هامة التطبير
16-11-2012, 11:48 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
http://im18.gulfup.com/ulyg3.jpg (http://www.gulfup.com/?j6v7ry)
:: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::
(إحسان الفضلي)
المراجعة والتدقيق : الأديب حيدر السلامي
====
الإهداء:
إلى إمامي وسيدي ومولاي صاحب العصر والزمان ؛ الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه ؛ وجعلنا من أنصاره) .
قالت اُمّ المصائب زينب (عليها السّلام) : فكد كيك ؛ واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فند ؛ وأيامك إلاّ عدد ؛ وجمعك إلاّ بدد ؛ يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ؛ ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
====
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اعتاد الباحث في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) أن يجد إشاراتهم ومعطياتهم في كافة مجالات الحياة ؛ سواء العلميّة منها أو غير العلميّة ، فلا بدّ أن يكون هناك توضيح لطالب العلم وللمتحير في كيفية النهج الواجب اتخاذه لبلوغ الحق والرسوّ في شاطئ اليقين .
ومن هنا يتسائل الباحث عمّا أوضحته لنا مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) في المنهج الإعلامي ؛ وكيف لنا أن نستقي المعرفة منها في هذا المجال ؟
والمتتبع لتاريخ أهل البيت (عليهم السّلام) يستطيع أن يجد الإشارات الإعلاميّة واضحة بيّنة . ولعل من أوضحها سلاح البكاء الذي استخدمته الزهراء (عليها السّلام) ليكون رسالة إعلاميّة واضحة وصريحة الدلالة على سلب الحقوق ؛ وصرخة مدويّة بوجه الظالمين .
وإنّ هذا السلاح هو نفسه الذي استخدمه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) (1) أمام الطغيان الاُموي ؛ فنحن نرى أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) العديدة في الحث على البكاء والتباكي ؛ وما هي في الحقيقة إلاّ دعوة صريحة لاستخدام هذا السلاح بوجه الطغاة والمتجبرين في كلِّ زمان ومكان .
والغريب أننا نرى اليوم بعض الدعوات والنداءات على ترك هذا السلاح الذي حثّ عليه أهل البيت (عليهم السّلام) في المناسبة تلو الاُخرى ، ونرى أصحاب هذه الدعوات أنفسهم يتقبّلون أساليب الإعلام الغربية بكل رحابة صدر ، في حين إنك ترى الغربيِّين يستخدمون للدلالة على الاحتجاج من وقوع ظلم معين الاعتصام مثلاً . وهو إن تأملت فيه تجده يقع في سياق البكاء للدلالة على الظلم , بل هما من قبيل وجهين لعملة واحدة تصب في مقام إيقاع الألم على النفس للدلالة على أنها تتعرض لألم أكبر هو الظلم .
وعندما يقع الاعتصام من أحد الأشخاص ترى الدنيا تقوم وتقعد ؛ لما يشير إليه الاعتصام من دلالة واضحة على سوء الإدارة المعنية ، وأنها مارست الظلم بحق الشخص المعتصم . وهذا ما نتلمسه كذلك من سلاح البكاء الذي هو من الاُمور الفطرية التي جعلها المولى (عزّ وجلّ) من طبيعة الجنس البشري ، وأنه عند تعرضه للألم يبكي .
والألم تارة يكون مادياً واُخرى يكون معنوياً ؛ فالإنسان عندما يتعرّض لفقد عزيز ؛ أو يُهضم حقه تراه يبكي بطبيعة الفطرة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه ، وهذا الألم المعنوي . وأمّا المادي فهو ما يتعرّض له من حوادث تؤدّي إلى تلف في جسمه ؛ من كسر أو جرح أو قرح وغيرها ، وبنفس الفطرة تراه يبكي عند التعرّض لمثل هذه الحوادث . ويتحول البكاء رمزاً ومتنفساً عندما يكون الألم ـ معنوياً كان أو مادياً ـ من الشدة بمكان .
