المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة واقعة الطف مكتوبه للسيد محمد كاظم القزويني


لبيك
15-11-2012, 03:06 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى : ( ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب )

صدق الله العلي العظيم

فاجعة الطف

واقعة الطف

يوم عاشوراء

مسميات كثيرة لهذه الفاجعة واليوم اتيت لكم بكتاب فاجعة الطف للسيد محمد كاظم القزويني

طبعا يمكن ما يكون فيه تفاصيل في الكتاب ولكن هذا ما ذكره السيد

المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم

عظّم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بسيدنا الحسين (عليه السلام)، وجعلنا الله من الطالبين بثأره مع ولده الإمام المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه.
إن هذا اليوم أعظم يوم في الإسلام، وأكبر يوم تاريخي في العالم، لقد وقعت في مثل هذا اليوم الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولا نظيراً واقعة دامية، وكارثة مؤلمة حلّت بالإسلام والمسلمين، فأبكت العيون على مرِّ القرون والدهور، وأحرقت القلوب بنار الأسى والحزن.
فهذا اليوم تتجدّد فيه أحزان أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأحزان كلّ من يحمل لهم الولاء والمودّة.
والعجب كلّ العجب من بعض المسلمين الذين يجعلون هذا اليوم يوم عيد وسرور، وهم في غفلة عمّا حدث في هذا اليوم وما نزل بسيّد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله وريحانته الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) من المصائب والنوائب التي أشفقن منها الجبال وأبين أن يحملنها، وهذه الفجائع نزلت بآل رسول الله الطيّبين على يد بني أميّة وأتباعهم.
فقد مات معاوية بن أبي سفيان في النصف من رجب سنة 59 أو 60 من الهجرة، واستولى ابنه يزيد على مسند الخلافة، وادّعى أنه خليفة رسول الله والقائم مقامه؛ مع العلم أنه لم تكن في (يزيد) مؤهّلات الخلافة، من نسبه المهتوك وحسبه الدنيء، وموبقاته التي كان يرتكبها من الخمور والفجور واللعب بالكلاب والقردة، والاستهتار بجميع معنى الكلمة.
فاستنكف المسلمون أن يدخلوا تحت طاعة رجل لا يؤمن بالله ولا بالرسول، ويحمل عقيدة الإلحاد والزندقة كما صرّح بذلك يوم قال:

لَعِبتْ هاشمُ بالملك فلا *** خَبَر جاء ولا وحي نزلْ

خروج الامام الحسين (ع) من المدينة

كَتب يزيد كتاباً إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (وإلى المدينة) يُخبره بموت معاوية، ويأمره بأخذ البيعة من هل المدينة عامّة ومن الحسين بن علي خاصّة.
فأرسل الوليد إلى الإمام الحسين وقرأ عليه كتاب يزيد، فقال الحسين: أيها الوليد: إنّك تعلم انا أهلُ بيتٍ بنا فَتَح الله وبنا يَختم، ومِثْلي لا يبايع ليزيد شارب الخمور وراكب الفجور وقاتل النفس المحترمة.
وخرج الإمام الحسين من المدينة خائفاً يترقّب وقصد نحو مكّة؛ فجعل أهل العراق يكاتبونه ويراسلونه ويطلبون منه التوجّه إلى بلادهم ليبايعوه بالخلافة، لأنه أولى من غيره، فإنه ابن رسول الله وسبطه، والمنصوص عليه بالإمامة من جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لقوله: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
أي سواء قاما بأعباء الخلافة أو غُصبتْ عنهما.
إلى أن اجتمع عند الحسين إثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق وكلّها مضمون واحد، كتبوا إليه: قد أينعتِ الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جندٍ لك مجنّدة، إن لك في الكوفة مائة ألف سيف، إذا لم تقدم إلينا فإنا نخاصمك غداً بين يدي الله.
فأرسل الحسين ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، فلمّا دخل مسلم الكوفة اجتمع الناس حوله وبايعوه لأنه سفير الحسين وممثّله فبايعه ثمانية عشر ألفاً أو أربعة وعشرون ألفاً.
وكتب مسلم إلى الحسين يخبره ببيعة الناس ويطلب منه التعجيل بالقدوم، فلما علم يزيد ذلك أرسل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فدخل ابن زياد الكوفة وأرسل إلى رؤساء العشائر والقبائل يُهدّدهم بجيش الشام ويطمعهم.
فجعلوا يتفرّقون عن مسلم شيئاً فشيئاً، إلى أن بقي مسلم وحيداً، فأضافته امرأة فطوّقوا الدار التي كان فيها، وخرج مسلم، واشتعلت نار الحرب، وقتل مسلم منهم مقتلة عظيمة، وألقي عليه القبض يوم عرفة وضربوا عنقه، وجعلوا يسحبونه في الأسواق والحبل في رجليه.

