kumait
07-11-2012, 07:49 PM
ارتباط قضية المهدي (ع) بنهاية حركة التاريخ ...
بقلم السيد سامي البدري
آخرُ الزمان تعبيرٌ عن المرحلة النهائية لحركة التاريخ ، وقد عنى بها الفلاسفة الوضعيّون عموماً والماركسيّون خصوصاً في القرن التاسع عشر والقرن العشرين . وكان أفضل ما قدّمتْه الماركسيّة للفكر البشري هو : تبنّيها للحتميّة التاريخيّة(1) ، ومحاولتها اكتشاف سنن التاريخ ومراحله ، وتنبيهها إلى أهمّيّة معرفة قوانين التاريخ في التنبؤ بمسار حركة التاريخ ونتائجها ، ودور هذه المعرفة في الارتقاء بوعي الإنسان ، وتفعيل حركته الإيجابيّة باتّجاه المرحلة التاريخيّة التي يرتقبها .
غير أنّ الماركسيّة كانت قد تورّطت في خطأ قاتل حين أنكرت وجود الله تعالى ، وتعاملت مع حركة النبوّات من خلال الصيغ المحرّفة للدين الإلهي ، ومِن ثَمّ فشلتْ في اكتشاف المراحل العامّة لحركة التاريخ واكتشاف السنن التي تنقل الواقع من مرحلة إلى اُخرى ، ثمّ تقف به عند نهايته المحتومة .
ولئنْ انفتح الفكر البشري الوضعي من خلال الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر الميلادي على إدراك الحتميّة التاريخيّة ، ومِن ثَمّ العمل على اكتشاف مراحل التاريخ الحتميّة والقوانين العامّة للتاريخ ، ثمّ أخطأ في اكتشافه(2) ، فإنّ الفكر النبوي منذ انطلاقته الأولى قبل آلاف السنين قد بنى تصوّراته عن حركة المجتمع البشري على أساس هذه الحتميّة ، وقدّم فكرة واضحة عن سنن التاريخ ومراحله .
وقد احتفظ التراث الديني لليهود والنصارى والمسلمين بنصوص مشتركة حول ذلك ، ويستطيع الباحث أنْ يقول: إنّ هذه القضية هي إحدى أهمّ القضايا الأساسيّة المشتركة بين الأديان الثلاثة . وهنا أودّ أنْ أؤكّد أنّ النصوص الدينيّة التي يحفل بها تراث الأديان الثلاثة ، يقدّم بالإضافة إلى ذلك معلومات موحّدة عن الشخوص التاريخيّين الذين تتقوّم بهم حركة التاريخ ونهايتها ، فلسنا فقط أمام فكرة مشتركة حول نهاية حركة التاريخ ، بل أمام تصوّرات موحّدة عن هوية شخوصها التاريخيّين ، يمكن استفادتها من تلك النصوص . نعم ، بلحاظ هذه النصوص التي تتحدّث عن الأشخاص التاريخيّين وجدتُ قراءات وتفسيرات مختلفة ، جعلتنا أمام مصاديق مختلفة للفكرة الواحدة ، والباب مفتوح لحوار علمي هادئ بين الأديان الثلاثة واتجاهاتها الداخلية ، لبحث سبل الوصول إلى القراءة الموحّدة لتلك النصوص .
وفي ضوء هذه المقدّمة نستطيع القول : إنّ قضية المهدي الموعود الحجّة ابن الحسن العسكري (عليه السّلام) , ابن الحسين المظلوم الشهيد (عليه السّلام) في المعتقد الشيعي ترتبط أساساً بمراحل حركة التاريخ وسننها ، كما تقدّمها الحركة النبوية ككل من خلال وثائقها الأساسية : القرآن والتوراة والإنجيل .
وإنّ الحركة الشيعية تدّعي من خلال تراثها المعتبر أنّ المهدي الموعود (عليه السّلام) بطل نهاية التاريخ الذي تشخّصه النصوص الشيعية بمحمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام) , ابن الحسين المظلوم الشهيد (عليه السّلام) ، هو نفسه الذي تشخّصه النصوص الدينيّة المسيحيّة واليهوديّة . دليلنا على هذا التصوّر ما يؤكّده القرآن من أنّ نهاية التاريخ المشرقة أمر حتمه الله تعالى , وبيّنه في القرآن , وفي كتبه التي أنزلها على الأنبياء السابقين . وتأكيد القرآن أنّ خبر بعثة النبي المكّي موجود في التوراة والإنجيل ، وتأكيد أهل البيت في أخبارهم أنّ الكتب السابقة بشّرتْ بمحمّد وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وأنّ عليّاً والحسين والمهدي (عليهم السّلام) قد ذُكروا في الكتب السابقة كما ذُكر النبي (صلّى الله عليه وآله) .
القدر المتّفق عليه بين أهل الديانات السماويّة الثلاث حول نهاية التاريخ :
يتّفق أتباع الديانات السماويّة الثلاث : المسلمون والنصارى واليهود على الإيمان بأنّ المستقبل النهائي لمسيرة الحياة على الأرض هي انتصار أطروحة الإيمان على أطروحة الكفر ، وسيادة الحق والعلم والعدل الاجتماعي , وعبادة الله تعالى ، ووراثة الأرض مِن قِبل الصالحين ، وانتهاء الخرافة والضلال والظلم وكل أشكال الانحراف . ويتّفقون أيضاً على أنّ الشخص الذي سيحقّق الله على يده على العهد هو من ذرّية إبراهيم (عليه السّلام) , وأنّ الشريعة التي يحكم بها هذا الشخص ليست هي شريعة موسى (عليه السّلام) ، وإنّما هي شريعة النبي الذي سيبعثه الله تعالى إلى الأزمنة الأخيرة(3) ، هذا النبي الذي ينتظره الأُمّيّون .
في القرآن الكريم قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ )(4) .
وفي الكتاب المقدّس الْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ لِدَاوُدَ :
لاَ يُقْلِقْكَ أَمْرُ الأَشْرَارِ ، وَلاَ تَحْسِدْ فَاعِلِي الإِثْمِ ، 2 فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعاً يَذْوُونَ ، وَكَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ . 3 تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ . اسْكُنْ فِي الأَرْضِ ( مُطْمَئِنّاً ) وَرَاعِ الأَمَانَةَ . 4 ابْتَهِجْ بِالرَّبِّ فَيَمْنَحَكَ بُغْيَةَ قَلْبِكَ . 5 سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فَيَتَوَلَّى أَمْرَكَ . 6 يُظْهِرُ بَرَاءَتَكَ كَالنُّورِ ، وَحَقَّكَ ظَاهِراً كَشَمْسِ الظَّهِيرَةِ . 7 اسْكُنْ أَمَامَ الرَّبِّ وَانْتَظِرْهُ بِصَبْرٍ ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي مَسْعَاهُ ، بِفَضْلِ مَكَائِدِهِ . 8 كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ ، وَانْبُذِ السَّخَطَ ، وَلاَ تَتَهَوَّرْ لِئَلاَّ تَفْعَلَ الشَّرَّ . 9 لأَنَّ فَاعِلِي الشَّرِّ يُسْتَأْصَلُونَ . أَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأَرْضِ . 10 فَعَمَّا قَلِيلٍ ( يَنْقَرِضُ ) الشِّرِّيرُ ، إِذْ تَطْلُبُهُ وَلاَ تَجِدُهُ . 11 أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأَرْضِ وَيَتَمَتَّعُونَ بِفَيْضِ السَّلاَمِ … . 16 الْخَيْرُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَمْلِكُهُ الصِّدِّيقُ أَفْضَلُ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ ، 17 لأَنَّ سَوَاعِدَ الأَشْرَارِ سَتُكْسَرُ ، أَمَّا الأَبْرَارُ فَالرَّبُّ يَسْنِدُهُمْ . 18 الرَّبُّ عَلِيمٌ بِأَيَّامِ الْكَامِلِينَ ، وَمِيرَاثُهُمْ يَدُومُ إِلَى الأَبَدِ … . 27 حِدْ عَنِ الشَّرِّ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ ، فَتَسْكُنَ مُطْمَئِنّاً إِلَى الأَبَدِ . 28 لأَنَّ الرَّبَّ يُحِبُّ الْعَدْلَ ، وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ ، بَلْ يَحْفَظُهُمْ إِلَى الأَبَدِ . أَمَّا ذُرِّيَّةُ الأَشْرَارِ فَتَفْنَى . 29 الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأَرْضِ وَيَسْكُنُونَ فِيهَا إِلَى الأَبَدِ . 30 فَمُ الصِّدِّيقِ يَنْطِقُ دَائِماً بِالْحِكْمَةِ ، وَيَتَفَوَّهُ بِكَلاَمِ الْحَقِّ . 31 شَرِيعَةُ إِلَهِهِ ثَابِتَةٌ فِي قَلْبِهِ ، فَلاَ تَتَقَلْقَلُ خَطَوَاتُهُ . 32 يَتَرَبَّصُ الشِّرِّيرُ بِالصِّدِّيقِ وَيَسْعَى إِلَى قَتْلِهِ . 33 لَكِنَّ الرَّبَّ لاَ يَدَعُهُ يَقَعُ فِي قَبْضَتِهِ ، وَلاَ يَدِينُهُ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ . 34 انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاسْلُكْ دَائِماً فِي طَرِيقِهِ ، فَيَرْفَعَكَ لِتَمْتَلِكَ الأَرْضَ ، وَتَشْهَدَ انْقِرَاضَ الأَشْرَارِ . 35 قَدْ رَأَيْتُ الشِّرِّيرَ مُزْدَهِراً وَارِفاً كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِي تُرْبَةِ مَوْطِنِهَا . 36 ثُمَّ عَبَرَ وَمَضَى ، لَمْ يُوجَدْ . فَتَّشْتُ عَنْهُ فَلَمْ أَعْثُرْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ . 37 لاَحِظِ الْكَامِلَ وَانْظُرِ الْمُسْتَقِيمَ ، فَإِنَّ نِهَايَةَ ذَلِكَ الإِنْسَانِ تَكُونُ سَلاَما . 38 أَمَّا الْعُصَاةُ فَيُبَادُونَ جَمِيعا . وَنِهَايَةُ الأَشْرَارِ انْدِثَارُهُمْ . 39 لَكِنَّ خَلاَصَ الأَبْرَارِ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ ، فَهُوَ حِصْنُهُمْ فِي زَمَانِ الضِّيقِ . 40 يُعِينُهُمُ الرَّبُّ حَقّاً ، وَيُنْقِذُهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ، وَيُخَلِّصُهُمْ لأَنَّهُمُ احْتَمَوْا بِهِ .
