لبيك
15-10-2012, 07:15 PM
علم الإمام الجواد ( عليه السلام )
دَعانِي التأريخُ إِلى مَسرحِ أَحداثِهِ ، فَسِرتُ مَعَهُ مُلَبِّياً دَعوَتِهِ ، ودَخَلتُ قَاعَةً كَبِيرَةً ، وَجَلَستُ أمامَ سَتائرَ سَرعانَ مَا انفَرَجَت ، فَإذا بِي أُشاهِدُ الإِمامَ مُحمّداً بنَ عليٍّ الجوادَ ( عليهما السلام ) صَبيّاً في الثامِنَةِ مِن عُمرِهِ ، يَتَمَشَّى عَلى جانبٍ مِنَ الطَريقِ .
فَجَعَلَنِي أَقِفُ مَذهُولاً عاجِزاً عَن وَصفِ هَيبَتِهِ وَوِقارِهِ ، وَعَن وَصفِ تَلكَ الأَنوارِ القُدسِيَّةِ التِي يَشُعُّ بِها وَجهُهُ الكَرِيمُ .
لَحظاتٌ وَإذا بالشَبابِ والصِبيانِ يُهَروِلُونَ نَحوَهُ مِن جَميعِ الاتِّجاهاتِ ، يَدفَعُهُم حُبُّهُم له وَشَغَفُهُم بِهِ ، فَتَجَمَّعوا حَولَهُ يَستَمِعونَ إِلى كَلامِهِ وَقَد غَرِقوا فِي حالَةٍ مِنَ التَأَمُّلِ والتَفكِيرِ .
فكَيفَ لا يَكونُونَ كَذلِكَ وَهُم أَمامَ الذِي بَرَزَ عَلى أَهلِ زَمانِهِ عِلماً وفَضلاً ، وأَجَلُّ أَهلِهِ قَدراً وكَمالاً .
فَجأةً !! وإذا بِالشَبابِ والصِبيانِ يَهرَبُون مَذعُورِينَ نَحوَ اتِّجاهاتٍ مُختلِفَةٍ ، هذا لأََِنَّ المأمونَ الحاكِمَ العبّاسي قَد ظَهَرَ عَلى المَسرَحِ بَينَ مَجموعَةٍ مِن حُرّاسِهِ ، وَهُوَ يَمتَطِي صَهوةَ فَرَسِهِ وَيَحمِلُ بِيدِهِ طائِراً يُدعى البازُ .
وراحَ يَتَّجِهُ نَحوَ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، حَيثُ لَم يَبقَ فِي ذلكَ المكانِ سِواهُ ( عليه السلام ) .
فَقالَ لَهُ : لِمَ لَم تَهرب كَما فَعَلَ الصِبيانُ ؟!
فَرَدّ عَلَيهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( ما لِي ذَنبٌ فَأَفِرَّ مِنهُ ، وَلا الطريقُ ضَيّقٌ فَأُوَسِّعَهُ عَلَيكَ ، سِر حَيثُ شِئتَ ) .
فَقالَ المأمونُ : مَن تكونُ أَنتَ ؟!
فَرَدّ عَليهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( أَنا مُحمّدٌ بنُ عليٍّ بنِ موسى بنِ جَعفرٍ بنِ مُحمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ الحُسينِ بنِ علي بنِ أَبي طالبٍ ( عليهم السلام ) ) .
فَقالَ لَهُ المأمونُ : مَاذا تَعرِفُ مِنَ العُلومِ ؟ .
قالَ الإِمامُ الجَوادُ ( عليه السلام ) : ( سَلنِي عَن أَخبارِ السَماواتِ ) .
فأَطلَقَ المأمونُ البازَ مِن بَينَ يَديهِ ، فَحَلَّقَ البازُ عالياً في الفَضاءِ وَعادَ المأمون ، فَلَمّا رَجَعَ إِليهِ البازُ كانَ يَحمِلُ إليه بِمِنقارِهِ شَيئاً ، فَأَخفاهُ المأمونُ بَينَ يَديهِ وَعادَ لِلإمامِ قائِلاً : مَاذا عِندَكَ مِن أَخبارِ السماءِ ؟!
فَأَجابَهُ الإِمامُ ( عليه السلام ) : ( حَدّثَنِي أَبي عَن آبائِهِ عَنِ النَبِي ( صلى الله عليه وآله ) عَن جبرائِيلَ عَن رَبِّ العالمينَ أَنّهُ قَالَ : بَينَ السماءِ والهَواءِ بَحرٌ عَجاجٌ ، تَتَلاطَمُ بِهِ الأَمواجُ فِيهِ حيّاتٌ خُضرُ البُطونِ ، رُقطُ الظُهورِ ، تَصيدُها بازاتُ المُلوكِ والخُلفاءِ ، فَيَختَبِرونَ بِها سُلالَةَ أَهلِ بَيتِ النُبُوَّةِ ) .
تَعَجَّبَ المأمونُ مِن جَوابِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) فَقالَ لَهُ : أَنتَ ابنُ الرِضا حَقّاً ، ومِن بَيتِ المُصطفى صِدقاً ؟!
فَأَركَبَهُ على فَرَسٍ واصطَحَبَهُ مَعَهُ إِلى القَصرِ ، وَفي هذِه الأََثناءِ شَعَرتُ بِيدٍ تُلامِسُ كَتِفي ، وَتَهُزُّهُ بِرِفقٍ ، فَانتَبَهتُ وإِذا بِولَدِي حامدٍ وَهُو يَقولُ لِي : أَبي لَقد مَضى عَليكَ وَقتٌ طَويلٌ وأَنتَ في حالَةِ صَمتٍ وتَفكِيرٍ ، هَل هُناكَ مُشكلةٌ لا سَمَحَ اللهُ ؟!
فَابتَسَمتُ بِوَجهِ وَلدِي حامدٍ وَأَنا أَقولُ لَهُ : كُنتُ أُفَكِّرُ في أَحداثِ زَمَنٍ بَعيدٍ ، وَكَأَنِّي أَشهَدُها الآنَ أَمامِي ، يا لَها مِن أَحداثٍ ، يا بُنيَّ حِينَ التَقَى المأمونُ بِشخصِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) وَقد كانَ عُمرُ الإِِمامِ ( عليه السلام ) آنَذاكَ ثماني سَنواتٍ .
قال : وأَينَ التَقى المأمونُ بالإمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) يا أَبِي ؟
فقلت : في بَغدادَ .
قال : فِي بَغدادَ ؟!
