kumait
21-10-2012, 08:00 PM
قراءة أخرى لفاطمة الزهراء
سلمان عبد الاعلى
في ذكرى الزهراء «ع» لن أتكلم عنها من خلال الآيات القرآنية التي نزلت في شأنها، ولن أتكلم عن روايات الرسول الأكرم «ص» في فضلها وعظمتها، ولن أتكلم عن عصمتها وطهارتها، ولن أتكلم عن أسماءها وكناها وصفاتها، ولن أتكلم عن كراماتها والأمور الإعجازية في شخصيتها، ولن أتكلم عن اضطهادها وتفاصيل ظلاماتها، ولن أتكلم عن زواجها وتفاصيل حياتها، ولن أتكلم كذلك عن مصحفها وما فيه من آثارها.
نعم، لن أتكلم عن الزهراء «ع» من خلال هذه المحاور، لأنني أعتقد بأن الكلام قد أشبع حولها، ففي كل مناسبة تمر فيها ذكرى الزهراء «ع» «ولادتها أو وفاتها» تبرز هذه العناوين أو بعضها ويتم تكرار الحديث عنها دون أي إضافة أو تجديد «كما يحدث عادةً من البعض».
ولهذا سأعمد في مقالي هذا على تجاهلها - أي المحاور السابقة - ليس لأني أنكرها ولا أؤمن بها. كلا ولا، وإنما لكوني لا أملك حولها رؤيةً تجديديةً مختلفةً عن الرؤية التقليدية الشائعة، والتي لا تناسب - كما أراها في الأعم الأغلب - لمخاطبة جميع الفئات والشرائح، كما أنني أريد وأسعى لتكوين خطاباً عالمياً للزهراء «ع» يختلف عن الخطاب التقليدي الشائع، ويناسب لمخاطبة العالم، كل العالم، بكل فئاته وشرائحه، وبمختلف ثقافاته وعقلياته.. ومن هنا فإني ومن خلال هذه المقالة سأحاول أن أقدم قراءة أخرى للزهراء «ع» تختلف عن القراءة التقليدية، وأسأل من الله سبحانه وتعالى التوفيق والعون والسداد.
محاولة لتقديم قراءة أخرى لفاطمة الزهراء «ع» :
بعيداً عن كل العناوين الأخرى التي يمكن أن نتناول من خلالها سيرة الزهراء «ع» ، فإننا في هذه القراءة سنركز على العناصر البشرية في شخصيتها - إن صح التعبير - وسنتجاهل العناصر الغيبية والإعجازية، أي سنركز على سيرتها من خلال فكرها وجهادها وتضحياتها وأخلاقها وسلوكياتها وغيرها من الأمور البشرية «غير الإعجازية»، فالزهراء «ع» هي المرأة الكاملة المتكاملة في جميع شؤونها وعلاقاتها، فلو تناولنا سيرتها كإبنة لوجدناها أفضل إبنة، لأنها وصلت في علاقتها مع أبيها إلى القمة في علاقة البنت بوالدها، ولو تناولناها كزوجة لرأيناها في قمة الكمال في علاقة المرأة بزوجها، ولو تناولناها كأم لرأيناها في قمة الكمال في رعايتها وتربيتها لأبنائها، ولو تناولناها كامرأة في مجتمعها لرأيناها المرأة الكاملة في تفاعلها مع قضايا وهموم مجتمعها.
فالزهراء «ع» هي المرأة الكاملة والناجحة في كل شؤونها وعلاقاتها، وقلما نجد امرأةً مثلها أو تقترب من مساحتها في ذلك، فالكثير من النساء العظيمات - ناهيك عن غيرهن - قد يكن على علاقة متميزة مع والدهن، ولكنهن في علاقاتهن الأخرى كعلاقتهن مع أزواجهن مثلاً قد يكن ليسوا بنفس الدرجة أو العكس، وهكذا في الجوانب الأخرى، إذ من الصعوبة أن تكتمل شخصية امرأة في كل هذه العلاقات وبنفس الكيفية التي لدى الزهراء «ع» .
جوانب متميزة في شخصية الزهراء «ع» :
· فاطمة الزهراء «البنت»:
إن الزهراء «ع» هي بنت النبي محمد «ص» ، وهو شخصية متميزة وقيادية كبيرة وغنية عن التعريف، فلقد تحققت على يديه الكثير من الإنجازات، وهو الذي ساهم بنقل العرب نقلة نوعية، وجعل منهم مجتمعات متفوقة على أقرانها من المجتمعات الأخرى في ذلك الحين، بعد أن كانوا يعيشون في مختلف ألوان الجهل والتخلف، وكل ذلك في زمن قياسي بمقاييس تكون الحضارات.
