .. و ارتبطنا اخيراً برباط المودة ..
لم تكن علاقتنا مُحرمة .. فقد كانت في حدود ما أذن ديني .. و لم تبدِ هيَ ايَّ اعتراض على صيغة العقد .. بل بالعكس فقد كانت تتباهى بين صديقاتها بان علاقتنا تمت بعقدٍ منطوقٍ ويحمل ختم السماء ... لكن الذي كان ما يزال يشعل نار ضميري هو الاختلاف العميق فيما دون ساحة الفؤاد .. فهي من مجتمع منفتح لا يعرف الحجاب ولا الستر ولا الصلاة و لا التربة و لا القران .. بل انها تجهل الكثير من امور دينها هيَ .. و لم تكن تذهب الى الكنيسة إلا في اعياد راس السنة .. مع والديها .. فقط لانهم تعودوا على ذلك منذ الطفولة ... كانوا نصارى لكنهم لا يعرفون عن عيسى ع الا مسامير الصليب ...
ماذا افعل يا الهي .. أنا من قلب الاسلام .. علاقتي معها حلال بذاتها .. لكن الكثير من تبــِعاتها محرمة و لا تتناسب مع تربيتي و نشأتي ... ذات يوم طلبت مني ان اذهب معها الى بيتهم لكي تعرفني على اهلها .. و كانوا في غاية اللطافة .. لكنهم ليسو بمسلمين .. الخمر كان من البديهيات على موائدهم .. بل و يشربونه حتى في الكنيسة .. و الكلب ( زوي ) هو احد ابناء البيت البررة الذين لهم نفس حقوق باقي ساكنيه .. و القطة المرقطة سالي التي كنت اغيضها احيانا كذلك .. والموسيقى عندهم سر الحياة .. والرقص عندهم مفتاح السعادة و و و و
رغم كل ذلك كان حُبنا ينمو تحت اعيننا كطفل صغير يملأ أجوائنا بالبهجة و السرور .. تماما كما كان تفكيري بمستقبل علاقتنا ينمو و يزداد ... في عقلي انها علاقة مؤقتة ... لكن منى قلبي كان بأن لا تنتهي علاقتنا الى حين الاجل .. و في قلبها كنت انا فتى الاحلام الذي انتظرته طويلاً كما اخبرتني ..
هي لا تدري بما يدور في خاطري من مخاوف ... و لم استطع يوماً ان اخبرها بذلك .. لاني كنت اخشى سلاح المرأة .. سلاح الدمع .. دموعها كانت مخيفة و غالية عندي .. و لن اسمح يوماً بان تجري بسببي ...
في داخلي كان هناك يقين ان هذه العلاقة من المستحيل ان تدوم و الحب كان من اقوى الدوافع التي تدفعني لمصارحتها بما يدور في خلدي .. لان توالي الايام الجميلة سيزيد شعلة الحب توهجاً .. لذا حتماً سيكون الم الأفتراق كبير .. بحجم الحب .. و جرح الانفصال عميق .. بعمق المَوَدة .. و نار الهجر لاذعة .. بحرارة دقائق الوصل اللاهبة ... لم اصرح لها بما يدور في خلدي ... و استسلمت للواقع الجميل الذي اعيش فيهِ و ضميري بين كر و فر ... خصوصاً ان حبها لي كان ضِعف حبي لها و يزيد ..
كؤوس الابتهاج
ذهبت اليها .. حيث كانت تنتظرني على باب المَعهد .. كانت فرحة جداً بالنتيجة الممتازة التي حققتها .. بعد ليالٍ طويله من السهر و القرائة و الدراسة .. وكان محور دراستها علم الاجتماع .. و حلمها ان تصبح مُربية لكي تفتح روضة اطفال خاصة .. لإنها تحبهم كثيراً .. اخبرتني بذلك مراراً و تكراراً .. و انا كنت اخشى ان ابين لها مدى عشقي للاطفال .. لكي لا أضيف املاً جديداً الى صرح آمالها المشروعه .. الذي بنت اساساته الاولى في بُستان مَوَدَتي ...
