kumait
06-11-2012, 04:57 PM
التقية في التشريع الإسلامي
السيد محمد رضا السلمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ثم اللعن الدّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ 1 .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
إطلالة على التقية:
في الحديث الشريف عنهم ع أن الإمام الصادق ع قال لهشام بن الحكم: «صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم... والله ما عُبدَ الله بشيءٍ أحبَّ إليه من الخَبْء، قلت: وما الخبء؟ قال ع : التقية» 2 .
هذا الحديث نقله العلامة والمحدث الكبير الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة، الذي يعتبر من أهم الموسوعات الحديثية في مدرسة أهل البيت ع وعليه مدار التوثيق والدليل الذي يتحرك ضمن جنباته، حيث بذل الشيخ الجليل الحر العاملي جهداً كبيراً في لملمة أوراق الحديث في أكثر من مصدر ومصدر، وانتهى إلى هذه الموسوعة الكبرى التي تقع في عشرين مجلداً منظمة مرتبة، على أن الكمال يبقى لأهل الكمال، ولكن هذا الكتاب له من القيمة العلمية الكثير الكثير، كما أن مؤلفه كالشمس في رابعة النهار، لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح والتبيين.
التقية موضوع مهم وحساس وله مسايرة مع جميع الأزمنة والظروف مهما تقلبت، لذلك أسس لها القرآن الكريم، وجاء النبي فسافر بمفهومها إلى آفاق بعيدة، ولما استشرى الظلم والجور وسيطرة الجائرين، لم يألُ الأئمة ع جهداً أن يفرّعوا في هذا المفهوم، لذا تجد أن الروايات الصادرة عنهم ع تحمل أكثر من لون ولون، لذلك تقلب حكم التقية لدى فقهائنا في أقسامه الخمسة ـ كما سنقف عليها إن شاء الله على نحو العجالة ـ لكن لملمة نثار أحاديث هنا وهناك يختصرها حديث عن الإمام الباقر ع يقول: «من لا تقيةَ لهُ لا دينَ له» 3.
وربما يقول البعض منا: إن تلك الروايات جاءت في ظروف معينة، والظروف اليوم تختلف تماماً، والأوضاع سلط عليها الضوء، وليس بمقدور الطرف الآخر أن يمارس لوناً من التعسف الزائد الذي لا يُحتملُ عادةً، وبناء على ذلك علينا أن نغلق الباب على هذا المفهوم، وأن نحتفظ به تحت درجة الصفر إلى وقت الحاجة، لكننا إذا رجعنا إلى ثوابت في مذهبنا الشريف نجد أن نظر الأئمة ع عندما يسلطونه على موضوع ما فإنهم يسبرون غوره ويقرؤون ما هو المترتب على ذلك الموضوع من أمور مستقبلية، لذلك نجد في أحكام أهل البيت ع المرونة من جهة، والعمق من جهة، وبُعد النظر من جهة ثالثة، ومن يجمع بين هذه الأضلاع الثلاثة فإنه يقف على حياض حكمٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما عدم احتياج الناس فهو أمر نسبي تتحكم فيه الظروف والأوضاع والأحداث، لكن ذلك لا يعني أن يُقسر أحدُنا الآخر الآخر ليأخذه إلى ما شَخَّصَ وتبين.
الضرر ملاك التقية:
إن موضوع التقية يُحدُّ «بوجود الضرر» فمتى ما وُجد الضرر فرضت التقية نفسها، ومن المعلوم أن مقولة «وجود الضرر» مطاطة وسهلة، ويمكن أن تُفرَض هنا وتُمنَع هناك، حسب من يتعاطى مع هذا الوجود.وهذا الضرر قد يكون شخصياً، وهو ما ينحصر بالفرد دون النوع، فأحياناً يكون الضرر متوجهاً لشخص بعينه، ولا يترتب شيءٌ منه على الآخرين، وقد يكون ضرراً نوعياً، على طائفة أو نحلة أو ملة أو جماعة، فلا يتضرر منه فرد بعينه.
وهنا لا بد من وضع علامة استفهام، والتوقف عندها قليلاً للفت الأنظار إليها وهي أن بعض الأحبة المؤمنين يقول:
إنني لا أجد ضرراً متوجهاً إليَّ، وبما أنني لا أشعر بضرر شخصي فلا يعنيني أن يكون ثمة ضرر أو لا يكون، فأنا بالنتيجة أتحمل هذ الأمر. وفي هذه النظرة تجاوز لحدود التقية، وللثوابت والضوابط التي بينها مراجعنا العظام في رسائلهم العملية، فعلينا أن نلتفت إلى هذا الأمر باهتمام.
إن الضرر إذا ما حصل، وهو أعم من أن يكون ضرراً جسدياً أو مالياً أو عرضياً، فحينئذٍ يجب على المرء أن يدفعه عن نفسه، والتقية تدور مدار ذلك الضرر المتوجه لأحد الأبعاد الثلاثة: الجسد والمال العرض، وجوداً وانتفاءً، فإن وجد الضرر المذكور وجد الموضوع، وكانت التقية ثابتة وحاكمة، والملاذ بها وإليها، وإن انتفى فلا تقية.
التقية والأحكام الخمسة:
وبناء على أن موضوع التقية يشتد ويضعف، وقد يكون له شيء من البسط أو الانكماش، فإن الأحكام الشرعية تدور مدار هذا الأمر، وأعني بها الأحكام الخمسة المعروفة: الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة المطلقة. وقد يكون للتقية، لشخص واحد، في مكان واحد، وضع ما يختلف عما هو عليه في ظرف آخر، ومن باب المثال التقريبي ليس إلا، والقياس مع الفارق، أن الاستحاضة لها ثلاث مراحل: صغرى ووسطى وكبرى، وقد تنتقل المرأة من حالة إلى أخرى خلال دقائق يسيرة، لذا نلاحظ في بعض صور الاستحاضة أن المرأة يتعين عليها أن تجدد الوضوء بين صلاتين. وفي مورد التقية كذلك، علماً أنها تشمل الجميع رجالاً ونساءً، لا سيما في هذا الزمان، فربما كانت المرأة غير معنية بها في الأزمنة السابقة، وبعيدة عن دائرتها، أما اليوم فهي في خضم الحدث، لأنها اليوم في المدرسة والمستشفى والمدرسة والمكتب وبعض المؤسسات، وتلتقي بألوان الطيف من حولها، وربما يفرض عليها الواقع شيئاً من ذلك، فعليها أن تلتفت للأحكام من حولها.