وفي إطار تبيين فلسفة الشعائر الحسينيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الشعائر الحسينيّة هي رمز من رموز الاحتجاج الواضحة في وجه الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السّلام) ، ونرجو أن يكون لهذا العمل المتواضع ثقلاً في الميزان ، وأن يهدي إلى الحق .
كما وأرجو من جميع إخوتي في الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن العثرات والزلات ، وأن لا ينسونا من الدعاء بالتوفيق ؛ لكي نكون جميعاً من أنصار سيدة نساء العالمين ، المواسين لها في مصابها الجلل بما جرى عليها وعلى آل البيت (عليهم السّلام) (2) .
1 ـ قال الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاؤون خمسة : آدم ؛ ويعقوب ؛ ويوسف ؛ وفاطمة بنت محمد ؛ وعلي بن الحسين (عليهم السّلام) ؛ فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية ؛ وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره ؛ وحتّى قيل له : (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) .
وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهلُ السجن ؛ فقالوا له : إمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار ؛ وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل . فصالحهم على واحدة منهما ؛ وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى به أهل المدينة ؛ فقالوا لها : قد آذيتينا بكثرة بكائك . فكانت تخرج إلى المقابر ؛ مقابر الشهداء ؛ فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السّلام) عشرين سنة ؛ أو أربعين سنة ؛ ما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى ؛ حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله ! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة لي )) (بحار الأنوار43 / 155 ـ باب 7) .
2 ـ عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) اُحدّثه فدخل عليه ابنهُ ؛ فقال له : (( مرحباً )) . وضمّه وقبّله ؛ وقال : (( حقّر الله مَن حقّركم ؛ وانتقم الله ممّن وتركم ؛ وخذل الله مَن خذلكم ؛ ولعن الله مَن قتلكم ؛ وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ؛ فقد طال بكاء النساء ؛ وبكاء الأنبياء والصدّيقين ؛ والشهداء وملائكة السماء )) .
ثمَّ بكى ؛ وقال : (( يا أبا بصير ؛ إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السّلام) أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وآلهم . يا أبا بصير ؛ إنّ فاطمة (عليها السّلام) لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها ؛ وقد استعدّوا لذلك ؛ مخافة أن يخرج منها عنق ... إلى أن قال : فلا تزال الملائكة مشفقين ؛ يبكون لبكائها ؛ ويدعون الله ويتضرعون إليه ... )) .
إلى أن قال : قلتُ : جُعلت فداك ! إنّ هذا الأمر عظيم !
قال : (( غيره أعظم منه ما لم تسمعه )) .
ثم قال : (( يا أبا بصير ؛ أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة (عليها السّلام) ؟ )) .
فبكيت حين قالها ؛ فما قدرت على المنطق ؛ وما قدرت على كلامي من البكاء . (مستدرك الوسائل 10 / 314 ـ 315) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) لزرارة : (( وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ . وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه ؛ ووصل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ وأدّى حقّنا . وما من عبد يُحشر إلاّ وعيناه باكيةٌ إلاّ الباكين على جدي الحسين (عليه السّلام) ؛ تحت العرش ؛ وفي ظل العرش ؛ لا يخافون سوء يوم الحساب )) . (مستدرك الوسائل 10 / 314) .
====
فلسفة الشعائر الحسينيّة:
كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة ، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام ، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة ؛ ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة ؛ وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي ؛ وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير .
ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين :
الشق الأوّل :
حول الجانب الفقهي ؛ ومدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها . والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس ؛ وإبداء الآراء الشخصية فيه ، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور ، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة . وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد ؛ رحم الله الماضين منهم ؛ وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة ؛ ولنصرة هذا الدين .
والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا ؛ وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم ؛ لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر ؛ بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها ؛ والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً ؛ وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) .
كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة ، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به . أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار ؛ وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ ؛ وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها . كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة .
والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده ، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي . فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية : عمل العامي بلا تقليد باطل .
وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات .
ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر ؛ وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ومدى تفاعله الشخصي معها . وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها ؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم ؛ وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى .
ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة ؛ وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم) ؛ ففيهم الكفاية لمَن يطلب ذلك ؛ ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك .
أما الشقّ الثاني :
فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر ؛ وما هو الغرض منها ؛ وماذا تمثل هذه الشعائر ؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب ؛ محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها ؛ سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك .
ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج ؛ ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة ؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها .
اللطم (اللدم) ، الزنجيل ، التطبير.
وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً ؛ والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش . ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر ؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود . على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ) .
وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث ، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر ؛ مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم ؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صلِ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم الشريف
http://im18.gulfup.com/ulyg3.jpg (http://www.gulfup.com/?j6v7ry)
:: فلسفة الشعائر الحسينيّة - اللطم - الزنجيل - التطبير ::
(إحسان الفضلي)
المراجعة والتدقيق : الأديب حيدر السلامي
====
الإهداء:
إلى إمامي وسيدي ومولاي صاحب العصر والزمان ؛ الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه ؛ وجعلنا من أنصاره) .
قالت اُمّ المصائب زينب (عليها السّلام) : فكد كيك ؛ واسعَ سعيك ، وناصب جهدك ؛ فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها . وهل رأيك إلاّ فند ؛ وأيامك إلاّ عدد ؛ وجمعك إلاّ بدد ؛ يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين .
فالحمد لله ربِّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ؛ ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
====
المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد اعتاد الباحث في مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) أن يجد إشاراتهم ومعطياتهم في كافة مجالات الحياة ؛ سواء العلميّة منها أو غير العلميّة ، فلا بدّ أن يكون هناك توضيح لطالب العلم وللمتحير في كيفية النهج الواجب اتخاذه لبلوغ الحق والرسوّ في شاطئ اليقين .
ومن هنا يتسائل الباحث عمّا أوضحته لنا مدرسة أهل البيت (عليهم السّلام) في المنهج الإعلامي ؛ وكيف لنا أن نستقي المعرفة منها في هذا المجال ؟
والمتتبع لتاريخ أهل البيت (عليهم السّلام) يستطيع أن يجد الإشارات الإعلاميّة واضحة بيّنة . ولعل من أوضحها سلاح البكاء الذي استخدمته الزهراء (عليها السّلام) ليكون رسالة إعلاميّة واضحة وصريحة الدلالة على سلب الحقوق ؛ وصرخة مدويّة بوجه الظالمين .
وإنّ هذا السلاح هو نفسه الذي استخدمه الإمام زين العابدين (عليه السّلام) (1) أمام الطغيان الاُموي ؛ فنحن نرى أحاديث أهل البيت (عليهم السّلام) العديدة في الحث على البكاء والتباكي ؛ وما هي في الحقيقة إلاّ دعوة صريحة لاستخدام هذا السلاح بوجه الطغاة والمتجبرين في كلِّ زمان ومكان .
والغريب أننا نرى اليوم بعض الدعوات والنداءات على ترك هذا السلاح الذي حثّ عليه أهل البيت (عليهم السّلام) في المناسبة تلو الاُخرى ، ونرى أصحاب هذه الدعوات أنفسهم يتقبّلون أساليب الإعلام الغربية بكل رحابة صدر ، في حين إنك ترى الغربيِّين يستخدمون للدلالة على الاحتجاج من وقوع ظلم معين الاعتصام مثلاً . وهو إن تأملت فيه تجده يقع في سياق البكاء للدلالة على الظلم , بل هما من قبيل وجهين لعملة واحدة تصب في مقام إيقاع الألم على النفس للدلالة على أنها تتعرض لألم أكبر هو الظلم .