ولذلك فمن الطبيعي أن تتأثر الزهراء «ع» بهذه الأجواء، فلقد عاشت مع أبيها وتربت على يده، وشاهدته في أكثر من مرحلة من مراحل حياته، وأخذت من فكره وأخلاقه وسلوكه بحسب التنشئة الإجتماعية - كما يقول علماء الإجتماع - فمن ينظر لسيرة الزهراء «ع» يلحظ أخلاق النبي «ص» في أخلاقها، وفكر النبي في فكرها، وسلوك النبي في سلوكها، وتضحية النبي في تضحياتها، فهي ابنته «ص» ليست في النسب فقط، وإنما هي ابنته كذلك في فكره وأخلاقه وسلوكه وتضحياته، «وفي كامل مشروعه»، وفي كل شيء، فهي بضعة منه في كل جوانب شخصيته.
ومن شدة تشابه شخصيتها «ع» بشخصية والدها الرسول الأكرم «ص» نجد السيدة عائشة أمِّ المؤمنين تقول كما في بعض الروايات: «ما رأيتُ أحداً كان أشبه كلاماً وسمتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلتها وأجلسته في مجلسها».
نعم، هكذا كانت الزهراء «ع» القمة في علاقتها مع أبيها ليست فقط في هذه الجوانب - لكي لا يُقال بأن هذا كان من تأثير عامل الوراثة فقط - بل تعدته إلى أن أصبحت بحد تعبير النبي «ص» أم أبيها، ومن المعروف أن الأم تعطي أبناءها من حنانها وعطفها ورعايتها، ومن يتأمل هذه المقولة، ويراجع سيرة الزهراء «ع» مع النبي الأكرم «ص» يلحظ كيف كانت تقوم بدور الأم معه، فلقد كانت تعطيه من حبها وحنانها واهتمامها ورعايتها.. فلذلك كانت أم أبيها فعلاً.
ولشدة علاقتها به وعلاقته بها كان النبي «ص» كما يروى عنه: «كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين شكراً لله على أنه أرجعه من سفره، ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه».
وربما يقول بعضهم إن ذلك بسبب عاطفة الأبوة، وبغض النظر عن عقيدتنا في الرسول الأكرم «ص» ، والذي هو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى نقول: لماذا لم يقل أو يفعل الرسول «ص» مع غيرها مثل ما فعل معها، مع كون القائلين بذلك من المعتقدين بأن للرسول الأكرم «ص» بناتاً من صلبه غير فاطمة «ع» .. فكروا جيداً!
· فاطمة الزهراء «الزوجة»:
وهي زوجة للإمام علي بن أبي طالب «ع» أخو النبي وربيبه، وابن عمه ورفيقه، ومنجز مشروعه وزوج إبنته، وعلى الرغم من أن الزهراء «ع» كانت بنت الرسول «ص» وزوجة الإمام علي «ع» إلا أنها كانت تقوم بكامل مسؤولياتها الزوجية على أكمل وجه، ولم تُشعر نفسها بأنها إبنة رجل عظيم كأبيها - النبي، القائد، الرجل الأول في الدولة الإسلامية - لتعيش الرفاهية ولتتخلى عن بعض مسؤولياتها كما تفعل بعض النساء اللاتي ولدن عن آباء كباراً كبار «من كبار القوم»، فلقد استَقَت بالقِربَة حتى أَثَّر في صدرها، وطَحنَتْ بالرَّحى حتى مجلت يداها، وَقَمَّتِ - كنست - البيت حتى اغبرَّت ثيابها كما تقول بعض الروايات، وهي بنت من؟! الرسول الأكرم «ص» ، وزوجة من؟! الإمام علي «ع» ، وأم من؟! الحسن والحسين وزينب «ع» ؟!.. فيا لها من امرأة عظيمة بحق.
وروي عن الإمام الباقر «ع» : «أن فاطمة «ع» ضمنت لعلي «ع» عمل البيت والعجين والخبز، وقمَّ البيت، وضمن لها علي «ع» ما كان خلف الباب: نقل الحطب وأن يجيء بالطعام».
وعن كيفية العلاقة الزوجية التي بين الزهراء «ع» وزوجها الإمام علي «ع» ، يقول الإمام «ع» في حقها: «فَوَ الله ما أغضبتُهَا ولا أكرهتُهَا على أمر حتى قَبضَهَا اللهُ عَزَّ وجلَّ، ولا أغضبَتْنِي، ولا عَصَتْ لِي أمراً، وَلقد كنتُ أنظرُ إِليها فتنكشفُ عَنِّي الهُموم والأحزان». ما أجمل العبارة الأخيرة «ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان»، وهذا يدل على سمو هذه المرأة وعلو شأنها، وما أجمل أن تكون للرجل امرأة إذا نظر إليها تنكشف عنه الهموم والأحزان.. فهل يطبق هذا الوصف ونستطيع أن نقوله عن نسائنا لو سُئلنا عنهن؟!
· فاطمة الزهراء المربية «الأم»:
لقد كانت الزهراء «ع» أماً للإمام الحسن والحسين وللسيدة زينب «ع» ، ومعرفة سيرة هؤلاء الأبناء كفيلة لإثبات تميزها التربوي - إن صح التعبير - فنجد أن أخلاق الإمام الحسن «ع» من أخلاقها، وتضحية الإمام الحسين «ع» من تضحياتها، ومواقف السيدة زينب وصمودها من مواقفها وصمودها، فالكثير من الصفات والمواقف هي هي، وإن اختلفت الشخصيات والأحداث، فكما كانت الزهراء بنتاً للرسول الأكرم «ص» ليس في النسب فقط، وإنما فكراً وسلوكاً وتضحيةً كانت أيضاً أماً للحسن والحسين وزينب «ع» فكراً وسلوكاً وأخلاقاً وتضحيةً وفي كل شيء.
· فاطمة الزهراء العالمة «والمعلمة»:
لقد كانت فاطمة الزهراء «ع» عالمة ومعلمة، فلقد كانت النساء يأتينها وتعلمهن كما في بعض النصوص الواردة، منها ما روي عن الإمام العسكري «ع» : «حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء «ع» فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بَعَثَتْني إليكِ أسألُكِ. فأجابتها «ع» عن ذلك، فقالت: لا أشقُّ عليك يا ابنة رسول الله «ص» .
قالت فاطمة «ع» : «هاتي وَسلي عمَّا بدا لك، أرأيتِ من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟». فقالت: لا. فقالت «ع» : «اكتَرَيْتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، أفأحرى أن لا يثقل عَلَيَّ».
وفي رواية أخرى أن امرأة جاءت إلى فاطمة الزهراء «ع» تسألها بعض المسائل، فأجابتها الزهراء «ع» عن سؤالها الأول. وظَلَّت المرأة تسألها حتى بلغت أسئلتها العشرة، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أَشُقُّ عليك يا ابنة رسول الله «ص» . فقالت فاطمة «ع» : «هَاتِي وَسَلِي عَمَّا بدا لكِ، إني سمعت أبي «ص» يقول: «إنَّ عُلمَاء أُمَّتِنَا يُحشرون، فيُخلع عَليهِم مِن الكرامات عَلى قَدَر كَثرةِ علومِهِم، وَجِدِّهِم في إِرشَادِ عِبَادِ اللهِ».
كما أننا عندما نقرأ خطبتها الشهيرة فإننا نجد الكثير الشواهد التي تدل على غزارة علمها لما أفاضته من القيم الإسلامية، وقد اتخذها الكثير من العلماء والمفكرون مادة للاستدلال على بعض القيم والمبادئ الإسلامية.
· فاطمة الزهراء «المناضلة»:
لم تكن الزهراء «ع» تلك المرأة الضعيفة المهزوزة في شخصيتها كما يصورها الكثير من الخطباء والكتاب، فمواقفها السياسية تدل على أنها كانت امرأة قوية وصامدة وصلبة الإرادة، فهي مناضلة من الطراز الأول، وفي الصفوف الأولى لحركة المعارضة للنظام السياسي آنذاك، لذلك نجدها عندما رأت الانحراف عن المشروع الرسالي الذي أسسه والدها النبي الأكرم «ص» ، وذلك بالانقلاب على زوجها الإمام علي «ع» خليفته الشرعي، وباغتصاب حقها في فدك بهدف تجريدها هي والإمام علي «ع» من الإمدادات المالية التي قد يحتاجونها لتعبئة الناس على هذا النظام المغتصب، والتي قد تفتح عليهم أبواباً لا يريدون فتحها، وبالهجوم على دارها وارتكاب أبشع الجرائم بحقها، فإن الزهراء «ع» عندما شاهدت هذا كله فإنه لم يثنها عن التنديد بالمؤامرة وتعريتها، وتبيين حقيقتها وكشف حقيقة قياداتها، بكل جرأة وشجاعة، وذلك في خطبتها الشهيرة في المسجد على الملأ من المسلمين.
وتقول الرواية أنه: «لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله «ص» ، حى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة «يعني ستاراً»، فجلست، ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه». وهذا يدل على ما للزهراء من تأثير كبير في النفوس.