فالتقية قد تأخذ طابع الحرمة، بمعنى أن المرء لا يمكنه أن يتعاطى التقية، وأن يوجِد مبرراً له بناء عليها فيما لو كان موضوعها منتفياً من أساسه، بمعنى أن التقية تسقط لسقوط الموضوع، إذ لا موضوع لها في الخارج، فعندما أكون في بيتي، بين أهلي وقومي وجماعتي، فيجب عليَّ أن أصلي صلاتي كما هي، ولو أن أحداً أراد أن يتجاوز ذلك، ويصليها كما هي الحال في ظرف التقية، فإنه يكون قد ارتكب محرماً. وكذا في معرض المعاملات، إذ يتعرض المرء لشيء من هذا القبيل، فلا يجوز له أن يمارس دور التقية في حال انتفاء موضوعها.
ومن جهة أخرى فإن الضرر على ضربين: قد يكون ضرراً عاجلاً، وقد يكون آجلاً، فلا يكفي أن أقول: لا موجب للتقية لعدم تحقق الموضوع، فالضرر غير محتمل، ولكن بعد أيام قد يحصل الضرر، وهذا الأمر التقديري الاحتمالي، إذا كان العرف يعطي له قيمة، وكان العقل يثبت له نصيباً من القدر، فعلى المرء أن يرتب عليه أثراً، فمثلاً: عندما يسافر الفرد من منطقة إلى أخرى، ويتوقف في إحدى محطات الاستراحة أو تعبئة البنزين، ويريد الصلاة، ويرى أن لا مشكلة في أن يصلي صلاته كما هي، ولكن عند النظر إلى الأمور بدقة قد يجد أن الضرر ربما ترتب لاحقاً، لا في تلك الساعة التي أدى فيها الصلاة. وعندئذٍ يتحقق موضوع التقية، ولو بهذا الجعل التقديري، ولا بد من ترتيب الآثار عليها.
وهنا ألفت الانتباه إلى أمر مهم، وهو: إننا نذهب إلى مكة والمدينة، ونجتاز مجموعة من المحطات، ونتوقف فيها، وقد تصادف أوقات الصلوات، وربما أقيمت الصلوات جماعةً في بعض الأحيان، فيسقط جزء كبير من مستوجبات التقية، وربما أقيمت فُرادى. فمن الأمور التي يتعقبها المرء وراءه بعيداً عن دائرة المسؤولية والشعور بالمذهبية، هو أن يستقطع مجموعة من الأوراق أو القراطيس أو «الكرتون» ليصلي عليها، ثم يخرج ويتركها في المسجد، في حين أن المسجد ليس ملكاً لأحد، حتى الباذل، فلو فرضنا أن أحداً بنى مسجداً من ماله لم يشاركه فيه أحد، ثم جعله وقفاً، فإنه يخرج من ملكيته، وكان المسلمون فيه شرع سواء، فلا مسجد شيعياً ولا مسجد سنياً، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم ومذاهبكم، فالمساجد للمسلمين، ولكن مع الأسف، لسوء الأوضاع، وللتشنج الذي يسود الكثير من المشهد الإسلامي، أن «الشيعي» عند حلول وقت الصلاة، يرتسم في مخيلته ألف محذور، واقعياً كان أم خيالياً، يحجبه من الدخول في المسجد «السنّي» لأداء الصلاة فيه، ويحرمه من أجر عظيم. والعكس صحيح أيضاً، حيث تجد «السني» يدور حول المسجد «الشيعي» ثلاث أو أربع مرات، ويتردد في صراع مع نفسه حول خاصية المسجد والمصلين فيه، وكأنه داخل في معركة، في حين أن المسجد «الشيعي» للمسلمين جميعاً، وكذلك المسجد «السني». وخير دليل وشاهد على ذلك ما يجري في بيت الله الحرام، حيث يسجد الجميع لرب واحد باتجاه إلى قبلة واحدة للتخلص من تكليف واحد، وكذلك عند مسجد النبي الأعظم محمد ص .
نعم، لا تقيةَ في الدماء، أي أن الحاكم الظالم إذا أعطى أحداً سيفاً، وطلب منه أن يقتل فلاناً من الناس، فلا حباً ولا كرامة، ولا بد من الاستجابة إلى نداء الحق دون الحاكم الظالم، ولا تقية في هذا المورد، وإن آلت الأمور إلى أن يقتل ذلك المأمور. وإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بمن يحمل بضاعة مزجاةً لأطراف ربما لم يكلفوه بذلك، رغبة منه في الإيقاع بالطرف الآخر؟! وفي بعض الأحيان تكون البضاعة لا أساس لها، ولم يكن هنالك شيء قد حصل، لكن البعض يتبرع من نفسه متطوعاً.
ومن هنا تجد أن الكثير من المشاكل التي تعترض المؤمنين في حياتهم، ومباشرة الأعمال التي يفترض أن يقوموا بها وفق الضوابط التي تمليها عليهم الأحكام الشرعية الصادرة عبر مراجعهم عن أئمتهم ع نُسهم نحن في جزء منها مع شديد الأسف.
وقد تكون التقية واجبة، وقد تكون مستحبة، لا هي في حد الوجوب الذي لا بد أن يمتثل له الإنسان، ولا هي في حد الحرمة، كما في الدماء، إنما وقوع الضرر يساعد عليه احتمالٌ راجح، أي ترجيح كفة مستقبلية في احتمال وقوعه، فإن المكلف يعمل طبق التقية، وفي هذا العمل عنوان الاستحباب، والتقية في هذا المورد تتصف بصفة الاستحباب.