اختلاف المسلمين عن اليهود والنصارى في هوية القائد الإلهي الموعود وكتابه :
ويختلف المسلمون مع اليهود والنصارى في تعيين هويّة الشخص الذي يجري الله تعالى على يده هذا الحدث العظيم المرتقَّب ، وفي الاُمّة التي ينطلق منها ذلك القائد الإلهي الكبير ، وفي الشريعة الإلهيّة التي يعمل بها ويطبّقها .
فيعتقد المسلمون جميعاً : بأنّه من ذرّية إسماعيل (عليه السّلام) ، من ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء ، من فاطمة بنت النبي (صلّى الله عليه وآله) . وإنّ اُمّة هذا القائد هي اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وإنّ شريعته هي شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
روى أبو داود ، وابن ماجة ، وابن حنبل ، والطبراني ، والحاكم في المستدرك ، وغيرهم ، قولَ النبي (صلّى الله عليه وآله) : ( لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدَهْرِ ( الدنيا ) إلاّ يَوْمٌ وَاحِدٌ ، لَبَعَثَ اللهُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَؤُهَا ( الأرض ) عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْرَاً ) .
وقوله (صلّى الله عليه وآله) أيضاً : ( المَهْدِي مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وُلْدِ فَاطِمَة ) .
ويعتقد اليهود والنصارى : أنّه مِن ذرّية إسحاق (عليه السّلام) ، من ذرّية يعقوب (عليه السّلام) ، ومن ذرّية داود (عليه السّلام) .
ويقول النصارى : بأنّ هذا القائد الإسرائيلي هو المسيح عيسى بن مريم (عليه السّلام) ، وأنّه قُتل على يد اليهود , ثمّ أحياه الله تعالى وأقامه من الأموات , ورفعه إلى السماء ، وأنّه سينزله في في آخر الدنيا ليحقّق به وعده .
أمّا اليهود فيقولون : إنّه لم يولد بعد .
قال المفسّر اليهودي حنان ايل في تعليقته على الفقرة (20) من الإصحاح (17) من سفر التكوين التي تشير إلى وعد الله تعالى في إسماعيل (عليه السّلام) ، وهي : ( أمّا إسماعيل فقد سمعتُ قولك فيه ، ها أنا ذا أباركه وأنميه وأكثره جدّاً جدّاً ، ويلد اثني عشر رئيساً وأجعله اُمّة عظيمة ) .
( نلاحظ من هذه النبوءة في هذه الآية أنّ 2337 سنة مضتْ قبل أنْ يصبح العرب ـ سلالة إسماعيل ـ اُمّة عظيمة ( بظهور الإسلام سنة 624م ) ، في هذه الفترة انتظر إسماعيل بشوق حتى تحقّق الوعد الإلهي أخيراً وسيطر العرب على العالم . أمّا نحن ذرّية إسحق فقد تأخّر تحقّق الوعد الذي أُعطي لنا ؛ بسبب ذنوبنا . من المؤكّد أنّ هذا الوعد الإلهي سيتحقّق فيما بعد ، فلا نيأس )(5) .
وفي سفر أشعيا 11 ـ 1 :
وَيُفْرِخُ بُرْعُمٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى ، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ جُذُورِهِ . 2 : وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفِطْنَةِ ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ ، رُوحُ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَمَخَافَتِهِ . 3 وَتَكُونُ مَسَرَّتُهُ فِي تَقْوى الرَّبِّ ، وَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ مَا تَشْهَدُ عَيْنَاهُ ، وَلاَ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَى مَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ ، 4 إِنَّمَا يَقْضِي بِعَدْلٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَيَحَكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ ، وَيُعَاقِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ ؛ 5 لأَنَّهُ سَيَرْتَدِي الْبِرَّ وَيَتَمَنْطَقُ بِالأَمَانَةِ . 6 فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْحَمَلِ ، وَيَرْبِضُ النِّمْرُ إِلَى جِوَارِ الْجَدْيِ ، وَيَتَآلَفُ الْعِجْلُ وَالأَسَدُ وَكُلُّ حَيَوَانٍ مَعْلُوفٍ مَعاً ، وَيَسُوقُهَا جَمِيعاً صَبِيٌّ صَغِيرٌ . 7 تَرْعَى الْبَقَرَةُ وَالدُّبُّ مَعاً ، وَيَرْبِضُ أَوْلاَدُهُمَا مُتجَاوِرِينَ ، وَيَأْكُلُ الأَسَدُ التِّبْنَ كَالثَّوْرِ ، 8 وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ فِي ( أَمَانٍ ) عِنْدَ جُحْرِ الصِّلِّ ، وَيَمُدُّ الفَطِيمُ يَدَهُ إِلَى وَكْرِ الأَفْعَى ( فَلاَ يُصِيبُهُ سُوءٌ ) . 9 لاَ يُؤْذُونَ وَلاَ يُسِيئُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي ؛ لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِيءُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تَغْمُرُ الْمِيَاهُ الْبَحْرَ . 10 : فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَنْتَصِبُ أَصْلُ يَسَّى رَايَةً لِلأُمَم ِ ، وَإِلَيْهِ تَسْعَى ( وإيّاهُ تَنْظُرُ ) جَمِيعُ الشُّعُوبِ ( Gentiles ) ، وَيَكُونُ مَسْكَنُهُ مَجِيداً .
والقول الفصل فيما اختلف فيه المسلمون عن النصارى واليهود بشأن القائد الموعود ،
وهل هو من ذرّية إسحاق أو ذرّية إسماعيل (عليهما السّلام) ، يكون من خلال التحقيق في :
1 ـ مسألة مَن هو النبي الذي ينتظره الأُمّيّون , هل هو عيسى (عليه السّلام) أَمْ محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؟
2 ـ ومسألة مَن هو الوارث الأبدي لإمامة إبراهيم (عليه السّلام) , هل هو إسماعيل والأصفياء من ذرّيته أَمْ إسحاق والأصفياء من ذرّيته (عليهم السّلام) ؟
3 ـ وكذلك مَن هو القائد الإلهي الذي سيتعرّض لمحنة الذبح بلا ذنب ، ويكون قتله سبباً لهداية كثيرين ، كما يكون قتله سبباً لحفظ الدين ونشره ، كما يكون من ذرّيته نسلٌ تطول أيّامه ، يتحقّق على يده الغد المشرق في تاريخ البشرية ؟
والمسألتان الأوليان : بحثهما علماء المسلمين ، وأدركهما الكثير من علماء اليهود والنصارى ، وأعلنوا اتّباعهم للنبيّ وأهل بيته (عليهم السّلام)(6) .