وعندما يقع الاعتصام من أحد الأشخاص ترى الدنيا تقوم وتقعد ؛ لما يشير إليه الاعتصام من دلالة واضحة على سوء الإدارة المعنية ، وأنها مارست الظلم بحق الشخص المعتصم . وهذا ما نتلمسه كذلك من سلاح البكاء الذي هو من الاُمور الفطرية التي جعلها المولى (عزّ وجلّ) من طبيعة الجنس البشري ، وأنه عند تعرضه للألم يبكي .
والألم تارة يكون مادياً واُخرى يكون معنوياً ؛ فالإنسان عندما يتعرّض لفقد عزيز ؛ أو يُهضم حقه تراه يبكي بطبيعة الفطرة التي جعلها الله (عزّ وجلّ) فيه ، وهذا الألم المعنوي . وأمّا المادي فهو ما يتعرّض له من حوادث تؤدّي إلى تلف في جسمه ؛ من كسر أو جرح أو قرح وغيرها ، وبنفس الفطرة تراه يبكي عند التعرّض لمثل هذه الحوادث . ويتحول البكاء رمزاً ومتنفساً عندما يكون الألم ـ معنوياً كان أو مادياً ـ من الشدة بمكان .
وفي إطار تبيين فلسفة الشعائر الحسينيّة لا بدّ لنا أن نعلم أنّ الشعائر الحسينيّة هي رمز من رموز الاحتجاج الواضحة في وجه الظلم الذي وقع على أهل البيت (عليهم السّلام) ، ونرجو أن يكون لهذا العمل المتواضع ثقلاً في الميزان ، وأن يهدي إلى الحق .
كما وأرجو من جميع إخوتي في الإيمان أن يعفوا ويصفحوا عن العثرات والزلات ، وأن لا ينسونا من الدعاء بالتوفيق ؛ لكي نكون جميعاً من أنصار سيدة نساء العالمين ، المواسين لها في مصابها الجلل بما جرى عليها وعلى آل البيت (عليهم السّلام) (2) .
1 ـ قال الإمام جعفر الصادق (عليه السّلام) : (( البكّاؤون خمسة : آدم ؛ ويعقوب ؛ ويوسف ؛ وفاطمة بنت محمد ؛ وعلي بن الحسين (عليهم السّلام) ؛ فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتّى صار في خدّيه أمثال الأودية ؛ وأمّا يعقوب فبكى على يوسف حتّى ذهب بصره ؛ وحتّى قيل له : (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ) .
وأمّا يوسف فبكى على يعقوب حتّى تأذّى به أهلُ السجن ؛ فقالوا له : إمّا أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار ؛ وإمّا أن تبكي بالنهار وتسكت بالليل . فصالحهم على واحدة منهما ؛ وأمّا فاطمة فبكت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى تأذّى به أهل المدينة ؛ فقالوا لها : قد آذيتينا بكثرة بكائك . فكانت تخرج إلى المقابر ؛ مقابر الشهداء ؛ فتبكي حتّى تقضي حاجتها ثمّ تنصرف ؛ وأمّا علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السّلام) عشرين سنة ؛ أو أربعين سنة ؛ ما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى ؛ حتّى قال له مولىً له : جُعلت فداك يابن رسول الله ! إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين . قال : (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) . إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة لي )) (بحار الأنوار43 / 155 ـ باب 7) .
2 ـ عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله (عليه السّلام) اُحدّثه فدخل عليه ابنهُ ؛ فقال له : (( مرحباً )) . وضمّه وقبّله ؛ وقال : (( حقّر الله مَن حقّركم ؛ وانتقم الله ممّن وتركم ؛ وخذل الله مَن خذلكم ؛ ولعن الله مَن قتلكم ؛ وكان الله لكم ولياً وحافظاً وناصراً ؛ فقد طال بكاء النساء ؛ وبكاء الأنبياء والصدّيقين ؛ والشهداء وملائكة السماء )) .
