المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التحصن// بقلم سماحة الشيخ منتظر الخفاجي


ناصر الحق واهله
31-08-2012, 01:41 PM
التحصن
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر:2)
بالنسبة لهم هل هو ظن أم يقين ؟ أم هو ظن بمنظار ويقين بمنظار آخر ؟ . هم حصنوا أنفسهم وربما تيقنوا من أن هذه الحصون كافية لمنع كل داخل ، بل يجب أن يصلوا الى هذه الدرجة من اليقين ، لكي يوقفوا عملية التحصين ، لو كانوا يعلمون أن هذا التحصن غير كافٍ لعملوا الزيادة . إذن هم قاطعون بكفايتها. لكن هل ليقينهم هذا واقع أم هو مبني على جهل ؟ الجواب في نفس الآية المباركة ، وهو أن الحق تعالى أسماه ظناً ، والواقع أنه لم يصمد ولم يحقق يقينهم ، فهو يقين نتيجة بُني على أسس خاطئة وهم جاهلون لتك الأسس . ومن جهة علام الغيوب إنما هو وهم محض صورته رغباتهم بكفاية هذه الحصون وأسكتت عقولهم لهذه النتيجة . ومن تلك الأوهام أو قل القواعد التي أُسست عليها هذه الأوهام ، هو الفصل بين السبب الإلهي ومسببه سبحانه وتعالى، وذلك : ففي سبب نزول الآية هو أنهم نظروا الى المسلمين وهم السبب الإلهي باستقلال عن الله تعالى ، فحصونهم قادرة على منع المسلمين ، وهي نتيجة صحيحة في ظاهرها ، لكن لو أنهم نظروا السبب الإلهي مع امتداده للحق تعالى لما ظنوا هذا الظن .
وهذه الآية جاءت لتصور لنا مثالاً عن توهم الإنسان تارة ، وسوء تقديره لربه المؤدي الى سوء الظن به تارة أخرى . فليس التحصن منحصراً بحصون الحجارة وليست القدرة الإلهية مقتصرة على اختراق مثل هذه الحصون ، إنما جاء مثالاً واقعياً مادياً ،وإلا فمما يتحصن به الإنسان ويعتبره ترساً عن الأسباب الإلهية كثير هو ، فتارة يتحصن بفكرة يعتقد بها ويحترمها ويعتبرها حصينة وحقة ولا تخترق بأي فكرة أخرى ، فتراه يركن إليها ويحسن الظن بها ، بل لا يخطر على باله أن هذه الفكرة قابلة للاختراق الإلهي في أي لحظة ، وتارة يتحصن بمعتقد سواء كان دينياً أو دنيوياً ، فالمتدين مثلاً يظن أن أعماله الحسنة هي حصنه من دخول النار ، وهو واهم قطعاً ، لأن الحصانة من ذلك - كما هو معلوم – هو لطف الله سبحانه ورحمته ، وإلا ففي الواقع أن الذنب الواحد كفيل بإدخال الإنسان إلى جهنم ، وكفيل بهدم حصنه مهما كانت له من الحسنات، وتارة أخرى يتحصن الإنسان بسلطانه أو أمواله التي يرها تقيه من كل سوء أو شهرته ، أو جيشه وكثرة أسلحته التي ملأت نفسه غروراً ، إلى آخر الحصون الواهية ، وهو جاري على أغلب مستويات الإنسان إلا من رحم ربي .
فكان حسن ظن أصحاب الحصن بحصنهم دون سواه هو سوء ظن بالله سبحانه . وكما قلنا هو ظن خاطئ فصحح الله تعالى خطأهم وبين نقص معتقدهم ، وذلك : (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) من النقص في ظنهم ، أي لم يحتسبوا كل المقدمات ،ومنها أنهم غفلوا تماماً عن التأثير الإلهي ، ولو وعوا هذا التأثير للجئوا إلى الله تعالى بحسن الظن ، وتحصنوا به دون التحصن بالحجارة أو معها على أقل تقدير ، ولوجدوا الله عند ظنهم بل ولم يجرأ أحد على اختراقهم .
وبسوء ظنهم بالله بسوء تقديرهم أتاهم الله من الجهة التي تغافلوا عنها ، وهي أقربها إليهم ، ألا وهي ذواتهم وقلوبهم الخاضعة للسلطان الإلهي ، فلم يأتهم الله من حيث احتسبوا ، من خارج الحصن ، بل أتاهم من داخل قلوبهم فلم يغني عنهم حصنهم شيئاً . (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) إما عن طريق الوهم أو الخيال أو الفكر ، يأتي من أي باب شاء ، كل أبواب الإنسان مفاتيحها بيد الرحمن فأين تذهبون ؟ وكيف تتحصنون ؟ فلم يفعل شيء سوى أنه جلّت قدرة وعظمت مكانته قذف شيء من الخوف في هذه القلوب ، ففعل هذا الخوف الخائف من ربه فعلته ومضى بأمر بارئه فأسدل على العقول حجاباً جعلهم لا يميزون بين الضار والنافع ، أعمى بصائرهم وأبصارهم ، هدم عندهم الموازين ، أمسوا يرون الهدم بناءاً والتخريب اعماراً وهم مقتنعون ومتيقنون من أنهم يفعلون الأصلح ولا أصلح فوقه ! فسبحانه من عظيم ما أقدره .
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) بأيديهم ! كأنهم جُنّوا وما هم بمجانين ، يساعدون أعداءهم على تخريب بيوتهم فهل من غريب اغرب من ذلك ! أين التخطيط ؟ وأين العقول ؟ وأين الخطة الخمسية ؟! بذرة خوف ، أمسوا مجانين بعد إذ كانوا عقلاء ؟ كلهم؟ ألم يبقى منهم رجل رشيد ؟ نستجير بالله من غضبه وبه نلوذ . ثم (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) نعتبر من حسن الظن بالنواقص ونعتبر من سوء الظن بالله تعالى . ومن يسمع ذلك بقلبه فهل يبقى له حسن ظنٍ بغير ربه سبحانه ؟. وأولوا الإبصار تارة يراد بها أصحاب العقول ، والعقول تميز أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، ولا منجي منه ومن أي شيء إلا هو سبحانه ، وتارة يراد بها الأبصار الناضرة وذلك لأن سوء الظن موجود في كل عصر وآثاره قائمة ، وكذلك حسن الظن بالنواقص ما أكثره ، يبصره الإنسان بأم عينه ويميزه ببصيرته . بل كثير منا من أحسن الظن بما دون الله قد ساء ظنه وحبط عمله .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل