جعفر المندلاوي
26-10-2012, 08:11 PM
الانسيَاق الجمَاعي
=============
بقلم : علي يحي معمر
في سنة 1960 كنتُ في لبنان، وأعدَّت لنا جامعة بيروت رحلةً إلى مغارة "قاديشا"، فمررنا بمتحف "جبران"، كنا حوالي 150 شخصاً، بين مدرِّسين، ومديري مدارس ومعاهد، وموجِّهين فنيين. وقد تنقَّلنا بين أقسام المتحف، وشاهدنا عديداً من الصور والمناظر التي رسمتها ريشة "جبران"؛ وكان ضمن المعلَّقات لوحات ليس فيها غير خطوط متعرِّجة، كنت أقف أمام بعضِها متأمِّلاً دون أن أفهم شيئاً. ويمرُّ بي الرفاق، وهم يُظهرون الإعجاب بتلك الخطوط المتعرِّجة المتداخلة، وببراعة الفنَّان في رسمها، كأنما كانوا يشاركونه كلَّ الأحاسيس التي ينفعل بها، حتى كانت ريشته الدقيقة تجري بتلك الخطوط.
ومرَّ بي أحد الأصدقاء، وهو يطري موهبة "جبران" بصوت مرتفع مسموع، كأنما يقصد ذلك. فمِلت إليه، والتمست منه في خجل أن يوضِّح لي بعض ما تعنيه تلك الخطوط، وكيف توصَّل إلى فهم ذلك، فالتفتَ إلى جانبيه، ثم همس إليَّ محاذراً يقول: إنَّه والله لم يفهم شيئاً من ذلك، ولكنَّه لا يريد أن يقول عنه الآخرون إنه عديم الذوق في الفنِّ، وأن يُتَّهم بالغباوة.
فعلمت أنَّ هذه الحالة هي حالة الكثيرين من أولئك الزوار وغيرهم؛ هذه الصورة تمثِّل حالة المجتمعات اليوم، ففي جميعِ المسائل العامَّة تبدو لنا هذه الملاحظة واضحة - ملاحظة الانسياق الجماعي مع الفكرة الظاهرة - وإن كان الكثير ممن ينساق وراء تلك الفكرة، إنما ينساق دون وعيٍ، أو عن غير فهمٍ، أو غير اقتناعٍ، ولكنَّه مع عدم الفهم أو عدم الاقتناع، نراه يجري مع التيار في اتساق ونظام...!
وبهذا الانسياق الجماعي وراء فكرةٍ، أو دعوةٍ، أو عادةٍ... تتحكَّم العادات في المجتمعات؛ لأنَّ الأفراد يتنازلون في مجابهتها عن آرائهم الشخصية ومعتقداتهم الحقيقية، وأحكامهم الصحيحة، مسايَرة للفكرة السائدة التي قد تكون هي سلوك الأغلبية، وقد تكون فكرةً بدأت في الظهور معتمدة على راسب قويٍّ من العادات، أو على دعوى قبيحةٍ من العلم أو الدين أو السياسة.
ولعلَّ أبرز ما تتضح فيه فكرة الانسياق الجماعي ولاسيما بالنسبة إلى المثقفين، وأشباه المثقفين، هو موضوع الأقانيم الثلاثة. فقد انتشرت آراء عن الطفل ومعاملته وتربيته وسلوكه، وما يختص به، فانساق الجميع وراء ذلك التيار، وصاروا ينادون بها في حرارة وحماس؛ حتى لا يقالَ عنهم إنهم جهلاء أو متأخرون...وحتى أشد الناس مخالفة لتلك الآراء بالسلوك، يقف للإعلان عنها في دعوة حارَّة، وتأكيد وتصميم، كأنما هو الذي ابتكرها.
وانتشرت آراء في موضوع المرأة بما فيها من خير وشرٍّ، فانساق إليها الجميع دون وعي: المرأة نصف المجتمع، هي المدرسة الأولى، كانت مظلومة، حقها في الحرية. تعطَّلت مسيرة البشرية لإهمال المرأة، ذكاء المرأة، قوَّة المرأة، تضحية المرأة، في سلسة طويلة من العناوين الضخمة تحمل في الغالب مبادئ سليمة، تندرج تحتها أفكار كثيرة منحرفة زائفة، تلهج بها ألسنة لا تفرِّق بين الخير والشرِّ، والحق والباطل، وينساق وراءها الرأي الجماعيُّ، خوفا من تهمة التخلُّف والجمود والجهل؛ وحتى أولئك الذين يخالفون بسلوكهم ما يندرج تحت تلك العناوين، ينساقون مع التيار، ويهتفون معه في رتابة وتنغيم.
