المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ظاهرة أتساع النفوذ السياسي للحركات الإسلامية


kumait
20-10-2012, 10:06 PM
ظاهرة أتساع النفوذ السياسي للحركات الإسلامية
محمد الشيوخ
مقدمة:

وصول بعض الحركات الإسلامية لسدة الحكم في تونس «1» ومصر «2» بعد سقوط الأنظمة المستبدة مؤخرا، شكل مفاجئة لمن لا يعرف خارطة القوى السياسية والاجتماعية في معظم البلاد الإسلامية.

العارف بتفاصيل المشهد الاجتماعي والديني في البلاد الإسلامية ومدى النفوذ السياسي والاجتماعي للحركات الإسلامية خصوصا، لم يفاجئ بهذه النتيجة المتوقعة والتي تعبر عن مدى النفوذ الواسع التي تتمتع به الحركات الإسلامية، بل إن عدم وصول تلك الحركات لسدة الحكم، في حال جرت انتخابات حرة ونزيهة، سيكون هو المثير للدهشة والاستغراب، وليس العكس.

في هذه الورقة سنحاول الوقوف على ابرز الأسباب التي أدت إلى توسع النفوذ السياسي والاجتماعي لبعض الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي. وقبل التعرض إلى تلك الأسباب نود الإشارة إلى بعض الملاحظات ذات الصلة بالموضوع:

1 - هناك العديد من الأسباب الخاصة والعامة التي يمكن من خلالها إعطاء تفسير أشمل لمدى أتساع نفوذ الحركات الإسلامية. لكن في هذه الورقة سنكتفي بالتركيز على ابرز الأسباب المشتركة، والتي نعتقد أنها، أدت إلى وصلول بعضها إلى سدة الحكم والسلطة.

2 - أن عملية توسع النفوذ للإسلام السياسي أو الوصول إلى سدة الحكم لم يأت فجأة، أي انه ليس وليد اللحظة، وإنما هو نتيجة عمل تراكمي سابق طويل، وبالتالي فان الوصول إلى السلطة هو عملية تتويج لذلك العمل، وتعبير حقيقي عن مستوى النفوذ الذي تتمتع به تلك الحركات.

3 - أن أنشطة وبرامج الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، تعتبر الرافعة الأساس لها، كما أنها تعطي فكرة عن مدى قوة وفاعلية وديناميكية تلك الحركات في بيئاتها، مع إقرارنا بان لكل حركة خصوصياتها الخاصة وأنشطتها التي تتباين مع بقية أنشطة سائر الحركات الأخرى.

4 - نقصد بالحركات السياسية أو ما يطلق عليه بالإسلام السياسي، هي تلك الجماعات الإسلامية التي تتطلع للحكم ولديها أهداف مشتركة، نابعة من تصورهم الخاص للإسلام والحياة، ومن ثم تحاول تجسيد تلك القيم على الأرض، من خلال أنشطتها المتنوعة، بشتَّى الوسائل والطرق وفق ما هو متاح لها من إمكانات وقدرات، لتكون هي القيم السائدة والحاكمة في المجتمع.

5 - ويقصد بالنفوذ السياسي، هي تلك القوة أو ذلك التأثير الواسع الذي تحدثه تلك الجماعات الإسلامية في محيطها الاجتماعية أو خارجه، بحيث تمكنها من تنفيذ برامجها وخططها للوصول إلى غاياتها، ومن بينها الوصول إلى سدة الحكم والسلطة.

أسباب النفوذ:

1 - انسجام الخطاب مع القيم والكرامة الإنسانية:

مما لا جدال فيه ان البيئات التي تولدت منها الحركات الإسلامية هي بيئات إسلامية، وبالتالي فان خطابها عادة ما يكون متسقا مع هذه البيئة وليس مغايرا أو صادما لها. فمنذ أن نشأت هذه الحركات الإسلامية تبنت خطابا ينسجم إلى حد كبير مع فطرة هذه الشعوب، وأصبح طرحها ينسجم مع جوهر الإنسان وتطلعاته، وهي على عكس العديد من الحركات غير الدينية التي تبنت خطابا صداميا مع قناعات المجتمع خصوصا الدينية منها، فأصبحت مرفوضة ومنبوذة ومقاطعة اجتماعيا. لا يختلف حال العديد من الحركات اللادينية كثيرا عن تلك الأنظمة التي فرضت قوانين معاكسة لقناعات الشعوب العربية والإسلامية والمضادة أحيانا لفطرة الإسلام، الأمر الذي أحدث اضطرابا وصراعا داخليا بين الشعوب والأنظمة التي فرضت على شعوبها مناهج وأفكار مستوردة بقوة السلاح وليس بقوة الحجة والمنطق، فجاءت الحركات الإسلامية لتلبي نداء الفطرة، وتهزها من الأعماق، فلاقت القبول الاجتماعي الواسع.

ثم إن خطاب الحركات الإسلامية خطاب ينسجم مع الكرامة الإنسانية، لهذا تبنت حمل لواء الجهاد دفاعا عن كرامة الأمة، ليس لأغراض تكتيكية أو أهداف فئوية أو شخصية ضيقة، بحسب شعاراتها، كما وهي التي جعلت الأمة تعيش معاني الكرامة واقعا عمليا ملموسا، فلا تقبل بأسباب الذل والهوان، وكذلك ترفض التنازل عن شبر من أرض المسلمين بمستوى رفضها التخلي عن التمسك بالفرائض. فالحركة الإسلامية في فلسطين مثلا، كانت ولا تزال عاملا هاما في التصدي لكل المؤامرات التي حيكت من قبل أمريكا وأوروبا وتل أبيب، الهادفة إلى تصفية القضية والوجود الفلسطيني، فاصطدمت تلك المؤامرات بصلابة الحركة الإسلامية وتشبثها بالحقوق كاملة غير منقوصة، ورفضت التنازل عن حقوقها، ودفعت ثمن موقفها هذا، وجادت بأرواح خيرة أبنائها في سبيل استرجاع الحقوق، فحازت بسبب ذلك على مصداقية عالية من شرائح المجتمع، فكانت بذلك العنوان الحقيقي والممثل الأمين لكرامة الأمة.

بينما كان خصوم الحركة ومناوئيها السياسيون يقدمون في كل صباح تنازلات جديدة، ويتسابقون للتعاون مع العدو لضربها، وينشرون الإحباط والتثبيط عن المواجهة، بل وفتحوا باب إبعاد الفلسطينيين من وطنهم على مصراعيه، فما كان من الشعوب إلا أن لفظت هؤلاء الخصوم وتشبثت بعنوان الكرامة.

ثم إن خطاب الحركة الإسلامية خطاب ينسجم مع القيم والأخلاق، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بينما كان خصومها غارقون في الفساد، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ولقد صبرت تلك الحركات على كل أشكال الظلم والقهر التي لم يتردد خصومها في الداخل والخارج من ممارستها ضدها. فصمودها أمام هذه الاعتداءات المتكررة أضاف إلى رصيدها الاجتماعي الشيء الكبير. وتجدر الإشارة إلى أن الحركات الإسلامية استغلت بشكل جيد اقوي المنابر تأثيرا كالمساجد والمدارس وأدوات الإعلام لتمرير أفكارها ومشاريعها وتوسيع قاعدتها الاجتماعية. وقد لعب هذا الجانب دورا مهما في هذا السياق.

2 - مناهضتها للاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي:

لقد قاومت الحركات الإسلامية الأنظمة المستبدة الحاكمة، ودفعت الثمن المقابل لهذه المقامة المتمثل في اعتقال وتعذيب ونفي أفرادها، ولم تكتف بمقاومة الاستبداد الخالي، فهي كانت على الدوام أيضا تقاوم كل أشكال الاحتلال والاستعمار والوصاية الخارجية، مما جعلها مظلمة للدفاع عن الأمة وكرامتها ورافعة أساسية لنيل حقوقها وحريتها. نستطيع القول بان كل الحركات الإسلامية في العالم العربي التي خاضت معارك حقيقية مع الاستبداد الداخلي والاحتلال الخارجي حظيت بشرعية شعبية كبيرة، الأمر الذي أدى إلى توسع نفوذها الاجتماعي والسياسي. وفي المقابل، فان فساد الأنظمة وعدم نزاهتها وإفلاسها من البرامج السياسية والاقتصادية، هو الآخر ساهم في دفع المواطنين للتوجه إلى الجماعات الإسلامية بحثاً عن مخرج من هذا الانسداد، مما ساهم في رفع أسهم الحركات الإسلامية في مجتمعها.