قالَها وَلدِي حامدٌ بِدَهشَةٍ ، ثُمَّ أَردفَ قائِلاً : لكِنَّ الذي أَعرِفُهُ يا أَبي هُوَ أَنَّ الإِمامَ الجوادُ ( عليه السلام ) كانَ يَعِيشُ في المدِينَةِ المنَوَّرَةِ ، لأََِنّها مَدِينَةُ جَدِّهِ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) .
فقلت : هذا صَحيحٌ يا بُنيَّ ، وَلكِن أَنتَ تَعرِفُ مَوقِفَ الأَُمَويّينَ والعبّاسيّينَ مِن آلِ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، ولِذلِكَ أَرسلَ المأمونُ في جَلبِ الإِِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) مِنَ المدينةِ إِلى بَغدادَ ، لِيكُونَ عَلى مَقرُبةٍ مِنهُ ، وَكذلك ليَتَهَيَّأَ لَهُ الإِِشرافُ بِواسِطَةِ عُيونِهِ وَرُقبائِهِ عَلى مُجمَلِ تَحرّكاتِهِ واتِّصالاتِه .
وَلمّا وَصلَ الإمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) إلى بَغدادَ لَم يَطلُب المأمونُ لِقاءه في بِدايةِ وُصولِهِ ، وإنَّما تَركَهُ حتّى يَلتقِي بِهِ يوماً ما .
قال : وَماذا كانَ يَهدِفُ المأمونُ مِن تَأخِيرِ لِقائِهِ بِالإِِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) ؟
فقلت : هُناكَ عِدَّةُ أَسبابٍ يَا وَلدِي ، مِنها : هُوَ أَنَّ المأمونَ كانَ يَهدِفُ إلى ضَبطِ تَحرُّكاتِ الإِِمامِ ( عليه السلام ) ، وَلقاءاتِهِ مَعَ الناسِ .
والسَبَبُ الآخَرُ : كانَ يُريدُ الاستِخفافَ بِالإِِمامِ ( عليه السلام ) ، وَتِلكَ هِيَ مَواقفُ الحُكّامِ مِنَ الأََئِمّةِ ( عليهم السلام ) .
قال : مَعنى هذا يا أَبي أِنَّ المأمونَ كان يَبحَثُ عَن طَريقةٍ لِقَتلِ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) كَما فَعَلَ مَعَ أَبِيهِ الإِِمام الرِضا ( عليه السلام ) .
فقلت : هذا صَحيحٌ يا بُنَيَّ ، وَلكِن هُناكَ أَسبابٌ كثيرةٌ تَمنَعُ المأمونَ مِنِ اتّخاذِ خطةٍ سَرِيعةٍ بَهذا الصَدَدِ ، ومَنها أَوّلاً : هُو أنّ المأمونَ وَجَدَ نَفسَهُ فِي مَوقِفٍ صَعبٍ جداً بَعدَ قَتلِهِ لَلإِِمامِ عليٍّ الرِضا ( عليه السلام ) ، وذلِكَ لأََنَّ جَميعَ الناسِ أشارُوا إِليهِ بِأَصابِعِ الاتّهامِ ، وافتُضِحَ أَمرُهُ .
فَأَرادَ إِظهارَ احتِرامِهِ وَتقدِيرِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَلإِِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) ، فَيكُونُ بِذلِكَ قَد قَدَّمَ دَلِيلاً لَرُبَّما يَنطِلي عَلى الكثيرِينَ مِنَ الناسِ ، وَيُثبِتُ لَهُم إِلى حَدٍّ ما حُسنَ نَواياهُ تِجاهَ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيتِ ( عليهم السلام ) .
وَالسَبَبُ الآخَرُ : هُوَ أَنَّ المأمونَ أَرادَ استِغلالَ عُمرِ الإِمامِ محمّدٍ الجوادِ ( عليه السلام ) كَونُهُ ما يَزالُ صَبيّاً ، وَقَد كانَ يَعتَقِدُ أَنَّهُ لا يَملِكُ مِنَ العِلمِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِلإِِمامَةِ ، فأَراد المأمونُ بِذلكَ أَن يَضعَ الإِمامَ الجوادَ ( عليه السلام ) فِي مُناظَرةٍ يَظُنُّ مِن نَتيجَتِها أَنَّهُ يَحُطُّ مِن مَكانَتِهِ ( عليه السلام ) أَمامَ الناسِ .
فَقالَ حامدٌ بِتَعَجُّبٍ شَدِيدٍ : هذا الحاكِمُ يا أَبي يُفَكِّرُ عَلى نحوٍ يَختلِفُ تَماماً عَمّا كانَ يُفَكِّرُ بِهِ حُكّامُ الأَُمَويّينَ والعبّاسيّين ، فَهُوَ يُظهِرُ لأََِئِمّةِ أَهلِ البَيتِ ( عليهم السلام ) حُبّاً وتَعظيماً ، ويُخفي مَكراً شَديداً وكَيداً عظيماً ، يُريدُ بِذلِكَ انهِيارَ المذهَبِ الشِيعي بِانهِيارِ فِكرةِ الإِِمامَةِ فِيهِ ، وَإِطفاءِ نِجمِها المتَأَلِّقِ ، وهذا ما يَسعى إِليهِ المأمونُ الآنَ مَعَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) .
فقلت : نَعَم يا بُنيَّ ، لذلك كان أوّلَ مَا اتَّبَعهُ المأمونُ في خِطَّتِهِ لإِِِبعادِ كُلِّ شُبهةٍ عَنهُ أنّهُ أَمَرَ بِتَزويجِ ابنَتِهِ أُمُّ الفَضلِ مِنَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، فَاعتَرَضَ المُقرَّبُونَ مِنَ المأمونِ ، واجتَمَعوا حَولَهُ مَعاتِبينَ : أَتُزَوِّجُ ابنَتَكَ وَقُرَّةَ عَينَيكَ صَبيّاً لَم يَتَفَقَّه في دِينِ اللهِ بَعدُ ، وَلا يَعرِفُ حَلالَهُ مِن حَرامِهِ ؟! اصبِر عَليهِ حتّى يقرأَ القُرآنَ ويَعرِفَ الحلالَ مِنَ الحرامِ .
فقالَ لَهُم المأمونُ : إِنّهُ لأَََفقَهُ مِنكُم ، وأَعلَمُ بِأَحكامِ اللهِ تَعالى وسُنّةِ رَسولِهِ ، وأَقرأُ لِكتابِ اللهِ مِنكُم ، وأَعلمُ مِنكُم بِمُحكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ ، وناسِخِهِ ومَنسُوخِهِ ، وظاهِرِهِ وباطِنِهِ ، وخاصِّهِ وعامِّهِ ، وتَنزِيلِهِ وتأوِيلِهِ ، اسألُوهُ فَإن كانَ الأَمرُ كَما وَصَفتُم قَبِلتُ مِنكُم .