وبعدها تحدثت الزهراء «ع» عن توحيد الله سبحانه وتعالى، وعرجت بعدها للحديث عن الرسول الأكرم «ص» والمعاناة التي تكبدها لهداية المسلمين ولتغير واقعهم وحياتهم للأفضل، وتحدثت فيما بعد عن التشريعات الإسلامية، وبعدها تكلمت وبكل جرأة عن انحراف النظام السياسي الجديد عن الرسالة المحمدية، ومن بعده قدمت استدلالات حاججت بها خصومها لإثبات حقها في فدك، وبعدها قامت باستنهاض الأنصار.
ومن ضمن ما جاء في الخطبة أنها قالت معرفة بنفسها ومذكرة لهم بما فعله الرسول «ص» من أجلهم: «أيها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد «ص» ، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تُعزوه وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه «ص» ، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبَجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة،...».
إلى أن قالت مذكرة لهم بما كانوا عليه قبل الرسول «ص» : «وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ «ص» بعد اللّتيا واللتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذئبان العرب ومردة أهل الكتاب...».
ثم تكلمت «ع» عن دور الإمام علي «ع» مع الرسول «ص» بقولها: «كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال».
وبعدها انتقلت «ع» لتبين للناس ولتصف الانقلاب والمؤامرة التي قادها المتآمرون بقولها: «فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة «حسيكة» النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم. هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين...».
ثم تكلمت «ع» عن حقها في فدك، واستدلت عليه بقولها مخاطبةً لهم: «وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟!! أفلا تعلمون؟ بلى، قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته. أيّها المسلمون، أأغلب على إرثي؟ يابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً على الله ورسوله، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: «وورث سليمانُ داودَ»، وقال في ما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا «ع» إذ قال: «فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب»، وقال «أيضاً»: «وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»، وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»، وقال: «إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين»، وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآية «من القرآن» أخرج أبي محمداً «ص» منها؟ أم تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزعيم محمد «ص» والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم ما قلتم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم».
ثم تقول الرواية أنها رمت بطرفها نحو الأنصار - لاستنهاضهم - فقالت: «يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسِّنةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله «ص» أبي يقول: "المرء يحفظ في ولده"؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول...».
إلى أن قالت «ع» : «إيهاً بني قيلة، أأهضم تراث أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدّة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت...». إلى آخر خطبتها «ع» .
أعزائي تصوروا معي.. كيف أن امرأةً فقدت أباها للتو، وغصب حق زوجها، ومنعت من إرثها أو صودرت حقوقها، وهجم على دارها وفعلوا ما فعلوا بها، ومع ذلك لم تضعف ولم تنهزم وواجهة هؤلاء الظالمين بكل جرأة وبقوة بيان كهذا؟! ما عسانا أن نقول بحقها سوى أنها كانت قوية صلبة لم تنهزم ولم تضعف إرادتها، لأن هذا بالتأكيد ليس فعلاً ولا منطقاً ولا تصرفاً لمرأة ضعيفة مهزومة مهزوزة.
كما ينبغي أن أشير هنا إلى أن الزهراء «ع» لم تكن تدافع عن الإمام علي «ع» وتقف معه باعتباره زوجاً لها، كأن يكون ذلك لتأثير العاطفة الزوجية عليها، كما نرى ذلك من المرأة التي تتعاطف مع زوجها عادة. لا، بل وقفت بجانبه ودافعت عن حقه باعتباره قائدها الشرعي، والأحق بخلافة الرسول «ص» .. أجل، هكذا ينبغي أن نفهم موقف الزهراء «ع».
ختاماً أقول:
هذه محاولة مني لتقديم قراءة أخرى للزهراء «ع» تختلف عن القراءة التقليدية الشائعة، وأتمنى أن تكون هذه بمثابة انطلاقة لمشاريع كبيرة تحمل نفس هذا الهم، كما أتمنى أن أكون قد وفقت في محاولتي هذه، وإن كنت أعلم بأنها ناقصة وغير تامة، ولكن يكفيني شرف المحاولة، علماً بأنني لا أعترض على القراءة التقليدية الشائعة التي تركز على الجانب الغيبي للزهراء «ع» بشكل عام، وإن كنت أتحفظ على بعضه، ولكن أقول بأن هذا الخطاب لا يناسب لمخاطبة من لا يعتقد به.
