kumait
07-11-2012, 06:26 PM
الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس؛..
بحث نقدي عن موضع الإمامة بين التحول والثبات...
بقلم الشيخ جلال الدين الصغير
(( "الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس" .....هو كتاب تضمن بحثا نقديا موسعا عن موضع الإمامة بين التحول والثبات لسماحة العلامة الشيخ جلال الدين علي الصغير...الكتاب صدر عن دار الأعراف للدراسات ـ بيروت1420 سنة هـ ـ1999 م، وقد وجدت " واحة الفكر في براثا نيوز" أن من المفيد إعادة نشر فصوله متسلسلة في هذا الوقت بالذات لتزاحم الآراء في موضع الإمامة ، إذ قدم سماحته هذا الموضوع بأسلوب مانع جامع وسهل على المتلقي دون أن يقحمه بمسالك تبعده عن الغاية من إيصال المعلومة..وبالتالي عنت سطور هذا البحث بتقديم توليفة فكرية ـ عقائدية ، تنسجم تمام الإنسجام مع معطيات العقل ومقبولاته، معتمدة على النصوص التي لا يخالطها شك إطلاقا في الموضوع المبحوث))
إن الكتابة ليست فعلا قائم بذاته، بل هي الخلاصة المنطقية لبنية فكرية متكاملة يتناولها الكاتب بناءا على صحة المعتقد، تشكل مقدمة الكتاب مدخلا صالحا وميسرا للولوج في أسباب صدور هذا البحث ـ الكتاب، ودون قراءة ما ورد في المقدمة نحسب أن القاريء سيبقى يردد أسئلة وردت إجاباتها في المقدمة...
"واحة الفكر ـ براثا نيوز"
(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي قال: لا ينال عهدي الظالمين)..
البقرة: 124
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلائق أجمعين حبيب قلوبنا سيدنا ونبينا محمد، وعلى الأنوار الزاهرة والحجج الباهرة الهداة الميامين من آله الطيبين الطاهرين.
يأتي هذا البحث[1] عزيزي القارئ استكمالا لما كنا قد ابتدأناه في الرد على جملة من الأفكار والطروحات التي تبناها التيار التحريفي وطرحها على نطاق واسع وضمن طريق عديدة من جهة، والسعي لإيجاد حالة من التأصيل العقائدي لدى أبناء العقيدة المحمدية عقيدة العترة الطاهرة الغراء من جهة أخرى، بعد أن كان الله قد لطف بنا ووفقنا في البداية لإصدار كتاب (الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم (عليه السلام) وأعقبناه بكتاب (من عنده علم الكتاب؟) لنبحث في هذا الكتاب واحدة من القضايا الجوهرية التي يعتمد عليها الفكر التحريفي ألا وهي مقولة أن الإمامة ليست ثابتاً فكريا من ثوابت الإسلام بالصورة التي سنعرض لها بصورة مفصلة في طيات البحث إن شاء الله تعالى.
ولئن لاحظ القارئ الكريم عدم تسلسل الأبحاث ضمن تراتبية موضوعاتها ضمن مباحثها الأصلية، فذلك يرجع في الواقع إلى أن هذه الأبحاث جاءت تلبية للحاجة المترتبة على ما يطرحه الصراع العقائدي المحتدم مع تيار الانحراف، ولأن أغلب الطروحات التحريفية لم تتبع نسقا متسلسلا في الطرح، وإنما راحت تستغل أي فرصة لبث مادة الثقافة التحريفية في الوسط الشعبي، فمن الطبيعي أن تراعي عملية التصدي لهؤلاء طبيعة ما تمليه حاجات الصراع العقائدي الآني، في مهمة تتوخى من جهة تحصين عقائد الناس والذود عن عقيدة آل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين)، ومن جهة أخرى فضح المستوى الفكري الذي تستند إليه عقيدة الانحراف، لا سيما وأننا لاحظنا عدم جرأة هؤلاء على طرح كل متبنياتهم الفكرية، فهم في العادة يطرحون الأفكار لينفونها في مكان أخر, وينفونها هنا ليثبتونها في موضع ثالث وهكذا[2]، وغالباً ما كانت طروحاتهم الفكرية مغلفة بما يمكن تسميته بعملية (تضبيب) هدفها إتاحة المجال لهم بالتراجع ونكران أصل ما طرحوه متى ما رأوا أن الجو الفكري والاجتماعي أو السياسي لم يستقبل المطروح التحريفي بالصورة التي تنأى بهم بعيداً عن فضح حقيقة مآربهم وتوجهاتهم على هذا الصعيد.
إن هذا البحث يتوخى في الأساس الرد على ما طرح حول الإمامة، وجملة من الثوابت العقائدية، وذلك من خلال سلبها صفة الثبات، وكونها تمثل مرتكزات في المقدس الإسلامي الثابت الذي بموجبه نميز فرقة الهدى من غيرها، ونحدد وفقها معايير التولي والتبرؤ، وإخضاع هذه الأفكار لمستلزمات التحول الفكري القابل للنقاش والجدل ومن ثم الرد والقبول، وذلك بدعوى عدم ثباتها لدى جميع المسلمين.[3]
كل ذلك في مهمة لا تتوقف غايتها عند تهميش الهالة القدسية التي تكتنف وجدان الأمة تجاه كل ما يتعلق بالإمامة ومدرستها فحسب, وإنما تمتد لتؤسس في الفكر الإسلامي أحد أبشع القواعد المستوردة من الفكر الوضعي والغربي، وهي حاكمية الواقع الاجتماعي على النص المرتبط بالعقيدة والرسالة والتشريع، أو لا أقل تأثر هذا النص بذلكم الواقع، بحيث يمنح لهذا الواقع الدور الأساس في تصحيح هذه الأفكار من خلال دعوى الإجماع الاجتماعي، وهي مهمة لو نجحت ـ ولن تنجح ـ لتمكنت من غزو مناطق العقيدة والتشريع فيما له نص فيه فضلا عن غيره، وهو الأمر الذي يعني نهاية مقولة النص المقدس، وحاكميته على التفكير الإسلامي ضمن تفصيل سنتطرق إليه إن شاء الله ضمن متون البحث.
