صادق العارضي
20-11-2012, 07:25 AM
محطات مضيئة في حياة مسلم بن عقيل
هناك محطات كثيرة منيرة في حياة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه يقتبس منها الإنسان الدروس، ويستلهم منها الفضائل، فتنير له دربه في حياته اليومية، ويتزود منها بما يقربه إلى الله عز وجل ورسوله وأهل بيته صلوات الله عليهم، والقرب من الله عز وجل يكون بعبادته وطاعته، والقرب من الرسول (ص) وأهل بيته (ع) يكون بطاعتهم، وحيث أن الإشارة إلى بعض تلك المحطات يتوقف على إطلالة على عرض مختصر لشخصيته، فإنني سأقدم تعريفا موجزا حوله تمهيدا لذلك.
* تعريف مختصر
ولادته وأسرته: ولد مسلم بن عقيل في المدينة المنورة سنة 22هـ.
والده هو عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعمه الآخر جعفر الطيار الشهيد في مؤتة، فهو من أكرم الأصول وأطهرها، ومن الذين نشأوا بين خير الآباء والأعمام.
أمه أم ولد (أي جارية) يقال لها علية اشتراها عقيل بن أبي طالب. (مقاتل الطالبيين ص52)
كنيته: أبو داود. (الثقات لابن حبان ج5 ص391)
زوجاته وأولاده: تزوج بابنة عمه رقية بنت أمير المؤمنين (ع) المعروفة برقية الصغرى، فولدت له عبد الله، وقد رافقت زوجته رقية أخاها الإمام الحسين (ع) مع ابنها عبد الله في خروجه من مكة، فاستشهد عبد الله في كربلاء وأمه تنظر إليه على يد عمرو بن صبيح لعنه الله، حيث أصابه بسهم وكان واضعا يده على جبينه ليتقيه، فأصاب السهم كفه ونفذ إلى جبهته فسمرها به، ولم يستطع تحريك يده فطعنه آخر برمح في قلبه. (أمالي الصدوق ص217 المجلس30 ح1، مقاتل الطالبيين ص62، إبصار العين ص224، الإرشاد ج2 ص107)
كما تزوج مسلم بأم ولد فولدت له محمدا الذي استشهد في كربلاء على يد أبي مرهم الأزدي ولقيط بن إياس الجهني. (مقاتل الطالبيين ص62)
كما نقل الشيخ الصدوق في أماليه قصة طفلين صغيرين لمسلم بن عقيل أسرا من معسكر الإمام الحسين (ع) ثم أخذا إلى عبيد الله بن زياد فأوصى السجان بالتضييق عليهما في المأكل والمشرب وغير ذلك، فكانا يصومان النهار فإذا جنّهما الليل أفطرا على قرصين من شعير وكوز من الماء، ثم تذكر الرواية كيفية خروجهما من السجن وهروبهما حتى إلقاء القبض عليهما ثم قتلهما بقطع رؤوسهما. (الأمالي المجلس 19 ح2)
وهناك مقام لهما بالقرب من مدينة المسيّب.
صفاته الخلقية: عرف بقوة البدن والفتوة، ففي بعض كتب المناقب: أرسل الإمام الحسين (ع) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد، وكان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت. (بحار الأنوار ج44 ص354)
كما أشارت بعض المصادر إلى شبهه بالنبي (ص)، فعن أبي هريرة أنه قال: "ما رأيت من ولد عبد المطلب أشبه بالنبي (ص) من مسلم بن عقيل. (التاريخ الكبير للبخاري ج7 ص266، الثقات لابن حبان ج5 ص391)
سيرته: شارك مسلم بن عقيل في معركة صفين سنة 37هـ ولبسالته وشجاعته جعله أمير المؤمنين (ع) على ميمنة العسكر مع الحسن والحسين (ع) وعبد الله بن جعفر الطيار، بالرغم من أن عمر مسلم لم يبلغ آنذاك الثامنة عشر عاما.