وتبقى القوة الحقيقية المخيفة للغرب، متمثلة في هذه الأرضية الواسعة وقاعدة الجماهير العريضة التي تعبر عن الحركات الإسلامية وقناعتها؛ فالحالة الإسلامية ليست الحركة الإسلامية فقط، بل هي حالة مجتمعية جارفة متوهجة بالشوق إلى العودة إلى الهوية الإسلامية وإلى التشبع بالقيم والآداب والأخلاق والثقافة الإسلامية. وهي حالة جماهيرية عريضة لازالت تتبنى الحل الإسلامي، وتؤمن بمنهج الإصلاح الإسلامي، وتتوق إلى التغيير السلمي الحقيقي الذي يشارك فيه بفاعلية إسلاميون على قدر المسئولية مع غيرهم من قوى وطنية مخلصة.

ومن الأسباب التي أدت إلى بروز الإسلام السياسي، اضطهاد الجماعات الإسلامية من قبل الجمهوريين في العالم العربي. ففي مصر ومنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، حدث صدام بين متمثلين بالإخوان المسلمين، مع الجمهوريين المصريين، ما أدى في النهاية إلى تعاطفٌ الرأي العام العربي معهم، بعد ما أصابهم التنكيل والاضطهاد والتشريد والقتل، على أيدي الجمهوريين الدكتاتوريين، في أنحاء متفرقة من العالم العربي. فقد تمَّ شنق قيادات الإخوان المسلمين بالجملة على يد الجمهوريين في العام 1955. كما تم شنق سيّد قُطب في العام 1966، وشنق صالح سرية في العام 1974، وشنق شكري مصطفى في العام 1977، وشنق محمد عبد السلام فرج زعيم تنظيم "الجهاد"، وقتل الآلاف من الإخوان المسلمين في سوريا، في حوادث حلب وحماة في العام 1982.

العجيب في الأمر حقًّا أن الحركات الإسلامية قد استفادت - بدون بذل الكثير من الجهد في الدعاية لنفسها والانتشار - من صدام الأنظمة الحاكمة والحروب التي شنتها القوى الغربية الكبرى على الإسلام ودوله ومؤسساته وأراضيه وثرواته في مختلف بلدان العالم، كما استفادت من الأنظمة العلمانية المدعومة من الغرب التي تسلطت على شعوبها طيلة سنوات ما بعد الاستعمار الغربي. فمن جهة كانت حملات التطهير العرقي في البلقان، وما مورس ضد المسلمين في الشيشان ودول الاتحاد السوفيتي السابق، وما مارسته وتمارسه إسرائيل من انتهاكات وجرائم في فلسطين، وما ارتكبته أمريكا في أفغانستان والعراق والصومال وباكستان، وكذلك موجات العداء الغربي والتطاول السافر على مقدسات ورموز الإسلام في وسائل الإعلام والصحف والمجلات الغربية.

كل ذلك أدى إلى غضب جماهيري مضاد، وإلى فوران الحمية الإسلامية، وإلى شعور متنامٍ بالانتماء الإسلامي، وضرورة التمسك بالثوابت والتشبث بالأصول والثقافة والمعاملات الإسلامية - وحتى المظهر الإسلامي - شكلاً من أشكال الدفاع عن الهوية المستهدفة. ومن جهة أخرى، ظل فساد الأنظمة الحاكمة الديكتاتورية الفاسدة المدعومة من أمريكا والغرب عائقًا أمام الإصلاح والتغيير الذي تنشده الشعوب. وكانت هذه الحركات هي الجبهة المقاومة لهذا التحدي، مما ساهم في رفع رصيدها لأنه كان ولازال ينظر لها على أنها تمثل الجبهة المدافعة عن هوية الأمة من مختلف الأخطار المحدقة.