أمّا المسألة الثالثة : فقد قامتْ المسيحيّة البولسية على تفسير النصوص التي تتحدّث عن رجل الآلام والمحن المذبوح كما يُذبح الكبش أنّه عيسى بن مريم ، إلاّ أنّ النص يأبى الانطباق عليه ؛ لأنّ عيسى (عليه السّلام) لم يكن له نسل ، سواء طالتْ أيّامه أو قصرتْ ، وهي مسألة جديدة وفّقنا الله تعالى لإثارتها ، وقد هيئنا نصوصها كاملة ، نرجو أنْ تَرَ النور قريباً .
أمّا لفظة ( يَسَّى ) التي تشير إلى والد داود في النص الآنف الذكر ، فإنّه بعد استقرار المسائل الثلاث الآنفة الذكر ، يصبح من السهل اكتشاف تحريفها ، وكونها في الأصل تشير إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وولده المهدي .
اختلاف الشيعة عن السُّنّة في قضيّة القائد الموعود :
يعتقد الشيعة : أنّ هذا القائد الموعود هو محمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام) الذي وُلِدَ سنة 256 هجرية ، وقد نصّ أبوه الحسن العسكري على إمامته ، ثمّ غاب المهدي (عليه السّلام) بإذن الله تعالى غيبَتَين : صغرى وكبرى ، نظير غيبَتَي عيسى (عليه السّلام) .
الأُولى : وهي الغيبة الصغرى ، كانت حين أنجاه الله تعالى من مكر السلطة العبّاسية ، فكان يعيش حالة الاختفاء منذ ولادته ، حيث أخفاه أبوه (عليه السّلام) . وبعد وفاة أبيه (عليه السّلام) سنة 261 هـ صار يوجّه شيعة أبيه بواسطة وكلائه النوّاب الأربعة الذين استمرّت نيابتهم تسعاً وستين سنة تقريباً (261 ـ 329) .
الثانية : وهي الغيبة الكبرى التي بدأتْ بعد موت النائب الرابع علي بن محمّد السَمَري ، وقد أخبر الشيعة عند موته بعدم وجود نائب خاص بعده حتّى يظهر الله تعالى ولِيّه في آخر الزمان .
ويرى أهل السُنّة : أنّ المهدي (عليه السّلام) لم يولَد بعد ، بل يولَد في آخر الزمان .
والقول الفصل فيما اختلف فيه الشيعة عن السُّنّة بشأن القائد الموعود ، وهل وُلِدَ حقّاً ، وأنّه ابن الحسن العسكري (عليه السّلام) , أو هو سوف يُولد في المستقبل ؟ يكون من خلال التحقيق في مسألة وجود أوصياء معصومين للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّ شيعة هؤلاء الأوصياء مصدَّقون في النقل عن أئمّتهم , شأنهم في ذلك شأن أتباع المذاهب الاُخرى حينما ينقلون عن أئمّتهم مسائل الفقه ومسائل التاريخ الخاصة بهم .
وقد أجمع جمهور الشيعة منذ أقدم عصورهم على أنّ أئمّتهم (عليهم السّلام) قد نصّ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) عليهم ، وبَيَّنَ عددهم ، وأنّ الأئمّة (عليهم السّلام) قد نصّ السابق منهم على اللاحق ، وأنّ الحسن العسكري (عليه السّلام) أخبر أنّه له ولد ، وأنّه وصيّه ، وأنّه المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) .
وقد استدلّ الشيعة على مسألة النص من النبي (صلّى الله عليه وآله) على الإمامة الإلهيّة لأهل بيته (عليهم السّلام) بحديث الثقلين ، وحديث السفينة ، واستدلّوا على عددهم بحديث الاثني عشر ، واستدلوا على أنّ أوّل الأئمّة الإلهيّين هو علي (عليه السّلام) ثمّ الحسن (عليه السّلام) ثمّ الحسين (عليه السّلام) بحديث الغدير ، وحديث المنزلة ، وحديث الكساء ، وحديث الحسن والحسين سبطان من الأسباط ، وكلها مرويّة في الأحاديث السنّية المعتبرة .
أمّا إمامة التسعة من ذرّية الحسين (عليه السّلام) فقد استدلّوا عليها بأحاديث الوصيّة في كتب الشيعة المعتبرة ، كقول الإمام الباقر (عليه السّلام) : ( يَكُوْنُ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ الحُسَيْنِ بْن عَلِيّ ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ ) . رواه الكليني .
وقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : ( أَتَرَوْنَ أَنَّ المُوْصِيْ مِنَّا يُوْصِيْ إِلَى مَنْ يُرِيْدُ ؟! لاَ وَاللهِ ، وَلَكِنَّهُ عَهْدٌ مَعْهُوْدٌ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) إِلَى رَجُلٍ فَرَجُل حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَفْسِهِ ) .
وفي لفظ آخر : ( إِلَى أنْ يَنْتَهِي إِلَى صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ )(7) .
وبالواقع التاريخي الذي تميّزت به سيرة هؤلاء التسعة من وراثة الجامعة والجفر التي كتبها عليٌّ (عليه السّلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في لقاءاتهما الخاصّة ، وما جرى على يدهم من الإخبار بالمغيّبات والكرامات التي لا يجريها الله تعالى إلاّ على يد أصفيائه المؤيّدين بتأييد خاصّ منه .
وقد حاول الإخوة من أهل السُنّة ردّ فكرة النص من النبي (صلّى الله عليه وآله) على الأئمّة (عليهم السّلام) وعلى أوّلهم علي (عليه السّلام) ؛ بمنع دلالة أو تضعيف أسانيد النصوص النبوية التي يستشهد بها الشيعة على دعواهم ، وقد قابلهم علماء الشيعة بمناقشة ردودهم وبيان خطئها .
وقد حاول البعض من فِرق الشيعة ـ وبخاصّة الزيدية ـ ردّ فكرة الاثني عشرية ، وقابلهم علماء الشيعة بالردّ عليهم . وحاول بعض المعاصرين من الكُتّاب ردّ فكرة ولادة المهدي (عليه السّلام) ؛ بدعوى أنّ القائلين بذلك هم واحد من اثني عشرة فرقة انقسمت إليها شيعة الحسن العسكري (عليه السّلام) ، استناداً إلى كتابَي فِرق الشيعة : للنوبختي ، والمقالات والفِرَق للأشعري الشيعي ، وقد أجبنا عن ذلك مفصّلاً في كتابنا حول إمامة أهل البيت ووجود المهدي (عليه السّلام) .
الغيبة لا تعني تعطيل العمل بالأحكام الإسلاميّة :
لم تكن الغيبة لتعني تعطيل العمل بأحكام الإسلام ، كيف يكون ذلك وأصل مسألة وجود أوصياء للنبي إنّما هي الحفاظ على الإسلام ؛ ليبقى سليماً ميسّراً لِمَن أراد العمل به . وقد أدّى الأئمّة (عليهم السّلام) وظيفتهم هذه على أتمّ وجه ؛ حيث ربّوا حملة أُمناء لعلومهم ، ولم يكن تسلّم الحكم في المجتمع الإسلامي ككلّ ، مِن قِبلهم ، إلاّ بعض شؤونهم ، ولم يتوفّر الشرط الأساس لنهوض أغلبهم فيه ، وهو شرط وجود الناصر الكفوء وانقياده لهم كما أشار أمير المؤمنين (عليه السّلام) : ( أَمَا وَالّذِي فَلَقَ الحَبّةَ وَبَرَأَ النَسمَةَ ، لَوْلاَ حُضُوْرُ الحَاضِرِ وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُوْدِ النَاصِرِ ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ) .