فَخَرَجُوا مِن عِندِهِ وبَعثُوا إِلى قاضِي القُضاةِ يَحيى بنِ أَكثَمَ ، وجَعلوا حاجَتَهُم إليهِ ، فَأَطمَعُوهُ بالهدايا مُقابِلَ أن يحتالَ عَلى الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) في أَسئلَةٍ لا يَدرِي مَا الجوابُ عَليها .
وَهُنا سأَلَنِي وَلدِي حامدٌ وقَد كانَ يَنتظِرُ نَتائِجَ الأََحداثِ عَلى أَحرٍّ مِنَ الجَمرِ : فَما كانَ دورُ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) إِزاءَ هذِهِ المُحاوَلاتِ يا أَبي ؟!
فقلت : اجتَمَعَ المأمونُ بالإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ويَحيى بنِ أَكثَمَ أَمامَ جمعٍ غَفيرٍ مِنَ العبّاسيّينَ وغيرِهِم .
فَقالَ المأمونُ مُوَجِّهاً كلامِهِ إلى يَحيى بنِ أَكثَمَ : سَلهُ يا يَحيى أَوّلاً عن مَسائِلِ الفَقهِ .
فَوَجَّهَ يَحيى كلامَهُ إِلى الإِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) سائِلاً إيّاهُ : أَصلَحَكَ اللهُ ، ما تقولُ فِي مُحرِمٍ قَتَلَ صَيداً ؟
فَقَالَ لَهُ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( أَقَتَلَهُ في حِلٍّ أم حَرمٍ ؟ عالِماً كانَ أَم جاهِلاً ؟ عَمداً أم خَطأً ؟ عَبداً كانَ المُحرِمُ أَم حُرّاً ؟ صَغِيراً كانَ أَم كَبيراً ؟ مُبدِئاً أم مُعيداً ؟ هَل الصيدُ كانَ مِن ذواتِ الطَيرِ أَم غيرِهِ ، مِن صِغارِ الطَيرِ كانَ أَم كبيرِهِ ؟ مُصِرّاً أَم نادِماً ؟ بالليلِ كانَ الطيرُ في وكرِهِ أم نَهاراً أَمامَ عيونِ الناسِ ؟ ، والمُحرِمُ هَل كانَ مُحرِماً للحَجِّ أَم للعُمرةِ ؟ ) .
فَانقَطعَ يَحيى انقِطاعاً لَم يَخفَ عَلى أحدٍ مِن أَهلِ المجلِسِ ، وتَحَيَّرَ الناسُ عَجَباً مِن كلامِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، فَأَشارَ المأمونُ إلى الإِِمامِ بِأن يُعرِّفَهُم عَلى كلِّ صِنفٍ مِنَ الصَيدِ .
فَبَيَّنَ لَهُم الإِمامُ حُكمَ كلِّ حَالَةٍ مِن هذِهِ الحالاتِ ، مِمّا زادَ في تَعَجُّبِ الحاضِرينَ ودَهشَتِهِم ، فَالتَفَتَ المأمونُ إلى المقَرَّبِينَ إِليهِ مِنهُم قائِلاً : هَل فِيكُم مَن يُجِيبُ مِثلَ هذا الجَوابِ ؟!
فَقالوا لَهُ : لا واللهِ ، وَلا حتّى القاضِي .
فَقالَ لَهم المأمونُ وقد خابَ أَملُهُ في النَيلِ مِنَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) : ويحَكُم أَما عَلِمتُم أَنَّ أهلَ بَيتِ النُبُوَّةِ لَيسوا خَلقاً مِثلَكُم ؟!
وَهُنا عَلَت وَجهَ وَلدِي حامدٍ فَرحةٌ عظيمةٌ ، وأَشرَقَت على شَفَتَيهِ ابتِسامَةٌ جميلةٌ وَهُوَ يَقولُ : أَمامَ هذا العِلمِ والنُورِ الإِِلهيِّ لآَِلِ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) لا يُمكِنُ لأََِحدٍ إلاّ أن يَعتَرِفَ بِهِم رَغماً عَنهُ .
فقلت : نَعم يا بُنيَّ ، فَقد ذُهِلَ المأمونُ من إِجابَةِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) وكَذلِكَ ذُهِلَ الحاضِرونَ ، لاسيّما يحيى بنُ أَكَثَمَ .
فَقَد وَجَدَ نَفسَهُ في أَشَدِّ حالاتِ الرُعبِ والارتِباكِ والحِيرَةِ مِن أَمرِهِ ، لا يَعرفُ مَاذا يَفعَلُ ، فراحَ يَسألُ الإِمامَ الجوادَ ( عليه السلام ) أَسئلةً أُخرى ، لَعَلَّهُ يُفلِحُ مِنهُ شيءٍ : مَا تقولُ يا ابنَ رَسولِ اللهِ في هذا الخَبَرِ : رُوِيَ أَنَّه نَزَلَ جبرائِيلُ ( عليه السلام ) عَلى رسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) فقالَ لَهُ : يا محمّدُ ، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُقرِئُكَ السلامُ ويَقُولُ لَكَ : سَل أَبا بَكرٍ هَل هُو راضٍ عَنّي ، فَإنّي راضٍ عَنهُ .
فَردَّ عَليهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( يَجِبُ عَلى صاحِبِ هذا الخَبرِ أَن يَأخُذَ مِثالَ الخَبَرِ الذِي قالِهُ رسولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) في حَجّةِ الوَداعِ : قَد كَثُرت علَيَّ الكِذّابةُ وَسَتكثُرُ بَعدي ، فَمَن كَذَّبَ عَلَيَّ مُتَعمِّداً فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النارِ ، فَإذا أَتاكُم الحديثُ عَنّي فَاعرِضُوهُ عَلى كتابِ اللهِ ، فَما وافَقَ كِتابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ ، وَمَا خالَفَ كتابَ اللهِ فَلا تَأخُذوا بِهِ .
وَلا يُوافِقُ هذا الخبرُ كِتابَ اللهِ ، فَقَد قالَ اللهُ تَعالى : ( وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ مَا تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ ) ق : 16 .
فَهَلِ اللهُ تَعالى خَفيَ عَليهِ رِضاءَ أَبي بكرٍ مِن سَخَطِهِ حتّى سأَلَ عن مكنونِ سِرِّهِ ؟! هذا مُستَحِيلٌ في العُقولِ ) .