أن دعوات التغريب في المجتمعات الإسلامية، ساعدت على انتشار الإسلام السياسي، ففي السبعينات وتحديدا في عهد عبد الناصر، والسادات، وحافظ الأسد، زادت حركة التغريب، وكان عبد الناصر يحمل إعجاباً دفيناً بالنموذج الغربي.

إجمالا، فان شعور المسلمين بوجود استهداف لهويتهم الإسلامية خلق نوعا من التحدي وشد العصبية. وهذا الشعور بحد ذاته ساهم في تنامي الحركات الإسلامية. ففي الوقت الذي كان فيه الشعور الديني يزداد قوةً، بفعل عوامل متعددة، اصطدم هذا الشعور بما نراه من تسارع الاتجاه نحو التغريب، الذي يؤذي الشعور الديني، ويتحداه. فكان الموقف السياسي الليبرالي العربي تجاه الغرب، يتسمُ بالإعجاب والكراهية في الوقت نفسه: الإعجاب بالتقدم الحضاري، والكراهية للاستعمار. في المقابل فان معظم الحركات الإسلامية آنذاك كانت متوجسة من اتجاهات التغريب في العالم العربي.

3 - الاتكاء على أرضية الدين والعمل التطوعي الإنساني:

السمة الأساسية للمجتمعات الإسلامية هي التدين، وان الدين كان ولازال يمثل عاملا أساسيا ومؤثرا في الناس. الحركات الإسلامية هي انعكاس وتجسيد للتدين، لذلك هي متكيفة معه في عملها ومشروعاتها وخطاباتها. وقد شكل الدين للحركات الإسلامية عاملا مهما للتحشيد والتأثير، خصوصا من خلال العمل الدعوي والتطوعي عبر المساجد والمواقع العبادية الأخرى. أن نفوذ الحركات الإسلامية في ساحاتها الاجتماعية، وقدرتها على التمدد والتوسع، يأتي من بوابة الدين أولا، والخدمات المقدمة للمجتمع ثانيا. فمن خلال البوابة العريضة للعمل الاجتماعي والخيري والتطوعي، استطاعت الجماعات الإسلامية تحفيز وتنظيم المجتمعً، وبأداء رائع منظم يتسم بالانضباط والمتابعة والنفس الطويل وعدم الملل أو الكلل، كما يتسم بالابتكار والإبداع وجودة الإخراج، والعرض بأسلوب شائق وجذاب لقطاع واسع من شرائح المجتمع، خصوصاً بين الشباب والفئات المحتاجة، وفوق كل ذلك ما يظهره المنتمون إلى الجماعات الإسلامية من نظافة يد ونزاهة في التعاملات، ما مكنهم من الوصول إلى ما وصلوا إليه في عدد من الدول.

وهناك نماذج عصرية تقدم مقاربة حقيقية للطريقة التي تتشكل بها الحركات الإسلامية، في كل من مصر والأردن وفلسطين، حيث أصبحت الجماعات الإسلامية قوى مؤثرة وضاغطة على سياسات الحكومات في تلك الدول، وقد وصل بعضها إلى سدة الحكم كما هي الحال مع «حماس».

وقد نجح المحامي منتصر الزيات في رسم صورة من الداخل لكيفية تمكن الجماعات الإسلامية من التغلغل في المجتمع المصري، عبر بوابة العمل الاجتماعي التطوعي الخيري، ويشكل كتابه «الجماعات الإسلامية... رؤية من الداخل» منجما مهما للباحث في الجماعات الإسلامية وأساليبها المبتكرة للتأثير في المجتمع، إذ يشرح القدرات التواصلية الهائلة التي تتوافر لهذه الجماعات للتواصل مع بسطاء الناس، وأساليبها في جمع التبرعات وتقديم المساعدات للفقراء، وإنشاء محال البيع المخفضة وتقديم البازارات الاجتماعية للبضائع الأساسية التي تحتاجها الأسر الفقيرة، وإعطاء دروس مجانية لأبناء الفقراء، وكل ذلك في منظومة متكاملة توضح كيف تمكنت تلك الجماعات من السيطرة على النشاط الاجتماعي في المجتمع المصري.