خروج الامام الحسين (ع) من مكة

وخرج الحسين من مكة نحو العراق يوم الثامن من ذي الحجة، ومنعه جماعة من التوجه نحو العراق وأحدهم عبد الله بن العباس (حَبْر الأمّة) فقال له الحسين: يابن عباس: إن رسول الله أمرني بأمرٍ أنا ماضٍ فيه.
فقال: بماذا أمرك جدّك؟
فقال الحسين: أتاني جدّي في المنام وقال: يا حسين أخرج إلى العراق فإن الله شاء أن يراك قتيلا.
فقال ابن عباس: إذن فما معنى حملُك هؤلاء النساء معك؟
فقال الحسين: هنّ ودائع رسول الله ولا آمنُ عليهنّ أحدا، وهنّ أيضاً لا يُفارقنني.
وخرج الحسين قاصداً الكوفة، وفي أثناء الطريق التقى به سريّة من الجيش تتكوّن من ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، وأرادوا إلقاء القبض على الحسين وإدخاله الكوفة على ابن زياد، إلا أن الحسين امتنع من الانقياد لهم، فتمّ القرار على أن يسلك الحسين طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى المدينة، فوصل إلى ارض كربلاء فنزل فيها.
وقام ابن زياد خطيباً في الكوفة وقال: من يأتيني برأس الحسين فله الجائزة العظمى، وأعطه ولاية ملك الرّي عشر سنوات. فقام عمر بن سعد بن أبي وقاص وقال: أنا.
فعقد له رايةً في أربعة آلاف رجل، وأصبح الصباح، وأولُ راية سارتْ نحو كربلاء راية عمر بن سعد، ولم تزل الرايات تترى حتى تكاملوا في اليوم التاسع من المحرم ثلاثين ألفاً أو خمسين ألفاً أو أكثر من ذلك.
وحالوا بين الحسين وأهل بيته وبين ماء الفرات من اليوم السابع من المحرم، ولما كان اليوم التاسع اشتدّ بهم العطش، واشتدّ الأمر بالمراضع والأطفال الرضّع.
قالت سكينة بنت الحسين: عزّ ماؤنا ليلة التاسع من المحرّم فجفّت الأواني ويبست الشفاه حتى صرنا نتوقّع الجرعة من الماء فلم نجدها، فقلت في نفسي أمضي إلى عمّتي زينب لعلّها ادّخرت لنا شيئاً من الماء، فمضيتُ إلى خيمتها فرأيتها جالسة وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع وهو يلوك بلسانه من شدّة العطش وهي تارة تقوم وتارة تقعد، فخفقتني العبرة فلزمتُ السكوت، فقالت عمتي: ما يُبكيك؟ قالت: حال أخي الرضيع أبكاني، ثم قلت: عمتاه قومي لنمضي إلى خيم عمومتي لعلّهم ادّخروا شيئاً من الماء، فمضينا واخترقنا الخيم بأجمعها فلم نجد عندهم شيئاً من الماء، فرجعت عمّتي إلى خيمتها فتبعتها وتبعنا من نحو عشرين صبياً وصبيّة، وهم يطلبون منها الماء وينادون: العطش... العطش.
وآخر راية وصلت إلى كربلاء راية شمر بن ذي الجوشن في ستة آلاف مساء يوم التاسع، ومعه كتاب من ابن زياد إلى ابن سعد، فيه: فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، فإن قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره... إلى آخره.
فزحف الجيش نحو خيام الحسين عند المساء بعد العصر، واقترب نحو خيم الحسين، والحسين جالس أمام خيمته، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين الصيحة فدنت من أخيها وقالت: يا أخي أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟
فرفع الحسين رأسه وقال: أخيّة: أتى رسول الله الساعة في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا.
فلطمتْ أخته وجهها وصاحت: واويلاه، فقال لها الحسين: ليس الويل لك يا أخيّة، ولا تُشمتي القوم بنا، اسكتي رحمك الله. فقال له العباس بن عليّ: يا أخي قد أتاك القوم فانهض.
فنهض ثم قال: يا عباس اركب - بنفسي أنت - يا أخي حتى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم وما بدا لكم؟ وما تريدون؟
فأتاهم العباس في نحو عشرين فارساً، فقال لهم العباس: ما بدا لكم وما تريدون؟
قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.
فرجع العباس إلى الحسين وأخبره بمقال القوم، فقال الحسين: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد، وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه.
فمضى العباس إلى القوم وسألهم ذلك، فأبوا أن يمهلوهم، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدي: ويلكم والله لو أنهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمد؟!
وبات الإمام الحسين وأصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء، ولهم دويٌّ كدويّ النحل، ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد.
خطاب الإمام الحسين (ع) في الأصحاب
وجمعهم الحسين وقام فيهم خطيباً وقال: أما بعد:
فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، فلقد بررتم وعاونتم، ألا: وإني لا أظن يوماً لنا من هؤلاء الأعداء إلا غداً، ألا: وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي ليس عليكم مني حرج ولا ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيري.
فقال له اخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر:و لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، وتكلّم اخوته وجميع أهل بيته فقالوا: يابن رسول الله: فما يقول لنا الناس وماذا نقول لهم؟ نقول: إنا تركنا شيخنا وكبيرنا وابن بنت نبيّنا لم نرم معه بسهم، ولم نطعن معه برمح، ولم نضرب معه بسيف لا والله يابن رسول الله لا نفارقك أبداً، ولكن نقيك بأنفسنا حتى نقتل بين يديك ونرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.
ثم قام مسلم بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك وقد أحاط بك هذا العدو؟! لا والله لا يراني الله وأنا أفعل ذلك حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولا أفارقك حتى أموت معك.
وقام سعد بن عبد الله الحنفي فقال: لا والله يابن رسول الله لا نخلّيك أبداً حتى يعلم الله أنا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمد، ولو علمت أني أقتل فيك ثم أحيى، ثم أحرق احياً، ثم أذرى ويفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟
ثم قام زهير بن القين فقال: والله يابن رسول الله لوددت أني قتلت ثمّ نشرت ألف مرة وإن الله قد دفع القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من اخوتك وولدك وأهل بيتك.
وقام الأصحاب وتكلّموا بما تكلّموا، فلما رأى الحسين ذلك منهم قال لهم: إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى منازلكم.
فكشف لهم الغطاء -بإذن الله- ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم، فقال لهم الحسين: يا قوم إني غداً أقتل وتقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد.
فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك، أو لا ترضى أن نكون في درجتك يابن رسول الله؟
فقال: جزاكم الله خيراً.
فقال له القاسم بن الإمام الحسن المجتبى: وأنا في يمن يُقتل؟ فاشفق عليه الحسين وقال: يا بني كيف الموت عندك؟
قال: يا عمّ فيك أحلى من العسل.
فقال الحسين: إي والله -فداك عمّك- إنك لأحدُ من يقتل من الرجال معي، بعد أن تبلوا بلاءً حسناً، ويقتل ابني عبد الله.
فقال: يا عمّ ويصلون إلى النساء حتى يقتل وهو رضيع؟
فقال الحسين: أحمله لأدنيه من فمي فيرميه فاسق فينحره.
ثم قال الحسين: ألا ومن كان في رَحْلهِ امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد.
فقام علي بن مظاهر وقال: لماذا يا سيدي؟
فقال: إنّ نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم من السبي، فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته واستقبلته وتبسّمت في وجهه، فقال لها: دَعيني والتبسّم فقالت: يابن مظاهر إني سمعتُ غريب فاطمة طب فيكم خطبة وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة فما علمتُ ما يقول؟
قال: يا هذه إن الحسين قال لنا: ألا ومن كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني أسد، لأني غداً اقتل ونسائي تسبى.
فقالت: وما أنت صانع؟
قال: قومي حتى ألحقك ببني عمّك. فقامت ونطحت رأسها بعمود الخيمة وقالت: والله ما أنصفتني يابن مظاهر أيسرّك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي؟ أيسرّك أن يبيّض وجهك عند رسول الله ويسوّد وجهي عند فاطمة الزهراء؟ والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء. فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين وهو يبكي فقال الحسين: ما يبكيك؟ قال: يا سيدي أبتِ الأسدية إلا مواساتكم، فبكى الحسين وقال: جُزيتم منّا خيراً.
يتبع .. يوم العاشر

فلمّا أصبح الصباح من يوم عاشوراء نادى الحسين أصحابه وامرهم بالصلاة، فتيمّموا بدلاً عن الوضوء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح ثم قال: (اللهم أنت ثقتي في كلّ كربٍ وأنت رجائي في كل شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من كربٍ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمّن سواك، ففرّجته عنّي، وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة؛ وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة).

ثم نظر إلى أصحابه وقال: (إن الله قد أذن في قتلكم وقتلي؛ وكلّكم تقتلون في هذا اليوم إلا ولدي علي بن الحسين (أي زين العابدين) فاتقوا الله واصبروا).

وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وخرج بالناس، وجع على ميمنة العسكر عمرو بن الحجاج الزبيدي؛ وعلى المسيرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، وأعطى الراية دُريداً غلامه.

ودعى الحسين بفرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المترجزْ، وعبّأ أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، وقيل: أكثر من ذلك، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في المسيرة، وأعطى رايته أخاه العباس، وجعلوا البيوت والخيم في ظهورهم؛ وأمر بحطب وقصب أن يترك في خندق عملوه في ساعة من الليل، وأشعلوا فيه النار مخافة أن يأتيهم العدو من ورائهم، وجعلوا جبهة القتال جهةً واحدة، فغضب الأعداء بأجمعهم، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين أتعجّلت النار قبل يوم القيامة؟

فقال الحسين: من هذا، كأنه شمر؟
فقالوا: نعم.
فقال: يابن راعية المعزى أنت أولى بها صليّا. وأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين، وقال: أكره أن أبدأهم بالقتال.

ثم تقدّم الحسين نحو القوم في نفر من أصحابه وبين يديه برير بن خضير الهمداني، فقال له الحسين: كلّم القوم. فتقدّم برير وقال: يا قوم اتقوا الله فإن ثِقل محمد (صلّى الله عليه وآله) قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمهن فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه؟

فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيهم.
فقال برير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا اهل الكوفة أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟! ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيّكم وحلأتموهم عن ماء الفرات؟! بئس ما خلّفتم نبيكم في عترته، مالكم لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم.
فقال نفر منهم: ما ندري ما تقول.
فقال برير: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهم إني أبرءُ إليك من فعال القوم، اللهم ألق بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

خطاب الامام الحسين (ع) في القوم

فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع برير إلى ورائه، فتقدّم الحسين نحو القوم، ثم نادى بأعلى صوته: يا أهل العراق - وكلهم يسمعون - فقال: (أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك سعداء وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم ثم لا يكن أمركم عليكم غُمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.

ثم حمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلى على النبي وآله وعلى الملائكة والأنبياء، فلم يسمع متكلّم قط قبله ولا بعده أبلغ منه في المنطق.

ثم قال: أما بعد يا أهل الكوفة فانسبوني فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟
الستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول مصدّق لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربّه؟
أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟
أو ليس جعفر الطيّار في الجنة بجناحين عمّي؟
أو لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: (هذان سيدا شباب أهل الجنة).

فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدتُ كذبً منذ علمتُ أن الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي؛ وزيد بن أرقم؛ وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي... أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟ يا قوم فإن كنتم في شكٍ من ذلك، أفتشكّون أني ابن بنت نبيّكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطالبوني بقتيل منكم قتله أو مالٍ استملكته، أو بقصاص من جراح؟

فأخذوا لا يكلّمونه، ونادى بأعلى صوته فقال: أنشدكم الله هل تعرفونني؟
قالوا: نعم أنت ابن رسول الله وسبطه.
فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت رسول الله؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم هل تعلمون أن جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيّار في الجنّة عمّي؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله أنا متقلّده؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن علياً كان أول القوم إسلاماً وأعلمهم عِلماً وأعظمهم حلما، وانه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: فبم تستحلّون دمي وأبي الذائدُ عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواءُ الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!
قالوا: قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشانا).

فلما خطب بهذه الخطبة وسمعت بناته وأخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن خدودهن، وارتفعت أصواتهن، فوجّه إليهن أخاه العباس وابنه عليّاً، وقال لهما: أسكتاهنّ فلعمري ليكثرن بكاؤهن.

خطبة أخرى للامام الحسين

وذكر السيد ابن طاووس خطبةً أخرى للحسين قال: فركب الحسين ناقته، وقيل: فرسه، فاستنصتهم فأنصتوا، وفي رواية: فأبوا أن يُنصتوا حتى قال: ويلكم ما عليكم أن لا تنصتوا لي فتسمعوا قولي، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمعٍ قولي فقد مُلئتْ بطونكم من الحرام وطُبعَ على قلوبكم، ويلكم! ألا تنصفون؟ ألا تسمعون؟ ألا تنصتون؟ فتلاوم القوم وقالوا أنصتوا له فأنصتوا.

فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمد وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وابلغ في المقال ثم قال:
(تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحا حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم؛ فهلاّ لكم الويلات؟ تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن، والرأي لما يستحصف ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم إليها كتداعي الفراش، فسُحقا لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب؛ ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان ومطفئ السنن. أهؤلاء تعضدون؟ وعنّا تتخاذلون؟ أجل والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت إليه أصولكم، وتأرّزت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر شجا للناظر وأكلة للغاصب، إلا وإن الدعيّ بن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله، وحجور طابت وجدودٌ طهرت، وأنوفُ حميّة ونفوسٌ أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر، ثم قال:

فإن نهزم فهزّامون قدماً *** وإن نُغلبْ فغَير مُغَلّبينا

وما إن طبّنا جبنٌ ولكن *** منايانا ودولة آخرينا

إذا ما الموت رفّع عن أناس *** كلا كله أناخ بآخرينا

فأفنى ذلكم سرواة قومي *** كما أفنى القرون الأوّلينا

فلو خلد الملوك إذن خلدنا *** ولو بقي الكرام إذن بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا

ثم أيم الله لا تلبثون بعده إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدّي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون إني توكّلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم.

اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنّي يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كاساً مصبرة، فإنهم كذبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكّلنا واليك أنبنا واليك المصير).

يتبع.. استشهاد الأصحاب
وخطب فيهم خطبة أخرى، وأتمّ عليهم الحجّة فما أفاد فيهم الكلام ثم أناخ راحلته، ودعى بفرس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المرتجز فركبه، فعند ذلك تقدّم عمر بن سعد وقال: يا دريد أدن رايتك ثم أخذ سهماً ووضعه في كبد القوس وقال: اشهدوا لي عند الأمير فأنا أول من رمى الحسين، فاقبلت السهام من القوم كأنها شآبيب المطر، فقال الحسين لأصحابه: قوموا رحمكم الله فإن هذه السهام رسل القوم إليكم.

فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً وحملةً، فلما انجلت الغبرة وإذا بخمسين من أصحاب الحسين صرعى، فعند ذلك ضرب الحسين بيده على لحيته الكريمة وقال: (اشتدّ غضبُ الله على اليهود إذ جعلوا له ولدا، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم، أما والله لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتى ألقى الله وأن مخضّب بدمي).

ثم جعل أصحاب الحسين يبرزون واحداً بعد واحد، وكل من أراد منهم الخروج ودّع الحسين وقال السلام عليك يا أبا عبد الله. فيجيبه الحسين: وعليك السلام ونحن خلفك، ثم يتلو: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

ولا يبرز منهم رجلٌ حتى يقتل خلقاً كثيراً من أهل الكوفة، فضيّقوا المجال على الأعداء حتى قال رجل من أهل الكوفة يصفهم:
ثارت علينا عصابةُ أيديها على مقابض سيوفها، كالأسود الضارية تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها بين الورود على حياض المنية، والاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها).

ونعم ما قيل في حقّهم:

قومٌ إذا نودوا لدفع ملمّةٍ *** والخيل بين مدَعّسٍ ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا *** يتهافتون على ذهاب الأنفس

وأقبل الحرّ بن يزيد الرياحي إلى عمر بن سعد وقال: يا عمر أمقاتل أنت هذا الرجل؟
قال: إي والله قتالاً أيسرهُ أن تطير الرؤوس وتطيح الأيدي.
فقال الحر: أفمالكم فيما عرضه عليكم رضى؟
قال عمر: أما لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى.
فاقبل الحرّ حتى وقف موقفاً من الناس، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد أن تصنع؟ أتريد أن تحمل عليه؟

فلم يجيبه الحر، وأخذه مثل الإفكل وهي الرعدة، فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟!

فقال الحر: إني والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار؛ فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قُطّعتُ وحُرّقت.

ثم ضرب فرسه قاصداً نحو الحسين ويده على رأسه وهو يقول: اللهم إليك أنبتُ فتُبْ عليّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك، فلما دنى من الحسين قال له: من أنت؟ قال: جعلني الله فداك أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم ولا يبلغون بك هذه المنزلة، وأنا تائبٌ إلى الله ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟ قال: نعم يتوب الله عليك فانزل.
قال: أنا لك فارساً خير مني لك راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري، فقال له الحسين: فاصنع رحمك الله ما بدا لك.

فاستقدم أمام الحسين فقال: (يا أهل الكوفة لأّمكم الهُبل والعبر أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة، فصار كالأسير المرتهن لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته عن ماء الفرات الجاري الذي تشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ به خنازير السواد وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلّفتم محمداً في ذريّته، لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر).

فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين واستأذن قائلاً: يابن رسول الله كنت أول خارجٍ عليك، فأذن لي لأكون أول قتيلٍ بين يديك، وأول من يصافح جدّك غداً، فأذن له الحسين فبرز مرتجزاً:

إنيّ أنا الحرّ ومأوى الضيف *** أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير من حلّ بأرض الخيف *** أضربكم ولا أرى من حيف
وحمل عليهم وقتل منهم نيفاً وأربعين رجلاً، فعقروا فرسه فجعل يقاتلهم راجلاً، ثم شدّت عليه عصابة فقتلوه، فلما صرع وقف عليه الحسين ودمه يشخب، فجعل الحسين يمسح الدم والتراب عن وجهه وهو يقول: بخٍ بخٍ يا حر، أنت الحر كما سمّتك أمك، وقضى نحبه وحملته عشيرته ودفنته.

وبرز برير بن خضير الهمداني بعد الحر، وكان من عباد الله الصالحين فجعل يحمل عليهم ويقولك (اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول الله وذريته الباقين)، حتى قتل منهم ثلاثين رجلاً فخرج إليه يزيد بن المغفّل أو معقل، وقرّرا المباهلة إلى الله في أن يقتل المحقّ منهما المبطل، فقتله برير، ثم حمل عليه القوم وقتلوه رحمه الله.

ثم برز مسلم بن عوسجة وجعل يقاتلهم قتالاً شديداً، وبالغ في قتال الأعداء وصبر على أهوال البلاء، حتى سقط صريعاً فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر وبه رمق من الحياة، فقال له الحسين: رحمك الله يا مسلم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، ثم دن منه حبيب ابن مظاهر وقال: يعزّ والله عليّ مصرعك يا مسلم أبشر بالجنة، فقال مسلم - بصوت ضعيف -: بشّرك الله بالخير، فقال حبيب: لو لا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بكل ما أهمّك، فقال مسلم: أوصيك بهذا (وأشار إلى الحسين) قاتل دونه حتى تموت. فقال حبيب لأنعمنّك عينا.