قالت : اليوم تاتي الى بيتنا لنحتفل بالمناسبة السعيدة .... لم استطيع ان ارفض طلبها لكي لا اعكر عليها صفو تلك الدقائق السعيدة .. اوصلتها بسيارتي الى البيت و وعدتها ان آتي بعد صلاة العشاء .. يا الهي .. مرة اخرى سأضطر الى مسايرتهم ومجالستهم على طاولةِ الاحتفال التي لا تخلوا من كؤوس الابتهاج .. لقد مرّ على علاقتنا مدة من الزمن .. و لم يمر يوماً دون ان نلتقي ببعضنا البعض .. كانت علاقة صافية وعلى احسن ما يرام لولا ضبابية صورة المستقبل ... كيف هو شكل مستقبلكَ مع امرأة لا تلبس الحجاب ؟؟ كيف ستربي اطفالك ؟؟ كيف ستعلمهم الصلاة و القرآن في هذا البلد الفاسد ؟؟ كيف وهي نصرانية و لا تعرف من الاسلام شئ ؟؟ ثم كيف ستقنع اهلك و اقاربك بهذا الاختيار ؟؟؟ .. كيف كيف كيف .. كل تلك الاسئلة كانت تمر يومياً في بالي .. لكن عاطفتي و تعلق قلبي بها لم يسمحا لعقلي بأكثر من طرح تلك الاسئة .. دون السماح له ولو بمشروع جواب .. الى ان جائت الليلة المشهودة التي تستحق بجدارةٍ لقب : ليلة المنعطف !!
زكي الياسري
16-07-2012, 09:29 AM
الجزء الثالث و الاخير
ليلة المنعطف
سالي ... نعم هي القطة التي تعيش في بيت اهل ناتاليا .. كانت تسير بسرعة امامي و انا اتبعها و الارض تُطوى امامنا الى ان وصلنا الى مشارف النجف الاشرف ... حيث قبر مولاي امير المؤمنين علي عليه السلام و مسقط رأسي ..
فور ما دخلنا الى محيط المدينة القديمة .. بدأت القطة تكبر و تكبر .. وصلنا الى جوار مرقد امير المؤمنين و قد تحولت سالي من قطة الى نمر .. دخل ذلك النمر الى ( مدرسة البروجردي الدينية ) المقابلة للصحن الحيدري الشريف .. و بالتحديد دخلت القطة النمر الى الحجرة المقابلة لمدخل المدرسة .. تبعتها لكي ادخل الى تلك الغرفة و فتحت الباب لكي ادخل و إذا بي اجد هناك أمير المؤمنين عليه السلام ... كان طويلاً و عريض المنكبين و يرتدي عمامة خضراء داكنة و عبائة غامقة اللون تحتها جبة بنيّة اللون وقد تدلت اطراف عمامتهِ الخضراء على كتفيه من الجانبين .. قلت له فوراً :
سيدي و مولاي .. كيف اذنت لي بزيارتك و انا المذنب العاصي ... و قبل ان استرسل بالكلام .. قال لي : اصمت و اتبعني ... و مشى الامام أمامي بوقار متوجهاً الى جدار الصحن المقدس و انا امشي خلفة مطأطئاً راسي خجلاً منه... وصلنا الى جدار المرقد على يسار باب الساعة فاقتلع امير المؤمنين ع حجرين من جدار المرقد و اخفاهما في حزام كان مشدوداً على وسطهِ عليه السلام
افقت من منامي و انا مبهور مما شاهدته في تلك الرؤيا العجيبة ... و هيبة امير المؤمنين لم تفارق مخيلتي و انا بين السعيد برؤيته و بين الوجل المرعوب من تصرفه عليه السلام .. و بعد تفكير عميق ايقنت انه لم يأتيني مبشِراً او زائراً .. و انما بأقتلاعهِ الحجرين من الجدار .. كان يحذرني من امرين : اولهما حذفي من شجرة الانتماء اليهم - و انا انتمي بالنَسَب اليهم - و التحذير الثاني هو : حذفي من الانتماء الى مذهب التشيع الذي اتخذه منهجاً لحياتي .. يا الهي .. انا لا علم لي بتفسير الاحلام إلا ان الرؤيا كانت واضحة التفسير .. و عليك ان تأخذ قرارك و إلا هلكت .. هذا ما حدثت به نفسي في تلك الثواني الرهيبة ...