سلمان عبد الاعلى
في ذكرى الزهراء «ع» لن أتكلم عنها من خلال الآيات القرآنية التي نزلت في شأنها، ولن أتكلم عن روايات الرسول الأكرم «ص» في فضلها وعظمتها، ولن أتكلم عن عصمتها وطهارتها، ولن أتكلم عن أسماءها وكناها وصفاتها، ولن أتكلم عن كراماتها والأمور الإعجازية في شخصيتها، ولن أتكلم عن اضطهادها وتفاصيل ظلاماتها، ولن أتكلم عن زواجها وتفاصيل حياتها، ولن أتكلم كذلك عن مصحفها وما فيه من آثارها.
نعم، لن أتكلم عن الزهراء «ع» من خلال هذه المحاور، لأنني أعتقد بأن الكلام قد أشبع حولها، ففي كل مناسبة تمر فيها ذكرى الزهراء «ع» «ولادتها أو وفاتها» تبرز هذه العناوين أو بعضها ويتم تكرار الحديث عنها دون أي إضافة أو تجديد «كما يحدث عادةً من البعض».
ولهذا سأعمد في مقالي هذا على تجاهلها - أي المحاور السابقة - ليس لأني أنكرها ولا أؤمن بها. كلا ولا، وإنما لكوني لا أملك حولها رؤيةً تجديديةً مختلفةً عن الرؤية التقليدية الشائعة، والتي لا تناسب - كما أراها في الأعم الأغلب - لمخاطبة جميع الفئات والشرائح، كما أنني أريد وأسعى لتكوين خطاباً عالمياً للزهراء «ع» يختلف عن الخطاب التقليدي الشائع، ويناسب لمخاطبة العالم، كل العالم، بكل فئاته وشرائحه، وبمختلف ثقافاته وعقلياته.. ومن هنا فإني ومن خلال هذه المقالة سأحاول أن أقدم قراءة أخرى للزهراء «ع» تختلف عن القراءة التقليدية، وأسأل من الله سبحانه وتعالى التوفيق والعون والسداد.
محاولة لتقديم قراءة أخرى لفاطمة الزهراء «ع» :
بعيداً عن كل العناوين الأخرى التي يمكن أن نتناول من خلالها سيرة الزهراء «ع» ، فإننا في هذه القراءة سنركز على العناصر البشرية في شخصيتها - إن صح التعبير - وسنتجاهل العناصر الغيبية والإعجازية، أي سنركز على سيرتها من خلال فكرها وجهادها وتضحياتها وأخلاقها وسلوكياتها وغيرها من الأمور البشرية «غير الإعجازية»، فالزهراء «ع» هي المرأة الكاملة المتكاملة في جميع شؤونها وعلاقاتها، فلو تناولنا سيرتها كإبنة لوجدناها أفضل إبنة، لأنها وصلت في علاقتها مع أبيها إلى القمة في علاقة البنت بوالدها، ولو تناولناها كزوجة لرأيناها في قمة الكمال في علاقة المرأة بزوجها، ولو تناولناها كأم لرأيناها في قمة الكمال في رعايتها وتربيتها لأبنائها، ولو تناولناها كامرأة في مجتمعها لرأيناها المرأة الكاملة في تفاعلها مع قضايا وهموم مجتمعها.
فالزهراء «ع» هي المرأة الكاملة والناجحة في كل شؤونها وعلاقاتها، وقلما نجد امرأةً مثلها أو تقترب من مساحتها في ذلك، فالكثير من النساء العظيمات - ناهيك عن غيرهن - قد يكن على علاقة متميزة مع والدهن، ولكنهن في علاقاتهن الأخرى كعلاقتهن مع أزواجهن مثلاً قد يكن ليسوا بنفس الدرجة أو العكس، وهكذا في الجوانب الأخرى، إذ من الصعوبة أن تكتمل شخصية امرأة في كل هذه العلاقات وبنفس الكيفية التي لدى الزهراء «ع» .
جوانب متميزة في شخصية الزهراء «ع» :
· فاطمة الزهراء «البنت»:
إن الزهراء «ع» هي بنت النبي محمد «ص» ، وهو شخصية متميزة وقيادية كبيرة وغنية عن التعريف، فلقد تحققت على يديه الكثير من الإنجازات، وهو الذي ساهم بنقل العرب نقلة نوعية، وجعل منهم مجتمعات متفوقة على أقرانها من المجتمعات الأخرى في ذلك الحين، بعد أن كانوا يعيشون في مختلف ألوان الجهل والتخلف، وكل ذلك في زمن قياسي بمقاييس تكون الحضارات.