ويفترض هنا أن لا يكون التقدير عبثياً، إنما يكون بملاك مُرجِّح لذلك الاستنطاق والقراءة، أي أن الضرر وإن لم يكن واقعاً بالفعل، إلا أنه يحتمل في المستقبل أن يكون كذلك، سواء كان ضرراً شخصياً بأبعاده الثلاثة المذكورة، أم نوعياً، بمعنى أنه يتعدى للمذهب الذي أنتمي إليه، فأكون بسوء سلوكي ومنطقي متسبباً في إرباك أوراق ذلك المذهب. أما إذا رتبنا الآثار على أساس دفع المحذور المستقبلي بمستوجب مرجح للتقية، فلا كلام ولا إشكال بأنه أمر مستحب ومطلوب.
فنحن أيها الإخوة ـ لا سيما الشباب الذين هم في معرض البلوى في الكثير من جوانب حياتهم هذه الأيام لكثرة التنقلات بسبب الدراسة والعمل وبعد المسافات ـ علينا أن نعطي هذا المفهوم وقتاً معيناً ليقرؤوه بدقة لتكون الأمور معهم سهلة ومرنة. أما الكراهة فهي عدل الاستحباب، وفي الطرف المقابل له، وهو حد لا يصل إلى الحرمة، بمعنى أن المكلف يترك الراجح ويأخذ بالمرجوح، في حدود أقل من مستوى الحرمة كما ذكرنا. أما إذا تساوت الأطراف في احتمال وقوع الضرر المستقبلي وعدم وقوعه، حينئذٍ تكون الإباحة هي الحاكمة في هذا المورد.
من خلال هذا العرض السريع والتقسيم نلاحظ أن التشخيص يحتاج إلى ثقافة دينية ووعي وإدراك للمفاهيم التي استعرضتها الشريعة عند جميع من هو في دائرة الابتلاء، نعم، لا يجب علينا أن نتعلم من الأحكام ما هو خارج دائرة الابتلاء، أما إذا دخلت في تلك الدائرة تعيّن فعلينا أن نتعلمها، والتقية واحدة من أمهات المسائل التي ينبغي أن نلتفت إليها.
ومن الأمور الجديرة بالذكر في هذا المجال، أننا في الزمن السابق عندما كنا نذهب إلى حرم النبي الأعظم ص أو الحرم المكي، أو أي موقع من المواقع، كان بعضنا يضع حصيراً من القصب أو غيره للصلاة عليه، ولكن هذه الظاهرة انحسرت بعد تطور الفتوى لدى علمائنا الأعلام، وتوسع دائرة تشخيص الموضوعات لديهم. والسؤال هنا: هل كان أولئك المصلون في الماضي بدرجة من الجهل أنهم كانوا لا يجيدون الربط بين أقسام التقية التي ذكرناها، أو أن الأمور كانت تجري بشكل عفوي؟ الذي أتصوره أنها أنها كانت تجري بشكل عفوي، ولم تكن مبنية على الفرض الأول، وحاشا أولئك أن يكونوا على هذه الصفة. لكن هذا مؤشر على أن شباب اليوم، رجال المستقبل، باتوا على درجة من الوعي أكثر مما كان عليه أولئك السابقون، الذين كانوا أيضاً على درجة كبيرة من الوعي الذي يتناسب ووضع المرحلة آنذاك.
فشباب اليوم أكثر وعياً، باعتبار الظروف والأحوال الجديدة، لا أن السابقين لم يكونوا واعين. وأؤكد هنا أن شباب اليوم أكثر وعياً وقدرة على التشخيص، بدليل أن الزوابع التي تعصف بمجتمعنا لم تعد كما كانت بالأمس، فالشباب أصبح قادراً على أن يتخطى كل تلك الزوابع التي يحاول أن يثيرها بعض الناس، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الوعي والرغبة في أن يلغي الشباب الماضي ليستشرف مستقبلاً أكثر إشراقاً ونورانية وقدرة على التعاطي والفهم والدرك، لأن المسؤولية اليوم بطبيعة الحال أكبر مما كانت عليه في الماضي، والقرآن يدعونا لهذا الموقع، ومحمد وآل محمد يدعوننا لهذا أيضاً.
اشتراط عدم المندوحة في التقية:
أما عن «المندوحة» التي كثيراً ما نسمعها في هذا الموضوع، وأنها إذا وجدت انتفت التقية، ومع احتمال وجودها لا بد للملكلف أن يبحث عنها ليتخلص من غائلة المخالفة للحكم فنقول: المندوحة هي طلب السعة في الزمان أو المكان، ولهذا مصاديق كثيرة في الخارج، لكنها عند اللغويين تعني الفسحة أو السعة، والمكلف أدرى بتلك المساحة إن كانت موجودة أو لا.
أما في الاصطلاح، فالمندوحة هي إمكان المكلف الإتيان بالواجب التام الشرائط والأجزاء، وذلك بأن يأتي به في وقت آخر أو مكان غير. أي أنني أستطيع أن أصلي الصلاة جامعةً لشرائطها كافة ولكن في مكان آخر، وزمان آخر، لكن في وقتها المعين، أو أن أتخلص من جماعة محيطة بي إلى ظرف آخر. هذه هي المندوحة في الاصطلاح.
ولأن للمندوحة صلة مباشرة بموضوع التقية، سلط علماؤنا الضوء عليها، وكان لها من الأثر الشيء الكثير في فك معضلات التقية وجريها في عالم الخارج. فالتقية مرتبطة بالمندوحة وطلب السعة، ومن تلك المندوحة والسعة «التورية» كأن يُسأل المرء عن تبعيته لأية طائفة، فتجيبه بجواب لا يوصله إلى حقيقة الأمر، أو أن تُسأل عن بلد فتجيبه بجواب لا يهديه إلى ما يريد، كأن تجيبه عن أصلك وموطن أجدادك لا عن الوطن الفعلي الذي تعيش فيه.