فقالَ يحيى سائِلاً الإِمامَ ( عليه السلام ) مرّةً أُخرى : وَقد رُوي أَنَّ مَثَلَ أَبي بكرٍ وعُمرَ فِي الأََرضِ ، كَمَثلِ جبرائيلَ ومِيكائيلَ في السماءِ ؟
فَأَجابَهُ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا أَيضاً يَجِبُ أن يُنظَرَ فِيهِ ، لأََنَّ جبرائيلَ وميكائيلَ مَلَكانِ للهِ مُقرَّبان ، لم يَعصيا اللهَ قَطٌ ، ولَم يُفارِقا طاعَتَهُ لَحظةً واحدةً ، وعُمَرُ وأبو بكرٍ قَد أَشرَكا باللهِ عَزَّ وجَلَّ ، وإِن أَسلَما بَعدَ الشِركِ ، إلاّ أَنَّ أَيّامَهُما كانَت أكثرُها شِركاً ، فَمِنَ المُحالِ أَن يُشَبَّها بجبرائيلَ وميكائيلَ ) .
فَلَم يَكُفّ يَحيى بنَ أَكثَمَ ، وراحَ يَسأَلُ الإِمامَ ( عليه السلام ) سُؤالاً آخَرَ : رُوي أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ سِراجُ أَهلِ الجَنَّةِ ؟
فَردَّ عَليهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا أيضاً مُحالٌ ، لأََِنَّ في الجَنَّةِ ملائِكةُ اللهِ المقَرَّبِينَ ، وآدمُ ( عليه السلام ) ، ومحمّدُ ( صلى الله عليه وآله ) ، وجميعُ الأََنبياءِ والمُرسلينَ ، أفَلا تُضِيءُ الجَنّةُ بِأَنوارِهِم ؟ حتّى تُضيءَ بِنورِ عُمَرَ !! ) .
فعادَ يَحيى إلى السؤالِ مَرّةً أُخرى : وَقد رُوِيَ أَنَّ النَبِي ( صلى الله عليه وآله ) قالَ : لَو لَم أُبعَث لَبُعثَ عُمَرُ .
فَأَجابَهُ الإِمامُ ( عليه السلام ) : ( كتابُ اللهِ أَصدَقُ مِن هذا الحديثِ ، إذ يَقولُ اللهُ تَعالى فِي كتابِهِ : ( وَإِذ أَخَذنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُم وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ ) الأحزاب : 7 .
فقد أخَذَ اللهُ ميثاقَ النَبيّينَ فكيفَ يُبَدِّلُ ميثاقَهُ ؟! وكُلُّ الأَنبياءِ لم يُشرِكوا باللهِ طَرفَةَ عَينٍ ، فكيفَ يَبعَثُ اللهُ تعالى بالنبوَّةِ مَن أشرَكَ بِهِ ؟! وكانَت أكثَرُ أَيّامِهِ شِركاً .
وحَسبُنا حديثُ رَسولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) : نُبِّئتُ وآدَمُ بينَ الروحِ والجسدِ ) .
وَاستَمَرَّ يحيى بنُ أَكثَمَ يَسألُ الإِِمامَ الجوادَ ( عليه السلام ) ، فَضَحِكَ وَلدِي حامدٌ حَتّى دَمِعَت عَيناهُ مِنَ الضِحكِ وهو يُرَدِّدُ : عَبَثاً يحاولُ يا أَبي ، وَلَو بقيَ الدَهرُ كُلُّه عَلى حالِهِ هذا .
ثم قال : فَماذا كانَ سُؤالُهُ بَعدَ ذلِكَ ؟
قلت : قالَ : رُويَ عَنِ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّهُ قَالَ : ما احتَبَسَ عَنِّي الوحيُ إِلاّ ظَنَنتَهُ قَد نَزَلَ على آلِ الخَطّابِ ؟
فَرَدَّ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا مُحالٌ أيضاً ، لأََِنّهُ لا يَجوزُ أَن يَشُكُّ النَبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) في نُبُوّتِهِ ، فَقَد قالَ اللهُ تَعالى : ( يَصطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) الحج : 75 ، فَكَيفَ يُمكِنُ أَن تَنتَقِلَ النُبُوّةُ مِمَّنِ اصطَفاهُ اللهُ تَعالى إِلى مَن أَشرَكَ بِهِ ؟! ) .
وعادَ يحيى بنُ أَكثَمَ يَسألُ الإِمامَ ( عليه السلام ) مرّةً أُخرى : رُوِي أنّ النَبِيَّ ( صلى الله عليه وآله ) قالَ : لَو نَزَلَ العذابُ لَما نَجا مِنهُ إلاّ عُمَر ؟
فَقالَ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا مُحالٌ أَيضاً ، لأََِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرُونَ ) الأنفال : 33 .
فَقد أَخبَرَ اللهُ سبحانَهُ أَنَّهُ لا يُعذِّبُ أَحَداً مَا دامَ فِيهِم رَسولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، وما دامُوا يَستَغفِرونَ ) .
وهكذا باءَت جَميعُ مُحاوَلاتِ يَحيى بنِ أَكثَمَ بِالفَشَلِ الذَرِيعِ ، فَانقَطَعَ عَنِ الكَلامِ والخيبةُ تَعصِرُ قَلبَهُ ، وقَد تَجَسَّدَت أَمامَ المأمونِ خُطورَةُ الموقِفِ ، وصَعِقَ لعِظَمِ الهَولِ .
فأَدرَكَ أَنَّهُ لابُدَّ لَهُ مِن مُواجَهَةِ هذا الأََمرِ بَجديّةٍ أَعظَمَ ، ومَكرٍ أَشَدَّ ، إِذا أَرادَ أن يَطمَئِنَّ على مَصِيرِهِ ومُستَقبَلِهِ في الحُكمِ ، ومَعَهُ بَنو العبّاسِ .
وهذا ما دَفَعَهُ إلى الإِشادَةِ بِمكانَةِ الإِمامِ ( عليه السلام ) وغَزَارةِ عِلمِهِ ، وكانَ قَد أَعلَنَ عَقدَ قِرانِهِ مِن ابنَتِهِ أُمِّ الفَضلِ فِي ذلِكَ الَمجلسِ .
إلاّ أنَّ المأمونَ بَقِيَ يَتَحَيَّنُ الفُرصَ لِغَرَضِ الانتقامِ مِنَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، وتَمَّ لَهُ ذلِكَ بِواسِطَةِ ابنَتِهِ الخبيثة ، زَوجةِ الإِمامِ ( عليه السلام ) حيثُ دَسَّت لَهُ السُمَّ .