نصروك أحياءً وعند مماتهم *** يوصي بنصرتك الشفيق شفيقا
أوصى ابن عوسجةٍ حبيباً قال *** قاتل دونه حتى الحِمام تذوقا

ونادى أصحاب عمر بن سعد –مستبشرين-: قد قتلنا مسلم بن عوسجة، فصاحت جارية له واسيّداه، يابن عوسجتاه.

فلما سمع ابنه ذلك دخل عند أمّه وهو يبكي فقالت: ما يبكيك؟ قال: أريد الجهاد، فقامت أمّه وشدّت سيفاً في وسطه وقالت: أبرز يا بني فإنك تجد رمحاً مطروحاً بين أطناب المخيّم. فخرج وأراد حمل الرمح فلم يتمكّن، وجعل يسحبه على الأرض سحباً، فبصر به الحسين فقال: إن هذا الشاب قد قتل أبوه في المعركة وأخاف أمّه تكره برازه فقال الغلام: يا سيدي إنّ أمي ألبستني لامة حربي فبرزَ مرتجزاً:


أميري حسين ونعم الأمير *** سرور فؤاد البشير النذير
عليّ وفاطمة والداه *** فهل تعلمون له من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى *** له غرّةٌ مثل بدرٍ منير

فقاتل حتى قتل فاحتزوا رأسه، ورموا بالرأس نحو معسكر الحسين، فأخذت ا مه رأسه وقالت: أحسنت يا بني يا سرور قلبي يا قرّة عيني، ثم رمت براس ولدها وأخذت عمود الخيمة وحملت عليهم وهي تقول:


أنا عجوز سيدي ضعيفة *** خاوية بالية نحيفة
أضربكم بضربةٍ عنيفة *** دون بني فاطمة الشريفة

فأمر الحسين بصرفها ودعا لها.
ثم برز وهب بن عبد الله الكلبي، وكان نصرانياً ومعه أمه وزوجته فأسلموا على يد الحسين في أثناء الطريق ورافقوه إلى كربلاء، فأقبلت أمه وقالت: يا بني قٌم وانصُر ابن بنت رسول الله.

فقال: أفعل يا أماه ولا أقصّر، فبرز وهو يقول:

إن تنكروني فأنا ابن الكلبي *** سوف تروني وترون ضربي
وسطوتي وجولتي في الحرب

فقتل جماعة منهم، ثمّ رجع إلى أمّه وقال: يا أماه ارضيِ عنّي؟
فقالت: ما رضيتُ حتى تقتل بين يدي الحسين، فقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني في نفسك، فقالت أمه: أعزب عنها ولا تقبل قولها، وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.

فرجع فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً وعشرين راجلاً، ثم قطعت أصابع يده، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله، فاقبل كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك، فقال لها: كنت تنهينني عن القتال والآن تحرّضينني؟ قالت: يا وهب لقد عفتُ الحياة منذ سمعت نداء الحسين ينادي وا غربتاه وا قلّة ناصراه، أما من ذابّ يذبّ عنّا؟ أما من مجير يجيرنا؟

ثم استعان وهب بالحسين وقال سيدي ردّها، فقال الحسين: جزيتم من أهل بيت خيراً، إرجعي إلى النساء يرحمك الله، فانصرفت، وقتل وهب ورموا برأسه إلى عسكر الحسين، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته وجعلت تمسح الدم من وجهه وهي تقول: الحمد لله الذي بيّض وجهي بشهادتك - يا ولدي - بين يدي أبي عبد الله الحسين. ثم رمت بالرأس وأخذت عمود الخيمة فقال لها الحسين: ارجعي يا أم وهب أنت وابنك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فذهبت امرأته تمسح الدم والتراب عن وجهه وهي تقول: هنيئاً لك الجنّة. فبصر بها شمرٌ فأمر غلامه فضربها بعمود فقتلها، هي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين.

ولم يزالوا كذلك حتى دخل وقت الظهر، فجاء أبو تمامة الصيداوي وقال: يا أبا عبد الله أنفسنا لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، لا والله لا تقتل حتى أقتل دونك... وأحبّ أن ألقى الله عزّ وجلّ وقد صلّيت هذه الصلاة معك.

فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال: ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، ثم قال (عليه السلام): سلوا هؤلاء القوم أن يكفّوا عنّا حتى نصلّي، فأذّن الحسين بنفسه، وقيل: أمر مؤذّنه ليؤذّن، ثم قال الحسين: ويلك يابن سعد أنسيت شرائع الإسلام؟ اقصر عن الحرب حتى نصلّي وتصلّي بأصحابك ونعود إلى ما نحن عليه من الحرب، فاستحى ابن سعد أن يجيبه، فناداه الحصين ابن نمير -عليه اللعنة- قائلاً: صلّ يا حسين ما بدا لك فإن الله لا يقبل صلاتك.
فأجابه حبيب بن مظاهر: ثكلتك أمك، ابن رسول الله صلاته لا تقبل وصلاتك تقبل يا خمّار؟!

فقال الحسين لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: تقدّما أمامي حتى أصلّي الظهر. فتقدّما أمامه في نحو نصفٍ من أصحابه حتى صلّى بهم صلاة الخوف، وسعيد تقدّم أمام الحسين فاستهدف لهم فجعلوا يرمونه بالنبال كلّما أخذ الحسين يميناً وشمالاً قام بين يديه فما زال يرمى إليه حتى سقط على الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عادٍ وثمود، اللهم أبلغ نبيّك عني السلام. وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإنني أردت بذلك نصرة ذرّية نبيّك ثم مات رحمه الله.


وخرج حبيب بن مظاهر وودع الحسين وجعل يقاتل وهو يقول:
أنا حبيب وأبي مظاهر *** فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتم عدّ عدّة وأكثر *** ونحن أوفى منكم وأصبر
وأنتم عند الوفاء أغدر *** ونحن أعلى حجّة وأظهر

فقتل اثنين وستين فارساً ثم قتل فبان الانكسار في وجه الحسين، فقال الحسين: لله درّك يا حبيب لقد كنت فاضلً تختم القرآن في ليلة واحدة.

وتقدّم زهير بن القين وقاتل قتالاً لم ير مثله، ثم رجع ووقف أمام الحسين وجعل يضرب على منكب الحسين ويقول:


فدتك نفسي هادياً مهديّاً *** اليوم ألقى جدّك النبيّا
وحسنا والمرتضى عليّا
إلى آخر أبياته، فكأنّه ودّع الحسين وعاد يقاتل حتى قتل مائة وعشرين رجلاً، ثم قتل رحمه الله، ووقف عليه الحسين وقال: لا يبعدك الله يا زهير، ولعن قتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير.

وجاء عابس بن شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى آل شاكر، فقال عابس: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع اليوم؟

فقال: ما اصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتى اقتل، فقال له عابس: ذلك الظنّ بك، أما الآن فتقدّم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه وحتى أحتسبك أنا، فإنه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب.
فتقدم شوذب واستأذن وقاتل وقتل.

وتقدّم عابس إلى الحسين سلّم عليه وقال: يا أبا عبد لله، والله ما أمسى على وجه الأرض قريب أو بعيد أعز عليّ ولا أحبّ إليّ منك ولو قدرت أن أدفع عنك الضيق أو القتل بشيء أعزّ على من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، إشهد أني على هداك وهدى أبيك، ثم مشى بالسيف مصلتاً نحو القوم.

فصاح رجل من أهل الكوفة: هذا أسد الأسود هذا ابن شبيب. فأخذ عابس ينادي: إلا رجل ألا رجل؟ فلم يتقدّم إليه أحد، فنادى عمر بن سعد:
إرضخوه بالحجارة، فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره خلفه، ثم شدّ على الناس.
قال الراوي: فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من الناس، حتى اثخنه بالجرح ضرباً وطعناً ورمياً وقتلوه رضوان الله عليه.