ومن ثم لتمر عبر هدم حجة الإمامية (أعلى الله شأنهم) في تثبيت نظرية (النص الإلهي ) وإفساح المجال إلى جميع نظريات أهل العامة والمستوحاة من المتطلب السياسي الذي فرضه واقع السقيفة وما أعقبه من حوادث ذات شأن في هذا المجال.وصولا بعد ذلك إلى تثبيت العقيدة المدعاة بأن شأن الإمامية لا يتعدى شؤون الحكم المدني، وحسرها عن مهامها الأساسية المتمثلة بإمامة الدين والدنيا والآخرة بكل أبعادها العقائدية والتشريعية والوجدانية،[4] حتى لقد عد (البعض) أن الخلاف الموجود بين المسلمين حول الإمامة هو خلاف على شرعية من يحكم!!.[5].
ومن بعده لتصل هذه المهمة إلى تزييف مباني العقيدة الإمامية، وتصحيح أعمال من تسببوا بحرف مسيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجة أن ما قاموا به هو محض اجتهاد، ومن كان اجتهاده يملي عليه موقفا ما، فما من حق لتجريحه ولومه، فهو اجتهد فيما هو غير مقدس وثابت، وهي منطقة لا خطوط حمراء فيها لأنها من فكر البشر فيما يفهمونه من كلام الله ورسله وهو فهم يخطئ فيه البشر ويصيبون[6]، وحيث أن الإمامة ليست ثابتة ولا هي بالتالي من صنف المقدس، فلا مبرر للوم من انتهبوها وإسقاط عدالتهم فالمقدس تقتصر قدسيته: (على الشخص الذي ثبتت قداسته عنده بحسب اجتهاده) وعليه: (فليس له أن يرجم غيره ممن لا يرى رأيه بإنكار المقدسات).[7]
وقد يقال: لم كل هذا الإصرار على التصدي لظاهرة التشكيك والانحراف؟ في وقت نشهد أن جعبة أعداء الإمامية ما يكفي من التوهين بعقيدة أهل البيت عليهم السلام فلم لا يُردّ على أولئك بدلاً من هؤلاء؟ علماً أن هذا الأمر قد يفهم منه أن الاستهداف هنا هو استهداف شخص المشكك لا أفكاره التشكيكية؟.
وللجواب على مثل هذا التساؤل الذي سمعته كثيرا لا أخفي عجبي من عملية الاعتراض هذه, فالعملية الفكرية للوهلة الأولى يفترض أن تكون حيادية، بمعنى أن معالجة أي فكرة لا ترتبط بقائلها أو متبنيها، وإنما تتم فمن أجل توخي الحقيقة كائنا من كان صاحبها أو المنافح عنها، ولهذا سيان بالنسبة للمعالجات الفكرية أن يطرحها زيد أو عمر، وسواء كان طارحها عدو أو صديق.
على إن الأفكار هي التي تلون الأشخاص وتفرز مواقعهم وتصنفهم ما بين موافق أو مخالف، فمن حيث المحصلة في مواقع الصراع لن يختلف الذي يرميك من الخندق المقابل أو الذي يقف إلى جنبك في نفس الخندق، كما لا يختلف من يرميك بحجر ليقتلك عن الذي يرميك بصاروخ ليحقق نفس الهدف!! وعليه فإن المجابهة الفكرية سواء كانت رداً مباشرا على شخص أو على تيار أو تخلت عن الخطاب المباشر تبقى في حقيقة الحال مجابهة مع كل من يحمل هذه الأفكار ويدافع عنها.
على إن طبيعة ظاهرة التشكيك تحمل في طياتها مشكلة حقيقة، وهي إنها حينما تطرح فكرها التشكيكي ـ والذي قد يتطابق بالكامل مع ما يطرحه أعداء أهل البيت عليهم السلام ـ وقد يتجاوز حتى هؤلاء في بعض الأحيان[8] غير إنها تطرح فكرها التحريفي بعنوانه فكر مدرسة الأئمة عليهم السلام لا بعنوانه فكرا تحريفيا، الأمر الذي يجعل العامة من الناس، أو أولئك الذين لا دراية لهم في مغازي هذا الحديث أو ذلك، تتلقف هذا الفكر دونما ترو، ودونما تأمل، بحساب أن ما يطرح عليها هو فكر إمامي، وليس فكراً تضليلياً!!
فالناس ـ كل الناس ـ لديها في العادة طبيعة التحسس من العدو وبكل ما جاء به، وبالتالي فهي سريعاً ما ترجع إلى أركان أصالتها لتراجعهم في شتى شؤون الحرب مع ذلك العدو، ولكنها في الغالب يمكن أن تخسر معارك الغزو الثقافي إن تمت من داخلها دونما أي شعور منها بالاستعداء!.
ولم نجد بناة الفكر التضليلي والتحريفي من ذوي القدرة الإرادية على طرح كل أفكارهم ومغازيها، بل عادة ما يغلفونها بكلمات من شأنها أن تعطيهم حرية التقدم والتراجع حسب تلقي الوسط الاجتماعي الذي مررت إليه الفكرة التحريفية.