والأمر المهم الذي وددت الإشارة إليه هنا أننا يجب أن لا ننساق مع التورية بحيث توجب لنا إرباكاً وتزعزع ثقة البعض بالبعض الآخر، فالتورية قد يستخدمها الأزواج مع الزوجات، أو الآباء مع الأبناء، أو الصديق مع صديقه. فمن الأمثلة على ذلك أيضاً أن أقوم بزيارة زيد من الناس، وهو مؤمن من أهل التقوى، لكن لا يرغب أن أزوره، فيتخلص مني بطريقة شرعية، فيرسم دائرة مثلاً، ويضع يده فيها ثم يقول لولده: قل للضيف إن أبي ليس موجوداً، أي أنه ليس موجوداً في الدائرة تلك، فيذهب الولد ويبلغ الضيف بذلك، إلا أن الذهنية الفطرية له لم تدرك معنى التورية بعد، فعندما يرجع إلى الدار يرى أن أباه موجود، وقد قال للضيف توّاً إنه ليس موجوداً، فيكون الأب في نظره كاذباً، ومع شديد الأسف أن البعض من رجال الدين يمارس هذا اللون من التورية، ويستخدمها استخداماً خاطئاً، في حين يفترض أن يكون هو المنارة والشمعة التي تضيء للناس. وإذا فُتح هذا الباب على مصراعيه جعلنا ندور في دوامة من المهزلة والسخرية، ثم ينتهي الأمر إلى فقدان الثقة بحيث لا يستطيع أحد أن يصدق أحداً.
إن للفقهاء في موضوع التقية آراءً متقدمة جداً، منها أن البعض يشترط عدم وجود المندوحة لترتيب أحكام التقية، وهذا ما عمل به المتقدمون، ومنهم الشهيد الأول والثاني والمحقق الكركي في أحد قوليه ـ وربما يكون القول المتقدم له ـ وجماعة آخرون. فهؤلاء يرون عدم وجود المندوحة، أما مع وجودها فلا بد من ترتيب الآثار عليها ولا موضوع للتقية. والقول الثاني لا يشترط ذلك، فلو حصلت المندوحة أو لم تحصل فلست ملزماً بها، ولمقلدي السيد الخوئي مثلاً أن يراجعوا المسألة «28» في المسائل المنتخبة، ولا يلتفتوا إلى من يزوّق الفتاوى ويسوّقها ويفتي بغير علم.
وهناك قول ثالث في موضوع المندوحة وهو التفصيل، وهؤلاء في الأعم الأغلب من المعاصرين، وقد بنوا بناءهم هذا على ما ورد فيه نص وما لم يرد فيه، فالصلاة معهم مثلاً، ورد فيها نص، وكقول آمين في الصلاة، والسجود على ما يصح السجود عليه، وفي جهات أخرى لم يرد نص، كالصلاة عكس القبلة مثلاً.
التقية المداراتية:
أما عن السبب وراء التقية المداراتية التي يراها السيد المرجع السيستاني «حفظه الله تعالى» ومن قبله السيد الإمام «قدس سره الشريف» الذي أصّل لها وذهب معها إلى البعيد جداً، فهو التأليف بين القلوب، والمحبة الاجتماعية بين أبناء الطن الواحد والأمة الواحدة والإقليم الواحد والإسلام بأسره. فعند إلغاء التقية من حياة المسلمين سوف تتحول إلى جحيم، على الشخص أو على المجموع، أما العمل بها في موردها فهو منجاة للجميع.
قد يقول قائل: إن بعض المسلمين يعتبرون التقية كذباً ويتهموننا بذلك، في حين أن المذاهب الإسلامية التي تعتقد بعدالة الصحابة بعد النبي ص تنقل عنهم في البخاري وغيره أنهم قاموا بالكثير من الممارسات انطلاقاً من التقية.
ومن الملاحظ أن جُلّ من عمل بالتقية منهم كان محسوباً على الطيف العام لا على الطيف الخاص، وعلى رأس أولئك أبو هريرة، الراوي المعروف، الذي يصرح بأن لديه وعاءين، أما الأول فقد بثه في الناس، وأما الثاني فلو أنه بثّه لقُطع منه البلعوم 4، وهذا عين التقية، إلا أن المصطلحات والأسماء تختلف عند غيرنا، كما هو الحال في المتعة، إذ يمكنك أن تقول «مسيار» أو «مطيار» أو غيره، لكن لا تقل «متعة»، هكذا الحال في التقية، سمّها ما شئت إلا التقية.
خاتمة:
فالتقية لها تطبيقات كثيرة، قد تكون في العقيدة أو العبادة أو غير ذلك، وقصة عمار بن ياسر معروفة في المعتقد، إذ تجاوز الظرف وأخذ بالتقية، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالِإيْمَانِ ﴾ 5 .
ومن الأمثلة عليها في مجال الأحكام السجود على التربة الحسينية، التي يمكن الاستعاضة عنها في ظرف التقية بالسجود على الفرش، وللإمام الخميني «قدس سره» فتوى في هذا المجال يقول فيها: استعمال التربة في حال التقية في مسجد رسول الله محمد ص حرامٌ، والصلاة في هذه الصورة لا تخلو من إشكال. ومن موضوعاتها أيضاً الوقوف بعرفة، ومن نعم الله علينا في هذه السنة أن الهلال واحد لمن وفق للحج في هذه السنة.
إن مصادرنا التشريعية المتمثلة بالقرآن الكريم وروايات النبي ص وأهل البيت ع تنص بوضوح على مشروعية التقية، يقول الإمام الصادق ع : «أما والله إنَّ عندنا ما لا نحتاجُ إلى أحدٍ والناسُ يَحتاجون إلينا، إن عندنا الكتاب بإملاء رسول الله ص وخطّهُ عليٌّ بيده، صحيفةٌ طولها سبعون ذراعاً، فيها كلُّ حلال وحرام» 6 .
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
1طه: 25 ـ 28.
2 الكافي، الكليني2: 219. وسائل الشيعة، الحر العاملي16: 219.
3عوالي اللآلئ، ابن أبي جمهور الأحسائي1: 432.
4 راجع: البخاري1: 38.
5 النحل: 106.
6بصائر الدرجات، محمد بن حسن الصفار1: 149.
السيد محمد رضا السلمان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف أنبيائه ورسله، حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ثم اللعن الدّائمُ المؤبَّد على أعدائهم أعداء الدين.
﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ~ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ~ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسَانِي ~ يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ 1 .
اللهم وفقنا للعلم والعمل الصالح، واجعل نيتنا خالصة لوجهك الكريم، يا رب العالمين.
إطلالة على التقية:
في الحديث الشريف عنهم ع أن الإمام الصادق ع قال لهشام بن الحكم: «صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم... والله ما عُبدَ الله بشيءٍ أحبَّ إليه من الخَبْء، قلت: وما الخبء؟ قال ع : التقية» 2 .
هذا الحديث نقله العلامة والمحدث الكبير الشيخ الحر العاملي في وسائل الشيعة، الذي يعتبر من أهم الموسوعات الحديثية في مدرسة أهل البيت ع وعليه مدار التوثيق والدليل الذي يتحرك ضمن جنباته، حيث بذل الشيخ الجليل الحر العاملي جهداً كبيراً في لملمة أوراق الحديث في أكثر من مصدر ومصدر، وانتهى إلى هذه الموسوعة الكبرى التي تقع في عشرين مجلداً منظمة مرتبة، على أن الكمال يبقى لأهل الكمال، ولكن هذا الكتاب له من القيمة العلمية الكثير الكثير، كما أن مؤلفه كالشمس في رابعة النهار، لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح والتبيين.
التقية موضوع مهم وحساس وله مسايرة مع جميع الأزمنة والظروف مهما تقلبت، لذلك أسس لها القرآن الكريم، وجاء النبي فسافر بمفهومها إلى آفاق بعيدة، ولما استشرى الظلم والجور وسيطرة الجائرين، لم يألُ الأئمة ع جهداً أن يفرّعوا في هذا المفهوم، لذا تجد أن الروايات الصادرة عنهم ع تحمل أكثر من لون ولون، لذلك تقلب حكم التقية لدى فقهائنا في أقسامه الخمسة ـ كما سنقف عليها إن شاء الله على نحو العجالة ـ لكن لملمة نثار أحاديث هنا وهناك يختصرها حديث عن الإمام الباقر ع يقول: «من لا تقيةَ لهُ لا دينَ له» 3.
وربما يقول البعض منا: إن تلك الروايات جاءت في ظروف معينة، والظروف اليوم تختلف تماماً، والأوضاع سلط عليها الضوء، وليس بمقدور الطرف الآخر أن يمارس لوناً من التعسف الزائد الذي لا يُحتملُ عادةً، وبناء على ذلك علينا أن نغلق الباب على هذا المفهوم، وأن نحتفظ به تحت درجة الصفر إلى وقت الحاجة، لكننا إذا رجعنا إلى ثوابت في مذهبنا الشريف نجد أن نظر الأئمة ع عندما يسلطونه على موضوع ما فإنهم يسبرون غوره ويقرؤون ما هو المترتب على ذلك الموضوع من أمور مستقبلية، لذلك نجد في أحكام أهل البيت ع المرونة من جهة، والعمق من جهة، وبُعد النظر من جهة ثالثة، ومن يجمع بين هذه الأضلاع الثلاثة فإنه يقف على حياض حكمٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما عدم احتياج الناس فهو أمر نسبي تتحكم فيه الظروف والأوضاع والأحداث، لكن ذلك لا يعني أن يُقسر أحدُنا الآخر الآخر ليأخذه إلى ما شَخَّصَ وتبين.
الضرر ملاك التقية:
إن موضوع التقية يُحدُّ «بوجود الضرر» فمتى ما وُجد الضرر فرضت التقية نفسها، ومن المعلوم أن مقولة «وجود الضرر» مطاطة وسهلة، ويمكن أن تُفرَض هنا وتُمنَع هناك، حسب من يتعاطى مع هذا الوجود.وهذا الضرر قد يكون شخصياً، وهو ما ينحصر بالفرد دون النوع، فأحياناً يكون الضرر متوجهاً لشخص بعينه، ولا يترتب شيءٌ منه على الآخرين، وقد يكون ضرراً نوعياً، على طائفة أو نحلة أو ملة أو جماعة، فلا يتضرر منه فرد بعينه.
وهنا لا بد من وضع علامة استفهام، والتوقف عندها قليلاً للفت الأنظار إليها وهي أن بعض الأحبة المؤمنين يقول:
إنني لا أجد ضرراً متوجهاً إليَّ، وبما أنني لا أشعر بضرر شخصي فلا يعنيني أن يكون ثمة ضرر أو لا يكون، فأنا بالنتيجة أتحمل هذ الأمر. وفي هذه النظرة تجاوز لحدود التقية، وللثوابت والضوابط التي بينها مراجعنا العظام في رسائلهم العملية، فعلينا أن نلتفت إلى هذا الأمر باهتمام.
إن الضرر إذا ما حصل، وهو أعم من أن يكون ضرراً جسدياً أو مالياً أو عرضياً، فحينئذٍ يجب على المرء أن يدفعه عن نفسه، والتقية تدور مدار ذلك الضرر المتوجه لأحد الأبعاد الثلاثة: الجسد والمال العرض، وجوداً وانتفاءً، فإن وجد الضرر المذكور وجد الموضوع، وكانت التقية ثابتة وحاكمة، والملاذ بها وإليها، وإن انتفى فلا تقية.
التقية والأحكام الخمسة:
وبناء على أن موضوع التقية يشتد ويضعف، وقد يكون له شيء من البسط أو الانكماش، فإن الأحكام الشرعية تدور مدار هذا الأمر، وأعني بها الأحكام الخمسة المعروفة: الوجوب أو الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة المطلقة. وقد يكون للتقية، لشخص واحد، في مكان واحد، وضع ما يختلف عما هو عليه في ظرف آخر، ومن باب المثال التقريبي ليس إلا، والقياس مع الفارق، أن الاستحاضة لها ثلاث مراحل: صغرى ووسطى وكبرى، وقد تنتقل المرأة من حالة إلى أخرى خلال دقائق يسيرة، لذا نلاحظ في بعض صور الاستحاضة أن المرأة يتعين عليها أن تجدد الوضوء بين صلاتين. وفي مورد التقية كذلك، علماً أنها تشمل الجميع رجالاً ونساءً، لا سيما في هذا الزمان، فربما كانت المرأة غير معنية بها في الأزمنة السابقة، وبعيدة عن دائرتها، أما اليوم فهي في خضم الحدث، لأنها اليوم في المدرسة والمستشفى والمدرسة والمكتب وبعض المؤسسات، وتلتقي بألوان الطيف من حولها، وربما يفرض عليها الواقع شيئاً من ذلك، فعليها أن تلتفت للأحكام من حولها.