وأقبل جون مولى أبي ذر الغفاري يستأذن في القتال، فقل الحسين: يا جون أنت في إذن مني فإنما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقنا، فقال جون: يابن رسول الله أنا في الرخاء الحسُ قِصاعَكم وفي الشدّة أخذلكم؟! والله إنّ ريحي لنتن، وإن حسبي للئيم، وإن لوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنة فتطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيّض وجهي، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دماءكم.
فأذن له الحسين فبرز يرتجز ويقول:


كيف يرى الكفّار ضرب الأسود *** بالمشرفيّ والقنا المسدّد
يذبّ عن آل النبي أحمد *** يذبّ عنهم باللسان واليد

فقتل خمساً وعشرين رجلاً ثم قتل، فوقف عليه الحسين وقال: اللهم بّيض وجهه وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد.
وخرج غلام تركي وهو يقول:


البحر من طعني وضربي يصطلي *** والجوّ من نبلي وسهمي يمتلي
إذا حسامي في يميني ينجلي *** ينشقّ قلب الحاسد المبخل

فقتل جماعة ثم سقط فجاءه الحسين وبه رمق يومي إلى الحسين، فبكى الحسين وبه رمق يومي إلى الحسين، فبكى الحسين واعتنقه ووضع خدّه على خدّه، ففتح الغلام عينيه وتبسّم وفاضت نفسه.
ثم برز عمرو بن خالد الصيداوي وقال للحسين: يا أبا عبد الله جعلتُ فداك هممت أن الحق بأصحابك وكرهت أتخلّف فأراك وحيداً من أهلك قتيلاً، فقال له الحسين: تقدّم فإنا لاحقون بك عن ساعة، فقاتل حتى قتل، وبرز ابنه خالد مرتجزاً فقاتل حتى قتل.
ثم جاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسين يقيه السهام والرماح بوجهه ونحره.

فقال له الحسين: يا بن أسعد إنهم استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق. فقال: صدقت جعلت فداك أفلا نروح إلى الآخرة ونلتحق بإخواننا؟
فقال له الحسين: بلى، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى، فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك، عرّف الله بيننا وبينك في الجنّة، فقال الحسين: آمين آمين.
فاستقدم وقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الأهوال حتى قتل.

فبرز سعد بن حنظلة التميمي، وقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتى سقط صريعاً بين القتلى وقد اثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون: قتل الحسين فتحامل، وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتى قتل.

وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين فأذن له، فقاتل قتال الأسد الباسل، وكان لايأتي إلى الحسين سهم إلا اتقّاه بيده، ولا سيف إلا تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى اثخن بالجراح. فالتفت إلى الحسين وقال: يابن رسول الله أوفيت؟ فقال الحسين: نعم، أنت أمامي في الجنة، فاقرأ رسول الله عني السلام وأعلمه أني في الأثر.
{يتبع }

لبيك
15-11-2012, 03:14 PM
وبرز جابر بن عروة الغفاري، وكان شيخاً كبيراً قد شهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بدراً وحنيناً، فجعل يشدّ وسطه بعمامة، ثم شدّ جبينه بعصابة ثم رفعهما عن عينيه والحسين ينظر إليه ويقولك شكر الله سعيك يا شيخ، فبرز وقاتل حتى قتل ثمانين رجلاً، ثم قتل.
وبرز عبد الله وعبد الرحمن الغفاريان فقالا: السلام عليك يا أبا عبد الله أحببنا أن نقتل بين يديك فقال (عليه السلام): مرحباً بكما أدنوا مني؛ فدنوا منه وهما يبكيان فقال: يا بني أخي ما يبكيكما؟ فوالله أني ارجوا أن تكونا بعد ساعة قريري العين؟

فقالا: جعلنا الله فداك والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد أحيط بك ولا نقدر أن ننفعك، فقال الحسين: جزاكما الله يا بني أخي بوجدكما ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أفضل جزاء المتقين، ثم استقدما وقالا: السلام عليك يابن رسول الله، فقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته، وقاتلا حتى قتلا.

استشهاد بني هاشم
وبعد ما قتل أصحاب الحسين رضوان الله عليهم فعند ذلك وصلت النوبة إلى بني هاشم، وأول من قتل منهم علي بن الحسين الأكبر، وأمه ليلى، وفيه يقول الشاعر:

لم تر عين نظرت مثله *** من محتف يمشي ومن ناعل
أعني ابن ليلى ذا السدى والندى *** أعني ابن بنت الشرف الفاضل
لا يؤثر الدنيا عن دينه *** ولا يبيع الحق بالباطل

وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وخُلقاً، فاستأذن أباه في القتال فنظر إليه الحسين نظر آيس منه، وأرخى عينيه وبكى، ورفع سبابتيه أو شيبته الشريفة نحو السماء وقال: (اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك، وكنّا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجه هذا الغلام، اللهم امنعهم بركات الأرض وفرّقهم تفريقاً ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً ولا تغفر لهم أبداً، ولا ترضي الولاة عنهم أحداً، فإنهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا).

ثم صاح: يابن سعد ما لك؟ قطع الله رحمك ولا بارك الله في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله، ثم رفع صوته وتلا: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ).

فحمل علي الأكبر على القوم وهو يقول:

أنا علي بن الحسين بن علي *** نحن وبيت الله أولى بالنبي
أطعنكم بالرمح حتى يثني *** أضربكم بالسيف أحمي عن أبي
ضرب غلام هاشمي علويّ *** والله لا يحكم فينا ابن الدعي

فشدّ على الناس وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى ضجّ الناس من كثرة من قتل، فروي أنه قتل مائة وعشرين رجلاً، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة وهو يقول: يا أبة العطش قد قتلني وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوّى بها على الأعداء.


يشكو لخير أبٍ ظماه وما اشتكى *** ظمأ الحشا إلا إلى الظامي الصدي
كلٌ حشاشته كصالية الغضا *** ولسانه ظمأ كشقة مبرد

فبكى الحسين وقال: وا غوثاه يا بني، يعزّ على محمد المصطفى وعلى علي المرتضى وعليّ أن تدعوهم فلا يجيبوك وتستغيث بهم فلا يغيثوك، يا بني قاتل قليلاً، فما أسرع أن تلقى جدك محمداً (صلّى الله عليه وآله) فيسقيك بكاسه الأوفى شربةً لا تضمأ بعدها أبداً، يا بني هات لسانك. فأخذ لسانه فمصّه، وأعطاه خاتمه وقال: أمسكه في فمك وارجع إلى عدوّك، فإني أرجو أن لا تمسي حتى يسقيك جدّك، ولدي عد بارك الله فيك.
فرجع مرتجزاً:

الحرب قد بانت لها حقائق *** وظهرت مع بعضها مصادق
والله رب العرش لا نفارق *** جموعكم أو تغمد البوارق
ولم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين، فضربه مرّة بن منقذ العبدي ضربةً صرعته، وضربه الناس بأسيافهم فاعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى معسكر الأعداء فقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً، فلما بلغت روحه التراقي نادى رافعاً صوته: أبه هذا جدّي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول: العجل العجل فإن لك كأساً مذخورة تشربها الساعة.

فجاءه الحسين ورفع صوته بالبكاء ولم يسمع أحد إلى ذلك الزمان صوت الحسين بالبكاء، فقال: قتل الله قوماً قتلوك، ما أجراهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول، أما أنت يا بني فقد استرحت من هم الدنيا وغمومها، وسرت إلى روح وريحان وجنّة ورضوان وبقي أبوك لهمّها وغمّها، فما أسرع لحوقه بك، ولدي علي ّعلى الدنيا بعدك العفا.

ابنيّ هل لك عودةٌ *** حتى أقول مسافر
كنت السواد لناظري *** فعليك يبكي الناظر
من شاء بعدك فليمت *** فعليك كنت أحاذر
فإذا نطقت فمنطقي *** بجميل وصفك ذاكر
وإذا سكت فإن في *** بالي خيالك خاطر
يا كوكبا ما كان أقصر عمره *** وكذاك تكون كواكب الأسحار

فعند ذلك خرجت زينب الكبرى من الخيام مسرعة وهي تنادي: وا ولداه؛ وا مهجة قلباه؛ فجاءت وانكبّت عليه، فجاء الحسين واخذ بيدها وردّها إلى الفسطاط، ثم نادى: يا فتيان بني هاشم هلمّوا واحملوا أخاكم إلى الفسطاط.