وموضوع الحاكم لا يخرج عن هذا النطاق، فما يتسلَّق متسلِّق منصَّة الحكم حتى تبادر أجهزة الدعاية إلى الإعلان عنه، وإلى إضفاء أثواب فضفاضة عليه، من أكرم النعوت وأجمل الشعارات، تلهج بها ألسنة كثيرةٌ، ثم يتمُّ الانسياق الجماعي، وتمضي فترة قد لا تطول، فيهوي ذلك المتسلِّق، ويتسلَّق غيره، فتعمل أجهزة الدعاية على تجريد الأوَّل مما كان يوصف به، وإلباس الثاني حُللاً ضافيةً من معاني الخير والعمل والكفاح، ويتم كذلك الانسياق الجماعي في الموقفين، دون أن يرتفع صوت بالاعتراض، أو يندَى جبينٌ بالخجل، من تبدُّل الموقفين.
وفي هذه النماذج الثلاثة، كان الانسياق الجماعي إما عن غير وعي وتفكير، وإمَّا عن خوف من تهمة الجهل أو التخلف أو الخيانة ومعارضته الحكم.
وعلى هذا النمط بدأت تتكوَّن عادات اجتماعية في المناسبات -سوف تكون لها خطورة- فما يظهر سلوكٌ معيَّن حتى يتمَّ وراءه الانسياق الجماعي، لسبب من الأسباب، دون أن تظهر ردود الفعل الفردية، أو الآراء الشخصية التي تقف دون انتشار ذلك بين الجميع.
والحقيقة أنَّ فكرة الانسياق الجماعي في هذا العصر أصبحت من الخطورة في الدرجة الكبرى، ذلك أنَّ الفكرة الخاطئة تجد من الوسائل ما يجعلها تنتشر بسرعة، وتلتفُّ حولها الأصوات حتى تصبح سلوكا. وتقف الأصوات المعارضة متردِّدة في حناجر أصحابها؛ لأنَّها لا تقوى أن تعلن عن نفسها، لسبب من الأسباب؛ حتى يتم الانسياق الجماعي، وتصبح الفكرة الخاطئة هي المبدأ السليم الذي تبنى عليه الأسس، وترفع القواعد.
وحينئذ، حتى إذا ارتفعت الأصوات المضادَّة المنكرة، فإنها تضيع في الفضاء دون أن يسمعها أحد، أو دون أن يتاح لها الارتفاع، فتتضاءل وتنمحي ثم تزول.
وهكذا ما إن ترتفع فكرةٌ ما في موضوع عامٍّ، حتى يتم الانسياق الجماعي، فالانسياق الجماعي في هذا العصر ظاهرةٌ واضحةٌ، لا اختلاف فيها ولا تخلُّف، تتمُّ في يسر وسهولة، وفي خطوات قليلة، وذلك بأن تعلن الفكرة، فيتحمَّس لها عدد، ويدعو إليها وينساق الأغلب، وقد تُعرِض أقلية في سكوت أو خفوت، إمَّا جهلاً، وإمَّا عدم مبالاة.
وقد نتج هن هذا الانسياق الجماعي عدَّة ظواهر، يستطيع الملاحظ أن يتبيَّنها بوضوح، ربما لخَّصنا بعضها فيما يلي:
- التخلِّي عن الرأي الشخصي: أصبح الفرد - رغم اعتزازه برأيه الشخصي - لا يعلن عنه، إذا كان مخالفاً للانسياق الجماعي، وإذا أعلن عنه لا يندفع إلى تأييده بما ينبغي له من حماس وقوَّة، وذلك خوفاً من أن يُرمى بالتخلُّف والغباء وعدم الفهم.
- التضارب بين الرأي والقول والسلوك1: فتجد الشخصَ يقول بما يقول به الناس في الانسياق الجماعي، ولكنَّ رأيه في الحقيقة مخالف لرأيهم، وقوله معهم وسلوكه غالباً ما يخالف رأيه وقوله أيضاً، والأمثلة على هذا كثيرة، والباحث يستطيع أن يجد لذلك عشرات الأمثلة في سلوك الآباء والأمهات والمدرسين والطلبة وغيرهم من أفراد المجتمع.