ثمَّ بكى ؛ وقال : (( يا أبا بصير ؛ إذا نظرت إلى ولد الحسين (عليه السّلام) أتاني ما لا أملكه بما أتى إلى أبيهم وآلهم . يا أبا بصير ؛ إنّ فاطمة (عليها السّلام) لتبكيه وتشهق ، فتزفر جهنم زفرة لولا أنّ الخزنة يسمعون بكاءها ؛ وقد استعدّوا لذلك ؛ مخافة أن يخرج منها عنق ... إلى أن قال : فلا تزال الملائكة مشفقين ؛ يبكون لبكائها ؛ ويدعون الله ويتضرعون إليه ... )) .
إلى أن قال : قلتُ : جُعلت فداك ! إنّ هذا الأمر عظيم !
قال : (( غيره أعظم منه ما لم تسمعه )) .
ثم قال : (( يا أبا بصير ؛ أما تحبُّ أن تكون فيمن يُسعد فاطمة (عليها السّلام) ؟ )) .
فبكيت حين قالها ؛ فما قدرت على المنطق ؛ وما قدرت على كلامي من البكاء . (مستدرك الوسائل 10 / 314 ـ 315) .
وقال الإمام الصادق (عليه السّلام) لزرارة : (( وما عينٌ أحبّ إلى الله ولا عبرة من عين بكت ودمعت عليه ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) ـ . وما من باكٍ يبكيه إلاّ وقد وصل فاطمة وأسعدها عليه ؛ ووصل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ وأدّى حقّنا . وما من عبد يُحشر إلاّ وعيناه باكيةٌ إلاّ الباكين على جدي الحسين (عليه السّلام) ؛ تحت العرش ؛ وفي ظل العرش ؛ لا يخافون سوء يوم الحساب )) . (مستدرك الوسائل 10 / 314) .
====
فلسفة الشعائر الحسينيّة:
كثر في الآونة الأخيرة الكلام حول الشعائر الحسينيّة ، ولسنا هنا في معرض دراسة ومناقشة الأسباب التي تخفّت وراء هذا الكلام ، بل نسعى إلى أن نميط اللثام عن بعض النقاط غير الواضحة لدى كثيرين ممّن يخوضون في هذه الاُمور الدقيقة ؛ ويثيرون حولها النقاشات والحوارات التي قد تزيد الطين بلة ؛ وتسدل على الحقائق أستاراً وحجباً لعدم استنادها إلى المنهج العلمي ؛ وانحدارها إلى التذوّق الحسّي والانفعال العاطفي ليس غير .
ومن [خلال] متابعة هذه الحوارات وتقصّي محاورها وجدناها على الأكثر تنصبّ في شقين :
الشق الأوّل :
حول الجانب الفقهي ؛ ومدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ ومن خلاله التعرض إلى الجانب التأريخي لها . والمفجع في الأمر تداول هذا الجانب لدى عامة الناس ؛ وإبداء الآراء الشخصية فيه ، وكأن لا وجود لأهل الاختصاص الذين يجب أن نرجع إليهم في مثل هذا النوع من الاُمور ، ونعلم من خلالهم مدى مشروعيّة هذه الشعائر ؛ وكيفية التعامل معها من جهة شرعيّة . وأهل الاختصاص هم مراجعنا في التقليد ؛ رحم الله الماضين منهم ؛ وحفظ الباقين ذخراً لهذه الاُمّة ؛ ولنصرة هذا الدين .
والمتتبع لآراء فقهائنا يستطيع أن يرى بوضوح وجلاء تام أنّ مراجعنا ؛ وعلى مدى التسلسل التاريخي لهم ؛ لم يظهر فيهم من يحرّم هذه الشعائر ؛ بل في أقل التقادير ذهبوا إلى إباحتها ؛ والكثير منهم ذهب إلى استحبابها شرعاً ؛ وأنها من الاُمور التي تبيّن مدى مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) .