ا*******************************
انا لله وانا اليه راجعون . ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . مع تحياتي جدو سيد علي الموسوي
دَعانِي التأريخُ إِلى مَسرحِ أَحداثِهِ ، فَسِرتُ مَعَهُ مُلَبِّياً دَعوَتِهِ ، ودَخَلتُ قَاعَةً كَبِيرَةً ، وَجَلَستُ أمامَ سَتائرَ سَرعانَ مَا انفَرَجَت ، فَإذا بِي أُشاهِدُ الإِمامَ مُحمّداً بنَ عليٍّ الجوادَ ( عليهما السلام ) صَبيّاً في الثامِنَةِ مِن عُمرِهِ ، يَتَمَشَّى عَلى جانبٍ مِنَ الطَريقِ .
فَجَعَلَنِي أَقِفُ مَذهُولاً عاجِزاً عَن وَصفِ هَيبَتِهِ وَوِقارِهِ ، وَعَن وَصفِ تَلكَ الأَنوارِ القُدسِيَّةِ التِي يَشُعُّ بِها وَجهُهُ الكَرِيمُ .
لَحظاتٌ وَإذا بالشَبابِ والصِبيانِ يُهَروِلُونَ نَحوَهُ مِن جَميعِ الاتِّجاهاتِ ، يَدفَعُهُم حُبُّهُم له وَشَغَفُهُم بِهِ ، فَتَجَمَّعوا حَولَهُ يَستَمِعونَ إِلى كَلامِهِ وَقَد غَرِقوا فِي حالَةٍ مِنَ التَأَمُّلِ والتَفكِيرِ .
فكَيفَ لا يَكونُونَ كَذلِكَ وَهُم أَمامَ الذِي بَرَزَ عَلى أَهلِ زَمانِهِ عِلماً وفَضلاً ، وأَجَلُّ أَهلِهِ قَدراً وكَمالاً .
فَجأةً !! وإذا بِالشَبابِ والصِبيانِ يَهرَبُون مَذعُورِينَ نَحوَ اتِّجاهاتٍ مُختلِفَةٍ ، هذا لأََِنَّ المأمونَ الحاكِمَ العبّاسي قَد ظَهَرَ عَلى المَسرَحِ بَينَ مَجموعَةٍ مِن حُرّاسِهِ ، وَهُوَ يَمتَطِي صَهوةَ فَرَسِهِ وَيَحمِلُ بِيدِهِ طائِراً يُدعى البازُ .
وراحَ يَتَّجِهُ نَحوَ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، حَيثُ لَم يَبقَ فِي ذلكَ المكانِ سِواهُ ( عليه السلام ) .
فَقالَ لَهُ : لِمَ لَم تَهرب كَما فَعَلَ الصِبيانُ ؟!
فَرَدّ عَلَيهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( ما لِي ذَنبٌ فَأَفِرَّ مِنهُ ، وَلا الطريقُ ضَيّقٌ فَأُوَسِّعَهُ عَلَيكَ ، سِر حَيثُ شِئتَ ) .
فَقالَ المأمونُ : مَن تكونُ أَنتَ ؟!
فَرَدّ عَليهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( أَنا مُحمّدٌ بنُ عليٍّ بنِ موسى بنِ جَعفرٍ بنِ مُحمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ الحُسينِ بنِ علي بنِ أَبي طالبٍ ( عليهم السلام ) ) .
فَقالَ لَهُ المأمونُ : مَاذا تَعرِفُ مِنَ العُلومِ ؟ .
قالَ الإِمامُ الجَوادُ ( عليه السلام ) : ( سَلنِي عَن أَخبارِ السَماواتِ ) .
فأَطلَقَ المأمونُ البازَ مِن بَينَ يَديهِ ، فَحَلَّقَ البازُ عالياً في الفَضاءِ وَعادَ المأمون ، فَلَمّا رَجَعَ إِليهِ البازُ كانَ يَحمِلُ إليه بِمِنقارِهِ شَيئاً ، فَأَخفاهُ المأمونُ بَينَ يَديهِ وَعادَ لِلإمامِ قائِلاً : مَاذا عِندَكَ مِن أَخبارِ السماءِ ؟!
فَأَجابَهُ الإِمامُ ( عليه السلام ) : ( حَدّثَنِي أَبي عَن آبائِهِ عَنِ النَبِي ( صلى الله عليه وآله ) عَن جبرائِيلَ عَن رَبِّ العالمينَ أَنّهُ قَالَ : بَينَ السماءِ والهَواءِ بَحرٌ عَجاجٌ ، تَتَلاطَمُ بِهِ الأَمواجُ فِيهِ حيّاتٌ خُضرُ البُطونِ ، رُقطُ الظُهورِ ، تَصيدُها بازاتُ المُلوكِ والخُلفاءِ ، فَيَختَبِرونَ بِها سُلالَةَ أَهلِ بَيتِ النُبُوَّةِ ) .
تَعَجَّبَ المأمونُ مِن جَوابِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) فَقالَ لَهُ : أَنتَ ابنُ الرِضا حَقّاً ، ومِن بَيتِ المُصطفى صِدقاً ؟!
فَأَركَبَهُ على فَرَسٍ واصطَحَبَهُ مَعَهُ إِلى القَصرِ ، وَفي هذِه الأََثناءِ شَعَرتُ بِيدٍ تُلامِسُ كَتِفي ، وَتَهُزُّهُ بِرِفقٍ ، فَانتَبَهتُ وإِذا بِولَدِي حامدٍ وَهُو يَقولُ لِي : أَبي لَقد مَضى عَليكَ وَقتٌ طَويلٌ وأَنتَ في حالَةِ صَمتٍ وتَفكِيرٍ ، هَل هُناكَ مُشكلةٌ لا سَمَحَ اللهُ ؟!
فَابتَسَمتُ بِوَجهِ وَلدِي حامدٍ وَأَنا أَقولُ لَهُ : كُنتُ أُفَكِّرُ في أَحداثِ زَمَنٍ بَعيدٍ ، وَكَأَنِّي أَشهَدُها الآنَ أَمامِي ، يا لَها مِن أَحداثٍ ، يا بُنيَّ حِينَ التَقَى المأمونُ بِشخصِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) وَقد كانَ عُمرُ الإِِمامِ ( عليه السلام ) آنَذاكَ ثماني سَنواتٍ .
قال : وأَينَ التَقى المأمونُ بالإمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) يا أَبِي ؟
فقلت : في بَغدادَ .
قال : فِي بَغدادَ ؟!
قالَها وَلدِي حامدٌ بِدَهشَةٍ ، ثُمَّ أَردفَ قائِلاً : لكِنَّ الذي أَعرِفُهُ يا أَبي هُوَ أَنَّ الإِمامَ الجوادُ ( عليه السلام ) كانَ يَعِيشُ في المدِينَةِ المنَوَّرَةِ ، لأََِنّها مَدِينَةُ جَدِّهِ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) .