فالتقية قد تأخذ طابع الحرمة، بمعنى أن المرء لا يمكنه أن يتعاطى التقية، وأن يوجِد مبرراً له بناء عليها فيما لو كان موضوعها منتفياً من أساسه، بمعنى أن التقية تسقط لسقوط الموضوع، إذ لا موضوع لها في الخارج، فعندما أكون في بيتي، بين أهلي وقومي وجماعتي، فيجب عليَّ أن أصلي صلاتي كما هي، ولو أن أحداً أراد أن يتجاوز ذلك، ويصليها كما هي الحال في ظرف التقية، فإنه يكون قد ارتكب محرماً. وكذا في معرض المعاملات، إذ يتعرض المرء لشيء من هذا القبيل، فلا يجوز له أن يمارس دور التقية في حال انتفاء موضوعها.
ومن جهة أخرى فإن الضرر على ضربين: قد يكون ضرراً عاجلاً، وقد يكون آجلاً، فلا يكفي أن أقول: لا موجب للتقية لعدم تحقق الموضوع، فالضرر غير محتمل، ولكن بعد أيام قد يحصل الضرر، وهذا الأمر التقديري الاحتمالي، إذا كان العرف يعطي له قيمة، وكان العقل يثبت له نصيباً من القدر، فعلى المرء أن يرتب عليه أثراً، فمثلاً: عندما يسافر الفرد من منطقة إلى أخرى، ويتوقف في إحدى محطات الاستراحة أو تعبئة البنزين، ويريد الصلاة، ويرى أن لا مشكلة في أن يصلي صلاته كما هي، ولكن عند النظر إلى الأمور بدقة قد يجد أن الضرر ربما ترتب لاحقاً، لا في تلك الساعة التي أدى فيها الصلاة. وعندئذٍ يتحقق موضوع التقية، ولو بهذا الجعل التقديري، ولا بد من ترتيب الآثار عليها.
وهنا ألفت الانتباه إلى أمر مهم، وهو: إننا نذهب إلى مكة والمدينة، ونجتاز مجموعة من المحطات، ونتوقف فيها، وقد تصادف أوقات الصلوات، وربما أقيمت الصلوات جماعةً في بعض الأحيان، فيسقط جزء كبير من مستوجبات التقية، وربما أقيمت فُرادى. فمن الأمور التي يتعقبها المرء وراءه بعيداً عن دائرة المسؤولية والشعور بالمذهبية، هو أن يستقطع مجموعة من الأوراق أو القراطيس أو «الكرتون» ليصلي عليها، ثم يخرج ويتركها في المسجد، في حين أن المسجد ليس ملكاً لأحد، حتى الباذل، فلو فرضنا أن أحداً بنى مسجداً من ماله لم يشاركه فيه أحد، ثم جعله وقفاً، فإنه يخرج من ملكيته، وكان المسلمون فيه شرع سواء، فلا مسجد شيعياً ولا مسجد سنياً، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم ومذاهبكم، فالمساجد للمسلمين، ولكن مع الأسف، لسوء الأوضاع، وللتشنج الذي يسود الكثير من المشهد الإسلامي، أن «الشيعي» عند حلول وقت الصلاة، يرتسم في مخيلته ألف محذور، واقعياً كان أم خيالياً، يحجبه من الدخول في المسجد «السنّي» لأداء الصلاة فيه، ويحرمه من أجر عظيم. والعكس صحيح أيضاً، حيث تجد «السني» يدور حول المسجد «الشيعي» ثلاث أو أربع مرات، ويتردد في صراع مع نفسه حول خاصية المسجد والمصلين فيه، وكأنه داخل في معركة، في حين أن المسجد «الشيعي» للمسلمين جميعاً، وكذلك المسجد «السني». وخير دليل وشاهد على ذلك ما يجري في بيت الله الحرام، حيث يسجد الجميع لرب واحد باتجاه إلى قبلة واحدة للتخلص من تكليف واحد، وكذلك عند مسجد النبي الأعظم محمد ص .
نعم، لا تقيةَ في الدماء، أي أن الحاكم الظالم إذا أعطى أحداً سيفاً، وطلب منه أن يقتل فلاناً من الناس، فلا حباً ولا كرامة، ولا بد من الاستجابة إلى نداء الحق دون الحاكم الظالم، ولا تقية في هذا المورد، وإن آلت الأمور إلى أن يقتل ذلك المأمور. وإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بمن يحمل بضاعة مزجاةً لأطراف ربما لم يكلفوه بذلك، رغبة منه في الإيقاع بالطرف الآخر؟! وفي بعض الأحيان تكون البضاعة لا أساس لها، ولم يكن هنالك شيء قد حصل، لكن البعض يتبرع من نفسه متطوعاً.
ومن هنا تجد أن الكثير من المشاكل التي تعترض المؤمنين في حياتهم، ومباشرة الأعمال التي يفترض أن يقوموا بها وفق الضوابط التي تمليها عليهم الأحكام الشرعية الصادرة عبر مراجعهم عن أئمتهم ع نُسهم نحن في جزء منها مع شديد الأسف.
وقد تكون التقية واجبة، وقد تكون مستحبة، لا هي في حد الوجوب الذي لا بد أن يمتثل له الإنسان، ولا هي في حد الحرمة، كما في الدماء، إنما وقوع الضرر يساعد عليه احتمالٌ راجح، أي ترجيح كفة مستقبلية في احتمال وقوعه، فإن المكلف يعمل طبق التقية، وفي هذا العمل عنوان الاستحباب، والتقية في هذا المورد تتصف بصفة الاستحباب.