أو لربما تجدهم يسوقون الأكاذيب الفاقعة اللون كي يغطوا بها على حقيقة الأمر، فإن نقلت نصاً ما من أقوالهم تجدهم يهرعون إلى تكذيبه وإثارة الضجيج حوله فمرة يقال بأن هذا النص لا وجود له، وأخرى يقال بأن هذا النص محرف، وثالثة يقال بأن هذا النص قد تم تقطيعه و.. و.. الخ.[9] ليخلص بالنتيجة إلى هذا القول: أنا لا أدعي العصمة، لكني أستطيع أن أقول أن 99,99 بالمائة مما يقال وينشر ضدي هو كذب وافتراء وبهتان.. ومن ثم ليضع الجميع في دائرة الاتهام بقوله: ابحثوا عن المخابرات الدولية.. ابحثوا في قمة شرم الشيخ التي تختفي وراء الكثيرين بشكل مباشر وغير مباشر.[10]
ولنضرب[11]مثلاً بسيطاً حول طبيعة هذه الـ 99,99 بالمائة من الكذب والافتراء والبهتان فلقد قال: أنا لم أنف شيئا يثبته الشيعة.[12]
وقال أيضا بأن عقيدته عن عصمة الأنبياء والأئمة لا تختلف عن الرأي المشهور لعلماء الشيعة الإمامية.[13]
وإذ يقول ذلك فإني سوف لن أكثر الحديث في هذا المجال بل سأعمد إلى نقل بضعة نصوص لأدع المجال للقراء الكرام أن يحكموا بأنفسهم على طبيعة هذا المنهج ويتبينوا بأنفسهم حقيقة الأمر، فمن المعلوم أن إجماع الشيعة الإمامية في الأنبياء والأئمة يقوم على عصمتهم الشاملة في الموضوعات التبليغية والخارجية، وهذا من بديهيات المعتقد، ومع وضع كهذا نرى هذا الرجل يتحدث عن عصمة النبي ـ أي نبي ـ بطريقة لا يتحدث عنها نفس أهل العامة حيث يقول بما نصه: من الممكن من الناحية التجريدية أن يخطئ النبي في تبليغ آية أو ينساها في وقت معين، ليصحح ذلك ويصوّبه بعد ذلك لتأخذ الآية صيغتها الكاملة الصحيحة!.. إلى أن يقول: إن قضية الغرض الإلهي في وصول الوحي إلى الناس، لا يستلزم إلا الوصول في نهاية المطاف من غير خطأ، ولكن لا مانع من حدوث بعض الحالات التي يقع فيها الخطأ لا ليستمر..[14]
وهذا القول يمثل مخالفة واضحة وصريحة للنص القرآني المبارك: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).[15]وهو بالتالي لا يمثل مخالفة لخصوصية الفكر الإمامي في واحدة من أمهات بنيته الفكرية، بل يمثل مخالفة لا شك فيها لنفس فكر أهل العامة أيضاً.
وتراه في حديثه عن عصمة النبي والإمام (صلوات الله عليهم أجمعين) يعمد إلى تثبيت هذه المخالفة في نفس الموضع الذي حاول أن يدافع فيه عن عقيدته في العصمة فقال: إن العقل لا يحكم بامتناع الخطأ أو النسيان أو السهو على النبي أو الإمام.. إلى أن يقول: إن النبي أو الإمام لا يفقد ثقة الناس به لمجرد خطأ هنا أو خطأ هناك.[16]
ولا يتوقف هذا الأمر عند الجانب السلوكي عند المعصوم (عليه السلام) فحسب، بل يمتد حتى إلى الجانب الفكري والعقيدي وحيث يطول الحديث هنا فإنني اكتفي بذكر النص التالي الذي يرى فيه أن النبي لم يك يعرف حقيقة العقيدة بربه في واحدة من أبسط مسائلها حيث يقول في قوله تعالى: (قال رب أرني انظر إليك)[17] بعد أن يقرر أن موسى (عليه السلام) هنا سال ربه بالمعنى الظاهري للكلام أي أنه طلب وبشكل واقعي أن يرى ربه بنفسه قال: ولكننا لا نستبعد أن يسأل موسى هذا السؤال، فقد لا نستبعد من ناحية التصور والاحتمال أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسى مثل هذا التصور التفصيلي للذات الإلهية، لأن الوحي لم يكن قد تنزّل عليه بذلك، ولم يكن هناك مجال للتأمل والتحليل الفلسفي حول استحالة تجسّد الإله أو إمكانه، لأن ذلك قد لا يكون مطروحاً لدى موسى، ونحن نعرف تماماً معنى التكامل التدريجي للتصور الإيماني في شخصية الرسول الفكرية.[18]
وله مع تصوير الشخصية الفكرية والسلوكية لأنبياء الله إبراهيم[19]ويوسف[20]وسليمان (عليهم السلام)[21]
وغيرهم من الأنبياء ما يفجع القلب ويدمي الفؤاد فأين كل ذلك من تشابه معتقده مع معتقد الإمامية (أعلى الله شأنهم)؟! فما هو والله إلا حديث خرافة يا أم عمرو!!.