ولذلك فمن الطبيعي أن تتأثر الزهراء «ع» بهذه الأجواء، فلقد عاشت مع أبيها وتربت على يده، وشاهدته في أكثر من مرحلة من مراحل حياته، وأخذت من فكره وأخلاقه وسلوكه بحسب التنشئة الإجتماعية - كما يقول علماء الإجتماع - فمن ينظر لسيرة الزهراء «ع» يلحظ أخلاق النبي «ص» في أخلاقها، وفكر النبي في فكرها، وسلوك النبي في سلوكها، وتضحية النبي في تضحياتها، فهي ابنته «ص» ليست في النسب فقط، وإنما هي ابنته كذلك في فكره وأخلاقه وسلوكه وتضحياته، «وفي كامل مشروعه»، وفي كل شيء، فهي بضعة منه في كل جوانب شخصيته.
ومن شدة تشابه شخصيتها «ع» بشخصية والدها الرسول الأكرم «ص» نجد السيدة عائشة أمِّ المؤمنين تقول كما في بعض الروايات: «ما رأيتُ أحداً كان أشبه كلاماً وسمتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلتها وأجلسته في مجلسها».
نعم، هكذا كانت الزهراء «ع» القمة في علاقتها مع أبيها ليست فقط في هذه الجوانب - لكي لا يُقال بأن هذا كان من تأثير عامل الوراثة فقط - بل تعدته إلى أن أصبحت بحد تعبير النبي «ص» أم أبيها، ومن المعروف أن الأم تعطي أبناءها من حنانها وعطفها ورعايتها، ومن يتأمل هذه المقولة، ويراجع سيرة الزهراء «ع» مع النبي الأكرم «ص» يلحظ كيف كانت تقوم بدور الأم معه، فلقد كانت تعطيه من حبها وحنانها واهتمامها ورعايتها.. فلذلك كانت أم أبيها فعلاً.
ولشدة علاقتها به وعلاقته بها كان النبي «ص» كما يروى عنه: «كان رسول الله إذا رجع من غزاة أو سفر أتى المسجد فصلى فيه ركعتين شكراً لله على أنه أرجعه من سفره، ثم ثنى بفاطمة ثم يأتي أزواجه».
وربما يقول بعضهم إن ذلك بسبب عاطفة الأبوة، وبغض النظر عن عقيدتنا في الرسول الأكرم «ص» ، والذي هو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى نقول: لماذا لم يقل أو يفعل الرسول «ص» مع غيرها مثل ما فعل معها، مع كون القائلين بذلك من المعتقدين بأن للرسول الأكرم «ص» بناتاً من صلبه غير فاطمة «ع» .. فكروا جيداً!
· فاطمة الزهراء «الزوجة»:
وهي زوجة للإمام علي بن أبي طالب «ع» أخو النبي وربيبه، وابن عمه ورفيقه، ومنجز مشروعه وزوج إبنته، وعلى الرغم من أن الزهراء «ع» كانت بنت الرسول «ص» وزوجة الإمام علي «ع» إلا أنها كانت تقوم بكامل مسؤولياتها الزوجية على أكمل وجه، ولم تُشعر نفسها بأنها إبنة رجل عظيم كأبيها - النبي، القائد، الرجل الأول في الدولة الإسلامية - لتعيش الرفاهية ولتتخلى عن بعض مسؤولياتها كما تفعل بعض النساء اللاتي ولدن عن آباء كباراً كبار «من كبار القوم»، فلقد استَقَت بالقِربَة حتى أَثَّر في صدرها، وطَحنَتْ بالرَّحى حتى مجلت يداها، وَقَمَّتِ - كنست - البيت حتى اغبرَّت ثيابها كما تقول بعض الروايات، وهي بنت من؟! الرسول الأكرم «ص» ، وزوجة من؟! الإمام علي «ع» ، وأم من؟! الحسن والحسين وزينب «ع» ؟!.. فيا لها من امرأة عظيمة بحق.
وروي عن الإمام الباقر «ع» : «أن فاطمة «ع» ضمنت لعلي «ع» عمل البيت والعجين والخبز، وقمَّ البيت، وضمن لها علي «ع» ما كان خلف الباب: نقل الحطب وأن يجيء بالطعام».
وعن كيفية العلاقة الزوجية التي بين الزهراء «ع» وزوجها الإمام علي «ع» ، يقول الإمام «ع» في حقها: «فَوَ الله ما أغضبتُهَا ولا أكرهتُهَا على أمر حتى قَبضَهَا اللهُ عَزَّ وجلَّ، ولا أغضبَتْنِي، ولا عَصَتْ لِي أمراً، وَلقد كنتُ أنظرُ إِليها فتنكشفُ عَنِّي الهُموم والأحزان». ما أجمل العبارة الأخيرة «ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان»، وهذا يدل على سمو هذه المرأة وعلو شأنها، وما أجمل أن تكون للرجل امرأة إذا نظر إليها تنكشف عنه الهموم والأحزان.. فهل يطبق هذا الوصف ونستطيع أن نقوله عن نسائنا لو سُئلنا عنهن؟!