بعد موت معاوية وانقضاء مدة الصلح وتخلف معاوية عن بنود الصلح أرسل الإمام الحسين (ع) مسلما في أواخر شهر رمضان سنة 60 للهجرة إلى أهل الكوفة بعد أن كتبوا إليه الكتب يشكون الحال، فأتى مسلم المدينة المنورة وصلى في مسجد الرسول (ص) ثم غادرها إلى الكوفة، ولما وصل الكوفة نزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وبايعه 18 ألفا من أهلها وكانوا يترددون عليه بشكل علني، فأرسل كتابا إلى الإمام الحسين (ع) بتاريخ 12 ذو القعدة مع عابس بن شبيب الشاكري يخبره ببيعة أهل الكوفة له.
واشتكى جماعة من أتباع بني أمية إلى يزيد من حال الوالي النعمان بن بشير واتهموه بالضعف وطالبوا بتغييره لعدم مواجهته حركة مسلم بن عقيل بالقوة والبطش، فوافق يزيد على جعل عبيد الله بن زياد واليا عليها مضافا إلى ولايته على البصرة، فقدم ابن زياد إلى الكوفة ومعه جمع من خاصته، وأخذ يهدد الناس ويتوعدهم، وأخذت سياسة التهديد تؤثر في النفوس الضعيفة، فتحول مسلم إلى دار هانئ بن عروة وصار الشيعة يتحولون إلى داره بشكل مخفي إلى أن اعتقل هاني بن عروة فخرج مسلم يوم 8 ذو الحجة هـ فتخلف أهل الكوفة عن نصرته حتى بقي وحيدا، وبقي ليلته في دار امرأة مؤمنة اسمها طوعة بعد أن قبلت باستضافته.
شهادته:
استشهد مسلم بن عقيل في الكوفة يوم 9 ذو الحجة سنة 60هـ بعد يوم واحد من خروج الإمام الحسين (ع) من مكة، وبعد مقاومة شديدة قتل فيها جمعا من جند ابن زياد تم إلقاء القبض عليه غدرا من قبل جيش ابن زياد، وقد أمر ابن زياد بقطع رأسه بالسيف وإلحاق بدنه بجسمه، فرفع أعلى قصر الكوفة فقتله بكير بن حمران الأحمري، ثم رميت جثته الطاهرة من أعلى القصر، ودفن بعد ذلك في مشهده المجاور لمسجد الكوفة.
محطات نورانية
وكما أسلفت فإن هناك محطات مشرقة في حياة هذا البطل العظيم، ومن أبرز تلك المحطات:
المحطة الأولى: الاعتماد والوثاقة
فقد قال الإمام الحسين (ع) في حقه حينما أرسله إلى أهل الكوفة: «وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». (تاريخ الطبري ج4 ص262)
وأن يكون مسلم بن عقيل أخا لسيد الشهداء (ع) فهذا اختصاص وفضل عظيم، وكذا أن يبلغ رتبة يكون فيها موضع ثقة الإمام الحسين (ع)، فإن الوثاقة لا تأتي بمجرد الصدق فرب صادق ولكنه بسيط فيخدع، وقد يكون الشخص صادقا ولكنه لا يثبت ولا يدقق فلا يمكنك الاعتماد عليه، أما مسلم بن عقيل فقد كان موضع الاعتماد، فقد كان عينا للإمام الحسين (ع) ونقل له الصورة بحسب الظاهر، وليس المطلوب في الاعتماد سوى التثبت ظاهرا وإيكال البواطن إلى الله عز وجل، وبالتالي فهو لا يتحمل غدر أهل الكوفة وانقلابهم.
وجاءت في زيارة مسلم بن عقيل الإشارة إلى بعض الجهات الموجبة للاعتماد وهي: «أشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل». (المزار الكبير للمشهدي ص177)
فقد كان مسلّما لإمامه فيما يقول، ومن الشواهد الجلية على ذلك قصة ما جرى عليه في بعثه إلى الكوفة من قبل سيد الشهداء (ع) سفيرا له، إذ أخذ معه دليلين فتاها وماتا في الطريق، فالتجأ إلى قرية يقال لها "المضيق"، وكتب إلى سيد الشهداء (ع) معربا عن تشاؤمه من سفره لما جرى على الدليلين وسأله أن يعفيه من هذه المهمة، فأجابه الإمام (ع) بإلزامه تحمل المهمة، فسلّم له وأذعن لأمره. (الإرشاد ج2 ص40، المناقب ج3 ص242)
أما الوفاء للإمام الحسين (ع) فقد تجلى في حرصه على إيصال رسالة للإمام الحسين (ع) يذكره فيها بغدر أهل الكوفة وهو على مسافة قريبة من الموت في قصر الكوفة.