إنّ الغيبة كانت مكراً إلهيّاً في قِبال مكر العبّاسيِّين ، أرادوا قَتْل الإمام وأراد اللهُ تعالى حفظه وادّخاره لليوم الموعود . ومن جانب آخر فإنّ مِن أبرز حِكَم الغيبة وأسرارها الواضحة على صعيد الأمّة الخاصّة ـ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ـ هي إتاحة الفرصة لحَمَلَةِ تُراث الأئمّة أنْ يمارس مسؤوليّاتها الفكرية والعلمية والسياسية ككل ، على أساس فهمهم البشري غير المعصوم للقرآن والتراث الفكري الذي خلّفتْه التجربة المعصومة للنبيّ والأئمّة (عليهم السّلام) . وتأتي فكرة عودة المعصوم الغائب في آخر الدنيا , وظهوره مرّة ثانية على المسرح الاجتماعي والسياسي ؛ لتقييم التجارب السابقة للمسيرة غير المعصومة ، والكشف عن مستوى تمثيلها وصدق تعبيرها وأمانتها من ناحية ، ومن ناحية اُخرى لتحقيق الوعد الإلهي الآنف الذكر .
إنّ مفهوم انتظار الفرج يرتبط بالمهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام) الذي عاش مشرّداً مختفياً ، ولا زالتْ هذه الحالة ترافق وجوده الشريف ـ اللهمَّ عجّل فرج وليّك الحجّة بن الحسن (عليه السّلام) ـ , وليس له ربط بالاُمّة إلاّ من ناحية كونه قائدها المعصوم المُعدّ لأداء وظيفة إلهيّة خاصّة ، قدّر الله لها أنْ تكون خاتمة المسيرة على الأرض كلّها ، وأنْ يُعِيْنَه فيها النبيّ عيسى (عليه السّلام) . ويتّضح من ذلك سرّ انحصار هذا المفهوم ضمن الدائرة الشيعية ؛ إذ إنّ الدائرة السُّنيّة لا تؤمن بمهدي مولود, غائب مشرّد , خائف طريد .
علامات الظهور :
الأخبار التي تتحدّث عن علامات ظهور المهدي (عليه السّلام) سواء في الكتب الشيعية أو في الكتب السنّية تستهدف غالباً تشخيص زمن الظهور ، ويوجد اتّجاهان في دراستها :
الأوّل : يدرسها على أنّها تخبر بحوادث مستقلّة عن بعضها البعض .
الثاني : يدرسها على أنّها تُخبر عن وضع اجتماعي وسياسي وتكنولوجي يعيشه العالم قبيل الظهور . وبعبارة اُخرى : ترسم لنا حالة العالم السياسية والاجتماعية والتكنولوجية قبيل الظهور .
وفي ظلّ الاتجاه الثاني يتّضح لأيّ باحث في علامات الظهور أنّ العالم اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى عهد الظهور .
فمن الناحية التكنولوجية تتحدّث الأخبار عن عالم فيه طائرات تنقل المسافرين من بلد إلى بلد ، وإذاعات بعدد شعوب العالم تستطيع بث الخبر الواحد في آنٍ واحد للعالم أجمع ، وتلفون متلفز يسمع مَن في المشرق أخاه الذي في المغرب ويرى صورتَه ، وكومبيوترات يدوية تحتوي على برامج متنوّعة تغني حاملها عن اصطحاب آلاف الكتب .
ومن الناحية الاجتماعية تتحدّث عن وضع اجتماعي للنساء تظهر فيه كاسيات عاريات ، وهو كناية عن التبرّج والسفور ، وظهور أنواع من المنكرات ممّا لا يتصوّره الإنسان قبل حدوثه .
ومن الناحية السياسية تتحدّث عن كشف عن هيكل سليمان الذي يستلزم قيام دولة إسرائيل في قلب العالم العربي والإسلامي ، ووجود حركات إسلاميّة في المجتمعات الإسلاميّة تسعى لإقامة الحكم الإسلامي ، يسجن الكثير من أفرادها ، وقيام دولة توطّئ للمهدي (عليه السّلام) في المشرق ، واختلاف العاملين الشيعة في وعدم اجتماع كلمتهم ، وتجتمع كلمتهم بييعتهم للمهدي (عليه السّلام) ، وظهور دعوات مهدوية كاذبة ، وغير ذلك ، وكلّ ذلك ممّا جاء ذكره في أحاديث علامات الظهور .
.ــــــــــــــــــــــ
(1) هناك نوعان من الحتميّة :
1 ـ الحتميّة في الطبيعة : ويراد بها القول بوجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة ، توجب أنْ تكون كلّ ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتقدّمها أو يصحبها من الظواهر الاُخرى . ومعنى ذلك أنّ القول بالحتميّة ضروريّ لتعميم نتائج الاستقراء العلمي ، فلولا اعتقادنا أنّ ظواهر الطبيعة تجري وِفق نظامٍ كلّيٍّ دائم لَمَا استطعنا أنْ نعمّم نتائج الاستقراء .
2 ـ الحتميّة التاريخيّة : ونريد بها الوقوع الضروري للحدث التاريخي ، أو الاتّجاه التاريخي ، بمعنى أنّهما لو توفّرت الشروط التي توجب حدوثهما لحدثا اضطراراً . ( المعجم الفلسفي ، مصطلح الحتميّة ) .
ويوجد في الفكر البشري موقفان من الحتميّة التاريخيّة :
الأوّل : موقف ينادي بالحتميّة التاريخيّة ، ويدعو إلى استخلاص الأحكام الكلّية التي تمكنّ من التنبّؤ بما سيحدث في المستقبل ( انظر في فلسفة التاريخ ، محمود صبحي : 36 ) .
الثاني : موقف يُنْكِر الحتميّة التاريخيّة ويرفضها ، مدّعياً عدم إمكانية استخلاص قوانين كلّية للتاريخ ، ومِن ثَمّ التنبّؤ بالحوادث التاريخيّة أو الاتّجاه التاريخي على أساسها ( المادّيّة التاريخيّة ) .
(2) إنّ انتماء ماركس إلى اليهوديّة قبل إلحاده يفرض علينا أنْ نفسّر إدراكه لحتميّة بلوغ المجتمع البشري مرحلة تصفّى فيها كلّ التناقضات الاجتماعية ، ويسود فيها الوئام والسلام ، وكان بتأثير التراث الديني الذي دان به لفترة غير قليلة من حياته .
(3) في إنجيل يوحنّا 14 : 6 فلمّا رأى الناس الآية التي أتى بها يسوع ، قالوا : حقّاً هذا هو النبي الآتي إلى العالم . وبهامش طبعة دار المشرق يعلّق المحقّق على هذا النص قائلاً : كان انتظار نبي للأزمنة الأخيرة منتشراً في بيئات مختلفة .
(4) الأنبياء : الآية : 105 ـ 106 .
(5)The stone edtion , The chumash , by R . Nosson scherman, R . meir ziotowitz , Third edtion first impression 1994 . p . 76 : ( حنان ايل ) ( Chananel ) صاحب النص الآنف الذِكْر هو رأس علماء اليهود في القيروان تـ (1055م) (447ه) مؤلّف أشهر تفسير للتلمود وتفسير للأسفار الخمسة الأولى من التوراة ، وقد استشهد بآرائه المفسّرون من بعده ، منهم المفسّر ( بكيا ) ( Bachya ) ( 1263-1340م ) (662 ـ 741م) ، وقد احتوى تفسيره على أربعة مناهج من التفسير ، وهي : المنهج الظاهري ، والمنهج المدراشي ، والمنهج الفلسفي ، والمنهج الصوفي ، واحتوى تفسيره على آراء كنعان ايل .
(6) قال ابن تيمية (661 ـ 729ه) في قوله : ( وغلط كثير ممّن تشرّف بالإسلام من اليهود ، فظنّوا أنّهم ( أي الاثني عشر رئيساً ) الذين تدعوا إليهم فرقةُ الرافضة فاتبعوهم ) . البداية والنهاية : لابن كثير : ط1 ، ج6 ، 250 .
(7) الكافي : ج 1 ، ص 277 ، الروايات 1 ـ 4 . وأيضاً بصائر الدرجات : للصفّار : ص470 ، الروايات 1 ـ 10 ، 12 .
(8) انظر : شبهات وردود : للمؤلّف : الطبعة الثالثة ، ص 23 ـ 24 ) .