· فاطمة الزهراء المربية «الأم»:
لقد كانت الزهراء «ع» أماً للإمام الحسن والحسين وللسيدة زينب «ع» ، ومعرفة سيرة هؤلاء الأبناء كفيلة لإثبات تميزها التربوي - إن صح التعبير - فنجد أن أخلاق الإمام الحسن «ع» من أخلاقها، وتضحية الإمام الحسين «ع» من تضحياتها، ومواقف السيدة زينب وصمودها من مواقفها وصمودها، فالكثير من الصفات والمواقف هي هي، وإن اختلفت الشخصيات والأحداث، فكما كانت الزهراء بنتاً للرسول الأكرم «ص» ليس في النسب فقط، وإنما فكراً وسلوكاً وتضحيةً كانت أيضاً أماً للحسن والحسين وزينب «ع» فكراً وسلوكاً وأخلاقاً وتضحيةً وفي كل شيء.
· فاطمة الزهراء العالمة «والمعلمة»:
لقد كانت فاطمة الزهراء «ع» عالمة ومعلمة، فلقد كانت النساء يأتينها وتعلمهن كما في بعض النصوص الواردة، منها ما روي عن الإمام العسكري «ع» : «حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء «ع» فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بَعَثَتْني إليكِ أسألُكِ. فأجابتها «ع» عن ذلك، فقالت: لا أشقُّ عليك يا ابنة رسول الله «ص» .
قالت فاطمة «ع» : «هاتي وَسلي عمَّا بدا لك، أرأيتِ من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟». فقالت: لا. فقالت «ع» : «اكتَرَيْتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، أفأحرى أن لا يثقل عَلَيَّ».
وفي رواية أخرى أن امرأة جاءت إلى فاطمة الزهراء «ع» تسألها بعض المسائل، فأجابتها الزهراء «ع» عن سؤالها الأول. وظَلَّت المرأة تسألها حتى بلغت أسئلتها العشرة، ثم خجلت من الكثرة، فقالت: لا أَشُقُّ عليك يا ابنة رسول الله «ص» . فقالت فاطمة «ع» : «هَاتِي وَسَلِي عَمَّا بدا لكِ، إني سمعت أبي «ص» يقول: «إنَّ عُلمَاء أُمَّتِنَا يُحشرون، فيُخلع عَليهِم مِن الكرامات عَلى قَدَر كَثرةِ علومِهِم، وَجِدِّهِم في إِرشَادِ عِبَادِ اللهِ».
كما أننا عندما نقرأ خطبتها الشهيرة فإننا نجد الكثير الشواهد التي تدل على غزارة علمها لما أفاضته من القيم الإسلامية، وقد اتخذها الكثير من العلماء والمفكرون مادة للاستدلال على بعض القيم والمبادئ الإسلامية.
· فاطمة الزهراء «المناضلة»:
لم تكن الزهراء «ع» تلك المرأة الضعيفة المهزوزة في شخصيتها كما يصورها الكثير من الخطباء والكتاب، فمواقفها السياسية تدل على أنها كانت امرأة قوية وصامدة وصلبة الإرادة، فهي مناضلة من الطراز الأول، وفي الصفوف الأولى لحركة المعارضة للنظام السياسي آنذاك، لذلك نجدها عندما رأت الانحراف عن المشروع الرسالي الذي أسسه والدها النبي الأكرم «ص» ، وذلك بالانقلاب على زوجها الإمام علي «ع» خليفته الشرعي، وباغتصاب حقها في فدك بهدف تجريدها هي والإمام علي «ع» من الإمدادات المالية التي قد يحتاجونها لتعبئة الناس على هذا النظام المغتصب، والتي قد تفتح عليهم أبواباً لا يريدون فتحها، وبالهجوم على دارها وارتكاب أبشع الجرائم بحقها، فإن الزهراء «ع» عندما شاهدت هذا كله فإنه لم يثنها عن التنديد بالمؤامرة وتعريتها، وتبيين حقيقتها وكشف حقيقة قياداتها، بكل جرأة وشجاعة، وذلك في خطبتها الشهيرة في المسجد على الملأ من المسلمين.
وتقول الرواية أنه: «لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة فدكاً وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله «ص» ، حى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة «يعني ستاراً»، فجلست، ثم أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه». وهذا يدل على ما للزهراء من تأثير كبير في النفوس.