بقيت طوال ذلك اليوم افكر في تفاصيل الرؤيا العجيبة
لم اذهب الى العمل في ذلك اليوم.. و بعد ان خضت حرباً ضروساً مع مشاعري و عواطفي و ميول نفسي الامارة .. قررت أخيراً ان ارحل عن تلك القرية الصغيرة الى مدينة كبيرة شرط ان يكون فيها مسجداً و شيعة لكي اعود فيه معهم الى سابق عهدي و لعلي اجد فيها بعض ما تعودت عليه في طفولتي و شبابي من تقاليد و اعراف ..
كان السؤال الاكبر و الاصعب هو كيف أفاتحها بهذا الأمر .. خصوصاً بعد ان تعلقت بي كل ذلك التعلق و انا بها كذلك ..
قاومت اخر محاولات قلبي للفرار .. و اتصلت بها طالباً منها الحضور في اقرب فرصة .. و لم تمضى سوى سويعات قليلة حتى دق جرس الباب ..
كيف حالك يا عزيزي ؟؟
قلت : لست بخير
قالت : لماذا
قلت : انا احبك حباً جماً و انت تعلمين بذلك اليس كذلك ؟؟
قالت : اجل اعلم ذلك .. و انا احس به و سعيدة لاجله
قلت : لكني قررت الرحيل من هذه المدينة .. و من حياتك !!!!!
قالت : بالتأكيد انك تمزح معي كعادتك !!!
قلت : بل هي الحقيقة .. ثم سردت لها تفاصيل رؤياي بالاضافة الى حربي الطويلة الشعواء مع ضميري الذي ما قبل بهدنةٍ قط .. و حكيت لها كل مخاوفي من ضبابية صورة المستقبل الذي سيجمعنا تحت سقف لا يخلوا من ثغرات و فطور قد تتسبب في حزن مزمن ... وضياع أكيد ..
انفجرت بالبكاء فور ما بُحت لها بتلكم الكلمات ... لم اتمالك نفسي .. حتى اختطلت دموعنا على خدود الوجَع و نحن في آخر عناقٍ تحت ظل غيمة الافتراق ... حاوَلت ان تثنيني عن ذلك القرار بشتى السبل .. لكن رؤياي الرهيبة كانت اقوى من كل عواطفي .. فهي رسالة واضحة لكي ابتعد عن ذلك الواقع الطارئ و اتوجه الى اقرب نقطةٍ تعيدني الى ذاتي ..
و بالفعل ... وهبتها آخر فصول العهد الذي تم بيننا ... تحت زخات الدموع ... و شهقات الفؤاد
تركت كل شئ خلف ظهري و بدأت رحلة السفر الى .. عاصمة الشمال .. على شواطئ البلطيق .. كان فيها مسجداً .. و مكتبة .. تماماً كما تمنيت .. و تعرفت على الكثير من ابناء جلدتي في تلك المدينة و كنت دائم التواجد في ذلك المسجد و تلك المكتبة في اوقات فراغي .. خصوصاً ان الله تعالى رزقني بعمل في دكان يقع تحت ذلك المسجد الصغير .. الذي وفقني الله تعالى الى توسعتهِ بمعية بعض الشباب الذين اقنعتهم بالعمل مجاناً في بنائهِ .. ليكون لنا صدقة جارية لنا ما دام فيه ذاكرٌ لله تعالى ..