بقلم السيد سامي البدري
آخرُ الزمان تعبيرٌ عن المرحلة النهائية لحركة التاريخ ، وقد عنى بها الفلاسفة الوضعيّون عموماً والماركسيّون خصوصاً في القرن التاسع عشر والقرن العشرين . وكان أفضل ما قدّمتْه الماركسيّة للفكر البشري هو : تبنّيها للحتميّة التاريخيّة(1) ، ومحاولتها اكتشاف سنن التاريخ ومراحله ، وتنبيهها إلى أهمّيّة معرفة قوانين التاريخ في التنبؤ بمسار حركة التاريخ ونتائجها ، ودور هذه المعرفة في الارتقاء بوعي الإنسان ، وتفعيل حركته الإيجابيّة باتّجاه المرحلة التاريخيّة التي يرتقبها .
غير أنّ الماركسيّة كانت قد تورّطت في خطأ قاتل حين أنكرت وجود الله تعالى ، وتعاملت مع حركة النبوّات من خلال الصيغ المحرّفة للدين الإلهي ، ومِن ثَمّ فشلتْ في اكتشاف المراحل العامّة لحركة التاريخ واكتشاف السنن التي تنقل الواقع من مرحلة إلى اُخرى ، ثمّ تقف به عند نهايته المحتومة .
ولئنْ انفتح الفكر البشري الوضعي من خلال الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر الميلادي على إدراك الحتميّة التاريخيّة ، ومِن ثَمّ العمل على اكتشاف مراحل التاريخ الحتميّة والقوانين العامّة للتاريخ ، ثمّ أخطأ في اكتشافه(2) ، فإنّ الفكر النبوي منذ انطلاقته الأولى قبل آلاف السنين قد بنى تصوّراته عن حركة المجتمع البشري على أساس هذه الحتميّة ، وقدّم فكرة واضحة عن سنن التاريخ ومراحله .
وقد احتفظ التراث الديني لليهود والنصارى والمسلمين بنصوص مشتركة حول ذلك ، ويستطيع الباحث أنْ يقول: إنّ هذه القضية هي إحدى أهمّ القضايا الأساسيّة المشتركة بين الأديان الثلاثة . وهنا أودّ أنْ أؤكّد أنّ النصوص الدينيّة التي يحفل بها تراث الأديان الثلاثة ، يقدّم بالإضافة إلى ذلك معلومات موحّدة عن الشخوص التاريخيّين الذين تتقوّم بهم حركة التاريخ ونهايتها ، فلسنا فقط أمام فكرة مشتركة حول نهاية حركة التاريخ ، بل أمام تصوّرات موحّدة عن هوية شخوصها التاريخيّين ، يمكن استفادتها من تلك النصوص . نعم ، بلحاظ هذه النصوص التي تتحدّث عن الأشخاص التاريخيّين وجدتُ قراءات وتفسيرات مختلفة ، جعلتنا أمام مصاديق مختلفة للفكرة الواحدة ، والباب مفتوح لحوار علمي هادئ بين الأديان الثلاثة واتجاهاتها الداخلية ، لبحث سبل الوصول إلى القراءة الموحّدة لتلك النصوص .
وفي ضوء هذه المقدّمة نستطيع القول : إنّ قضية المهدي الموعود الحجّة ابن الحسن العسكري (عليه السّلام) , ابن الحسين المظلوم الشهيد (عليه السّلام) في المعتقد الشيعي ترتبط أساساً بمراحل حركة التاريخ وسننها ، كما تقدّمها الحركة النبوية ككل من خلال وثائقها الأساسية : القرآن والتوراة والإنجيل .
وإنّ الحركة الشيعية تدّعي من خلال تراثها المعتبر أنّ المهدي الموعود (عليه السّلام) بطل نهاية التاريخ الذي تشخّصه النصوص الشيعية بمحمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام) , ابن الحسين المظلوم الشهيد (عليه السّلام) ، هو نفسه الذي تشخّصه النصوص الدينيّة المسيحيّة واليهوديّة . دليلنا على هذا التصوّر ما يؤكّده القرآن من أنّ نهاية التاريخ المشرقة أمر حتمه الله تعالى , وبيّنه في القرآن , وفي كتبه التي أنزلها على الأنبياء السابقين . وتأكيد القرآن أنّ خبر بعثة النبي المكّي موجود في التوراة والإنجيل ، وتأكيد أهل البيت في أخبارهم أنّ الكتب السابقة بشّرتْ بمحمّد وأهل بيته (عليهم السّلام) ، وأنّ عليّاً والحسين والمهدي (عليهم السّلام) قد ذُكروا في الكتب السابقة كما ذُكر النبي (صلّى الله عليه وآله) .
القدر المتّفق عليه بين أهل الديانات السماويّة الثلاث حول نهاية التاريخ :
يتّفق أتباع الديانات السماويّة الثلاث : المسلمون والنصارى واليهود على الإيمان بأنّ المستقبل النهائي لمسيرة الحياة على الأرض هي انتصار أطروحة الإيمان على أطروحة الكفر ، وسيادة الحق والعلم والعدل الاجتماعي , وعبادة الله تعالى ، ووراثة الأرض مِن قِبل الصالحين ، وانتهاء الخرافة والضلال والظلم وكل أشكال الانحراف . ويتّفقون أيضاً على أنّ الشخص الذي سيحقّق الله على يده على العهد هو من ذرّية إبراهيم (عليه السّلام) , وأنّ الشريعة التي يحكم بها هذا الشخص ليست هي شريعة موسى (عليه السّلام) ، وإنّما هي شريعة النبي الذي سيبعثه الله تعالى إلى الأزمنة الأخيرة(3) ، هذا النبي الذي ينتظره الأُمّيّون .
في القرآن الكريم قوله تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ )(4) .
وفي الكتاب المقدّس الْمَزْمُورُ السَّابِعُ وَالثَّلاَثُونَ لِدَاوُدَ :
لاَ يُقْلِقْكَ أَمْرُ الأَشْرَارِ ، وَلاَ تَحْسِدْ فَاعِلِي الإِثْمِ ، 2 فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعاً يَذْوُونَ ، وَكَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ . 3 تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ . اسْكُنْ فِي الأَرْضِ ( مُطْمَئِنّاً ) وَرَاعِ الأَمَانَةَ . 4 ابْتَهِجْ بِالرَّبِّ فَيَمْنَحَكَ بُغْيَةَ قَلْبِكَ . 5 سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فَيَتَوَلَّى أَمْرَكَ . 6 يُظْهِرُ بَرَاءَتَكَ كَالنُّورِ ، وَحَقَّكَ ظَاهِراً كَشَمْسِ الظَّهِيرَةِ . 7 اسْكُنْ أَمَامَ الرَّبِّ وَانْتَظِرْهُ بِصَبْرٍ ، وَلاَ تَغَرْ مِنَ الَّذِي يَنْجَحُ فِي مَسْعَاهُ ، بِفَضْلِ مَكَائِدِهِ . 8 كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ ، وَانْبُذِ السَّخَطَ ، وَلاَ تَتَهَوَّرْ لِئَلاَّ تَفْعَلَ الشَّرَّ . 9 لأَنَّ فَاعِلِي الشَّرِّ يُسْتَأْصَلُونَ . أَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأَرْضِ . 10 فَعَمَّا قَلِيلٍ ( يَنْقَرِضُ ) الشِّرِّيرُ ، إِذْ تَطْلُبُهُ وَلاَ تَجِدُهُ . 11 أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأَرْضِ وَيَتَمَتَّعُونَ بِفَيْضِ السَّلاَمِ … . 16 الْخَيْرُ الْقَلِيلُ الَّذِي يَمْلِكُهُ الصِّدِّيقُ أَفْضَلُ مِنْ ثَرْوَةِ أَشْرَارٍ كَثِيرِينَ ، 17 لأَنَّ سَوَاعِدَ الأَشْرَارِ سَتُكْسَرُ ، أَمَّا الأَبْرَارُ فَالرَّبُّ يَسْنِدُهُمْ . 18 الرَّبُّ عَلِيمٌ بِأَيَّامِ الْكَامِلِينَ ، وَمِيرَاثُهُمْ يَدُومُ إِلَى الأَبَدِ … . 27 حِدْ عَنِ الشَّرِّ وَاصْنَعِ الْخَيْرَ ، فَتَسْكُنَ مُطْمَئِنّاً إِلَى الأَبَدِ . 28 لأَنَّ الرَّبَّ يُحِبُّ الْعَدْلَ ، وَلاَ يَتَخَلَّى عَنْ أَتْقِيَائِهِ ، بَلْ يَحْفَظُهُمْ إِلَى الأَبَدِ . أَمَّا ذُرِّيَّةُ الأَشْرَارِ فَتَفْنَى . 29 الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ خَيْرَاتِ الأَرْضِ وَيَسْكُنُونَ فِيهَا إِلَى الأَبَدِ . 30 فَمُ الصِّدِّيقِ يَنْطِقُ دَائِماً بِالْحِكْمَةِ ، وَيَتَفَوَّهُ بِكَلاَمِ الْحَقِّ . 31 شَرِيعَةُ إِلَهِهِ ثَابِتَةٌ فِي قَلْبِهِ ، فَلاَ تَتَقَلْقَلُ خَطَوَاتُهُ . 32 يَتَرَبَّصُ الشِّرِّيرُ بِالصِّدِّيقِ وَيَسْعَى إِلَى قَتْلِهِ . 33 لَكِنَّ الرَّبَّ لاَ يَدَعُهُ يَقَعُ فِي قَبْضَتِهِ ، وَلاَ يَدِينُهُ عِنْدَ مُحَاكَمَتِهِ . 34 انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاسْلُكْ دَائِماً فِي طَرِيقِهِ ، فَيَرْفَعَكَ لِتَمْتَلِكَ الأَرْضَ ، وَتَشْهَدَ انْقِرَاضَ الأَشْرَارِ . 35 قَدْ رَأَيْتُ الشِّرِّيرَ مُزْدَهِراً وَارِفاً كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ الْمُتَأَصِّلَةِ فِي تُرْبَةِ مَوْطِنِهَا . 36 ثُمَّ عَبَرَ وَمَضَى ، لَمْ يُوجَدْ . فَتَّشْتُ عَنْهُ فَلَمْ أَعْثُرْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ . 37 لاَحِظِ الْكَامِلَ وَانْظُرِ الْمُسْتَقِيمَ ، فَإِنَّ نِهَايَةَ ذَلِكَ الإِنْسَانِ تَكُونُ سَلاَما . 38 أَمَّا الْعُصَاةُ فَيُبَادُونَ جَمِيعا . وَنِهَايَةُ الأَشْرَارِ انْدِثَارُهُمْ . 39 لَكِنَّ خَلاَصَ الأَبْرَارِ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ ، فَهُوَ حِصْنُهُمْ فِي زَمَانِ الضِّيقِ . 40 يُعِينُهُمُ الرَّبُّ حَقّاً ، وَيُنْقِذُهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ ، وَيُخَلِّصُهُمْ لأَنَّهُمُ احْتَمَوْا بِهِ .