وبعدها تحدثت الزهراء «ع» عن توحيد الله سبحانه وتعالى، وعرجت بعدها للحديث عن الرسول الأكرم «ص» والمعاناة التي تكبدها لهداية المسلمين ولتغير واقعهم وحياتهم للأفضل، وتحدثت فيما بعد عن التشريعات الإسلامية، وبعدها تكلمت وبكل جرأة عن انحراف النظام السياسي الجديد عن الرسالة المحمدية، ومن بعده قدمت استدلالات حاججت بها خصومها لإثبات حقها في فدك، وبعدها قامت باستنهاض الأنصار.
ومن ضمن ما جاء في الخطبة أنها قالت معرفة بنفسها ومذكرة لهم بما فعله الرسول «ص» من أجلهم: «أيها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد «ص» ، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فإن تُعزوه وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه «ص» ، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثَبَجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة،...».
إلى أن قالت مذكرة لهم بما كانوا عليه قبل الرسول «ص» : «وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ «ص» بعد اللّتيا واللتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذئبان العرب ومردة أهل الكتاب...».
ثم تكلمت «ع» عن دور الإمام علي «ع» مع الرسول «ص» بقولها: «كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال».
وبعدها انتقلت «ع» لتبين للناس ولتصف الانقلاب والمؤامرة التي قادها المتآمرون بقولها: «فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة «حسيكة» النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم. هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين...».
ثم تكلمت «ع» عن حقها في فدك، واستدلت عليه بقولها مخاطبةً لهم: «وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟!! أفلا تعلمون؟ بلى، قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته. أيّها المسلمون، أأغلب على إرثي؟ يابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّاً على الله ورسوله، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول: «وورث سليمانُ داودَ»، وقال في ما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا «ع» إذ قال: «فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب»، وقال «أيضاً»: «وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله»، وقال: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين»، وقال: «إن ترك خيراً الوصيةُ للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين»، وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصّكم الله بآية «من القرآن» أخرج أبي محمداً «ص» منها؟ أم تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزعيم محمد «ص» والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم ما قلتم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم».
ثم تقول الرواية أنها رمت بطرفها نحو الأنصار - لاستنهاضهم - فقالت: «يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي والسِّنةُ عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله «ص» أبي يقول: "المرء يحفظ في ولده"؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول...».
إلى أن قالت «ع» : «إيهاً بني قيلة، أأهضم تراث أبي، وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى ومجمع؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدّة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجُنّة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت...». إلى آخر خطبتها «ع» .
أعزائي تصوروا معي.. كيف أن امرأةً فقدت أباها للتو، وغصب حق زوجها، ومنعت من إرثها أو صودرت حقوقها، وهجم على دارها وفعلوا ما فعلوا بها، ومع ذلك لم تضعف ولم تنهزم وواجهة هؤلاء الظالمين بكل جرأة وبقوة بيان كهذا؟! ما عسانا أن نقول بحقها سوى أنها كانت قوية صلبة لم تنهزم ولم تضعف إرادتها، لأن هذا بالتأكيد ليس فعلاً ولا منطقاً ولا تصرفاً لمرأة ضعيفة مهزومة مهزوزة.
كما ينبغي أن أشير هنا إلى أن الزهراء «ع» لم تكن تدافع عن الإمام علي «ع» وتقف معه باعتباره زوجاً لها، كأن يكون ذلك لتأثير العاطفة الزوجية عليها، كما نرى ذلك من المرأة التي تتعاطف مع زوجها عادة. لا، بل وقفت بجانبه ودافعت عن حقه باعتباره قائدها الشرعي، والأحق بخلافة الرسول «ص» .. أجل، هكذا ينبغي أن نفهم موقف الزهراء «ع».
ختاماً أقول:
هذه محاولة مني لتقديم قراءة أخرى للزهراء «ع» تختلف عن القراءة التقليدية الشائعة، وأتمنى أن تكون هذه بمثابة انطلاقة لمشاريع كبيرة تحمل نفس هذا الهم، كما أتمنى أن أكون قد وفقت في محاولتي هذه، وإن كنت أعلم بأنها ناقصة وغير تامة، ولكن يكفيني شرف المحاولة، علماً بأنني لا أعترض على القراءة التقليدية الشائعة التي تركز على الجانب الغيبي للزهراء «ع» بشكل عام، وإن كنت أتحفظ على بعضه، ولكن أقول بأن هذا الخطاب لا يناسب لمخاطبة من لا يعتقد به.