كنت في بعض الاحيان اسافر بمشاعري الى ناتاليا و الذكريات .. لكنني لم اندم ابداَ على رحيلي عنها و دخولي في منعطف النجاة العلوي و اصبحت بين ليلةِ وضحاها من الشباب المحبوبين في ذلك المسجد الذي تحول ببركات اهل البيت الى مركز اسلامي كبير يقصده الناس من كل المدن .. ثم اوكل القائمون عليه لي شرف قرائة الدعاء و بعض الاناشيد التي تخص احياء شعائر اهل البيت من افراح و احزان ... و نمَت من جديد موهبتي القديمة في كتابة الشعر التي كادت ان تضمحل بين سنادين مزرعة فولتمان .. فصقلتها و صقلتها حتى اطلق علي بعض من سمعني و قرأ ما اكتب لقب شاعر اهل البيت .. يا الهي .. يا له من لقب جميل لقد كانت امنيتي الكبرى منذ الطفولة ان اخدم اهل البيت كما كان يفعل اخي الشهيد رحمه الله .. و كما يفعل باسم و جليل و نزار اصحاب الاصوات الجميلة .. و تحققت كل تلك الامنيات في ذلك المكان .. و صار جل وقتي يصب في مَجرى خدمة الدين و المذهب ..
2003 سقوط الصنم
عمت الدنيا افراح سقوط اعتى دكتاتور عرفه التاريخ الحديث .. و كنت من ضمن الملايين الذين فرحوا بذلك الخبر السعيد ... و كباقي رواد الغربة .. اتفقت مع صديق لي بان نسافر في شهر رمضان الى هناك .. الى حيث ذكريات الطفولة .. و تراب الوطن .. و القباب الذهبية المقدسة التي تناطح السحاب علوّا و ارتفاعا ... وبالفعل .. اقترب يوم الرحلة التي ستعيدني الى احضان امي و الوطن ...
لم يمر يوماً دون ان اتذكر رؤياي العجيبة .. و حبي الاول كان مقيماً هو الاخر على هامش الذكريات
رمضان 1425 المصادف اكتوبر 2004
جاء ذلك اليوم .. قررت و انا في الطائرة ان اذهب الى مرقد سيدي امير المؤمنين عليه السلام و اجدد له بيعتي بعد طول الفراق .. كما قررت امراً اخراً ساقوم به قبل ذلك مع صديق الطفولة الاول ياسر الذي كان ابوه يملك دكاناً يكاد يكون ملاصقاً لباب قبلة صحن الامير الشريف ... و حينما داست اقدامي للمرة الاولى بعد ثمانية سنواتٍ من الغربةِ تراب الوطن سجدت لله شكراً .. و توجهت الى هناك .. كانت الخشية تتملكني و الخوف يسيطر علي لشعوري بالتقصير بواجبي تجاه ديني و امامي ...
جدار الحجرين !
