بريق
19-11-2012, 05:26 PM
تأملات في وصية الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية قبل خروجه
*
حين عزم الإمام الحسين (عليه السلام) على الخروج من المدينة إلى مكة قام بزيارة قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتوديعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه، ثم ودع أهل بيته ممن لم يخرجوا معه وودع الصحابة والتابعيين من المهاجرين والأنصار، وقبل خروجه كتب وصية إلى المسلمين في المدينة وفي غيرها وختمها بختمه الشريف وسلمها إلى أخيه محمد ابن الحنفية وفيما يأتي نص الوصية:
«هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد ابن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أنّ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وأبي علي بن ابي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين» (راجع بحار الأنوار 4 / 329).
إنّ الناظر في بناء هذه الوصية يجد أنها تركز على ثلاثة أمور هي:
* 1 . بيان المرتكزات الأساسية للدين الإسلامي والتزامه بها. *
بدأ الإمام وصيته بالشهادة أنْ لا إله إلا الله، وانه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق من عنده ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وما ذكره الإمام هنا هو الأساس الذي قامت الدعوة الإسلامية من أجله، ودعت الناس إلى الإيمان به والتصديق برسالة السماء، والإمام حين ذكر هذه الأمور في بداية وصيته أراد أن يبين للمسلمين أنّ دعوته هي امتداد لدعوة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن منهجه هو منهج جده، وفي هذا دلالة على ان من يتبع منهجه إنما يتبع منهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
* 2 . إثبات ما بشرت به الرسالة المحمدية وكونه حقاً لا شك فيه. *
ثم بدأ بعد ذلك بإثبات ما بشرت به الدعوة الإسلامية وكونه حقاً وصدقاً، فالموت حق والجنة وثوابها حق والنار وعقابها حق، وبعث الأموات يوم القيامة حق، وهذه هي المفاهيم الإسلامية التي حملتها دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعت الناس إلى الإيمان بها، ولأن الإمام الحسين سائر على منهج جده فهو يؤمن بكل ما جاء به الرسول من مفاهيم تمثل مرتكزات الدين الإسلامي، وهو يدعو المسلمين إلى التمسك بهذه المفاهيم.
* إشكال وجواب *
وربما يتبادر سؤال في الأذهان ــ ما الغرض من تأكيد الإمام على هذه الأمور ودعوته إلى التمسك بها، وهي معروفة عند المسلمين وجاء بها القرآن في طائفة من آياته؟.
إن الواقع الذي يعيشه المسلمون بعد أكثر من نصف قرن من الدعوة الإسلامية يجعل لتأكيد الإمام على هذه الثوابت والتذكير بها مغزى دلالياً، وقد استعمل الإمام أسلوب التوكيد بـ«إن» في كل التراكيب التي بنى عليها وصيته ليوحي بحقيقة يمثلها الواقع المعاش، فقد بدأ كثير من الناس في عهد الدولة الأموية بالتحلل من المفاهيم الإسلامية، ولم يكن أكثرهم متمسكاً بالإسلام كما هو في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الراشدين، وبدأ كثير من المسلمين في عهد معاوية يتحللون من تعاليم الإسلام، فعادت النعرة الجاهلية وشاع شرب الخمر في أوساط ولاة المسلمين فكيف بالرعية؟! وبرزت إلى الوجود تلك الفكرة الجاهلية التي لا تؤمن بالبعث والحساب، والحياة بعد الموت والجنة والنار وغيرها من مفاهيم الإسلام، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الفكـرة الجاهلية بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} المؤمنون/37.