كما يقدم الكاتب بسام بدارين قراءة مفصلة في «إمبراطورية النفوذ الاجتماعي» للحركة الإسلامية في الأردن، وكيف تمكنت هذه الجماعات من إدارة قرابة ألف مسجد، وتعاملت باستثمارات تجاوزت مئات الملايين من الدينارات الأردنية، والإشراف المباشر أو المستتر على 500 جمعية خيرية في البلاد. ويقدم الكاتب صورة دقيقة لتغلغل الجماعات الإسلامية في النسيج الاجتماعي الأردني، ويعطي مثلا كيف عينت المجالس البلدية الإسلامية مراقبين حكوميين على المحال التجارية يجرون - باحترام شديد - تفتيشهم الصحي ويتأكدون من سلامة البضائع من دون ان يطلبوا شيئاَ من الباعة ولا يحررون المخالفات بقصد الحصول على رشوة، فيما كان المراقب البلدي في السابق ينغص على هؤلاء الباعة البسطاء حياتهم، إذ يضطرون إلى إعطائه كميات من بضائعهم تجنباً لتحرير المخالفات بحقهم.

ونالت الجماعات الإسلامية بعملها الاجتماعي والخيري الإعجاب الشعبي الكبير من الرعاية الاجتماعية وتأسيس اللجان والجمعيات الخيرية في البلاد الداعمة للفقراء والبسطاء والمحرومين. فالناشطون الاجتماعيون من هذه الجماعات على تماس مباشر بالسواد الأعظم من الناس، وبغالبية الفقراء، ويعرفهم الناس أكثر من الساسة وموظفي الدولة، وأكثر من منظري السياسة ورواد الصالونات الأدبية والاجتماعية والسياسية. والمفارقة ان الجماعات الإسلامية تتفصد - باحتراف - عدم تسليط الأضواء على نشاطاتها الاجتماعية الممتدة في المجتمع، والتي تنافس فيها - وبجدارة - المؤسسات الاجتماعية للدولة. فهذه النشاطات تنظم من دون ضجيج، بل ان بعضهم يعتقد ان هذه الجماعات نجحت في التمويه على نشاطاتها الاجتماعية والخيرية عبر تسليط الأضواء بين حين وآخر على نشاطاتها ذات الطابع السياسي التي انشغلت بها الصحافة والحكومة، فيما تجري ترتيبات أكثر عمقاً على المستوى الجماهيري والاجتماعي والخيري لبناء إمبراطوريتها وتوسيع نفوذها. ووفقاً للكاتب بسام، مولت الجماعات الإسلامية بناء زهاء ألف مسجد من بين 2500 مسجد مرخصة من وزارة الأوقاف الأردنية، معظمها بتبرعات أهلية شاركت فيها الجماعات الإسلامية. كما تسيطر اللجان التنظيمية لهذه الجماعات على نشاطات الوعظ والإرشاد، وعلى جمعيات تحفيظ القرآن، وعلى الخطابة في معظم المساجد.

وتدير الجماعات الإسلامية، بنفسها وبكفاءة عالية، استثماراتها التجارية وإمبراطوريتها المالية مستخدمة التعاملات الشرعية التي تقدمها بنوك إسلامية. وتدير العمل الاجتماعي والخيري الإسلامية جمعية خيرية عملاقة تقدر أصولها المالية وعملياتها الاستثمارية بـ 100 مليون دينار أردني «150 مليون دولار». وتدير هذا الجمعية الخيرية أعمالها على أسس تجارية واستثمارية بحتة، وتنفق على نشاطاتها من عوائد استثمارات ضخمة في المجالات الصحية والتعليمية، وتوفر التعليم لعشرات الآلاف من التلاميذ المتفوقين من أبناء الطبقة الفقيرة والمحتاجة. وتدير نشاطات اجتماعية وخيرية خاصة في مجال كفالة الأيتام، وفي شؤون الزواج وتنظم حفلات زواج جماعي.