كان الامر الآخر الذي قررت القيام به بمعية صديقي الحبيب ياسر هو التوجه قبل اداء مراسم الزيارة الى الحائط الذي شاهدته في رؤياي ليكون شاهداً عليه معي .. و لا ادري لماذا اخترت ياسر بالذات !! .. قصصت رؤياي عليه اولاً و من ثم توجهنا الى هناك .. و في اعماقي خوف شديد ... وصلنا الى هناك و كانت المفاجأه بالنسبة الينا نحن الاثنين !! يا الهي .. ان مكان الحجرين فارغاً .. لكنه يختلف بعض الشي عن مكان الحجرين الذين اقتلعهما امير المؤمنين ع في رؤياي .. لقد تأكد لي ان رؤياي كانت صحيحة .. و لكن لماذا لم يعيد الامام الأحجار الى موضعهما بعد ان غيرت مجرى حياتي كما اراد مني امامي .. كان لسان حالي يقول : مولاي لماذا ؟؟ لماذا لم ترجعني بنيانك وقد تركت اجمل ذكرياتي في سبيلك و اعتقت هواي من اجل هواك ... و هجرت عينيها لاجل عينيك ؟؟ تألمت كثيراً و دخلت الى داخل الضريح وانا احس بدموعي تخرج من اعماق فؤادي و ليس من محاجر الدمع في عيوني و صديقي يحاول طمأنَتي قائلاً لا تحزن لعلك لم تفسر رؤياكَ بشكل صحيح .. وقال لي ان اهل بيت الرحمة من المستحيل ان يظلموا احداً .. خففت كلماته بعض ما الم بي من الحزن .. و كاد يزيح اخر خيوط همّي .. يقيني بِأنهم اعدل الناس ... لكن كل ذلك لم يُنسيني ان الحجرين لم يكونا هناك ...
كنت قد قررت قضاء شهر رمضان كله هناك .. كان اجمل رمضانٍ في حياتي .. بين اهلي و احبتي و اصدقائي القدامى .. مر الشهر بسرعة .. كعادة الزمن الجميل .. بين زيارات مراقد اهل بين النبوة و الاقارب و الاصدقاء .. و مدرستي القديمه .. و ازقة المدينة التي تجولت بها كثيرا باحثاً عن بعض ذكريات تلك الطفولة الشاحبة .. اقترب موعد الإياب الى غربة الجَسد .. و ودّعت اغلب اصدقائي و اقاربي .. إلا ياسر لم اودعه معهم .. و تركته ليكون اخر دمعه من دموع الوداع .. كما كان هو اول من التقيتهُ من اصدقاء ذلك الزمن الجميل و توجهت الى متجرهم .. و حصلت المفاجئة العظمى التي اخمدت كل نيران الخوف .. بمجرد ان وقعت عيناه عليّ .. توجه الي قائلا انه كان ينتظرني طوال النهار
قلت له : مابك ؟؟ لماذا انت مرتبك لهذا الحد .. مالذي حصل ؟؟
قال : انا اريد ان اخبرك بأمر لكن داخل الصحن الحيدري الشريف
قلت : ما الذي حصل .. أبى ان يخبرني الا داخل المرقد
توجهنا الى هناك بسرعة .. دخلنا و جلسنا في احد الاروقة المقابلة للقبر المقدس .. بداً بالكلام قائلاً :
لقد رأيت ليلة البارحة رؤياً جليلة .. وهي لا تخصني بل تخصك انت!!
قلت متعجباً : انا ؟؟؟؟؟ و كيف ذلك ؟؟؟ تكلم فقد اخفتني
قال وهو يكاد يبكي : لقد رأيت رجلاً نوراني الطلعة بهي الشكل أسمر اللون وهو يلبس البياض و هو قد حمّلني رسالة لك !!!
قلت : لي انا ؟؟ كيف ؟؟؟ من هو ؟؟ تكلم !!!
قال : الرجل قال لي انه مبعوثٌ من امير المؤمنين و هو يطلب منك ان لا تحزن بشأن الحجرين الذين لم يكونا في الجدار في يوم الاياب .. و قال ان الحجران الذَان يخصانك قد ارجعهُما الامير عليه السلام الى جدار صحنهِ المقدس منذ ان اتخذت قرارك بالهجرة في سبيل الله .. و هذين الحجرين هما لشخص آخر يمر بنفس المنعطف .