كل ذلك وما شاكله هو الذي يجعل التصدي لهؤلاء ومواجهتهم وتعرية حقائق أفكارهم وما ترمي إليه طروحاتهم يمثل أولوية قصوى في الواجبات الموضعية الملقاة على عاتق العاملين، فما من ريب في أن من يرتدي ثوبك ويخاطبك بخطاب العدو ولكن مع إيهامك بأنه خطابك، أولى بالمقاومة من ذلك الذي لبس لباس العدو، ويخاطبك بخطابه. وهذا عين ما طلبه منا رسول الله (ص) الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ففي صحيحة داود بن سرحان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (ص): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.[22]
وعليه فمن الواضح هنا أن مسألة الاستهداف وإن ارتبط شكلها بشخص معين أو تيار معين، فليس هو المراد بذاته أو بشخصه، وإنما المستهدف هو كل ما له علاقة بفكره ولونه الأيديولوجي كائنا من كان المتحدث بهذا الفكر. على إنه من المفترض أن كل صاحب فكرة حينما يطرح أفكاره في أي نمط من أنماط التواصل الجمعي[23]لديه ما يكفي من الاستعداد النفسي والذاتي لتلقّي النقد الذي قد يثيره من لا يرضى بهذه الفكرة، دون أن يتسبب ذلك بأي حالة تشنج أو احتقان نفسي، لا سيما إذا كان الرد يحتفظ بوقاره ضمن أصول البحث العلمي، فلا توجد في قواعد البحث العلمي حقوق خاصة للبعض دون البعض الآخر، بمعنى أن تمتلك أنت حقانية الطرح، ولا يمتلك الآخر حق الرد أو الاعتراض!.
وعليه فإن هذا الرد لا يحمل أي طابع شخصي أو جهوي، وإنما هو معد لمناقشة مجموعة أفكار طرحت في فضاء عام، وحشد للدفاع عنها الكثير من الإمكانيات والطاقات، وتحزّب لها فريق من الناس بصورة عمياء تثير العجب حتى أن بعضهم غير مستعد حتى لمجرد قراءة نصوص التحريف والاطلاع عليه، ولقد وجدت كما وجد أساتذة الحوزة العلمية الأجلاء فضلاً عن مراجع الدين العظام (أعلى الله مقامهم الشريف) في مثل هذه الأفكار المجانبة الصريحة عن خط أهل البيت (عليهم السلام)، فتم التصدي لها ومجابهتها، عملاً بالواجب الشرعي الملقى على عاتق عالم الدين لقول صادق آل محمد (عليه السلام) بسند صحيح: (إذا ظهرت البدع فللعالم أن يظهر علمه، وإلا فعليه لعنة الله).[24]ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وحيث أن الأمر كذلك فمن الحق بمكان أن نتصدى للرد الفكري، وعلى صاحب الطرح التحريفي والتشكيكي أن يتحمل بنفسه المسؤولية الفكرية والدينية والاجتماعية المترتبة على ذلك، فمثل هذه الأفكار لا تطرح ـ في العادة ـ بغفلة من طارحيها، بل هي تحتاج إلى الكثير من التهيؤ النفسي لما سيترتب عليها، والقابلية على التعامل مع النتائج المترتبة على العبث في دين الناس الذي ما كان ولن يكون بمثابة النزهة التي يمكن القيام بها لكل من يحلو له ذلك.
ولقد كان مرادي أن يخرج هذا البحث ضمن كتابنا: (الإمامة: بحث في الضرورة والمهام) ولكن طبيعة ما رأيته من الحاجة العقائدية التي أوجدتها لجاجة بعض المشككة، واندفاعهم لإقناع بعض الناس بصحة كون الإمامة من الأفكار غير الثابتة ضمن دعاوى تثير العجب، وكذا إلحاح بعض السادة العلماء والطلبة الأعزاء جعلني أخرجه مستقلاً، سائلاً المولى العلي القدير أن يتقبل هذا المجهود بلطفه وكرمه وجوده، وأن يجعل ثوابه ذخراً لي ولوالدي، وأن يرزقنا به كرامة شفاعة النبي المصطفى وآله الأطهار وأن يعيننا على ما ابتلينا به من وعيد الأشقياء وشقيهم بالصبر والثبات!. إنه نعم من سُئل، وأفضل من أجاب.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المهجر: في 2/صفر الخير/1418 هـ بجوار قبر الصديقة الحوراء زينب (ع) في دمشق
جلال الدين علي الصغير
الاهداء
إلى سيدتي رقية بنت الإمام الحسين (عليهم السلام)
ما كتبت الذي كتبت سيدتي إلا استعداء للخط الذي استباح الدين حينما استباح دماءكم، وقتل آمال السماء بقتلكم، واغتال الهدى حينما أنشب مخالبه القذرة في خطكم ليرتدي للضلال والإضلال ألف رداء ورداء, وصنع ولا زال يصنع في كل يوم مظلمة لآل محمد.. وإلا أمثل جدتك الصديقة الزهراء الطاهرة تعصر خلف الباب لينشب مسمار الحقد في صدرها.. ثم ليتلوى سوط الحقد على متنها ووجهها؟! .. ليأتي وارث هذا الظلم في يومنا هذا ليعلن أنه: لا يتفاعل!!..
وأمثل عمتك زينب الحوراء الطاهرة التي أراها الدهر صيغة أخرى من ظلامة أمها الزهراء ليأتي بعد ذلك هذا الوريث وهو يجد السير ليحمل من أوزار الأولين والآخرين ليفوه عن فم يصوّرها كيف تستجدي العفو من ابن الطلقاء؟!!..
سيدتي ومولاتي:
وريقاتي هذه تسعى لما لعله إسهام في مسح دمعة من دمعاتك اللاهبة في وجه الضلال تبحث: أين الحسين؟ حيث لا مجيب إلا ذلك الطست الذي كان يحمل رأس أبيك الحسين وهو غارق بدم منحره الشريف..
وهي يا سيدتي تروم المشاركة في بناء لبنة من الخط الذي بنيتموه بدمائكم الطاهرة وأجسادكم الزكية ونحوركم الأبية حتى إذا ما قطعت الأجساد جاء دورك لتصنعي من أحزانك درساً جديداً من دروس الوفاء للعقيدة..
فإن لم أكن أهلا لذلك فأنتم أرباب الكرم والجود أهل لذلك..