يتضح من استعراض تجربة الجماعات الإسلامية سواء في مصر والأردن وفلسطين مدى تأثيرها في المشهد السياسي وقدراتها على التغلغل في بنية المجتمعات العربية والإسلامية، ليس بالضرورة عبر البوابة السياسية عن طريق الانتخابات، أو عبر البوابة الثقافية من خلال الكتاب والمحاضرات، أو عبر البوابة الإعلامية من خلال الصحيفة والبرنامج الإذاعي أو ألتلفازي، أو عبر البوابة الدعوية من خلال المسجد، أو البوابة التعليمية عبر المناهج والمعلمين.

وإنما عبر التغلغل العميق في المجتمع لتحقيق أهداف أجندتها بهدوء بعيداً من الضجيج. مع ذلك قد يكون لها التأثير الأبلغ والتغلغل الأعمق والتمدد الأوسع في شرايين المجتمع والوصول إلى شرائح مختلفة من المواطنين بخاصة فئات الشباب، وهو ما يجب ان يفطن إليه الساسة ويعملوا على التعاطي معه بحذر واحتواء والعمل على إيجاد بديل موثوق به عبر تشجيع جماعات أخرى، بخاصة جمعيات المجتمع المدني التي تفتقر إلى وجودها وفاعليتها غالبية المجتمعات العربية والإسلامية.

وقد تاجرت شركات توظيف الأموال بالإسلام، وبمباركة من بعض كبار رجال الدين. وكانت متاجرتها بالدين، تتجلّى بتسمية هذه الشركات تسميات مستوحاة من الدين مثل: البدر، الهدى، الهلال، النور، الرضا.. الخ. وطلاء مقارها باللون الأخضر. وقولها إنها تدير الأموال في مجالات المضاربة والمشاركة الإسلامية. وقد أفلست هذه الشركات جميعها، بعد أن أكلت أموال الفقراء وذوي الدخل المحدود، وزُجَّ بعض أصحابها في السجون، والبعض الآخر هرب محملاً بالملايين من ودائع الدراويش والبسطاء، كما تمَّ مع صاحب "شركة الهلال" الذي هرب إلى أمريكا، ومعه مائة مليون جنيه من ودائع المستثمرين والمدخرين، وصاحب "شركة الصفا"، وأصحاب أربع شركات أخرى في الإسكندرية. وتم ذلك بفضل الفساد الحكومي المستشري، والقادر على "تمرير الإبل من ثقوب الإبر" على حدِّ تعبير الباحث المصري محمد دويدار «أنظر: "شركات توظيف الأموال"، ص 141». أذن الاتكاء على أرضية الدين، وخدمة الناس، سيما الفقراء، يساهم بلا شك في تعزيز قوة الحركات الإسلامية وتوسيع نفوذها. ومن خلال التجارب السابق يتبين أنها قادرة على منافسة الحكومة، بل قادرة على سحب البساط من تحته أيضا.

4 - انتفاضات الجوع والفقر في العالم العربي:

ساعد تفاقم الأزمة الاقتصادية في العالم العربي، وكذلك انتفاضات الشوارع العربية بسبب الجوع والفقر، في أنحاء متفرقـة من العالم العربي، على انتشار الإسلام السياسي. فكانت أولى هذه الانتفاضات في مصر في العام 1977، ثم في السودان في العام 1982، ثم في تونس والمغـرب في العام 1984، ثم في الأردن في العام 1989. وبموجب إحصائيـات العام 1993 بلغت نسبة الأسر العربية التي تعيش تحت خـط الفقر 34 بالمائة. وترتفع هذه النسبة في بعض الدولة العربية إلى ستين بالمائة. وأن جُلَّ سكان العالم العربي - باستثناء دول النفط - لا يحصلون إلا على دولار أو اثنين في اليوم، وهو الحد الأدنى لكفـاف الإنسان، حسب مقاييس البنك الدولي.