- الاندفاع المتحمس مع المجموع دون رويَّة، أو تفكير، خوفاً من وصمة التخلُّف، والتماساً للسبق، والظهور في مظاهر القيادة.
- امتداح الخطأ: عندما تشيع الفكرة وتسود، تتولى بعض الألسنة امتداحَها وتأييدَها فيتواصل المدح والثناء من الجميع، وحتى أولئك الذين يعتقدون أنها خطأ، يسارعون إلى امتداحها والدعاية عنها علناً، وربما انتقدوها مرَّ الانتقاد في أنفسهم وفي مجالسهم الخاصَّة المأمونة، فهم يمتدحون الخطأ في اعتقادهم جرياً مع الانسياق الجماعي، ومعنى هذا أنَّ الخطأ عندما يستعلن لا يجد من ينتقده، وإنما يجد من يمتدحه ويؤيده.
- ادِّعاء الذكاء والفهم: لعلَّ أحداً لا يعترف بالقصور وعدم الفهم في هذا العصر، وكلَّما أثيرت مشكلة ولاسيما في ميادين الدين والطب والاجتماع والسياسة، سارع الناس إلى إبداء الرأي فيها، وادِّعاء الفهم لها والعلم بها، وعندما تتبلور حلول المشكلة سواءً كانت حلولاً سليمة أو غير سليمة، تزعم جميع الأصوات التي ارتفعت والتي لم ترتفع إلى أنها نصحت بتلك الحلول، ودعت إليها قبل أن ينتبه إليها أحد.
- التحكم باسم العلم أو باسم الدين: ظاهرةٌ مِن أخطر الظواهر التي تشكِّل سلوك الناس في هذا العصر، والانسياق الجماعي واضح في هذه الظاهرة أكثر منه في الظواهر الأخرى، ويكفي أن يزعم زاعم في رأيٍ أو فكرةٍ أنها رأي العلم، أو رأي الدين، حتى يتمَّ الانسياق الجماعي؛ وذلك لأنَّ الأكثر في الواقع يجهلون رأيَ العلم أو رأي الدين في الموضوع، فهم يستجيبون للدعوة من أوَّل الأمر خوفاً من أن يقال عنهم إنهم جهلاء لا يعرفون بدائه العلم وحقائق الدين، ثم لا يخجلون أن يردوا ذلك وأن يتحكموا باسم العلم أو الدين، ولا شكَّ أن من خالف بعد ذلك بعد الانسياق الجماعي اعتبر جاهلاً أو غير متديِّن، ومِن الآثار الناتجة عن ذلك أنه عندما تنتشر دعوى من تلك الدعاوى، وتنساق وراءها الجموع، يقف العالمون بها حقيقة العلم أحد موقفين: منهم من يؤيِّدها مع علمه بأنها خطأ، ويمتدح الدعاة إليها، ومنهم من يقف منها موقفاً سلبياً، ينتقدها في نفسه، ويسكت عنها بلسانه. وكثير من المشاكل المعاصرة التي اتخذ الانسياق الجماعي فيها موقفاً بدأه طلاب الظهور بدعوى رأي الدين أو رأي العلم، هي من هذا النوع.
والصورة في إطارها العام بظواهرها المختلفة - سواءً ما عرضنا له في هذا الفصل، وما لم نعرض- لا تخرج عن مظهر العبادة والتقديس المندفع المتحمِّس أولاً، وقد يكون الردُّ أحياناً أعنف من الاندفاع الأوَّل، فينتج عنه تطرُّف إلى الجانب الثاني، يمثل سلوك الأعرابي مع آلهة من الحلوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
1 - يعنى نموذج الرشد، في المحور الثاني منه، بالحركية بين الفكر والفعل؛ وهذا الملحظ الذي أورده المؤلف رحمه الله، يعالج ظاهرةً من ظواهر الانفصام بين الفكر والفعل، وبين القول والعمل؛ وهي ظاهرة يجب أن تلقى العناية الكافية لمعالجتها، وإلاَّ فكلُّ مخطَّط، أو مشروع، أو حتى دين... سيبقى رهينا حبيسا، لا يراوح مكانه، يدور ويدور.. ثم لا يتقدَّم خطوة واحدة في سلَّم الحضارة.
المصدر: كتاب: آلهة من الحلوى، الأقانيم الثلاثة: "الطفل، المرأة، الحاكم"، للمفكر العلامة: على يحي معمر، تحقيق: د. محمد باباعمي، ضمن خدمة: "كتابك".