فجاء القاسم بن الحسن وهو غلام لم يبلغ الحلم فقال: يا عم الإجازة لأمضي إلى هؤلاء الكفرة؟ فقل له الحسين: يابن أخي أنت من أخي علامة وأريد أن تبقى لي لأتسلّى بك، فلم يزل القاسم يقبّل يديه ورجليه حتى أذن له، فقال له الحسين: يا بني أتمشي برجلك إلى الموت؟ فقال: يا عمّ وكيف لا؟ وأنت بين الأعداء بقيت وحيداً فريداً لم تجد محامياً.
فأركبه الحسين على فرسه فخرج القاسم ودموعه تسيل على خديه وهو يقول:


إن تنكروني فأنا نجل الحسن *** سبط النبي المصطفى المؤتمن
هذا حسين كالأسير المرتهن *** بين أناس لاسقوا صوب المزن
وكان وجهه كفلقة قمر، فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل على صغر سنه خمساً وثلاثين رجلاً، وقيل سبعين فارساً، فانقطع شسع نعله، فانحنى ليصلح شسع نعله، فضربه عمرو بن سعد الأزدي على رأسه فوقع الغلام لوجهه ونادى: يا عمّاه أدركني، فجاءه الحسين كالصقر المنقضّ فتخلّل الصفوف، وشدّ شدة الليث المغضب فضرب الحسين عمرواً قاتل القاسم بالسيف فاتقاه بيده فأطنّها من لدن المرفق، فصاح اللعين صيحة سمعها أهل العسكر ثم تنحّى عنه الحسين فحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمرواً من الحسين، فاستقبلته الخيل بصدورها وشرعته بحوافرها، ووطأته حتى مات إلى جهنم.

فلما انجلت الغبرة وإذا بالحسين قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه فقال الحسين: يعز والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا يعينك أو يعينك فلا يغني عنك، بعداً لقومٍ قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدّك وأبوك، هذا يوم والله كثر واتره وقلّ ناصره.
ثم احتمله على صدره ورجلاه تخطّان في الأرض خطّاً حتى ألقاه بين القتلى من أهل بيته.

ثم برز من بعده أخوه أحمد بن الحسن، وله من العمر ستة عشر سنة فقاتل حتى قتل ثمانين رجلاً، فرجع إلى الحسين وقد غارت عيناه من العطش فنادى: يا عمّاه هل من شربة ماء أبرّد بها كبدي؟
فقال له الحسين: يابن أخي اصبر قليلاً حتى تلقى جدّك رسول الله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبداً.
فرجع إلى القوم وحمل عليهم وقتل منهم ستين فارساً حتى قتل. وبرز أخوه أبو بكر بن الحسن وهو يقول:


إن تنكروني فأنا ابن حيدرة *** ضرغام آجامٍ وليث قسورة
على الأعادي مثل ريح صرصرة *** أكيلكم بالسيف كيل السندرة

فقاتل حتى قتل.

فعند ذلك خرج أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) وأول من خرج منهم أبو بكر بن أمير المؤمنين فقاتل حتى قتل.
وبرز عون بن أمير المؤمنين فقال له الحسين: كيف تقاتل هذا الجمع الكثير والجمّ الغفير؟ فقال: من كان باذلاً فيك مهجته لم يبال بالكثرة والقلّة، ثم حمل فقتل مقتلة عظيمة، فاحتوشه ألفان، ففرّقهم يميناً وشمالاً، وتخلّل الصفوف ثم رجع إلى الحسين فقبّله الحسين وقال له: أحسنت لقد أصبت بجراحات كثيرة فاصبر هنيئة.

فقال عون: سيدي أردت أن أحظى منك وأتزوّد من رؤيتك مرة أخرى، فرجع وقاتل ورُمي بسهم وقضى نحبه.
فعند ذلك وصلت النوبة إلى أولاد أم البنين، فقال لهم العباس بن أمير المؤمنين: يا بني أمي تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنه لا ولد لكم تقدّموا - بنفسي أنتم - فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه.
فبرز عبد الله بن أمير المؤمنين وعمره خمس وعشرون سنة، فقتل أبطالاً ونكّس فرساناً، فقتله هاني بن ثبيت الحضرمي عليه اللعنة.

ثم برز جعفر بن أمير المؤمنين فقاتل وقتل جمعاً كثيراً، فقتله هاني بن ثبيت الحضرمي.
فبرز عثمان بن أمير المؤمنين، وعمره إحدى وعشرون سنة فقاتل حتى قتل.

فبقي العباس بن علي قائماً أمام الحسين يقاتل دونه، وكان العباس بطلاً جسيماً وسيماً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان على الأرض خطا، ويلقّب بالسقّاء وقمر بني هاشم.

فجاء نحو أخيه الحسين فقال: يا أخاه هل من رخصة؟ فبكى الحسين حتى ابتلّت لحيته بدموعه فقال: أخي أنت العلامة من عسكري فإذا غدوت يؤول جمعنا إلى الشتات وتنبعث عمارتنا إلى الخراب، فقال العباس: فداك روح أخيك لقد ضاق صدري من الحياة الدنيا وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين.

فقال له الحسين: فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء، فبرز العباس فلمّا توسّط الميدان وقف ونادى: يا عمر بن سعد هذا الحسين ابن بنت رسول الله يقول لكم: إنكم قتلتم أصحابه واخوته وبني عمّه وبقي فريداً مع أولاده وعياله وهم عطاشى، قد أحرق الظمأ قلوبهم فاسقوهم شربة من الماء لأن أولاده وأطفاله قد وصلوا إلى الهلاك... إلى آخر كلامه.

فلما سمع أهل الكوفة كلام أبي الفضل فمنهم من سكت ومنهم من جلس يبكي، وخرج شمر وشبث بن ربعي (عليهما اللعنة) وقالا: يا بن أبي تراب قل لأخيك: لو كان كلّ وجه الأرض ماءاً وهو تحت أيدينا ما سقيناكم منه قطرة حتى تدخلوا في بيعة يزيد.

فتبسّم العباس فرجع إلى الحسين وأخبره بمقال القوم، فبكى الحسين حتى بلّ أزياقه من الدموع، فسمع العباس الأطفال وهم ينادون: العطش العطش فركب فرسه وأخذ رمحه والقِربة، وكان عمر بن سعد قد وكّل أربعة آلاف رجلاً على الماء لا يدعون أحداً من أصحاب الحسين يشرب منه.
فحمل عليهم العباس ففرّقهم وكشفهم وقتل منهم ثمانين رجلاً وهو يقول:


لا أرهب الموت إذا الموت رقا *** حتى أوارى في المصاليت لقى
إني أنا العباس أغدو بالسقا *** ولا أخاف الشر يوم الملتقى

حتى دخل الماء فلما أراد أن يشرب غُرفة من الماء ذكر عطش الحسين وال بيته فرمى الماء وهو يقول:


يا نفس من بعد الحسين هوني *** وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين شارب المنون *** وتشربين بارد المعين
هيهات ما هذا فعال ديني *** ولا فعال صادق اليقين
فملأ القربة وحملها على عاتقه وتوجّه نحو الخيمة فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب، وأخذوه بالنبال حتى صار درعه كجلد القنفذ من كثرة السهام، فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وعاونه حكيم بن طفيل فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السيف بشماله وهو يقول:


والله إن قطعتم يميني *** إني أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين *** نجل النبي الطاهر الأمين
فقاتل حتى ضعف. فقطعوا شماله فجعل يقول:


يا نفس لا تخشي من الكفّار *** وأبشري برحمة الجبّار
قد قطعوا ببغيهم يساري *** فأصلهم يا رب حر النار
فجاء سهم وأصاب القربة وأريق ماؤها، فبقي العباس حائراً ليس له يد فيقاتل ولا ماء فيرجع إلى الخيمة، فضربه رجل بعمود من الحديد فسقط عن فرسه ونادى يا أخي أدرك أخاك...