ومن هنا نرى الإمام الحسين يؤكد على أن هذه المفاهيم حق أنزله الله على رسوله وهو يشهد أنها حق، وقد آمن بها الأولون من الصحابة ولا شك ان شهادة الإمام الحسين في هذا الميدان لها ثقلها في ميزان الأعمال وعند المؤمنين، لأنها شهادة من إمام عصره وسليل بيت النبوة ووارث علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن نمثل على ما تقدم ذكره من تحلل بمسلك عمر بن سعد، وهو من التابعيين ومن معه، فقد خرج لقتال الإمام الحسين وهو يقول:
* يقولون أن الله خالق جنة*
* ونارٍ وتعذيب وغل يدين*
* فإنْ صدقوا فيما يقولون انني*
* أتوب إلى الرحمن من سنتين*
* وإنْ كذبوا فزنا بدنيا عظيمة*
* وملك عظيم دائم الحجلين*
وهل من تحلل أكبر من هذا فهو يشكك في وجود الحساب والعقاب والجنة والنار، ويستعمل فعل القول بمعنى الشك في وجود الجنة والنار، ويستعمل أداة الشرط «إن» وهي في هذا السياق تدل على ان ما بعدها غير متحقق الوقوع، وقوله دائم الحجلين يدل على إنكاره الآخرة وانه لا يرى غير الحياة الدنيا، ويمكن أن نجد مثل هذا المسلك في كثير من أفكار المسلمين في عهد الدولة الأموية.
* 3 . تحديد الهدف من خروجه (عليه السلام) ورفضه بيعة يزيد. *
وبعد تأكيد الإمام لهذه المفاهيم وتمسكه بها لأنها تمثل المنهج الأصيل للدعوة الإسلامية، بدأ بتحديد الأسباب التي دعته إلى رفض البيعة ليزيد وخروجه على حكمه موضحاً للمسلمين انه لم يخرج من أجل الخروج، ولم يخرج من أجل دنيا زائلة ولا ملك فانٍ، انما كان سبب خروجه هو طلب الإصلاح في أمة جده وأبيه بعد أن رأى الانحراف عن مبادئ الدين الإسلامي، فالمنكر لا ينهى عنه والمعروف لا يؤمر به، ورأى موت الدين وإحياء البدع ورأى الباطل يعلو على الحق وابتعاد الناس عن مبادئ الدين الإسلامي، وانتشار الفساد في البر والبحر، كل هذا دفعه إلى الخروج لطلب الإصلاح وإحياء الدين وإماتة البدع يدل على ذلك انه استعمل أداة الحصر «إنما» لتحديد هذا الهدف وتخصيصه بقول: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً... إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وأبي»، ومع انه كان يعرف المصير الذي ينتهي إليه فانه يعرف أيضا ان دمه هو القربان الذي به حياة الدين الإسلامي دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يعرف ان دمه هو الثمن الذي يستقيم به دين الإسلام، لذا قال للباترات: خذيني إذا كان في قتلي حياة الدين واستقامته والحفاظ على مبادئه.
لقد أراد الإمام أن يعيد سنة جده وأبيه في قيادة المسلمين والحفاظ على مبادئ الإسلام وحمايتها، ومن هنا كانت دعوته في هذه الوصية دعوة اختيار، فمن تبعه على وفق هدى الإسلام ومبادئه وسنة الرسول فهو على الحق الذي أراده الله ودعا إليه في كتابه، ومن لم يتبعه واختار الدنيا فهو حرُّ في اختياره، وسوف يصبر الإمام على كل حال حتى يقضي الله في أمره ويحكم بينه وبين القوم الظالمين لقد كانت دعوة الإمام دعوة صادقة لإصلاح الفساد وإعادة العمل بالقيم والمفاهيم التي أقرها الدين الإسلامي، وقد عبرت أبنية هذه الوصية بدقة عن مراد الإمام وكشفت من خلال تراكيبها عن الصراع الشديد من أجل حطام الدنيا الزائلة، لقد كانت دعوة صادقة من أجل تحكيم مبادئ الدين الإسلامي في بناء المجتمع ليصل من خلال ذلك إلى بر الأمان، ولكنها دعوة لم تجد أُذناً صاغية وشغلت الدنيا الناس عن الإسلام.