ويفترض هنا أن لا يكون التقدير عبثياً، إنما يكون بملاك مُرجِّح لذلك الاستنطاق والقراءة، أي أن الضرر وإن لم يكن واقعاً بالفعل، إلا أنه يحتمل في المستقبل أن يكون كذلك، سواء كان ضرراً شخصياً بأبعاده الثلاثة المذكورة، أم نوعياً، بمعنى أنه يتعدى للمذهب الذي أنتمي إليه، فأكون بسوء سلوكي ومنطقي متسبباً في إرباك أوراق ذلك المذهب. أما إذا رتبنا الآثار على أساس دفع المحذور المستقبلي بمستوجب مرجح للتقية، فلا كلام ولا إشكال بأنه أمر مستحب ومطلوب.
فنحن أيها الإخوة ـ لا سيما الشباب الذين هم في معرض البلوى في الكثير من جوانب حياتهم هذه الأيام لكثرة التنقلات بسبب الدراسة والعمل وبعد المسافات ـ علينا أن نعطي هذا المفهوم وقتاً معيناً ليقرؤوه بدقة لتكون الأمور معهم سهلة ومرنة. أما الكراهة فهي عدل الاستحباب، وفي الطرف المقابل له، وهو حد لا يصل إلى الحرمة، بمعنى أن المكلف يترك الراجح ويأخذ بالمرجوح، في حدود أقل من مستوى الحرمة كما ذكرنا. أما إذا تساوت الأطراف في احتمال وقوع الضرر المستقبلي وعدم وقوعه، حينئذٍ تكون الإباحة هي الحاكمة في هذا المورد.
من خلال هذا العرض السريع والتقسيم نلاحظ أن التشخيص يحتاج إلى ثقافة دينية ووعي وإدراك للمفاهيم التي استعرضتها الشريعة عند جميع من هو في دائرة الابتلاء، نعم، لا يجب علينا أن نتعلم من الأحكام ما هو خارج دائرة الابتلاء، أما إذا دخلت في تلك الدائرة تعيّن فعلينا أن نتعلمها، والتقية واحدة من أمهات المسائل التي ينبغي أن نلتفت إليها.
ومن الأمور الجديرة بالذكر في هذا المجال، أننا في الزمن السابق عندما كنا نذهب إلى حرم النبي الأعظم ص أو الحرم المكي، أو أي موقع من المواقع، كان بعضنا يضع حصيراً من القصب أو غيره للصلاة عليه، ولكن هذه الظاهرة انحسرت بعد تطور الفتوى لدى علمائنا الأعلام، وتوسع دائرة تشخيص الموضوعات لديهم. والسؤال هنا: هل كان أولئك المصلون في الماضي بدرجة من الجهل أنهم كانوا لا يجيدون الربط بين أقسام التقية التي ذكرناها، أو أن الأمور كانت تجري بشكل عفوي؟ الذي أتصوره أنها أنها كانت تجري بشكل عفوي، ولم تكن مبنية على الفرض الأول، وحاشا أولئك أن يكونوا على هذه الصفة. لكن هذا مؤشر على أن شباب اليوم، رجال المستقبل، باتوا على درجة من الوعي أكثر مما كان عليه أولئك السابقون، الذين كانوا أيضاً على درجة كبيرة من الوعي الذي يتناسب ووضع المرحلة آنذاك.
فشباب اليوم أكثر وعياً، باعتبار الظروف والأحوال الجديدة، لا أن السابقين لم يكونوا واعين. وأؤكد هنا أن شباب اليوم أكثر وعياً وقدرة على التشخيص، بدليل أن الزوابع التي تعصف بمجتمعنا لم تعد كما كانت بالأمس، فالشباب أصبح قادراً على أن يتخطى كل تلك الزوابع التي يحاول أن يثيرها بعض الناس، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الوعي والرغبة في أن يلغي الشباب الماضي ليستشرف مستقبلاً أكثر إشراقاً ونورانية وقدرة على التعاطي والفهم والدرك، لأن المسؤولية اليوم بطبيعة الحال أكبر مما كانت عليه في الماضي، والقرآن يدعونا لهذا الموقع، ومحمد وآل محمد يدعوننا لهذا أيضاً.
اشتراط عدم المندوحة في التقية:
أما عن «المندوحة» التي كثيراً ما نسمعها في هذا الموضوع، وأنها إذا وجدت انتفت التقية، ومع احتمال وجودها لا بد للملكلف أن يبحث عنها ليتخلص من غائلة المخالفة للحكم فنقول: المندوحة هي طلب السعة في الزمان أو المكان، ولهذا مصاديق كثيرة في الخارج، لكنها عند اللغويين تعني الفسحة أو السعة، والمكلف أدرى بتلك المساحة إن كانت موجودة أو لا.
أما في الاصطلاح، فالمندوحة هي إمكان المكلف الإتيان بالواجب التام الشرائط والأجزاء، وذلك بأن يأتي به في وقت آخر أو مكان غير. أي أنني أستطيع أن أصلي الصلاة جامعةً لشرائطها كافة ولكن في مكان آخر، وزمان آخر، لكن في وقتها المعين، أو أن أتخلص من جماعة محيطة بي إلى ظرف آخر. هذه هي المندوحة في الاصطلاح.
ولأن للمندوحة صلة مباشرة بموضوع التقية، سلط علماؤنا الضوء عليها، وكان لها من الأثر الشيء الكثير في فك معضلات التقية وجريها في عالم الخارج. فالتقية مرتبطة بالمندوحة وطلب السعة، ومن تلك المندوحة والسعة «التورية» كأن يُسأل المرء عن تبعيته لأية طائفة، فتجيبه بجواب لا يوصله إلى حقيقة الأمر، أو أن تُسأل عن بلد فتجيبه بجواب لا يهديه إلى ما يريد، كأن تجيبه عن أصلك وموطن أجدادك لا عن الوطن الفعلي الذي تعيش فيه.