وكان الجواب عن كل هذه الانتفاضات وتلك الأزمات، أن الحل في الإسلام، وفي التكافل الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي. مما دفع بعض الجماعات الإسلامية إلى إنشاء شركات توظيف الأموال الإسلامية في مصر على وجه الخصوص، ودعم إنشاء البنوك الإسلامية، في أنحاء متفرقة من العـالم العربي، كبديل إسلامي عن الاقتصاد الاشتراكي، الذي خرّب البيت العربي، كما قالت أدبيات الجماعات الإسلامية في ذلك الوقت. أن بروز وصعود الإسلام السياسي، ناشئ في الأساس من أرضية الفقر والحرمان والاضطهاد، وبالتالي يمكن القول بأن ولادة الحركات الإسلامية، جاء من أرضية فاسدة ومناخ سيء، وعليه فأن الناس ينظرون إليها باعتبارها هي الخلاص من هذا الواقع الموبوء.

5 - ظهور البترول الخليجي ونجاح الثورة الإيرانية:

إن ظهور البترول في الخليج العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين، وانتشار أثره الاستهلاكـي بعد العام 1974، في بعض دول الخليج، أسهم في انتشار الإسلام السياسي، بعد تمويل ودعم الحركات الإسلامية، كحركة محمد بن عبد الوهاب. وقد أدى ظهور البترول، وتدفق الثروة على بلدان الخليج العربي، إلى اتساع الهجرة إلى الخليج بعد العام 1974 من قبل الجماعـات الإسلامية، معتبرة أن دول الخليـج بلاد التكفير والهجرة، حيث المال والإسلام. كما أن بعض دول الخليـج هي المثال الحي على تطبيق الإسلام، الذي جاء بالثروة. وغير خاف على احد كيف ان البترول لعب دورا محوريا أيضا في دعم حركة الإخوان في مصر، وان كان بصورة غير مباشر، سيما أن العديد من قيادات الإخوان توزعوا في دول الخليج ومن بينها المملكة، وصار هناك تزاوج بين الفكر الوهابي والاخواني لا زالت آثاره قائمة.

وكذلك كان قيام ونجاح الثورة الإيرانية الإسلاميـة في1979، أثره على بروز الإسلام السياسي، حيث ألقى في روع المنظمات الإسلاميـة، أن تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية، يمكن لها أن تتكرر في بلدان عربية أخرى. وأعقب ذلك اجتياح إسرائيل للبنان في العـام 1982، وبدء نشاط "حزب الله" بالتصدي للقوات الإسرائيلية على الحدود الجنوبية اللبنانية، مما دفع إلى انسحاب إسرائيل من لبنان في العام 2000، وقيام الانتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بقيادة الجماعـات الإسلامية، وعلى رأسها حركة "حماس". وكان لقيام الثورة الإسلامية في إيران دور كبير في دعم العديد من حركات التحرر ورفع معنويات الحركات الإسلامية في البلاد الإسلامية والعربية، واستنهاضها، كما كان له دور أساسي في بروز حركات جديدة أخرى.

6 - عجز الأنظمة العربية في مقاومة إسرائيل وعدم تحرير فلسطين:

إن فشل الدول العربية مجتمعة، أو منفردة، في إقامة جيش قوي، يستطيع الوقوف في وجه إسرائيل وهزيمتها، رغم العدة البشرية الأكثر للجيوش العربيـة، ورغم الحجم المالي الكبير لما يُرصد في ميزانيات الدفـاع العربية - مقارنة بميزانية الدفاع الإسرائيلي - كان أحد العوامل التي ساعدت على بروز الإسلام السياسي. وإن بقاء القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي يراوح مكانـه، منذ نصف قرن من الزمـان، دون أن يتمكن العرب من بناء قوة عربية رادعة تحسم المعركـة، ساعد على تقوية تيار الإسلام السياسي. وما أن جاء عام 2000، إلا وكان الجيش الإسرائيلي أقـوى جيش في منطقة الشرق الأوسط، لا تستطيع الدول العربية، أن تفعـل حياله شيئاً، غير عقد المؤتمرات وإصدار بيانات الاحتجاج على القمع الإسرائيلي للفلسطينيين، مما قوّى من ساعد الجماعات الإسلامية داخل الأراضي المحتلة. فأصبح لحركة "حماس"، ولحزب الله في جنوب لبنان، شأن سياسي كبير في الصراع العربي - الإسرائيلي، خصوصا بعد حرب تموز 2006م والحرب التي شنها الصهاينة في غزة 2008م.