اختلاف المسلمين عن اليهود والنصارى في هوية القائد الإلهي الموعود وكتابه :
ويختلف المسلمون مع اليهود والنصارى في تعيين هويّة الشخص الذي يجري الله تعالى على يده هذا الحدث العظيم المرتقَّب ، وفي الاُمّة التي ينطلق منها ذلك القائد الإلهي الكبير ، وفي الشريعة الإلهيّة التي يعمل بها ويطبّقها .
فيعتقد المسلمون جميعاً : بأنّه من ذرّية إسماعيل (عليه السّلام) ، من ذرّية محمّد (صلّى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء ، من فاطمة بنت النبي (صلّى الله عليه وآله) . وإنّ اُمّة هذا القائد هي اُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وإنّ شريعته هي شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
روى أبو داود ، وابن ماجة ، وابن حنبل ، والطبراني ، والحاكم في المستدرك ، وغيرهم ، قولَ النبي (صلّى الله عليه وآله) : ( لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدَهْرِ ( الدنيا ) إلاّ يَوْمٌ وَاحِدٌ ، لَبَعَثَ اللهُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَؤُهَا ( الأرض ) عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْرَاً ) .
وقوله (صلّى الله عليه وآله) أيضاً : ( المَهْدِي مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وُلْدِ فَاطِمَة ) .
ويعتقد اليهود والنصارى : أنّه مِن ذرّية إسحاق (عليه السّلام) ، من ذرّية يعقوب (عليه السّلام) ، ومن ذرّية داود (عليه السّلام) .
ويقول النصارى : بأنّ هذا القائد الإسرائيلي هو المسيح عيسى بن مريم (عليه السّلام) ، وأنّه قُتل على يد اليهود , ثمّ أحياه الله تعالى وأقامه من الأموات , ورفعه إلى السماء ، وأنّه سينزله في في آخر الدنيا ليحقّق به وعده .
أمّا اليهود فيقولون : إنّه لم يولد بعد .
قال المفسّر اليهودي حنان ايل في تعليقته على الفقرة (20) من الإصحاح (17) من سفر التكوين التي تشير إلى وعد الله تعالى في إسماعيل (عليه السّلام) ، وهي : ( أمّا إسماعيل فقد سمعتُ قولك فيه ، ها أنا ذا أباركه وأنميه وأكثره جدّاً جدّاً ، ويلد اثني عشر رئيساً وأجعله اُمّة عظيمة ) .
( نلاحظ من هذه النبوءة في هذه الآية أنّ 2337 سنة مضتْ قبل أنْ يصبح العرب ـ سلالة إسماعيل ـ اُمّة عظيمة ( بظهور الإسلام سنة 624م ) ، في هذه الفترة انتظر إسماعيل بشوق حتى تحقّق الوعد الإلهي أخيراً وسيطر العرب على العالم . أمّا نحن ذرّية إسحق فقد تأخّر تحقّق الوعد الذي أُعطي لنا ؛ بسبب ذنوبنا . من المؤكّد أنّ هذا الوعد الإلهي سيتحقّق فيما بعد ، فلا نيأس )(5) .
وفي سفر أشعيا 11 ـ 1 :
وَيُفْرِخُ بُرْعُمٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى ، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ جُذُورِهِ . 2 : وَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفِطْنَةِ ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ ، رُوحُ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ وَمَخَافَتِهِ . 3 وَتَكُونُ مَسَرَّتُهُ فِي تَقْوى الرَّبِّ ، وَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ مَا تَشْهَدُ عَيْنَاهُ ، وَلاَ يَحْكُمُ بِمُقْتَضَى مَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ ، 4 إِنَّمَا يَقْضِي بِعَدْلٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَيَحَكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ ، وَيُعَاقِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ ؛ 5 لأَنَّهُ سَيَرْتَدِي الْبِرَّ وَيَتَمَنْطَقُ بِالأَمَانَةِ . 6 فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْحَمَلِ ، وَيَرْبِضُ النِّمْرُ إِلَى جِوَارِ الْجَدْيِ ، وَيَتَآلَفُ الْعِجْلُ وَالأَسَدُ وَكُلُّ حَيَوَانٍ مَعْلُوفٍ مَعاً ، وَيَسُوقُهَا جَمِيعاً صَبِيٌّ صَغِيرٌ . 7 تَرْعَى الْبَقَرَةُ وَالدُّبُّ مَعاً ، وَيَرْبِضُ أَوْلاَدُهُمَا مُتجَاوِرِينَ ، وَيَأْكُلُ الأَسَدُ التِّبْنَ كَالثَّوْرِ ، 8 وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ فِي ( أَمَانٍ ) عِنْدَ جُحْرِ الصِّلِّ ، وَيَمُدُّ الفَطِيمُ يَدَهُ إِلَى وَكْرِ الأَفْعَى ( فَلاَ يُصِيبُهُ سُوءٌ ) . 9 لاَ يُؤْذُونَ وَلاَ يُسِيئُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي ؛ لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِيءُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تَغْمُرُ الْمِيَاهُ الْبَحْرَ . 10 : فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَنْتَصِبُ أَصْلُ يَسَّى رَايَةً لِلأُمَم ِ ، وَإِلَيْهِ تَسْعَى ( وإيّاهُ تَنْظُرُ ) جَمِيعُ الشُّعُوبِ ( Gentiles ) ، وَيَكُونُ مَسْكَنُهُ مَجِيداً .
والقول الفصل فيما اختلف فيه المسلمون عن النصارى واليهود بشأن القائد الموعود ،
وهل هو من ذرّية إسحاق أو ذرّية إسماعيل (عليهما السّلام) ، يكون من خلال التحقيق في :
1 ـ مسألة مَن هو النبي الذي ينتظره الأُمّيّون , هل هو عيسى (عليه السّلام) أَمْ محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؟
2 ـ ومسألة مَن هو الوارث الأبدي لإمامة إبراهيم (عليه السّلام) , هل هو إسماعيل والأصفياء من ذرّيته أَمْ إسحاق والأصفياء من ذرّيته (عليهم السّلام) ؟
3 ـ وكذلك مَن هو القائد الإلهي الذي سيتعرّض لمحنة الذبح بلا ذنب ، ويكون قتله سبباً لهداية كثيرين ، كما يكون قتله سبباً لحفظ الدين ونشره ، كما يكون من ذرّيته نسلٌ تطول أيّامه ، يتحقّق على يده الغد المشرق في تاريخ البشرية ؟
والمسألتان الأوليان : بحثهما علماء المسلمين ، وأدركهما الكثير من علماء اليهود والنصارى ، وأعلنوا اتّباعهم للنبيّ وأهل بيته (عليهم السّلام)(6) .