والأمر المهم الذي وددت الإشارة إليه هنا أننا يجب أن لا ننساق مع التورية بحيث توجب لنا إرباكاً وتزعزع ثقة البعض بالبعض الآخر، فالتورية قد يستخدمها الأزواج مع الزوجات، أو الآباء مع الأبناء، أو الصديق مع صديقه. فمن الأمثلة على ذلك أيضاً أن أقوم بزيارة زيد من الناس، وهو مؤمن من أهل التقوى، لكن لا يرغب أن أزوره، فيتخلص مني بطريقة شرعية، فيرسم دائرة مثلاً، ويضع يده فيها ثم يقول لولده: قل للضيف إن أبي ليس موجوداً، أي أنه ليس موجوداً في الدائرة تلك، فيذهب الولد ويبلغ الضيف بذلك، إلا أن الذهنية الفطرية له لم تدرك معنى التورية بعد، فعندما يرجع إلى الدار يرى أن أباه موجود، وقد قال للضيف توّاً إنه ليس موجوداً، فيكون الأب في نظره كاذباً، ومع شديد الأسف أن البعض من رجال الدين يمارس هذا اللون من التورية، ويستخدمها استخداماً خاطئاً، في حين يفترض أن يكون هو المنارة والشمعة التي تضيء للناس. وإذا فُتح هذا الباب على مصراعيه جعلنا ندور في دوامة من المهزلة والسخرية، ثم ينتهي الأمر إلى فقدان الثقة بحيث لا يستطيع أحد أن يصدق أحداً.
إن للفقهاء في موضوع التقية آراءً متقدمة جداً، منها أن البعض يشترط عدم وجود المندوحة لترتيب أحكام التقية، وهذا ما عمل به المتقدمون، ومنهم الشهيد الأول والثاني والمحقق الكركي في أحد قوليه ـ وربما يكون القول المتقدم له ـ وجماعة آخرون. فهؤلاء يرون عدم وجود المندوحة، أما مع وجودها فلا بد من ترتيب الآثار عليها ولا موضوع للتقية. والقول الثاني لا يشترط ذلك، فلو حصلت المندوحة أو لم تحصل فلست ملزماً بها، ولمقلدي السيد الخوئي مثلاً أن يراجعوا المسألة «28» في المسائل المنتخبة، ولا يلتفتوا إلى من يزوّق الفتاوى ويسوّقها ويفتي بغير علم.
وهناك قول ثالث في موضوع المندوحة وهو التفصيل، وهؤلاء في الأعم الأغلب من المعاصرين، وقد بنوا بناءهم هذا على ما ورد فيه نص وما لم يرد فيه، فالصلاة معهم مثلاً، ورد فيها نص، وكقول آمين في الصلاة، والسجود على ما يصح السجود عليه، وفي جهات أخرى لم يرد نص، كالصلاة عكس القبلة مثلاً.
التقية المداراتية:
أما عن السبب وراء التقية المداراتية التي يراها السيد المرجع السيستاني «حفظه الله تعالى» ومن قبله السيد الإمام «قدس سره الشريف» الذي أصّل لها وذهب معها إلى البعيد جداً، فهو التأليف بين القلوب، والمحبة الاجتماعية بين أبناء الطن الواحد والأمة الواحدة والإقليم الواحد والإسلام بأسره. فعند إلغاء التقية من حياة المسلمين سوف تتحول إلى جحيم، على الشخص أو على المجموع، أما العمل بها في موردها فهو منجاة للجميع.
قد يقول قائل: إن بعض المسلمين يعتبرون التقية كذباً ويتهموننا بذلك، في حين أن المذاهب الإسلامية التي تعتقد بعدالة الصحابة بعد النبي ص تنقل عنهم في البخاري وغيره أنهم قاموا بالكثير من الممارسات انطلاقاً من التقية.
ومن الملاحظ أن جُلّ من عمل بالتقية منهم كان محسوباً على الطيف العام لا على الطيف الخاص، وعلى رأس أولئك أبو هريرة، الراوي المعروف، الذي يصرح بأن لديه وعاءين، أما الأول فقد بثه في الناس، وأما الثاني فلو أنه بثّه لقُطع منه البلعوم 4، وهذا عين التقية، إلا أن المصطلحات والأسماء تختلف عند غيرنا، كما هو الحال في المتعة، إذ يمكنك أن تقول «مسيار» أو «مطيار» أو غيره، لكن لا تقل «متعة»، هكذا الحال في التقية، سمّها ما شئت إلا التقية.
خاتمة:
فالتقية لها تطبيقات كثيرة، قد تكون في العقيدة أو العبادة أو غير ذلك، وقصة عمار بن ياسر معروفة في المعتقد، إذ تجاوز الظرف وأخذ بالتقية، وفيه نزل قوله تعالى: ﴿ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالِإيْمَانِ ﴾ 5 .
ومن الأمثلة عليها في مجال الأحكام السجود على التربة الحسينية، التي يمكن الاستعاضة عنها في ظرف التقية بالسجود على الفرش، وللإمام الخميني «قدس سره» فتوى في هذا المجال يقول فيها: استعمال التربة في حال التقية في مسجد رسول الله محمد ص حرامٌ، والصلاة في هذه الصورة لا تخلو من إشكال. ومن موضوعاتها أيضاً الوقوف بعرفة، ومن نعم الله علينا في هذه السنة أن الهلال واحد لمن وفق للحج في هذه السنة.
إن مصادرنا التشريعية المتمثلة بالقرآن الكريم وروايات النبي ص وأهل البيت ع تنص بوضوح على مشروعية التقية، يقول الإمام الصادق ع : «أما والله إنَّ عندنا ما لا نحتاجُ إلى أحدٍ والناسُ يَحتاجون إلينا، إن عندنا الكتاب بإملاء رسول الله ص وخطّهُ عليٌّ بيده، صحيفةٌ طولها سبعون ذراعاً، فيها كلُّ حلال وحرام» 6 .
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
1طه: 25 ـ 28.
2 الكافي، الكليني2: 219. وسائل الشيعة، الحر العاملي16: 219.
3عوالي اللآلئ، ابن أبي جمهور الأحسائي1: 432.
4 راجع: البخاري1: 38.
5 النحل: 106.
6بصائر الدرجات، محمد بن حسن الصفار1: 149.