مكتبة العتبة الحسينية المقدسة
*
حين عزم الإمام الحسين (عليه السلام) على الخروج من المدينة إلى مكة قام بزيارة قبر جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتوديعه وإلقاء النظرة الأخيرة عليه، ثم ودع أهل بيته ممن لم يخرجوا معه وودع الصحابة والتابعيين من المهاجرين والأنصار، وقبل خروجه كتب وصية إلى المسلمين في المدينة وفي غيرها وختمها بختمه الشريف وسلمها إلى أخيه محمد ابن الحنفية وفيما يأتي نص الوصية:
«هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد ابن الحنفية، أنّ الحسين يشهد أنّ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وأبي علي بن ابي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين» (راجع بحار الأنوار 4 / 329).
إنّ الناظر في بناء هذه الوصية يجد أنها تركز على ثلاثة أمور هي:
* 1 . بيان المرتكزات الأساسية للدين الإسلامي والتزامه بها. *
بدأ الإمام وصيته بالشهادة أنْ لا إله إلا الله، وانه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق من عنده ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وما ذكره الإمام هنا هو الأساس الذي قامت الدعوة الإسلامية من أجله، ودعت الناس إلى الإيمان به والتصديق برسالة السماء، والإمام حين ذكر هذه الأمور في بداية وصيته أراد أن يبين للمسلمين أنّ دعوته هي امتداد لدعوة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن منهجه هو منهج جده، وفي هذا دلالة على ان من يتبع منهجه إنما يتبع منهج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
* 2 . إثبات ما بشرت به الرسالة المحمدية وكونه حقاً لا شك فيه. *
ثم بدأ بعد ذلك بإثبات ما بشرت به الدعوة الإسلامية وكونه حقاً وصدقاً، فالموت حق والجنة وثوابها حق والنار وعقابها حق، وبعث الأموات يوم القيامة حق، وهذه هي المفاهيم الإسلامية التي حملتها دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعت الناس إلى الإيمان بها، ولأن الإمام الحسين سائر على منهج جده فهو يؤمن بكل ما جاء به الرسول من مفاهيم تمثل مرتكزات الدين الإسلامي، وهو يدعو المسلمين إلى التمسك بهذه المفاهيم.
* إشكال وجواب *
وربما يتبادر سؤال في الأذهان ــ ما الغرض من تأكيد الإمام على هذه الأمور ودعوته إلى التمسك بها، وهي معروفة عند المسلمين وجاء بها القرآن في طائفة من آياته؟.
إن الواقع الذي يعيشه المسلمون بعد أكثر من نصف قرن من الدعوة الإسلامية يجعل لتأكيد الإمام على هذه الثوابت والتذكير بها مغزى دلالياً، وقد استعمل الإمام أسلوب التوكيد بـ«إن» في كل التراكيب التي بنى عليها وصيته ليوحي بحقيقة يمثلها الواقع المعاش، فقد بدأ كثير من الناس في عهد الدولة الأموية بالتحلل من المفاهيم الإسلامية، ولم يكن أكثرهم متمسكاً بالإسلام كما هو في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء الراشدين، وبدأ كثير من المسلمين في عهد معاوية يتحللون من تعاليم الإسلام، فعادت النعرة الجاهلية وشاع شرب الخمر في أوساط ولاة المسلمين فكيف بالرعية؟! وبرزت إلى الوجود تلك الفكرة الجاهلية التي لا تؤمن بالبعث والحساب، والحياة بعد الموت والجنة والنار وغيرها من مفاهيم الإسلام، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الفكـرة الجاهلية بقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} المؤمنون/37.