عمدُ الحديد بكربلا خسف القمر *** من هاشم فلتبكيه عليا مضر
أو مادرت من مهره العباس خر
فمشى إليه السبط ينعاه كسرتَ الآن ظهري يا أخي ومعيني فانقضّ إليه الحسين كالصقر فرآه مقطوع اليدين مفضوخ الجبين مشكوك العين بسهم، فوقف عليه منحنياً وجلس عند رأسه يبكي، ففاضت نفس أبي الفضل فقال الحسين: أخي الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي.
فهوى عليه ما هنالك قائلاً *** اليوم بان عن اليمين حسامها
اليوم آل إلى التفرّق جمعنا *** اليوم هدّ عن البنود نظامها
اليوم سارعن الكتائب كبشها *** اليوم غاب عن الصلاة إمامها
اليوم نامت أعين بك لم تنم *** وتسهدت أخرى فعزّ منامها
عباس تسمع زينباً تدعوك من *** لي يا حماي إذا العدى سلبوني
أو لست تسمع ما تقول سكينة *** عمّاه يوم الأسر من يحميني

ثم قام ورجع إلى الخيمة فاستقبلته ابنته سكينة، وقالت: أبتاه هل لك علم بعمّي العباس، فبكى الحسين وقال: يا بنتاه إن عمّك قتل.
وخرج محمد بن عبد الله بن جعفر، وأمه زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين فقاتل حتى قتل.
ثم برز أخوه عون بن عبد الله بن جعفر، وأمه أيضاً زينب الكبرى فقتل جمعاً كثيراً حتى قتل.
وبرز أخوهما عبيد الله فقاتل حتى قتل.

وبرز غلام من أخبية الحسين، وفي أذنيه درّتان وهو مذعور فجعل يلتفت يميناً وشمالاً، وقرطاه يتذبذبان فحمل عليه هاني بن ثبيت الحضرمي فضربه بالسيف فقتله، فصارت أمه تنظر إليه ولا تتكلّم كالمدهوشة.

ثم نادى الحسين: هل من ذائب يذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟
فارتفعت أصوات النساء بالبكاء والعويل، فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب: ناوليني ولدي الرضيع لأودّعه:


أخت إيتيني بطفلي أره قبل الفراق *** فأتت بالطفل لا يهدأ والدمع مراق
يتلظّى عطشاً والقلبُ منه في احتراق *** غائر العينين طاوي البطن ذاوي الشفتين
فبكى لمّا رآه يتلظّى من أوام *** بدموع هاطلات تخجل السحب سجام
فأتى القوم وفي كفّيه ذياك الغلام *** وهما من ظمأ قلباهما كالجمرتين

فنادى يا قوم قتلتم أنصاري وأولادي، وما بقي غير هذا الطفل، إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، لقد جفّ اللبن في صدر أمّه.

فرماه حرملة بسهم فوقع في نحره فذبحه من الوريد إلى الوريد. فوضع الحسين كفّيه تحت نحر الطفل فلمّا امتلأتا دماً رمى به إلى السماء وقال: هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله، اللهم لا يكونن طفلي هذا أهون عليك من فصيل -أي فصيل ناقة صالح-.

ثم عاد بالطفل مذبوحاً وحفر له بجفن سيفه ودفنه. وولد للحسين ابن وقت الظهر، فأتي به إلى الحسين وهو قاعد بباب الخيمة فأخذه في حجره فاذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فرماه لعين فذبحه في حجر الحسين وإلى هذا أشار الشاعر:


ومنعطفاً أهوى لتقبيل طفله *** فقبّل منه قبله السهم منحرا
لقد ولدا في ساعةٍ وهو والردى *** ومن قبله في نحره السهم كبّرا
يتبع .. استشهاد الإمام الحسين (ع)
ولما قتل أصحابه وأهل بيته ولم يبق أحد عزم على لقاء الله، فدعى ببردة رسول الله فالتحف بها فأفرغ عليها درعه، وتقلّد سيفه واستوى على متن جواده، ثم توجّه نحو القوم وقال: ويلكم على مَ تقاتلونني؟ على حقٍّ تركته؟ أم على شريعة بدّلتها؟ أم على سنّة غيّرتها؟ فقالوا: نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما فعل بأشياخنا يوم بدر وحنين. فلما سمع كلامهم بكى، وجعل يحمل عليهم وجعلوا ينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم رجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهو في تلك الحالة يطلب شربة من الماء وكان يقول:


أنا ابن عليّ الطهر من آل هاشمٍ *** كفاني بهذا مفخراً حين افخر
وجدي رسول الله ا كرم من مشى *** ونحن سراج الله في الأرض نزهر
وفاطم أمي من سلالة أحمد *** وعمّي يدعى ذا الجناحين جعفر
وفينا كتاب الله أنزل صادقاً *** وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر
فنحن أمان الله للناس كلّهم *** نسرّ بهذا في الأنام ونجهر
ونحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا *** بكاس رسول الله ما ليس ينكر
وشيعتنا في الحشر أكرم شيعة *** ومبغضنا يوم القيامة يخسر
فطوبى لعبدٍ زارنا بعد موتنا *** بجنة عدن صفوها لا يكدّر

فصاح عمر بن سعد: الويل لكم! أتدرون لمن تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتَّال العرب، احملوا عليه من كل جانب. فحملوا عليه فحمل عليهم كالليث المغضَّب، فجعل لا يلحق منهم أحداً إلا بعجهُ بالسيف فقتله، حتى قتل منهم مقتلة عظيمة، وفي خبر أنه قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين رجلاً، فحالوا بينه وبين رحله، فصاح: ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا.
فناداه شمر: ما تقول يا بن فاطمة؟
قال أقولك أنا الذي أقاتلكم وأنتم تقاتلونني، والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم وجهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّا.
فصاح شمر بأصحابه: تنحّوا عن حرم الرجل واقصدوه بنفسه، فلعمري هو كفؤٌ كريم، فتراجع القوم.
فنزلت الملائكة من السماء لنصرته فلم يأذن لهم بشيء، ثم التفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً من أصحابه إلا من صافح التراب جبينه وقطع الحمام أنينه، فخاطبهم وعاتبهم فما سمع منهم جواباً.


لما رأى السبط أصحاب الوفا قتلوا *** نادى أبا الفضل أين الفارس البطل
وأين من دوني الأرواح قد بذلوا *** بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا
وخلّفوا في سويد القلب نيرانا
ثم نادى برفيع صوته: هل من ناصر ينصرني، هل من معين يعينني؟ فخرج زين العابدين وهو مريض لا يتمكّن أن يحمل سيفه، وأمّ كلثوم تنادي خلفه ارجع.
فقال: يا عمّتاه ذريني أقاتل بين يدي ابن رسول الله.
فقال الحسين: خذيه، لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد.
وفي رواية جاء الحسين واحتمله وأتى به إلى الخيمة ثمّ قال: ولدي ما تريد أن تصنع؟ قال: أبه إن نداءك قطع نياط قلبي، وأريد أن أفديك بروحي، فقال الحسين: يا ولدي أنت مريض، ليس عليك جهاد، وأنت الحجّة والإمام على شيعتي وأنت أبو الأئمة، وكافل الأيتام والأرامل، وأنت الرادّ لحرمي إلى المدينة.
فقال زين العابدين: أبتاه تقتل وأنا أنظر إليك؟ ليت الموت أعدمني الحياة، روحي لروحك الفداء، نفسي لنفسك الوقاء.
ثم ذهب الحسين إلى خيام الطاهرات من آل رسول الله، ونادى: يا سكينة ويا فاطمة ويا زينب ويا أم كلثوم: عليكنّ مني السلام فهذا آخر الاجتماع، وقد قرب منكنّ الافتجاع.

فعلتْ أصواتهن بالبكاء وصحْن: الوداع الوداع، الفراق الفراق، فجاءته عزيزته سكينة وقالت: يا ابة استسلمت للموت؟ فإلى من اتّكل؟ قال: يا نور عيني كيف لا يستسلم للموت من لا ناصر له ولا معين. قالت: ابه ردّنا إلى حرم جدّنا؟ فقال الحسين: هيهات، لو ترك القطا لغفا ونام.


فبكت سكينة فأخذها وضمّها إلى صدره ومسح الدموع عن عينها وهو يقول:
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي *** منك البكاء إذا الحِمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة *** مادام منيّ الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنت أولى بالذي *** تأتينه يا خيرة النسوان

ثم إن الحسين دعاهن بأجمعهن، وقال لهن: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم.