=============
بقلم : علي يحي معمر
في سنة 1960 كنتُ في لبنان، وأعدَّت لنا جامعة بيروت رحلةً إلى مغارة "قاديشا"، فمررنا بمتحف "جبران"، كنا حوالي 150 شخصاً، بين مدرِّسين، ومديري مدارس ومعاهد، وموجِّهين فنيين. وقد تنقَّلنا بين أقسام المتحف، وشاهدنا عديداً من الصور والمناظر التي رسمتها ريشة "جبران"؛ وكان ضمن المعلَّقات لوحات ليس فيها غير خطوط متعرِّجة، كنت أقف أمام بعضِها متأمِّلاً دون أن أفهم شيئاً. ويمرُّ بي الرفاق، وهم يُظهرون الإعجاب بتلك الخطوط المتعرِّجة المتداخلة، وببراعة الفنَّان في رسمها، كأنما كانوا يشاركونه كلَّ الأحاسيس التي ينفعل بها، حتى كانت ريشته الدقيقة تجري بتلك الخطوط.
ومرَّ بي أحد الأصدقاء، وهو يطري موهبة "جبران" بصوت مرتفع مسموع، كأنما يقصد ذلك. فمِلت إليه، والتمست منه في خجل أن يوضِّح لي بعض ما تعنيه تلك الخطوط، وكيف توصَّل إلى فهم ذلك، فالتفتَ إلى جانبيه، ثم همس إليَّ محاذراً يقول: إنَّه والله لم يفهم شيئاً من ذلك، ولكنَّه لا يريد أن يقول عنه الآخرون إنه عديم الذوق في الفنِّ، وأن يُتَّهم بالغباوة.
فعلمت أنَّ هذه الحالة هي حالة الكثيرين من أولئك الزوار وغيرهم؛ هذه الصورة تمثِّل حالة المجتمعات اليوم، ففي جميعِ المسائل العامَّة تبدو لنا هذه الملاحظة واضحة - ملاحظة الانسياق الجماعي مع الفكرة الظاهرة - وإن كان الكثير ممن ينساق وراء تلك الفكرة، إنما ينساق دون وعيٍ، أو عن غير فهمٍ، أو غير اقتناعٍ، ولكنَّه مع عدم الفهم أو عدم الاقتناع، نراه يجري مع التيار في اتساق ونظام...!
وبهذا الانسياق الجماعي وراء فكرةٍ، أو دعوةٍ، أو عادةٍ... تتحكَّم العادات في المجتمعات؛ لأنَّ الأفراد يتنازلون في مجابهتها عن آرائهم الشخصية ومعتقداتهم الحقيقية، وأحكامهم الصحيحة، مسايَرة للفكرة السائدة التي قد تكون هي سلوك الأغلبية، وقد تكون فكرةً بدأت في الظهور معتمدة على راسب قويٍّ من العادات، أو على دعوى قبيحةٍ من العلم أو الدين أو السياسة.
ولعلَّ أبرز ما تتضح فيه فكرة الانسياق الجماعي ولاسيما بالنسبة إلى المثقفين، وأشباه المثقفين، هو موضوع الأقانيم الثلاثة. فقد انتشرت آراء عن الطفل ومعاملته وتربيته وسلوكه، وما يختص به، فانساق الجميع وراء ذلك التيار، وصاروا ينادون بها في حرارة وحماس؛ حتى لا يقالَ عنهم إنهم جهلاء أو متأخرون...وحتى أشد الناس مخالفة لتلك الآراء بالسلوك، يقف للإعلان عنها في دعوة حارَّة، وتأكيد وتصميم، كأنما هو الذي ابتكرها.
وانتشرت آراء في موضوع المرأة بما فيها من خير وشرٍّ، فانساق إليها الجميع دون وعي: المرأة نصف المجتمع، هي المدرسة الأولى، كانت مظلومة، حقها في الحرية. تعطَّلت مسيرة البشرية لإهمال المرأة، ذكاء المرأة، قوَّة المرأة، تضحية المرأة، في سلسة طويلة من العناوين الضخمة تحمل في الغالب مبادئ سليمة، تندرج تحتها أفكار كثيرة منحرفة زائفة، تلهج بها ألسنة لا تفرِّق بين الخير والشرِّ، والحق والباطل، وينساق وراءها الرأي الجماعيُّ، خوفا من تهمة التخلُّف والجمود والجهل؛ وحتى أولئك الذين يخالفون بسلوكهم ما يندرج تحت تلك العناوين، ينساقون مع التيار، ويهتفون معه في رتابة وتنغيم.