بحث نقدي عن موضع الإمامة بين التحول والثبات...
بقلم الشيخ جلال الدين الصغير
(( "الإمامة ذلك الثابت الإسلامي المقدس" .....هو كتاب تضمن بحثا نقديا موسعا عن موضع الإمامة بين التحول والثبات لسماحة العلامة الشيخ جلال الدين علي الصغير...الكتاب صدر عن دار الأعراف للدراسات ـ بيروت1420 سنة هـ ـ1999 م، وقد وجدت " واحة الفكر في براثا نيوز" أن من المفيد إعادة نشر فصوله متسلسلة في هذا الوقت بالذات لتزاحم الآراء في موضع الإمامة ، إذ قدم سماحته هذا الموضوع بأسلوب مانع جامع وسهل على المتلقي دون أن يقحمه بمسالك تبعده عن الغاية من إيصال المعلومة..وبالتالي عنت سطور هذا البحث بتقديم توليفة فكرية ـ عقائدية ، تنسجم تمام الإنسجام مع معطيات العقل ومقبولاته، معتمدة على النصوص التي لا يخالطها شك إطلاقا في الموضوع المبحوث))
إن الكتابة ليست فعلا قائم بذاته، بل هي الخلاصة المنطقية لبنية فكرية متكاملة يتناولها الكاتب بناءا على صحة المعتقد، تشكل مقدمة الكتاب مدخلا صالحا وميسرا للولوج في أسباب صدور هذا البحث ـ الكتاب، ودون قراءة ما ورد في المقدمة نحسب أن القاريء سيبقى يردد أسئلة وردت إجاباتها في المقدمة...
"واحة الفكر ـ براثا نيوز"
(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي قال: لا ينال عهدي الظالمين)..
البقرة: 124
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلائق أجمعين حبيب قلوبنا سيدنا ونبينا محمد، وعلى الأنوار الزاهرة والحجج الباهرة الهداة الميامين من آله الطيبين الطاهرين.
يأتي هذا البحث[1] عزيزي القارئ استكمالا لما كنا قد ابتدأناه في الرد على جملة من الأفكار والطروحات التي تبناها التيار التحريفي وطرحها على نطاق واسع وضمن طريق عديدة من جهة، والسعي لإيجاد حالة من التأصيل العقائدي لدى أبناء العقيدة المحمدية عقيدة العترة الطاهرة الغراء من جهة أخرى، بعد أن كان الله قد لطف بنا ووفقنا في البداية لإصدار كتاب (الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم (عليه السلام) وأعقبناه بكتاب (من عنده علم الكتاب؟) لنبحث في هذا الكتاب واحدة من القضايا الجوهرية التي يعتمد عليها الفكر التحريفي ألا وهي مقولة أن الإمامة ليست ثابتاً فكريا من ثوابت الإسلام بالصورة التي سنعرض لها بصورة مفصلة في طيات البحث إن شاء الله تعالى.
ولئن لاحظ القارئ الكريم عدم تسلسل الأبحاث ضمن تراتبية موضوعاتها ضمن مباحثها الأصلية، فذلك يرجع في الواقع إلى أن هذه الأبحاث جاءت تلبية للحاجة المترتبة على ما يطرحه الصراع العقائدي المحتدم مع تيار الانحراف، ولأن أغلب الطروحات التحريفية لم تتبع نسقا متسلسلا في الطرح، وإنما راحت تستغل أي فرصة لبث مادة الثقافة التحريفية في الوسط الشعبي، فمن الطبيعي أن تراعي عملية التصدي لهؤلاء طبيعة ما تمليه حاجات الصراع العقائدي الآني، في مهمة تتوخى من جهة تحصين عقائد الناس والذود عن عقيدة آل محمد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين)، ومن جهة أخرى فضح المستوى الفكري الذي تستند إليه عقيدة الانحراف، لا سيما وأننا لاحظنا عدم جرأة هؤلاء على طرح كل متبنياتهم الفكرية، فهم في العادة يطرحون الأفكار لينفونها في مكان أخر, وينفونها هنا ليثبتونها في موضع ثالث وهكذا[2]، وغالباً ما كانت طروحاتهم الفكرية مغلفة بما يمكن تسميته بعملية (تضبيب) هدفها إتاحة المجال لهم بالتراجع ونكران أصل ما طرحوه متى ما رأوا أن الجو الفكري والاجتماعي أو السياسي لم يستقبل المطروح التحريفي بالصورة التي تنأى بهم بعيداً عن فضح حقيقة مآربهم وتوجهاتهم على هذا الصعيد.
إن هذا البحث يتوخى في الأساس الرد على ما طرح حول الإمامة، وجملة من الثوابت العقائدية، وذلك من خلال سلبها صفة الثبات، وكونها تمثل مرتكزات في المقدس الإسلامي الثابت الذي بموجبه نميز فرقة الهدى من غيرها، ونحدد وفقها معايير التولي والتبرؤ، وإخضاع هذه الأفكار لمستلزمات التحول الفكري القابل للنقاش والجدل ومن ثم الرد والقبول، وذلك بدعوى عدم ثباتها لدى جميع المسلمين.[3]
كل ذلك في مهمة لا تتوقف غايتها عند تهميش الهالة القدسية التي تكتنف وجدان الأمة تجاه كل ما يتعلق بالإمامة ومدرستها فحسب, وإنما تمتد لتؤسس في الفكر الإسلامي أحد أبشع القواعد المستوردة من الفكر الوضعي والغربي، وهي حاكمية الواقع الاجتماعي على النص المرتبط بالعقيدة والرسالة والتشريع، أو لا أقل تأثر هذا النص بذلكم الواقع، بحيث يمنح لهذا الواقع الدور الأساس في تصحيح هذه الأفكار من خلال دعوى الإجماع الاجتماعي، وهي مهمة لو نجحت ـ ولن تنجح ـ لتمكنت من غزو مناطق العقيدة والتشريع فيما له نص فيه فضلا عن غيره، وهو الأمر الذي يعني نهاية مقولة النص المقدس، وحاكميته على التفكير الإسلامي ضمن تفصيل سنتطرق إليه إن شاء الله ضمن متون البحث.