فقلت : هذا صَحيحٌ يا بُنيَّ ، وَلكِن أَنتَ تَعرِفُ مَوقِفَ الأَُمَويّينَ والعبّاسيّينَ مِن آلِ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، ولِذلِكَ أَرسلَ المأمونُ في جَلبِ الإِِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) مِنَ المدينةِ إِلى بَغدادَ ، لِيكُونَ عَلى مَقرُبةٍ مِنهُ ، وَكذلك ليَتَهَيَّأَ لَهُ الإِِشرافُ بِواسِطَةِ عُيونِهِ وَرُقبائِهِ عَلى مُجمَلِ تَحرّكاتِهِ واتِّصالاتِه .
وَلمّا وَصلَ الإمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) إلى بَغدادَ لَم يَطلُب المأمونُ لِقاءه في بِدايةِ وُصولِهِ ، وإنَّما تَركَهُ حتّى يَلتقِي بِهِ يوماً ما .
قال : وَماذا كانَ يَهدِفُ المأمونُ مِن تَأخِيرِ لِقائِهِ بِالإِِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) ؟
فقلت : هُناكَ عِدَّةُ أَسبابٍ يَا وَلدِي ، مِنها : هُوَ أَنَّ المأمونَ كانَ يَهدِفُ إلى ضَبطِ تَحرُّكاتِ الإِِمامِ ( عليه السلام ) ، وَلقاءاتِهِ مَعَ الناسِ .
والسَبَبُ الآخَرُ : كانَ يُريدُ الاستِخفافَ بِالإِِمامِ ( عليه السلام ) ، وَتِلكَ هِيَ مَواقفُ الحُكّامِ مِنَ الأََئِمّةِ ( عليهم السلام ) .
قال : مَعنى هذا يا أَبي أِنَّ المأمونَ كان يَبحَثُ عَن طَريقةٍ لِقَتلِ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) كَما فَعَلَ مَعَ أَبِيهِ الإِِمام الرِضا ( عليه السلام ) .
فقلت : هذا صَحيحٌ يا بُنَيَّ ، وَلكِن هُناكَ أَسبابٌ كثيرةٌ تَمنَعُ المأمونَ مِنِ اتّخاذِ خطةٍ سَرِيعةٍ بَهذا الصَدَدِ ، ومَنها أَوّلاً : هُو أنّ المأمونَ وَجَدَ نَفسَهُ فِي مَوقِفٍ صَعبٍ جداً بَعدَ قَتلِهِ لَلإِِمامِ عليٍّ الرِضا ( عليه السلام ) ، وذلِكَ لأََنَّ جَميعَ الناسِ أشارُوا إِليهِ بِأَصابِعِ الاتّهامِ ، وافتُضِحَ أَمرُهُ .
فَأَرادَ إِظهارَ احتِرامِهِ وَتقدِيرِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَلإِِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) ، فَيكُونُ بِذلِكَ قَد قَدَّمَ دَلِيلاً لَرُبَّما يَنطِلي عَلى الكثيرِينَ مِنَ الناسِ ، وَيُثبِتُ لَهُم إِلى حَدٍّ ما حُسنَ نَواياهُ تِجاهَ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيتِ ( عليهم السلام ) .
وَالسَبَبُ الآخَرُ : هُوَ أَنَّ المأمونَ أَرادَ استِغلالَ عُمرِ الإِمامِ محمّدٍ الجوادِ ( عليه السلام ) كَونُهُ ما يَزالُ صَبيّاً ، وَقَد كانَ يَعتَقِدُ أَنَّهُ لا يَملِكُ مِنَ العِلمِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِلإِِمامَةِ ، فأَراد المأمونُ بِذلكَ أَن يَضعَ الإِمامَ الجوادَ ( عليه السلام ) فِي مُناظَرةٍ يَظُنُّ مِن نَتيجَتِها أَنَّهُ يَحُطُّ مِن مَكانَتِهِ ( عليه السلام ) أَمامَ الناسِ .
فَقالَ حامدٌ بِتَعَجُّبٍ شَدِيدٍ : هذا الحاكِمُ يا أَبي يُفَكِّرُ عَلى نحوٍ يَختلِفُ تَماماً عَمّا كانَ يُفَكِّرُ بِهِ حُكّامُ الأَُمَويّينَ والعبّاسيّين ، فَهُوَ يُظهِرُ لأََِئِمّةِ أَهلِ البَيتِ ( عليهم السلام ) حُبّاً وتَعظيماً ، ويُخفي مَكراً شَديداً وكَيداً عظيماً ، يُريدُ بِذلِكَ انهِيارَ المذهَبِ الشِيعي بِانهِيارِ فِكرةِ الإِِمامَةِ فِيهِ ، وَإِطفاءِ نِجمِها المتَأَلِّقِ ، وهذا ما يَسعى إِليهِ المأمونُ الآنَ مَعَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) .
فقلت : نَعَم يا بُنيَّ ، لذلك كان أوّلَ مَا اتَّبَعهُ المأمونُ في خِطَّتِهِ لإِِِبعادِ كُلِّ شُبهةٍ عَنهُ أنّهُ أَمَرَ بِتَزويجِ ابنَتِهِ أُمُّ الفَضلِ مِنَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، فَاعتَرَضَ المُقرَّبُونَ مِنَ المأمونِ ، واجتَمَعوا حَولَهُ مَعاتِبينَ : أَتُزَوِّجُ ابنَتَكَ وَقُرَّةَ عَينَيكَ صَبيّاً لَم يَتَفَقَّه في دِينِ اللهِ بَعدُ ، وَلا يَعرِفُ حَلالَهُ مِن حَرامِهِ ؟! اصبِر عَليهِ حتّى يقرأَ القُرآنَ ويَعرِفَ الحلالَ مِنَ الحرامِ .
فقالَ لَهُم المأمونُ : إِنّهُ لأَََفقَهُ مِنكُم ، وأَعلَمُ بِأَحكامِ اللهِ تَعالى وسُنّةِ رَسولِهِ ، وأَقرأُ لِكتابِ اللهِ مِنكُم ، وأَعلمُ مِنكُم بِمُحكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ ، وناسِخِهِ ومَنسُوخِهِ ، وظاهِرِهِ وباطِنِهِ ، وخاصِّهِ وعامِّهِ ، وتَنزِيلِهِ وتأوِيلِهِ ، اسألُوهُ فَإن كانَ الأَمرُ كَما وَصَفتُم قَبِلتُ مِنكُم .