وموضوع الحاكم لا يخرج عن هذا النطاق، فما يتسلَّق متسلِّق منصَّة الحكم حتى تبادر أجهزة الدعاية إلى الإعلان عنه، وإلى إضفاء أثواب فضفاضة عليه، من أكرم النعوت وأجمل الشعارات، تلهج بها ألسنة كثيرةٌ، ثم يتمُّ الانسياق الجماعي، وتمضي فترة قد لا تطول، فيهوي ذلك المتسلِّق، ويتسلَّق غيره، فتعمل أجهزة الدعاية على تجريد الأوَّل مما كان يوصف به، وإلباس الثاني حُللاً ضافيةً من معاني الخير والعمل والكفاح، ويتم كذلك الانسياق الجماعي في الموقفين، دون أن يرتفع صوت بالاعتراض، أو يندَى جبينٌ بالخجل، من تبدُّل الموقفين.
وفي هذه النماذج الثلاثة، كان الانسياق الجماعي إما عن غير وعي وتفكير، وإمَّا عن خوف من تهمة الجهل أو التخلف أو الخيانة ومعارضته الحكم.
وعلى هذا النمط بدأت تتكوَّن عادات اجتماعية في المناسبات -سوف تكون لها خطورة- فما يظهر سلوكٌ معيَّن حتى يتمَّ وراءه الانسياق الجماعي، لسبب من الأسباب، دون أن تظهر ردود الفعل الفردية، أو الآراء الشخصية التي تقف دون انتشار ذلك بين الجميع.
والحقيقة أنَّ فكرة الانسياق الجماعي في هذا العصر أصبحت من الخطورة في الدرجة الكبرى، ذلك أنَّ الفكرة الخاطئة تجد من الوسائل ما يجعلها تنتشر بسرعة، وتلتفُّ حولها الأصوات حتى تصبح سلوكا. وتقف الأصوات المعارضة متردِّدة في حناجر أصحابها؛ لأنَّها لا تقوى أن تعلن عن نفسها، لسبب من الأسباب؛ حتى يتم الانسياق الجماعي، وتصبح الفكرة الخاطئة هي المبدأ السليم الذي تبنى عليه الأسس، وترفع القواعد.
وحينئذ، حتى إذا ارتفعت الأصوات المضادَّة المنكرة، فإنها تضيع في الفضاء دون أن يسمعها أحد، أو دون أن يتاح لها الارتفاع، فتتضاءل وتنمحي ثم تزول.
وهكذا ما إن ترتفع فكرةٌ ما في موضوع عامٍّ، حتى يتم الانسياق الجماعي، فالانسياق الجماعي في هذا العصر ظاهرةٌ واضحةٌ، لا اختلاف فيها ولا تخلُّف، تتمُّ في يسر وسهولة، وفي خطوات قليلة، وذلك بأن تعلن الفكرة، فيتحمَّس لها عدد، ويدعو إليها وينساق الأغلب، وقد تُعرِض أقلية في سكوت أو خفوت، إمَّا جهلاً، وإمَّا عدم مبالاة.
وقد نتج هن هذا الانسياق الجماعي عدَّة ظواهر، يستطيع الملاحظ أن يتبيَّنها بوضوح، ربما لخَّصنا بعضها فيما يلي:
- التخلِّي عن الرأي الشخصي: أصبح الفرد - رغم اعتزازه برأيه الشخصي - لا يعلن عنه، إذا كان مخالفاً للانسياق الجماعي، وإذا أعلن عنه لا يندفع إلى تأييده بما ينبغي له من حماس وقوَّة، وذلك خوفاً من أن يُرمى بالتخلُّف والغباء وعدم الفهم.
- التضارب بين الرأي والقول والسلوك1: فتجد الشخصَ يقول بما يقول به الناس في الانسياق الجماعي، ولكنَّ رأيه في الحقيقة مخالف لرأيهم، وقوله معهم وسلوكه غالباً ما يخالف رأيه وقوله أيضاً، والأمثلة على هذا كثيرة، والباحث يستطيع أن يجد لذلك عشرات الأمثلة في سلوك الآباء والأمهات والمدرسين والطلبة وغيرهم من أفراد المجتمع.