أمّا المسألة الثالثة : فقد قامتْ المسيحيّة البولسية على تفسير النصوص التي تتحدّث عن رجل الآلام والمحن المذبوح كما يُذبح الكبش أنّه عيسى بن مريم ، إلاّ أنّ النص يأبى الانطباق عليه ؛ لأنّ عيسى (عليه السّلام) لم يكن له نسل ، سواء طالتْ أيّامه أو قصرتْ ، وهي مسألة جديدة وفّقنا الله تعالى لإثارتها ، وقد هيئنا نصوصها كاملة ، نرجو أنْ تَرَ النور قريباً .
أمّا لفظة ( يَسَّى ) التي تشير إلى والد داود في النص الآنف الذكر ، فإنّه بعد استقرار المسائل الثلاث الآنفة الذكر ، يصبح من السهل اكتشاف تحريفها ، وكونها في الأصل تشير إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) وولده المهدي .
اختلاف الشيعة عن السُّنّة في قضيّة القائد الموعود :
يعتقد الشيعة : أنّ هذا القائد الموعود هو محمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام) الذي وُلِدَ سنة 256 هجرية ، وقد نصّ أبوه الحسن العسكري على إمامته ، ثمّ غاب المهدي (عليه السّلام) بإذن الله تعالى غيبَتَين : صغرى وكبرى ، نظير غيبَتَي عيسى (عليه السّلام) .
الأُولى : وهي الغيبة الصغرى ، كانت حين أنجاه الله تعالى من مكر السلطة العبّاسية ، فكان يعيش حالة الاختفاء منذ ولادته ، حيث أخفاه أبوه (عليه السّلام) . وبعد وفاة أبيه (عليه السّلام) سنة 261 هـ صار يوجّه شيعة أبيه بواسطة وكلائه النوّاب الأربعة الذين استمرّت نيابتهم تسعاً وستين سنة تقريباً (261 ـ 329) .
الثانية : وهي الغيبة الكبرى التي بدأتْ بعد موت النائب الرابع علي بن محمّد السَمَري ، وقد أخبر الشيعة عند موته بعدم وجود نائب خاص بعده حتّى يظهر الله تعالى ولِيّه في آخر الزمان .
ويرى أهل السُنّة : أنّ المهدي (عليه السّلام) لم يولَد بعد ، بل يولَد في آخر الزمان .
والقول الفصل فيما اختلف فيه الشيعة عن السُّنّة بشأن القائد الموعود ، وهل وُلِدَ حقّاً ، وأنّه ابن الحسن العسكري (عليه السّلام) , أو هو سوف يُولد في المستقبل ؟ يكون من خلال التحقيق في مسألة وجود أوصياء معصومين للنبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّ شيعة هؤلاء الأوصياء مصدَّقون في النقل عن أئمّتهم , شأنهم في ذلك شأن أتباع المذاهب الاُخرى حينما ينقلون عن أئمّتهم مسائل الفقه ومسائل التاريخ الخاصة بهم .
وقد أجمع جمهور الشيعة منذ أقدم عصورهم على أنّ أئمّتهم (عليهم السّلام) قد نصّ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) عليهم ، وبَيَّنَ عددهم ، وأنّ الأئمّة (عليهم السّلام) قد نصّ السابق منهم على اللاحق ، وأنّ الحسن العسكري (عليه السّلام) أخبر أنّه له ولد ، وأنّه وصيّه ، وأنّه المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) .
وقد استدلّ الشيعة على مسألة النص من النبي (صلّى الله عليه وآله) على الإمامة الإلهيّة لأهل بيته (عليهم السّلام) بحديث الثقلين ، وحديث السفينة ، واستدلّوا على عددهم بحديث الاثني عشر ، واستدلوا على أنّ أوّل الأئمّة الإلهيّين هو علي (عليه السّلام) ثمّ الحسن (عليه السّلام) ثمّ الحسين (عليه السّلام) بحديث الغدير ، وحديث المنزلة ، وحديث الكساء ، وحديث الحسن والحسين سبطان من الأسباط ، وكلها مرويّة في الأحاديث السنّية المعتبرة .
أمّا إمامة التسعة من ذرّية الحسين (عليه السّلام) فقد استدلّوا عليها بأحاديث الوصيّة في كتب الشيعة المعتبرة ، كقول الإمام الباقر (عليه السّلام) : ( يَكُوْنُ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ الحُسَيْنِ بْن عَلِيّ ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ ) . رواه الكليني .
وقول الإمام الصادق (عليه السّلام) : ( أَتَرَوْنَ أَنَّ المُوْصِيْ مِنَّا يُوْصِيْ إِلَى مَنْ يُرِيْدُ ؟! لاَ وَاللهِ ، وَلَكِنَّهُ عَهْدٌ مَعْهُوْدٌ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) إِلَى رَجُلٍ فَرَجُل حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَفْسِهِ ) .
وفي لفظ آخر : ( إِلَى أنْ يَنْتَهِي إِلَى صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ )(7) .
وبالواقع التاريخي الذي تميّزت به سيرة هؤلاء التسعة من وراثة الجامعة والجفر التي كتبها عليٌّ (عليه السّلام) عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في لقاءاتهما الخاصّة ، وما جرى على يدهم من الإخبار بالمغيّبات والكرامات التي لا يجريها الله تعالى إلاّ على يد أصفيائه المؤيّدين بتأييد خاصّ منه .
وقد حاول الإخوة من أهل السُنّة ردّ فكرة النص من النبي (صلّى الله عليه وآله) على الأئمّة (عليهم السّلام) وعلى أوّلهم علي (عليه السّلام) ؛ بمنع دلالة أو تضعيف أسانيد النصوص النبوية التي يستشهد بها الشيعة على دعواهم ، وقد قابلهم علماء الشيعة بمناقشة ردودهم وبيان خطئها .
وقد حاول البعض من فِرق الشيعة ـ وبخاصّة الزيدية ـ ردّ فكرة الاثني عشرية ، وقابلهم علماء الشيعة بالردّ عليهم . وحاول بعض المعاصرين من الكُتّاب ردّ فكرة ولادة المهدي (عليه السّلام) ؛ بدعوى أنّ القائلين بذلك هم واحد من اثني عشرة فرقة انقسمت إليها شيعة الحسن العسكري (عليه السّلام) ، استناداً إلى كتابَي فِرق الشيعة : للنوبختي ، والمقالات والفِرَق للأشعري الشيعي ، وقد أجبنا عن ذلك مفصّلاً في كتابنا حول إمامة أهل البيت ووجود المهدي (عليه السّلام) .
الغيبة لا تعني تعطيل العمل بالأحكام الإسلاميّة :
لم تكن الغيبة لتعني تعطيل العمل بأحكام الإسلام ، كيف يكون ذلك وأصل مسألة وجود أوصياء للنبي إنّما هي الحفاظ على الإسلام ؛ ليبقى سليماً ميسّراً لِمَن أراد العمل به . وقد أدّى الأئمّة (عليهم السّلام) وظيفتهم هذه على أتمّ وجه ؛ حيث ربّوا حملة أُمناء لعلومهم ، ولم يكن تسلّم الحكم في المجتمع الإسلامي ككلّ ، مِن قِبلهم ، إلاّ بعض شؤونهم ، ولم يتوفّر الشرط الأساس لنهوض أغلبهم فيه ، وهو شرط وجود الناصر الكفوء وانقياده لهم كما أشار أمير المؤمنين (عليه السّلام) : ( أَمَا وَالّذِي فَلَقَ الحَبّةَ وَبَرَأَ النَسمَةَ ، لَوْلاَ حُضُوْرُ الحَاضِرِ وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُوْدِ النَاصِرِ ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ) .