تمت بحمد الله
و في اواخر سنة 2010 سافرت الى وطني من جديد .. ذهبت هذه المرة الى احد اصدقائي القدامى و اسمه صباح .. و هو يبيع الكتب في دكانه الصغير في سوق الحويش .. و لا ادري كيف اخذنا الحديث الى الرؤى و الاحلام فسردت عليه رؤياي تلك و كان كله آذان صاغية وقد تعجب منها اشد العجب .. و سألته ان كان يعرف المدرسة .. فاخبرني ان مدرسة البروجردي الدينية قد فتحت ابوابها من جديد لطلاب العلم .. و يمكن لاي احد ان يزورها .. طلبت منه ان يصطحبني الى هناك .. ذهبنا الى هناك .. فتحت الباب و إذا بي ارى نفس البناء الذي رأيتهُ في منامي .. نفس الباب و نفس الحجرة التي خرج منه امير المؤمنين ع .. فتعجبت .. رغم اني لم ادخل الى تلك المدرسةً في حياتي قط .. فقد كانت خربةً مغلقة قبل سقوط صنم بغداد ..
توجهت فوراً الى باب تلك الحجرة التي خرج منها امير المؤمنين ع في الرؤيا لأقبِّل بابها تبركاً .. هنالك خرج حارس المدرسة من احدى الغرف الجانبية .. أعتذرت منه ظنا مني بعدم رضاه عن دخولنا الى المدرسة دون اذن منه .. لكنه تبسم ضاحكاً و طلب مني ان اخبره بسر تقبيلي لتلك الباب .. فأخبرته على عجالة بالامر .. فأخبرني ان مثلي الكثير من الناس يأتون خصيصاً و يتوجهون الى تلك الباب .. تماماً كما فعلت انا ... و كلهم قد شاهدوا ما يشابه ما شاهدته في رؤياي العجيبة
السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِينَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ...
نعم يا احبائي امير المؤمنين عليه السلام .. حي يراكم و يرعاكم كما فعل معي و الله تعالى يقول في كتابهِ العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم {}
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {} وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ {} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ..
و جاء في تفاسير اهل البيت عليهم السلام ان أمير المؤمنين علي عليه السلام هو المعني بالآية الكريمة في سورة يس :
و كل شي احصيناهُ في إمامٍ مبين
صدق الله العلي العظيم
زكي الياسري النجفي
في الروحْ تَسكنْ
16-07-2012, 01:57 PM
سَـأعـود يا ألق الـ حرف ..
فالـ سردُ هُنا يحتاجُ إلى فنجان قهـوة ..
ومساحة فراغ شاسعة ..
تحملني إلى حيث تلك الأحداث .. :)
آمالٌ بددتها السنونْ
16-07-2012, 07:22 PM
بالنسبة لمحاوله اولـى آرى انها جيده جداً
اسلوبك مشوق وجميل ولي عوده لقرائة
بقية الأجزاء في وقت لاحق
اخي الفاضل شكري وامتناني وتحيه طيبه
لك مني
في الروحْ تَسكنْ
17-07-2012, 02:11 AM
غرقت في الجزء الأول ...
وكأني أعيشُ قصته مع توبي .. !
أخاف أن يكون المنعطف خطير .. ويأخذ بصاحبنا إلى جرف الهاوية ... !
سرد رائع والله .. سَأعود للجزء الثاني .. في الغدّ .. فقد أحببتُ أن أعيش التشويق .. لـ أعرف ماذا حدث .. أتصدق أنني سأمتنع عن قراءة الجزء الثاني .. حتى أفكر في ذلك المنعطف .. أتراه ماذا سيكون .. !
رائع يازكـي الألق :)
زكي الياسري
17-07-2012, 02:31 AM
الاستاذه وفاء عبد العزيز
شهادتكِ قيّمة بالنسبة لي
و اتمنى ان تبقى كذلك حتى اخر الحروف
دام هذا العطاء الثر
زكي الياسري
17-07-2012, 02:33 AM
بلورة الاحساس
(في الروح تسكن)
اغبطكِ على قوة الصبر
اشكر اهتمامكِ و اتمنى ان تروق لك كل اجزاء القصة الطويلة
و على الخصوص القطة سالي .. الدليل نحو ذلك المنعطف :)
آمالٌ بددتها السنونْ
17-07-2012, 05:18 PM
الياسري اقف احترامً لقلمك واهنئك على هذا
النص الرائع ببنائه والرسالة القيمة التي
تنبثق من منعطفات جملة وتراكيبه سلمت
يمناك..