ومن هنا نرى الإمام الحسين يؤكد على أن هذه المفاهيم حق أنزله الله على رسوله وهو يشهد أنها حق، وقد آمن بها الأولون من الصحابة ولا شك ان شهادة الإمام الحسين في هذا الميدان لها ثقلها في ميزان الأعمال وعند المؤمنين، لأنها شهادة من إمام عصره وسليل بيت النبوة ووارث علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويمكن أن نمثل على ما تقدم ذكره من تحلل بمسلك عمر بن سعد، وهو من التابعيين ومن معه، فقد خرج لقتال الإمام الحسين وهو يقول:
* يقولون أن الله خالق جنة*
* ونارٍ وتعذيب وغل يدين*
* فإنْ صدقوا فيما يقولون انني*
* أتوب إلى الرحمن من سنتين*
* وإنْ كذبوا فزنا بدنيا عظيمة*
* وملك عظيم دائم الحجلين*
وهل من تحلل أكبر من هذا فهو يشكك في وجود الحساب والعقاب والجنة والنار، ويستعمل فعل القول بمعنى الشك في وجود الجنة والنار، ويستعمل أداة الشرط «إن» وهي في هذا السياق تدل على ان ما بعدها غير متحقق الوقوع، وقوله دائم الحجلين يدل على إنكاره الآخرة وانه لا يرى غير الحياة الدنيا، ويمكن أن نجد مثل هذا المسلك في كثير من أفكار المسلمين في عهد الدولة الأموية.
* 3 . تحديد الهدف من خروجه (عليه السلام) ورفضه بيعة يزيد. *
وبعد تأكيد الإمام لهذه المفاهيم وتمسكه بها لأنها تمثل المنهج الأصيل للدعوة الإسلامية، بدأ بتحديد الأسباب التي دعته إلى رفض البيعة ليزيد وخروجه على حكمه موضحاً للمسلمين انه لم يخرج من أجل الخروج، ولم يخرج من أجل دنيا زائلة ولا ملك فانٍ، انما كان سبب خروجه هو طلب الإصلاح في أمة جده وأبيه بعد أن رأى الانحراف عن مبادئ الدين الإسلامي، فالمنكر لا ينهى عنه والمعروف لا يؤمر به، ورأى موت الدين وإحياء البدع ورأى الباطل يعلو على الحق وابتعاد الناس عن مبادئ الدين الإسلامي، وانتشار الفساد في البر والبحر، كل هذا دفعه إلى الخروج لطلب الإصلاح وإحياء الدين وإماتة البدع يدل على ذلك انه استعمل أداة الحصر «إنما» لتحديد هذا الهدف وتخصيصه بقول: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً... إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وأبي»، ومع انه كان يعرف المصير الذي ينتهي إليه فانه يعرف أيضا ان دمه هو القربان الذي به حياة الدين الإسلامي دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يعرف ان دمه هو الثمن الذي يستقيم به دين الإسلام، لذا قال للباترات: خذيني إذا كان في قتلي حياة الدين واستقامته والحفاظ على مبادئه.
لقد أراد الإمام أن يعيد سنة جده وأبيه في قيادة المسلمين والحفاظ على مبادئ الإسلام وحمايتها، ومن هنا كانت دعوته في هذه الوصية دعوة اختيار، فمن تبعه على وفق هدى الإسلام ومبادئه وسنة الرسول فهو على الحق الذي أراده الله ودعا إليه في كتابه، ومن لم يتبعه واختار الدنيا فهو حرُّ في اختياره، وسوف يصبر الإمام على كل حال حتى يقضي الله في أمره ويحكم بينه وبين القوم الظالمين لقد كانت دعوة الإمام دعوة صادقة لإصلاح الفساد وإعادة العمل بالقيم والمفاهيم التي أقرها الدين الإسلامي، وقد عبرت أبنية هذه الوصية بدقة عن مراد الإمام وكشفت من خلال تراكيبها عن الصراع الشديد من أجل حطام الدنيا الزائلة، لقد كانت دعوة صادقة من أجل تحكيم مبادئ الدين الإسلامي في بناء المجتمع ليصل من خلال ذلك إلى بر الأمان، ولكنها دعوة لم تجد أُذناً صاغية وشغلت الدنيا الناس عن الإسلام.
مكتبة العتبة الحسينية المقدسة