ثم أمرهن بلبس أزرهن ومقانعهن، فسألته زينب عن ذلك، فقال: كأنّي أراكم عن قريب كالإماء والعبيد يسوقونكم أمام الركاب، ويسومونكم سوء العذاب، فنادت زينب: وا جدّاه وا قلّة ناصراه، فشقّت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت على وجهها، فقال الحسين لها: مهلاً يا بنت المرتضى إن البكاء طويل، فاراد الحسين أن يخرج من الخيمة فتعلّقت به زينب، وقالت: مهلاً يا أخي توقّف حتى أتزوّ منك ومن نظري إليك وأودّعك وداع مفارق لا تلاقي بعده.
فجعلت تقبّل يديه ورجليه، وأحطن به سائر النسوة يقبّلن يديه ورجليه، فسكّتهن الحسين، وردّهن إلى الفسطاط.

ثم دعا بأخته زينب وصبّرها وأمرّ يده على صدرها وسكّنها من الجزع، وذكر لها ما أعدّ الله للصابرين، فقالت له: يابن أمي طب نفساً وقرّ عيناً فإنك تجدني كما تحب وترضى. فقال الحسين: أخيّة إيتيني بثوب عتيق لا يرغب فيه أحد، أجعله تحت ثيابي لئلا أجرّد بعد قتلي، فإني مقتول مسلوب، فارتفعت أصواتهنّ بالبكاء، فأتي بتبّان، وهو ثوب قصير ضيّق، فقال: لا، ذاك لباس من ضربت عليه الذلّة، فأخذ ثوباً خَلِقاً فخرقه وجعله تحت ثيابه فلما قتل جرّدوه منه.

ثم نادى الحسين هل من يقدم إليّ جوادي؟ فسمعت زينب فخرجت وأخذت بعنان الجواد وأقبلت إليه وهي تقول: لمن تنادي وقد قرحت فؤادي.

فعاد الحسين إلى القوم فحمل عليهم وكانت الرجال تشدّ عليه فيشدّ عليها، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا حلّ فيها الذئب، حمل على الميمنة وهو يقول:

الموت خير من ركوب العار *** والعار أولى من دخول النار

وحمل على الميسرة وهو يقول:

أنا الحسين بن علي *** آليت أن لا أنثني
أحمي عيالاتُ أبي *** أمضي على دين النبي

فجعلوا يرشقونه بالسهام والنبال حتى صار درعه كالقنفذ، فوقف ليستريح ساعة وقد ضعف عن القتال فبينما هو واقف إذ أتاه حجرٌ فوقع على جبهته، فاخذ الثوب ليمسح الدم عن عينه فأتاه سهم محدّد مسموم له ثلاث شعب فوقع السهم في صدره على قلبه، فقال الحسين: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: الهي إنك تعلم أنّهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن نبيّ غيره.

ثم أخذ السهم وأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب، فوضع يده على الجرح فلما امتلأت دماً رمى به إلى السماء، ثم وضع يده على الجرح ثانياً فلما امتلأت لطّخ به رأسه ولحيته وقال هكذا أكون حتى ألقى جدّي رسول الله وأنا مخضوب بدمي أقول: يا رسول الله قتلني فلان وفلان.

فعند ذلك طعنه صالح بن وهب على خاصرته طعنة، فسقط عن فرسه على خده الأيمن وهو يقول: بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، ثم جعل يجمع التراب تحت يده كالوسادة فيضع خدّه عليها ثم يناجي ربّه قائلاً:
صبراً على قضائك وبلائك، يا رب لا معبود سواك، ثم وثب ليقوم للقتال فلم يقدر، فبكى بكاءاً شديداً، فنادى: وا جدّاه وا محمّداه، وا أبتاه وا عليّاه، وا غربتاه وا قلّة ناصراه، ءأقتل مظلوماً وجدّي محمد المصطفى؟ ءأذبح عطشانا وأبي عليّ المرتضى؟ ءأترك مهتوكاً وأمي فاطمة الزهراء؟

ثم خرجت زينب من الفسطاط وهي تنادي: وا أخاه، وا سيداه، وا أهل بيتاه، ليت السماء أطبقت على الأرض، ليت الجبال تدكدكت على السهل، اليوم مات جدّي اليوم ماتت أمي.

ثم نادت: ويحك يابن سعد أيقتل أبو بعد الله وأنت تنظر إليه؟ فلم يجبها عمرو بشيء، فنادت: ويحكم أما فيكم مسلم؟ فلم يجبها أحد.
ثم انحدرت نحو المعركة وهي تقوم مرّة وتقعد أخرى، وتحثو التراب على راسها حتى وصلت إلى الحسين فطرحت نفسها على جسده وجعلت تقول:
ءأنت الحسين أخي؟
ءأنت ابن أمي؟
ءأنت حمانا؟
ءأنت رجانا؟

والحسين لا يرد عليها جواباً، لأنه كان مشغولاً بنفسه، فقالت: أخي بحق جدّي إلا ما كلّمتني، وبحق أبي أمير المؤمنين إلا ما خاطبتني، يا حشاش مهجتي كلّمني يا شقيق روحي، ففتح الحسين عينه. فعند ذلك جلست زينب خلفه وأجلسته حاضنة له بصدرها، فالتفت إليها الحسين وقال: أخيّة كسرتِ قلبي وزِدتني كرباً فوق كربي، فبالله عليك إلا ما سكتِ وسكنتِ.

فصاحت: وا ويلاه يابن أمي كيف اسكن واسكت وأنت بهذه الحالة تعالج سكرات الموت؟
روحي لروحك الفداء، نفسي لنفسك الوقاء.

فخرج عبد الله بن الحسن وهو غلامٌ لم يراهق من عند النساء، فشدّ حتى وقف إلى جنب عمّه الحسين، فلحقته زينب بنت علي لتحسبه، فقال لها الحسين: احبسيه يا أختي فابى وامتنع عليها امتناعاً شديداً وقال: والله لا أفارق عمي، واهوى أبحر بن كعب إلى الحسين بالسيف فقال له الغلام: ويلك يابن الخبيثة أتقتل عمّي فضربه أبحر بالسيف فأتقاه الغلام بيده وأطنّها الى الجلد فإذا هي معلّقة، ونادى الغلام: يا عمّاه يا أبتاه فأخذه الحسين فضمّه إليه وقال: يابن أخي صبراً على ما نزل بك واحتسب في ذلك الأجر فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين فرماه حرملة بسهم فذبحه في حجر عمّه الحسين.

ثم صاح عمر بن سعد بأصحابه: ويلكم إنزلوا وحزّوا رأسه، وقال لرجل: ويلك إنزل إلى الحسين وأرحه. فأقبل عمرو بن الحجاج ليقتل الحسين فلمّا دنى ونظر إلى عينيه ولّى راجعاً مدبراً، فسألوه عن رجوعه؟ قال: نظرتُ إلى عينيه كأنهما عينا رسول الله. واقبل شبثُ بن ربعي فارتعدت يده ورمى السيف هارباً، فعند ذلك أقبل شمرٌ وجلس على صدر الحسين ووقعت المصيبة الكبرى التي يعجز القلم عن وصفها.

يا قتيلاً قوّض الدهر به *** عمد الدين وأعلام الهدى
قتلوه بعد علم منهم *** إنه خامس أصحاب الكسا
وا صريعاً عالج الموت بلا *** شدّ لحيين ولا مدّ ردا
غسّلوه بدم الطعن وما *** كفّنوه غير بوغاء الثرى

ألا لعنة الله على القوم الظالمين
كربلاء المقدسة - العراق
كتبه: محمد كاظم القزويني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السلام على الحسين وعلى علي ابن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى اصحاب الحسين
الا لعنة الله على القوم الظالمين

منقوول العبد الفاني سيد علي الموسوي

وسام القاسمي
15-11-2012, 06:54 PM
السلام على الحسين ع
وعلى علي ابن الحسين ع
وعلى اصحاب الحسين اذين بذلوا مهجتهم دمن الحسين
بارك الله فيهم