عندما نقرأ القصة نحنُ لا نستشف منها العبر
فقط بل نتعرف ايضاً على فكر الكاتب و
قنعاته ومعتقداته ، وانت أيها الفاضل اجدت
في طرح ماتؤمن به
في الحقيقة في زمننا الحالي الكثير من الـ
شباب والشابات ينسون الأساسيات في غمرة
العاطفة ويبررون لأنفسهم ويختلقون الأعذار
وفي النهاية الأنفصال يقع
الطلاق يقع ونذكر هنا قوله تعالى:
(وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ
خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ
الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن
مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ
آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)..
اخي الفاضل الياسري امتعنتنا بهذه القصة
لك شكري وامتناني واتمنى ان تواصل في
مدنا بقطع آخرى فيها دروس وعبر جميلة
كهذه القصة، لك تحيه تعبق بالياسمين..
في الروحْ تَسكنْ
17-07-2012, 07:15 PM
يا الله .. أخذتني تفاصيل تلك الأجزاء إلى مشاعر مختلفة .. وأهمها .. جميلُ أن يكون القرار .. بهذا الإصرار .. رغم كل المشاعر والأحاسيس والإحتياج التي مر بها ذلك القلب .. !
السلام على أمير المؤمنين .. رائعُ ياياسري ..
قصة مذهلة حقاً .. :)
زكي الياسري
18-07-2012, 04:21 AM
الاخت الفاضلة وفاء عبد العزيز
انا سعيد بأن محاولتي نالت استحسانكم
و اتمنى ان يحالفني الحظ مرة اخرى
تحية لهذه الاطلالة الحانية و الاهتمام
و شهادتكم راس مالي ان حالفني الحظ لأكتب من جديد ..
و اعدكم ان القادم سيكون بحق قصة قصيرة
و ليست رواية كما فعلت هنا :)
------
و الاخت العزيزة
( بلورة الاحساس )
اطرائكم العذب
هو دليل قاطع على اقترابي الى حدود النجاح :)
دمت بود يا انيقة الحروف
الروح
09-08-2012, 07:35 PM
بالأمس حين قرأتها كُنت أعيد قراءة كل فصل ..
وأحاول أن أركز على كل شحنة عاطفية وأخرى في قبالها عقليّة
وجدت التوازن رااائع في طرح التفاصيل بنفس القوة سواء تفاصيل عقلية أو عاطفيّة
الياسري القدير بصراحة القصة أكثر من رائعة ليس فقط على مستوى الأدب القصصي
بل كونها واقع عشته وترجمتهُ بهذهِ السلاسة والروعة
فعلاً هناك مواقف تُكوّن منعطف في حياتنا
قد لاتصدق بل قد تصدق أن القصة أثرت بي كثيراً
ربما من هنا وبالأمس وبعد أن قرأتها قررت أن أبدأ بمحاولة التغيير
فبعض الأشياء أقل قيمةً من أن نتعلق بها
وهناك أشياء تستحق المثابرة للحصول عليها
ويبقى الميزان لكل قراراتنا رضا الله سبحانه وتعالى
لا أجد ما يفي حق واقعيتكَ هذه سوى باقاتِ الود والتقدير
دعواتي لك حيث كنت وتكون
وتشكرآتي آغا :)
زكي الياسري
10-08-2012, 02:23 AM
الاخت الفاضلة الكريمة الروح
انا اقل بكثير من اطرائك العطر
و اعتز كثيراً بشهادتك بحق ما
كتبت .. تحياتي و موصول دعائي
vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
Jannat Alhusain Network © 2024