7 - ضعف الأنظمة العربية وفسادها:

لا شك بأن تحقيق الجماعات الإسلامية في دول عربية مختلفـة كالأردن والجزائر لنتائج مفاجئة في الانتخابات التشريعية والبلديـة، وفي انتخابات النقابات المهنية والعمالية، كان له الأثر الكبير في ارتفاع أسهم الإسلام السياسي في الشارع العربي. وكان هذا مقابل وجود أنظمة سياسية عَلْمانية عربية هشّة وفاسدة، وعدم تحقيق هذه الأنظمة القوة الاجتماعية والفكرية والسياسية لحمايتها، وحمايـة مكتسباتهـا، حيث تمّت محاربة القوى السياسيـة الوطنية النظيفة، وزُجَّ بعض أعضائها في السجون، أو تمَّ طردهم من الحلبة السياسية، أو نفيهم خارج الوطن. بل إن بعض الدول العربيـة «كما تم في عهد السادات» قامت بالمزايدة مع الجماعات الإسلامية، والتشجيع غير المباشر لهذه الجماعات، نكاية وكيداً لأعداء السلطة من اليساريين.

وسيطرت الجماعات الإسلامية في بعض الدول العربية والخليجية خاصة، على التعليم والإعلام. فشُحنت برامج التعليم وبرامج الإعلام بالمواد الدينية، وتمَّ تطهيرها من الأفكار الفلسفية المستوردة. وألغيت الرقابة على البرامج الدينية، والكتب الدينية، وخاصة كتب سيد قُطب والمودودي، وغُضَّ الطرْفَ عن خطباء المساجد، وما يقولون. وقد أفسحت هذه السياسة المجال أمام الجماعات الإسلامية، لكي تملأ الفراغ السياسي الناجم عن تغييب القوى السياسية الأخرى.

أن ضعف الأنظمة وعدم مقدرتها على تلبية حاجات المجتمع وإشباعها، وفسادها أيضا ساهما بشكل كبير في توسع نفوذ الحركات الإسلامية التي طرحت نفسها كبديل واقعي عن الأنظمة القائمة، حتى وان لم تصرح هي بذلك.

الخلاصة:

إن قوة الإسلاميين ووصولهم إلى سدة الحكم اليوم لم يأت من فراغ، وإنما هو نتيجة طبيعية لجهود متراكمة كما يعكس شعبية حقيقية تحظى بها هذه الحركات في البلاد الإسلامية، ومع فشل الكثير من التجارب الإسلامية في الحكم في أكثر من بلد إسلامي إلا أن وصول الإسلاميين في ما بات يسمى بعصر الربيع العربي للحكم يعطي إشارة واضحة على ان تلك الشعوب لا زالت ترى بان هذه الحركات الإسلامية هي الأمل الحقيقي لها، والمعبر الأول عن أشواقها وطموحاتها وآمالها في النهوض والتحرر والإصلاح واستعادة الكرامة والهيبة الإنسانية، وإعادة قيم العدل والمساواة والحرية، وبناء العلاقات الاجتماعية والأسرية من جديد وتنمية المجتمع ورفاهيته، وإعادة التقاليد والأخلاق والآداب الإسلامية، خصوصا بعد شيوع الجريمة والانحراف والانفلات والإسفاف والرذيلة والتخلف والاضطهاد.

هوامش:

1 - حركة الإخوان في مصر، وهي أول جماعة إسلامية تكونت في العـالم العربي عام 1928.
2 - حركة النهضة في تونس، وهي حركة اخوانية أيضا تأسست عام 1972 وأعلنت رسميا على نفسها في 6 جوان 1981ولم يتم الاعتراف به كحزب سياسي في تونس إلا في1 مارس 2011 من قبل حكومة محمد الغنوشي.