ومن ثم لتمر عبر هدم حجة الإمامية (أعلى الله شأنهم) في تثبيت نظرية (النص الإلهي ) وإفساح المجال إلى جميع نظريات أهل العامة والمستوحاة من المتطلب السياسي الذي فرضه واقع السقيفة وما أعقبه من حوادث ذات شأن في هذا المجال.وصولا بعد ذلك إلى تثبيت العقيدة المدعاة بأن شأن الإمامية لا يتعدى شؤون الحكم المدني، وحسرها عن مهامها الأساسية المتمثلة بإمامة الدين والدنيا والآخرة بكل أبعادها العقائدية والتشريعية والوجدانية،[4] حتى لقد عد (البعض) أن الخلاف الموجود بين المسلمين حول الإمامة هو خلاف على شرعية من يحكم!!.[5].
ومن بعده لتصل هذه المهمة إلى تزييف مباني العقيدة الإمامية، وتصحيح أعمال من تسببوا بحرف مسيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجة أن ما قاموا به هو محض اجتهاد، ومن كان اجتهاده يملي عليه موقفا ما، فما من حق لتجريحه ولومه، فهو اجتهد فيما هو غير مقدس وثابت، وهي منطقة لا خطوط حمراء فيها لأنها من فكر البشر فيما يفهمونه من كلام الله ورسله وهو فهم يخطئ فيه البشر ويصيبون[6]، وحيث أن الإمامة ليست ثابتة ولا هي بالتالي من صنف المقدس، فلا مبرر للوم من انتهبوها وإسقاط عدالتهم فالمقدس تقتصر قدسيته: (على الشخص الذي ثبتت قداسته عنده بحسب اجتهاده) وعليه: (فليس له أن يرجم غيره ممن لا يرى رأيه بإنكار المقدسات).[7]
وقد يقال: لم كل هذا الإصرار على التصدي لظاهرة التشكيك والانحراف؟ في وقت نشهد أن جعبة أعداء الإمامية ما يكفي من التوهين بعقيدة أهل البيت عليهم السلام فلم لا يُردّ على أولئك بدلاً من هؤلاء؟ علماً أن هذا الأمر قد يفهم منه أن الاستهداف هنا هو استهداف شخص المشكك لا أفكاره التشكيكية؟.
وللجواب على مثل هذا التساؤل الذي سمعته كثيرا لا أخفي عجبي من عملية الاعتراض هذه, فالعملية الفكرية للوهلة الأولى يفترض أن تكون حيادية، بمعنى أن معالجة أي فكرة لا ترتبط بقائلها أو متبنيها، وإنما تتم فمن أجل توخي الحقيقة كائنا من كان صاحبها أو المنافح عنها، ولهذا سيان بالنسبة للمعالجات الفكرية أن يطرحها زيد أو عمر، وسواء كان طارحها عدو أو صديق.
على إن الأفكار هي التي تلون الأشخاص وتفرز مواقعهم وتصنفهم ما بين موافق أو مخالف، فمن حيث المحصلة في مواقع الصراع لن يختلف الذي يرميك من الخندق المقابل أو الذي يقف إلى جنبك في نفس الخندق، كما لا يختلف من يرميك بحجر ليقتلك عن الذي يرميك بصاروخ ليحقق نفس الهدف!! وعليه فإن المجابهة الفكرية سواء كانت رداً مباشرا على شخص أو على تيار أو تخلت عن الخطاب المباشر تبقى في حقيقة الحال مجابهة مع كل من يحمل هذه الأفكار ويدافع عنها.
على إن طبيعة ظاهرة التشكيك تحمل في طياتها مشكلة حقيقة، وهي إنها حينما تطرح فكرها التشكيكي ـ والذي قد يتطابق بالكامل مع ما يطرحه أعداء أهل البيت عليهم السلام ـ وقد يتجاوز حتى هؤلاء في بعض الأحيان[8] غير إنها تطرح فكرها التحريفي بعنوانه فكر مدرسة الأئمة عليهم السلام لا بعنوانه فكرا تحريفيا، الأمر الذي يجعل العامة من الناس، أو أولئك الذين لا دراية لهم في مغازي هذا الحديث أو ذلك، تتلقف هذا الفكر دونما ترو، ودونما تأمل، بحساب أن ما يطرح عليها هو فكر إمامي، وليس فكراً تضليلياً!!
فالناس ـ كل الناس ـ لديها في العادة طبيعة التحسس من العدو وبكل ما جاء به، وبالتالي فهي سريعاً ما ترجع إلى أركان أصالتها لتراجعهم في شتى شؤون الحرب مع ذلك العدو، ولكنها في الغالب يمكن أن تخسر معارك الغزو الثقافي إن تمت من داخلها دونما أي شعور منها بالاستعداء!.
ولم نجد بناة الفكر التضليلي والتحريفي من ذوي القدرة الإرادية على طرح كل أفكارهم ومغازيها، بل عادة ما يغلفونها بكلمات من شأنها أن تعطيهم حرية التقدم والتراجع حسب تلقي الوسط الاجتماعي الذي مررت إليه الفكرة التحريفية.