- الاندفاع المتحمس مع المجموع دون رويَّة، أو تفكير، خوفاً من وصمة التخلُّف، والتماساً للسبق، والظهور في مظاهر القيادة.
- امتداح الخطأ: عندما تشيع الفكرة وتسود، تتولى بعض الألسنة امتداحَها وتأييدَها فيتواصل المدح والثناء من الجميع، وحتى أولئك الذين يعتقدون أنها خطأ، يسارعون إلى امتداحها والدعاية عنها علناً، وربما انتقدوها مرَّ الانتقاد في أنفسهم وفي مجالسهم الخاصَّة المأمونة، فهم يمتدحون الخطأ في اعتقادهم جرياً مع الانسياق الجماعي، ومعنى هذا أنَّ الخطأ عندما يستعلن لا يجد من ينتقده، وإنما يجد من يمتدحه ويؤيده.
- ادِّعاء الذكاء والفهم: لعلَّ أحداً لا يعترف بالقصور وعدم الفهم في هذا العصر، وكلَّما أثيرت مشكلة ولاسيما في ميادين الدين والطب والاجتماع والسياسة، سارع الناس إلى إبداء الرأي فيها، وادِّعاء الفهم لها والعلم بها، وعندما تتبلور حلول المشكلة سواءً كانت حلولاً سليمة أو غير سليمة، تزعم جميع الأصوات التي ارتفعت والتي لم ترتفع إلى أنها نصحت بتلك الحلول، ودعت إليها قبل أن ينتبه إليها أحد.
- التحكم باسم العلم أو باسم الدين: ظاهرةٌ مِن أخطر الظواهر التي تشكِّل سلوك الناس في هذا العصر، والانسياق الجماعي واضح في هذه الظاهرة أكثر منه في الظواهر الأخرى، ويكفي أن يزعم زاعم في رأيٍ أو فكرةٍ أنها رأي العلم، أو رأي الدين، حتى يتمَّ الانسياق الجماعي؛ وذلك لأنَّ الأكثر في الواقع يجهلون رأيَ العلم أو رأي الدين في الموضوع، فهم يستجيبون للدعوة من أوَّل الأمر خوفاً من أن يقال عنهم إنهم جهلاء لا يعرفون بدائه العلم وحقائق الدين، ثم لا يخجلون أن يردوا ذلك وأن يتحكموا باسم العلم أو الدين، ولا شكَّ أن من خالف بعد ذلك بعد الانسياق الجماعي اعتبر جاهلاً أو غير متديِّن، ومِن الآثار الناتجة عن ذلك أنه عندما تنتشر دعوى من تلك الدعاوى، وتنساق وراءها الجموع، يقف العالمون بها حقيقة العلم أحد موقفين: منهم من يؤيِّدها مع علمه بأنها خطأ، ويمتدح الدعاة إليها، ومنهم من يقف منها موقفاً سلبياً، ينتقدها في نفسه، ويسكت عنها بلسانه. وكثير من المشاكل المعاصرة التي اتخذ الانسياق الجماعي فيها موقفاً بدأه طلاب الظهور بدعوى رأي الدين أو رأي العلم، هي من هذا النوع.
والصورة في إطارها العام بظواهرها المختلفة - سواءً ما عرضنا له في هذا الفصل، وما لم نعرض- لا تخرج عن مظهر العبادة والتقديس المندفع المتحمِّس أولاً، وقد يكون الردُّ أحياناً أعنف من الاندفاع الأوَّل، فينتج عنه تطرُّف إلى الجانب الثاني، يمثل سلوك الأعرابي مع آلهة من الحلوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
1 - يعنى نموذج الرشد، في المحور الثاني منه، بالحركية بين الفكر والفعل؛ وهذا الملحظ الذي أورده المؤلف رحمه الله، يعالج ظاهرةً من ظواهر الانفصام بين الفكر والفعل، وبين القول والعمل؛ وهي ظاهرة يجب أن تلقى العناية الكافية لمعالجتها، وإلاَّ فكلُّ مخطَّط، أو مشروع، أو حتى دين... سيبقى رهينا حبيسا، لا يراوح مكانه، يدور ويدور.. ثم لا يتقدَّم خطوة واحدة في سلَّم الحضارة.
المصدر: كتاب: آلهة من الحلوى، الأقانيم الثلاثة: "الطفل، المرأة، الحاكم"، للمفكر العلامة: على يحي معمر، تحقيق: د. محمد باباعمي، ضمن خدمة: "كتابك".