كما إنها من مظاهر الجزع على أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) ، هذا إلى جانب أنه لا يوجد دليل واحد على عدم مشروعيّة هذه الشعائر الحسينيّة ، وأعني دليلاً فقهياً يعتد به . أمّا الحديث عن أدلة من مثل أنّ هذه الشعائر غير إنسانية وما شابه فهو حديث خرافة ساقط عن الاعتبار ؛ وما هذه البالونات المثارة من حوله إلاّ تخرّصات لا يمكن اعتمادها كأدلةٍ فقهيةٍ ؛ وقد نوقشت وأمثالها من قبل فقهائنا الأجلاء بما يكفي الباحث مؤونة الرد عليها . كما أنّ هناك الكثير من المطبوعات التي تشير إلى الأدلة الشرعيّة التي اعتمدها فقهاؤنا في هذه المسألة .
والتكليف الشرعي أمام هذه الشعائر بتعدد أنواعها يرجع فيه الشخص إلى مرجع تقليده ، وليس إلى رأيه الشخصي وتشخيصه الموضوعي . فكما نعلم أنّ في جميع الرسائل العملية لمراجعنا (حفظهم الله) العبارة التالية : عمل العامي بلا تقليد باطل .
وهذه العبارة لا يذكرها فقهاؤنا إلاّ لأنها تبين أمراً واضحاً وصريحاً ورد في روايات أهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ولذا يجب على كلِّ مكلف الرجوع إلى مرجع تقليده في مسألة الشعائر الحسينيّة كما يرجع إليه في جميع العبادات والمعاملات .
ولا أظن ولم أسمع يوماً أنّ أحداً أجبر شخصاً آخر على ممارسة إحدى الشعائر ؛ وإنّما الأمر يرجع إلى نفس الشخص ومدى شعوره بالانتماء والولاء لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ ومدى تفاعله الشخصي معها . وهذا أمر واضح نستطيع أن نتلمسه من الواقع العملي لها ؛ فنجد شخصاً يشعر بالمواساة الحقيقية من خلال اللطم ؛ وآخر يشعر بها من خلال الزنجيل وغيرها من الشعائر الاُخرى .
ونحن هنا لسنا بصدد بيان الأدلّة الفقهية والتاريخيّة ؛ وسرد آراء المراجع (حفظهم الله ورعاهم) ؛ ففيهم الكفاية لمَن يطلب ذلك ؛ ويستطيع مراجعتهم أو وكلاءهم لتحصيل ذلك .
أما الشقّ الثاني :
فينحصر حول الجانب الفلسفي لهذه الشعائر ؛ وما هو الغرض منها ؛ وماذا تمثل هذه الشعائر ؟ وسيكون محور حديثنا حول هذا الجانب ؛ محاولين توضيحه بأبسط العبارة وأوضحها ؛ سائلين المولى الأجر والثواب في ذلك .
ولكي نبيّن هذا الجانب سنحاول أخذ بعض هذه الشعائر كاُنموذج ؛ ونشير إلى ما تمثّله وما تعنيه كلّ على حدة ؛ لكي يستطيع المتتبع أن يدرك من خلالها عمق وأبعاد المعاني التي تشير إليها .
اللطم (اللدم) ، الزنجيل ، التطبير.
وقد اخترت هذه الثلاثة بناءً على أنّ اللطم هو أكثر الشعائر انتشاراً ؛ والزنجيل والتطبير الأكثر تداولاً في النقاش . ولم استطع أن اُبيّن جميع الشعائر ؛ كون تعدادها وبيان حكمتها يخرج هذا الكتيب عن الاختصار المنشود . على أمل التعرض لها في مؤلّفات اُخرى إن شاء المولى (عزّ وجلّ) .
وقبل بيان حكمة كلٍّ من هذه المفردات الثلاث ، لا بدّ لي من الإشارة إلى العلّة والغاية التي لاجلهما قامت هذه الشعائر ؛ مع أني مهما ذكرت من العلل والغايات فإنها لن تكون سوى قطرة من بحر خضم ؛ لما تحمله هذه الشعائر من أهداف نبيلة سامية ترمي إلى خدمة الاُمّة ورفعتها .