أو لربما تجدهم يسوقون الأكاذيب الفاقعة اللون كي يغطوا بها على حقيقة الأمر، فإن نقلت نصاً ما من أقوالهم تجدهم يهرعون إلى تكذيبه وإثارة الضجيج حوله فمرة يقال بأن هذا النص لا وجود له، وأخرى يقال بأن هذا النص محرف، وثالثة يقال بأن هذا النص قد تم تقطيعه و.. و.. الخ.[9] ليخلص بالنتيجة إلى هذا القول: أنا لا أدعي العصمة، لكني أستطيع أن أقول أن 99,99 بالمائة مما يقال وينشر ضدي هو كذب وافتراء وبهتان.. ومن ثم ليضع الجميع في دائرة الاتهام بقوله: ابحثوا عن المخابرات الدولية.. ابحثوا في قمة شرم الشيخ التي تختفي وراء الكثيرين بشكل مباشر وغير مباشر.[10]
ولنضرب[11]مثلاً بسيطاً حول طبيعة هذه الـ 99,99 بالمائة من الكذب والافتراء والبهتان فلقد قال: أنا لم أنف شيئا يثبته الشيعة.[12]
وقال أيضا بأن عقيدته عن عصمة الأنبياء والأئمة لا تختلف عن الرأي المشهور لعلماء الشيعة الإمامية.[13]
وإذ يقول ذلك فإني سوف لن أكثر الحديث في هذا المجال بل سأعمد إلى نقل بضعة نصوص لأدع المجال للقراء الكرام أن يحكموا بأنفسهم على طبيعة هذا المنهج ويتبينوا بأنفسهم حقيقة الأمر، فمن المعلوم أن إجماع الشيعة الإمامية في الأنبياء والأئمة يقوم على عصمتهم الشاملة في الموضوعات التبليغية والخارجية، وهذا من بديهيات المعتقد، ومع وضع كهذا نرى هذا الرجل يتحدث عن عصمة النبي ـ أي نبي ـ بطريقة لا يتحدث عنها نفس أهل العامة حيث يقول بما نصه: من الممكن من الناحية التجريدية أن يخطئ النبي في تبليغ آية أو ينساها في وقت معين، ليصحح ذلك ويصوّبه بعد ذلك لتأخذ الآية صيغتها الكاملة الصحيحة!.. إلى أن يقول: إن قضية الغرض الإلهي في وصول الوحي إلى الناس، لا يستلزم إلا الوصول في نهاية المطاف من غير خطأ، ولكن لا مانع من حدوث بعض الحالات التي يقع فيها الخطأ لا ليستمر..[14]
وهذا القول يمثل مخالفة واضحة وصريحة للنص القرآني المبارك: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).[15]وهو بالتالي لا يمثل مخالفة لخصوصية الفكر الإمامي في واحدة من أمهات بنيته الفكرية، بل يمثل مخالفة لا شك فيها لنفس فكر أهل العامة أيضاً.
وتراه في حديثه عن عصمة النبي والإمام (صلوات الله عليهم أجمعين) يعمد إلى تثبيت هذه المخالفة في نفس الموضع الذي حاول أن يدافع فيه عن عقيدته في العصمة فقال: إن العقل لا يحكم بامتناع الخطأ أو النسيان أو السهو على النبي أو الإمام.. إلى أن يقول: إن النبي أو الإمام لا يفقد ثقة الناس به لمجرد خطأ هنا أو خطأ هناك.[16]
ولا يتوقف هذا الأمر عند الجانب السلوكي عند المعصوم (عليه السلام) فحسب، بل يمتد حتى إلى الجانب الفكري والعقيدي وحيث يطول الحديث هنا فإنني اكتفي بذكر النص التالي الذي يرى فيه أن النبي لم يك يعرف حقيقة العقيدة بربه في واحدة من أبسط مسائلها حيث يقول في قوله تعالى: (قال رب أرني انظر إليك)[17] بعد أن يقرر أن موسى (عليه السلام) هنا سال ربه بالمعنى الظاهري للكلام أي أنه طلب وبشكل واقعي أن يرى ربه بنفسه قال: ولكننا لا نستبعد أن يسأل موسى هذا السؤال، فقد لا نستبعد من ناحية التصور والاحتمال أن لا يكون قد مرّ في خاطر موسى مثل هذا التصور التفصيلي للذات الإلهية، لأن الوحي لم يكن قد تنزّل عليه بذلك، ولم يكن هناك مجال للتأمل والتحليل الفلسفي حول استحالة تجسّد الإله أو إمكانه، لأن ذلك قد لا يكون مطروحاً لدى موسى، ونحن نعرف تماماً معنى التكامل التدريجي للتصور الإيماني في شخصية الرسول الفكرية.[18]
وله مع تصوير الشخصية الفكرية والسلوكية لأنبياء الله إبراهيم[19]ويوسف[20]وسليمان (عليهم السلام)[21]
وغيرهم من الأنبياء ما يفجع القلب ويدمي الفؤاد فأين كل ذلك من تشابه معتقده مع معتقد الإمامية (أعلى الله شأنهم)؟! فما هو والله إلا حديث خرافة يا أم عمرو!!.