فَخَرَجُوا مِن عِندِهِ وبَعثُوا إِلى قاضِي القُضاةِ يَحيى بنِ أَكثَمَ ، وجَعلوا حاجَتَهُم إليهِ ، فَأَطمَعُوهُ بالهدايا مُقابِلَ أن يحتالَ عَلى الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) في أَسئلَةٍ لا يَدرِي مَا الجوابُ عَليها .
وَهُنا سأَلَنِي وَلدِي حامدٌ وقَد كانَ يَنتظِرُ نَتائِجَ الأََحداثِ عَلى أَحرٍّ مِنَ الجَمرِ : فَما كانَ دورُ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) إِزاءَ هذِهِ المُحاوَلاتِ يا أَبي ؟!
فقلت : اجتَمَعَ المأمونُ بالإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ويَحيى بنِ أَكثَمَ أَمامَ جمعٍ غَفيرٍ مِنَ العبّاسيّينَ وغيرِهِم .
فَقالَ المأمونُ مُوَجِّهاً كلامِهِ إلى يَحيى بنِ أَكثَمَ : سَلهُ يا يَحيى أَوّلاً عن مَسائِلِ الفَقهِ .
فَوَجَّهَ يَحيى كلامَهُ إِلى الإِمامِ الجَوادِ ( عليه السلام ) سائِلاً إيّاهُ : أَصلَحَكَ اللهُ ، ما تقولُ فِي مُحرِمٍ قَتَلَ صَيداً ؟
فَقَالَ لَهُ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( أَقَتَلَهُ في حِلٍّ أم حَرمٍ ؟ عالِماً كانَ أَم جاهِلاً ؟ عَمداً أم خَطأً ؟ عَبداً كانَ المُحرِمُ أَم حُرّاً ؟ صَغِيراً كانَ أَم كَبيراً ؟ مُبدِئاً أم مُعيداً ؟ هَل الصيدُ كانَ مِن ذواتِ الطَيرِ أَم غيرِهِ ، مِن صِغارِ الطَيرِ كانَ أَم كبيرِهِ ؟ مُصِرّاً أَم نادِماً ؟ بالليلِ كانَ الطيرُ في وكرِهِ أم نَهاراً أَمامَ عيونِ الناسِ ؟ ، والمُحرِمُ هَل كانَ مُحرِماً للحَجِّ أَم للعُمرةِ ؟ ) .
فَانقَطعَ يَحيى انقِطاعاً لَم يَخفَ عَلى أحدٍ مِن أَهلِ المجلِسِ ، وتَحَيَّرَ الناسُ عَجَباً مِن كلامِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، فَأَشارَ المأمونُ إلى الإِِمامِ بِأن يُعرِّفَهُم عَلى كلِّ صِنفٍ مِنَ الصَيدِ .
فَبَيَّنَ لَهُم الإِمامُ حُكمَ كلِّ حَالَةٍ مِن هذِهِ الحالاتِ ، مِمّا زادَ في تَعَجُّبِ الحاضِرينَ ودَهشَتِهِم ، فَالتَفَتَ المأمونُ إلى المقَرَّبِينَ إِليهِ مِنهُم قائِلاً : هَل فِيكُم مَن يُجِيبُ مِثلَ هذا الجَوابِ ؟!
فَقالوا لَهُ : لا واللهِ ، وَلا حتّى القاضِي .
فَقالَ لَهم المأمونُ وقد خابَ أَملُهُ في النَيلِ مِنَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) : ويحَكُم أَما عَلِمتُم أَنَّ أهلَ بَيتِ النُبُوَّةِ لَيسوا خَلقاً مِثلَكُم ؟!
وَهُنا عَلَت وَجهَ وَلدِي حامدٍ فَرحةٌ عظيمةٌ ، وأَشرَقَت على شَفَتَيهِ ابتِسامَةٌ جميلةٌ وَهُوَ يَقولُ : أَمامَ هذا العِلمِ والنُورِ الإِِلهيِّ لآَِلِ رَسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) لا يُمكِنُ لأََِحدٍ إلاّ أن يَعتَرِفَ بِهِم رَغماً عَنهُ .
فقلت : نَعم يا بُنيَّ ، فَقد ذُهِلَ المأمونُ من إِجابَةِ الإِِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) وكَذلِكَ ذُهِلَ الحاضِرونَ ، لاسيّما يحيى بنُ أَكَثَمَ .
فَقَد وَجَدَ نَفسَهُ في أَشَدِّ حالاتِ الرُعبِ والارتِباكِ والحِيرَةِ مِن أَمرِهِ ، لا يَعرفُ مَاذا يَفعَلُ ، فراحَ يَسألُ الإِمامَ الجوادَ ( عليه السلام ) أَسئلةً أُخرى ، لَعَلَّهُ يُفلِحُ مِنهُ شيءٍ : مَا تقولُ يا ابنَ رَسولِ اللهِ في هذا الخَبَرِ : رُوِيَ أَنَّه نَزَلَ جبرائِيلُ ( عليه السلام ) عَلى رسولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) فقالَ لَهُ : يا محمّدُ ، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُقرِئُكَ السلامُ ويَقُولُ لَكَ : سَل أَبا بَكرٍ هَل هُو راضٍ عَنّي ، فَإنّي راضٍ عَنهُ .
فَردَّ عَليهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( يَجِبُ عَلى صاحِبِ هذا الخَبرِ أَن يَأخُذَ مِثالَ الخَبَرِ الذِي قالِهُ رسولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) في حَجّةِ الوَداعِ : قَد كَثُرت علَيَّ الكِذّابةُ وَسَتكثُرُ بَعدي ، فَمَن كَذَّبَ عَلَيَّ مُتَعمِّداً فَليَتَبَوَّأ مَقعَدَهُ مِنَ النارِ ، فَإذا أَتاكُم الحديثُ عَنّي فَاعرِضُوهُ عَلى كتابِ اللهِ ، فَما وافَقَ كِتابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ ، وَمَا خالَفَ كتابَ اللهِ فَلا تَأخُذوا بِهِ .
وَلا يُوافِقُ هذا الخبرُ كِتابَ اللهِ ، فَقَد قالَ اللهُ تَعالى : ( وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ وَنَعلَمُ مَا تُوَسوِسُ بِهِ نَفسُهُ وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ ) ق : 16 .
فَهَلِ اللهُ تَعالى خَفيَ عَليهِ رِضاءَ أَبي بكرٍ مِن سَخَطِهِ حتّى سأَلَ عن مكنونِ سِرِّهِ ؟! هذا مُستَحِيلٌ في العُقولِ ) .