إنّ الغيبة كانت مكراً إلهيّاً في قِبال مكر العبّاسيِّين ، أرادوا قَتْل الإمام وأراد اللهُ تعالى حفظه وادّخاره لليوم الموعود . ومن جانب آخر فإنّ مِن أبرز حِكَم الغيبة وأسرارها الواضحة على صعيد الأمّة الخاصّة ـ شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) ـ هي إتاحة الفرصة لحَمَلَةِ تُراث الأئمّة أنْ يمارس مسؤوليّاتها الفكرية والعلمية والسياسية ككل ، على أساس فهمهم البشري غير المعصوم للقرآن والتراث الفكري الذي خلّفتْه التجربة المعصومة للنبيّ والأئمّة (عليهم السّلام) . وتأتي فكرة عودة المعصوم الغائب في آخر الدنيا , وظهوره مرّة ثانية على المسرح الاجتماعي والسياسي ؛ لتقييم التجارب السابقة للمسيرة غير المعصومة ، والكشف عن مستوى تمثيلها وصدق تعبيرها وأمانتها من ناحية ، ومن ناحية اُخرى لتحقيق الوعد الإلهي الآنف الذكر .
إنّ مفهوم انتظار الفرج يرتبط بالمهدي محمّد بن الحسن العسكري (عليه السّلام) الذي عاش مشرّداً مختفياً ، ولا زالتْ هذه الحالة ترافق وجوده الشريف ـ اللهمَّ عجّل فرج وليّك الحجّة بن الحسن (عليه السّلام) ـ , وليس له ربط بالاُمّة إلاّ من ناحية كونه قائدها المعصوم المُعدّ لأداء وظيفة إلهيّة خاصّة ، قدّر الله لها أنْ تكون خاتمة المسيرة على الأرض كلّها ، وأنْ يُعِيْنَه فيها النبيّ عيسى (عليه السّلام) . ويتّضح من ذلك سرّ انحصار هذا المفهوم ضمن الدائرة الشيعية ؛ إذ إنّ الدائرة السُّنيّة لا تؤمن بمهدي مولود, غائب مشرّد , خائف طريد .
علامات الظهور :
الأخبار التي تتحدّث عن علامات ظهور المهدي (عليه السّلام) سواء في الكتب الشيعية أو في الكتب السنّية تستهدف غالباً تشخيص زمن الظهور ، ويوجد اتّجاهان في دراستها :
الأوّل : يدرسها على أنّها تخبر بحوادث مستقلّة عن بعضها البعض .
الثاني : يدرسها على أنّها تُخبر عن وضع اجتماعي وسياسي وتكنولوجي يعيشه العالم قبيل الظهور . وبعبارة اُخرى : ترسم لنا حالة العالم السياسية والاجتماعية والتكنولوجية قبيل الظهور .
وفي ظلّ الاتجاه الثاني يتّضح لأيّ باحث في علامات الظهور أنّ العالم اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى عهد الظهور .
فمن الناحية التكنولوجية تتحدّث الأخبار عن عالم فيه طائرات تنقل المسافرين من بلد إلى بلد ، وإذاعات بعدد شعوب العالم تستطيع بث الخبر الواحد في آنٍ واحد للعالم أجمع ، وتلفون متلفز يسمع مَن في المشرق أخاه الذي في المغرب ويرى صورتَه ، وكومبيوترات يدوية تحتوي على برامج متنوّعة تغني حاملها عن اصطحاب آلاف الكتب .
ومن الناحية الاجتماعية تتحدّث عن وضع اجتماعي للنساء تظهر فيه كاسيات عاريات ، وهو كناية عن التبرّج والسفور ، وظهور أنواع من المنكرات ممّا لا يتصوّره الإنسان قبل حدوثه .
ومن الناحية السياسية تتحدّث عن كشف عن هيكل سليمان الذي يستلزم قيام دولة إسرائيل في قلب العالم العربي والإسلامي ، ووجود حركات إسلاميّة في المجتمعات الإسلاميّة تسعى لإقامة الحكم الإسلامي ، يسجن الكثير من أفرادها ، وقيام دولة توطّئ للمهدي (عليه السّلام) في المشرق ، واختلاف العاملين الشيعة في وعدم اجتماع كلمتهم ، وتجتمع كلمتهم بييعتهم للمهدي (عليه السّلام) ، وظهور دعوات مهدوية كاذبة ، وغير ذلك ، وكلّ ذلك ممّا جاء ذكره في أحاديث علامات الظهور .
.ــــــــــــــــــــــ
(1) هناك نوعان من الحتميّة :
1 ـ الحتميّة في الطبيعة : ويراد بها القول بوجود علاقات ضرورية ثابتة في الطبيعة ، توجب أنْ تكون كلّ ظاهرة من ظواهرها مشروطة بما يتقدّمها أو يصحبها من الظواهر الاُخرى . ومعنى ذلك أنّ القول بالحتميّة ضروريّ لتعميم نتائج الاستقراء العلمي ، فلولا اعتقادنا أنّ ظواهر الطبيعة تجري وِفق نظامٍ كلّيٍّ دائم لَمَا استطعنا أنْ نعمّم نتائج الاستقراء .
2 ـ الحتميّة التاريخيّة : ونريد بها الوقوع الضروري للحدث التاريخي ، أو الاتّجاه التاريخي ، بمعنى أنّهما لو توفّرت الشروط التي توجب حدوثهما لحدثا اضطراراً . ( المعجم الفلسفي ، مصطلح الحتميّة ) .
ويوجد في الفكر البشري موقفان من الحتميّة التاريخيّة :
الأوّل : موقف ينادي بالحتميّة التاريخيّة ، ويدعو إلى استخلاص الأحكام الكلّية التي تمكنّ من التنبّؤ بما سيحدث في المستقبل ( انظر في فلسفة التاريخ ، محمود صبحي : 36 ) .
الثاني : موقف يُنْكِر الحتميّة التاريخيّة ويرفضها ، مدّعياً عدم إمكانية استخلاص قوانين كلّية للتاريخ ، ومِن ثَمّ التنبّؤ بالحوادث التاريخيّة أو الاتّجاه التاريخي على أساسها ( المادّيّة التاريخيّة ) .
(2) إنّ انتماء ماركس إلى اليهوديّة قبل إلحاده يفرض علينا أنْ نفسّر إدراكه لحتميّة بلوغ المجتمع البشري مرحلة تصفّى فيها كلّ التناقضات الاجتماعية ، ويسود فيها الوئام والسلام ، وكان بتأثير التراث الديني الذي دان به لفترة غير قليلة من حياته .
(3) في إنجيل يوحنّا 14 : 6 فلمّا رأى الناس الآية التي أتى بها يسوع ، قالوا : حقّاً هذا هو النبي الآتي إلى العالم . وبهامش طبعة دار المشرق يعلّق المحقّق على هذا النص قائلاً : كان انتظار نبي للأزمنة الأخيرة منتشراً في بيئات مختلفة .
(4) الأنبياء : الآية : 105 ـ 106 .
(5)The stone edtion , The chumash , by R . Nosson scherman, R . meir ziotowitz , Third edtion first impression 1994 . p . 76 : ( حنان ايل ) ( Chananel ) صاحب النص الآنف الذِكْر هو رأس علماء اليهود في القيروان تـ (1055م) (447ه) مؤلّف أشهر تفسير للتلمود وتفسير للأسفار الخمسة الأولى من التوراة ، وقد استشهد بآرائه المفسّرون من بعده ، منهم المفسّر ( بكيا ) ( Bachya ) ( 1263-1340م ) (662 ـ 741م) ، وقد احتوى تفسيره على أربعة مناهج من التفسير ، وهي : المنهج الظاهري ، والمنهج المدراشي ، والمنهج الفلسفي ، والمنهج الصوفي ، واحتوى تفسيره على آراء كنعان ايل .
(6) قال ابن تيمية (661 ـ 729ه) في قوله : ( وغلط كثير ممّن تشرّف بالإسلام من اليهود ، فظنّوا أنّهم ( أي الاثني عشر رئيساً ) الذين تدعوا إليهم فرقةُ الرافضة فاتبعوهم ) . البداية والنهاية : لابن كثير : ط1 ، ج6 ، 250 .
(7) الكافي : ج 1 ، ص 277 ، الروايات 1 ـ 4 . وأيضاً بصائر الدرجات : للصفّار : ص470 ، الروايات 1 ـ 10 ، 12 .
(8) انظر : شبهات وردود : للمؤلّف : الطبعة الثالثة ، ص 23 ـ 24 ) .