كل ذلك وما شاكله هو الذي يجعل التصدي لهؤلاء ومواجهتهم وتعرية حقائق أفكارهم وما ترمي إليه طروحاتهم يمثل أولوية قصوى في الواجبات الموضعية الملقاة على عاتق العاملين، فما من ريب في أن من يرتدي ثوبك ويخاطبك بخطاب العدو ولكن مع إيهامك بأنه خطابك، أولى بالمقاومة من ذلك الذي لبس لباس العدو، ويخاطبك بخطابه. وهذا عين ما طلبه منا رسول الله (ص) الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ففي صحيحة داود بن سرحان، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (ص): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.[22]
وعليه فمن الواضح هنا أن مسألة الاستهداف وإن ارتبط شكلها بشخص معين أو تيار معين، فليس هو المراد بذاته أو بشخصه، وإنما المستهدف هو كل ما له علاقة بفكره ولونه الأيديولوجي كائنا من كان المتحدث بهذا الفكر. على إنه من المفترض أن كل صاحب فكرة حينما يطرح أفكاره في أي نمط من أنماط التواصل الجمعي[23]لديه ما يكفي من الاستعداد النفسي والذاتي لتلقّي النقد الذي قد يثيره من لا يرضى بهذه الفكرة، دون أن يتسبب ذلك بأي حالة تشنج أو احتقان نفسي، لا سيما إذا كان الرد يحتفظ بوقاره ضمن أصول البحث العلمي، فلا توجد في قواعد البحث العلمي حقوق خاصة للبعض دون البعض الآخر، بمعنى أن تمتلك أنت حقانية الطرح، ولا يمتلك الآخر حق الرد أو الاعتراض!.
وعليه فإن هذا الرد لا يحمل أي طابع شخصي أو جهوي، وإنما هو معد لمناقشة مجموعة أفكار طرحت في فضاء عام، وحشد للدفاع عنها الكثير من الإمكانيات والطاقات، وتحزّب لها فريق من الناس بصورة عمياء تثير العجب حتى أن بعضهم غير مستعد حتى لمجرد قراءة نصوص التحريف والاطلاع عليه، ولقد وجدت كما وجد أساتذة الحوزة العلمية الأجلاء فضلاً عن مراجع الدين العظام (أعلى الله مقامهم الشريف) في مثل هذه الأفكار المجانبة الصريحة عن خط أهل البيت (عليهم السلام)، فتم التصدي لها ومجابهتها، عملاً بالواجب الشرعي الملقى على عاتق عالم الدين لقول صادق آل محمد (عليه السلام) بسند صحيح: (إذا ظهرت البدع فللعالم أن يظهر علمه، وإلا فعليه لعنة الله).[24]ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وحيث أن الأمر كذلك فمن الحق بمكان أن نتصدى للرد الفكري، وعلى صاحب الطرح التحريفي والتشكيكي أن يتحمل بنفسه المسؤولية الفكرية والدينية والاجتماعية المترتبة على ذلك، فمثل هذه الأفكار لا تطرح ـ في العادة ـ بغفلة من طارحيها، بل هي تحتاج إلى الكثير من التهيؤ النفسي لما سيترتب عليها، والقابلية على التعامل مع النتائج المترتبة على العبث في دين الناس الذي ما كان ولن يكون بمثابة النزهة التي يمكن القيام بها لكل من يحلو له ذلك.
ولقد كان مرادي أن يخرج هذا البحث ضمن كتابنا: (الإمامة: بحث في الضرورة والمهام) ولكن طبيعة ما رأيته من الحاجة العقائدية التي أوجدتها لجاجة بعض المشككة، واندفاعهم لإقناع بعض الناس بصحة كون الإمامة من الأفكار غير الثابتة ضمن دعاوى تثير العجب، وكذا إلحاح بعض السادة العلماء والطلبة الأعزاء جعلني أخرجه مستقلاً، سائلاً المولى العلي القدير أن يتقبل هذا المجهود بلطفه وكرمه وجوده، وأن يجعل ثوابه ذخراً لي ولوالدي، وأن يرزقنا به كرامة شفاعة النبي المصطفى وآله الأطهار وأن يعيننا على ما ابتلينا به من وعيد الأشقياء وشقيهم بالصبر والثبات!. إنه نعم من سُئل، وأفضل من أجاب.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المهجر: في 2/صفر الخير/1418 هـ بجوار قبر الصديقة الحوراء زينب (ع) في دمشق
جلال الدين علي الصغير
الاهداء
إلى سيدتي رقية بنت الإمام الحسين (عليهم السلام)
ما كتبت الذي كتبت سيدتي إلا استعداء للخط الذي استباح الدين حينما استباح دماءكم، وقتل آمال السماء بقتلكم، واغتال الهدى حينما أنشب مخالبه القذرة في خطكم ليرتدي للضلال والإضلال ألف رداء ورداء, وصنع ولا زال يصنع في كل يوم مظلمة لآل محمد.. وإلا أمثل جدتك الصديقة الزهراء الطاهرة تعصر خلف الباب لينشب مسمار الحقد في صدرها.. ثم ليتلوى سوط الحقد على متنها ووجهها؟! .. ليأتي وارث هذا الظلم في يومنا هذا ليعلن أنه: لا يتفاعل!!..
وأمثل عمتك زينب الحوراء الطاهرة التي أراها الدهر صيغة أخرى من ظلامة أمها الزهراء ليأتي بعد ذلك هذا الوريث وهو يجد السير ليحمل من أوزار الأولين والآخرين ليفوه عن فم يصوّرها كيف تستجدي العفو من ابن الطلقاء؟!!..
سيدتي ومولاتي:
وريقاتي هذه تسعى لما لعله إسهام في مسح دمعة من دمعاتك اللاهبة في وجه الضلال تبحث: أين الحسين؟ حيث لا مجيب إلا ذلك الطست الذي كان يحمل رأس أبيك الحسين وهو غارق بدم منحره الشريف..
وهي يا سيدتي تروم المشاركة في بناء لبنة من الخط الذي بنيتموه بدمائكم الطاهرة وأجسادكم الزكية ونحوركم الأبية حتى إذا ما قطعت الأجساد جاء دورك لتصنعي من أحزانك درساً جديداً من دروس الوفاء للعقيدة..
فإن لم أكن أهلا لذلك فأنتم أرباب الكرم والجود أهل لذلك..