فقالَ يحيى سائِلاً الإِمامَ ( عليه السلام ) مرّةً أُخرى : وَقد رُوي أَنَّ مَثَلَ أَبي بكرٍ وعُمرَ فِي الأََرضِ ، كَمَثلِ جبرائيلَ ومِيكائيلَ في السماءِ ؟
فَأَجابَهُ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا أَيضاً يَجِبُ أن يُنظَرَ فِيهِ ، لأََنَّ جبرائيلَ وميكائيلَ مَلَكانِ للهِ مُقرَّبان ، لم يَعصيا اللهَ قَطٌ ، ولَم يُفارِقا طاعَتَهُ لَحظةً واحدةً ، وعُمَرُ وأبو بكرٍ قَد أَشرَكا باللهِ عَزَّ وجَلَّ ، وإِن أَسلَما بَعدَ الشِركِ ، إلاّ أَنَّ أَيّامَهُما كانَت أكثرُها شِركاً ، فَمِنَ المُحالِ أَن يُشَبَّها بجبرائيلَ وميكائيلَ ) .
فَلَم يَكُفّ يَحيى بنَ أَكثَمَ ، وراحَ يَسأَلُ الإِمامَ ( عليه السلام ) سُؤالاً آخَرَ : رُوي أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ سِراجُ أَهلِ الجَنَّةِ ؟
فَردَّ عَليهِ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا أيضاً مُحالٌ ، لأََِنَّ في الجَنَّةِ ملائِكةُ اللهِ المقَرَّبِينَ ، وآدمُ ( عليه السلام ) ، ومحمّدُ ( صلى الله عليه وآله ) ، وجميعُ الأََنبياءِ والمُرسلينَ ، أفَلا تُضِيءُ الجَنّةُ بِأَنوارِهِم ؟ حتّى تُضيءَ بِنورِ عُمَرَ !! ) .
فعادَ يَحيى إلى السؤالِ مَرّةً أُخرى : وَقد رُوِيَ أَنَّ النَبِي ( صلى الله عليه وآله ) قالَ : لَو لَم أُبعَث لَبُعثَ عُمَرُ .
فَأَجابَهُ الإِمامُ ( عليه السلام ) : ( كتابُ اللهِ أَصدَقُ مِن هذا الحديثِ ، إذ يَقولُ اللهُ تَعالى فِي كتابِهِ : ( وَإِذ أَخَذنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُم وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ ) الأحزاب : 7 .
فقد أخَذَ اللهُ ميثاقَ النَبيّينَ فكيفَ يُبَدِّلُ ميثاقَهُ ؟! وكُلُّ الأَنبياءِ لم يُشرِكوا باللهِ طَرفَةَ عَينٍ ، فكيفَ يَبعَثُ اللهُ تعالى بالنبوَّةِ مَن أشرَكَ بِهِ ؟! وكانَت أكثَرُ أَيّامِهِ شِركاً .
وحَسبُنا حديثُ رَسولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) : نُبِّئتُ وآدَمُ بينَ الروحِ والجسدِ ) .
وَاستَمَرَّ يحيى بنُ أَكثَمَ يَسألُ الإِِمامَ الجوادَ ( عليه السلام ) ، فَضَحِكَ وَلدِي حامدٌ حَتّى دَمِعَت عَيناهُ مِنَ الضِحكِ وهو يُرَدِّدُ : عَبَثاً يحاولُ يا أَبي ، وَلَو بقيَ الدَهرُ كُلُّه عَلى حالِهِ هذا .
ثم قال : فَماذا كانَ سُؤالُهُ بَعدَ ذلِكَ ؟
قلت : قالَ : رُويَ عَنِ النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّهُ قَالَ : ما احتَبَسَ عَنِّي الوحيُ إِلاّ ظَنَنتَهُ قَد نَزَلَ على آلِ الخَطّابِ ؟
فَرَدَّ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا مُحالٌ أيضاً ، لأََِنّهُ لا يَجوزُ أَن يَشُكُّ النَبِيُّ ( صلى الله عليه وآله ) في نُبُوّتِهِ ، فَقَد قالَ اللهُ تَعالى : ( يَصطَفِي مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ) الحج : 75 ، فَكَيفَ يُمكِنُ أَن تَنتَقِلَ النُبُوّةُ مِمَّنِ اصطَفاهُ اللهُ تَعالى إِلى مَن أَشرَكَ بِهِ ؟! ) .
وعادَ يحيى بنُ أَكثَمَ يَسألُ الإِمامَ ( عليه السلام ) مرّةً أُخرى : رُوِي أنّ النَبِيَّ ( صلى الله عليه وآله ) قالَ : لَو نَزَلَ العذابُ لَما نَجا مِنهُ إلاّ عُمَر ؟
فَقالَ الإِمامُ الجوادُ ( عليه السلام ) : ( وهذا مُحالٌ أَيضاً ، لأََِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرُونَ ) الأنفال : 33 .
فَقد أَخبَرَ اللهُ سبحانَهُ أَنَّهُ لا يُعذِّبُ أَحَداً مَا دامَ فِيهِم رَسولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، وما دامُوا يَستَغفِرونَ ) .
وهكذا باءَت جَميعُ مُحاوَلاتِ يَحيى بنِ أَكثَمَ بِالفَشَلِ الذَرِيعِ ، فَانقَطَعَ عَنِ الكَلامِ والخيبةُ تَعصِرُ قَلبَهُ ، وقَد تَجَسَّدَت أَمامَ المأمونِ خُطورَةُ الموقِفِ ، وصَعِقَ لعِظَمِ الهَولِ .
فأَدرَكَ أَنَّهُ لابُدَّ لَهُ مِن مُواجَهَةِ هذا الأََمرِ بَجديّةٍ أَعظَمَ ، ومَكرٍ أَشَدَّ ، إِذا أَرادَ أن يَطمَئِنَّ على مَصِيرِهِ ومُستَقبَلِهِ في الحُكمِ ، ومَعَهُ بَنو العبّاسِ .
وهذا ما دَفَعَهُ إلى الإِشادَةِ بِمكانَةِ الإِمامِ ( عليه السلام ) وغَزَارةِ عِلمِهِ ، وكانَ قَد أَعلَنَ عَقدَ قِرانِهِ مِن ابنَتِهِ أُمِّ الفَضلِ فِي ذلِكَ الَمجلسِ .
إلاّ أنَّ المأمونَ بَقِيَ يَتَحَيَّنُ الفُرصَ لِغَرَضِ الانتقامِ مِنَ الإِمامِ الجوادِ ( عليه السلام ) ، وتَمَّ لَهُ ذلِكَ بِواسِطَةِ ابنَتِهِ الخبيثة ، زَوجةِ الإِمامِ ( عليه السلام ) حيثُ دَسَّت لَهُ السُمَّ .
ا*******************************
انا لله وانا اليه راجعون . ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم . مع تحياتي جدو سيد علي الموسوي