فعندما ألقي القبض عليه بكى، فقيل له: «إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي، إذا نزل به الذي نزل بك لم يبك، قال: إني والله ما لنفسي بكيت، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي للحسين (ع) وآل الحسين». ( الإرشاد ج2 ص59)
وعندما أدخل على ابن زياد وأخبره أنه مقتول لا محالة، قال له: «دعني أوصي إلى بعض قومي، فقال: افعل، فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد، فقال: إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهي سر، فامتنع عمر بن سعد تظاهرا لعبيد الله بالإخلاص والمودة، فقال له عبيد الله: ويلك، لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك؟ فلما سمع ذلك من ابن زياد قام ابن سعد وأخذ مسلما إلى ناحية من القصر، وكان مما قال له مسلم: وابعث إلى الحسين (ع) من يردّه فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا"» . (تاريخ الطبري ج4 ص282، والإرشاد ج2 ص61، ومنتهى الآمال ج1 ص584)
وأما النصيحة فقد تعددت النصوص من أهل البيت (ع) بدعوة المؤمنين إلى النصح للإمام المعصوم. (الكافي ج3 ص538، الأمالي ص432)
ومعنى النصح للإمام (ع) طلب الخير له، وهذا لا يكون إلا مع النية الخالصة المقترنة بالإذعان وبذل غاية الجهد في القول والفعل، أما الإمام المعصوم فهو في غنى عن توجيه الآخرين له لما أعطاه الله عز وجل من علم الغيب ولعصمته من الخطأ، وهذا يؤكد على أن توجه الأمر للناس بالنصح للإمام المعصوم (ع) من جهة حسن إظهار الحرص لأمر الإمام بين الناس في الاتباع له وتقوية أمره وإن كان الناصح مخطئا في تشخيصه وتقييمه في واقع الأمر.
وقد ظهرت نصيحة مسلم بن عقيل في إبلاغه الإمام الحسين (ع) ما يراه من ظواهر الأمور، كما في الرسائل التي كتبها إلى الإمام الحسين (ع) من الكوفة، وكذلك حينما قدّر أن الأفضل أن يبتعد الإمام الحسين (ع) من الطريق العام حينما خرج من المدينة متوجها إلى مكة بعد طلب يزيد من والي المدينة أخذ البيعة له منه، إذ قال له: «يا بن بنت رسول الله، لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة كما فعل عبد الله بن الزبير، كان عندي الرأي، فإنا نخاف أن يلحقنا الطلب، فقال له الحسين (ع): لا والله يا بن عمي، لا فارقت هذا الطريق أبد، أو أنظر إلى أبيات مكة أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى». (الفتوح لابن أعثم ج5 ص22)
المحطة الثانية: الثبات والشجاعة
فمسلم بن عقيل بعد أن عرف ابن زياد بموضع اختبائه في دار "طوعة" أرسل الجند للهجوم عليه في الدار، فخرج مسلم إليهم بسيفه وشد عليهم حتى أخرجهم من الدار، وقاتلهم قتالا شديدا حتى قتل خمسة وأربعين رجلا منهم، فجعلوا يفرون منه أينما توجه، ولقد أصيب في مقاتلته لهم بضربة سيف بكر بن حمران أصابت شفته العليا فقطعها وأسرع السيف إلى السفلى حتى وصلت إلى ثنيتاه (أسنان المقدم)، ولكن ذلك لم يوقفه عن مواصلة القتال.
ولما عجز جند ابن زياد من مواجهته وجها لوجه استعانوا بطريقة أخرى وهي رميه بالحجارة وإلقاء النار المشتعلة بأطنان القصب عليه، ومع ذلك بقي صامدا وهجم عليهم ثانية وقتل جمعا آخر منهم، وإن نفس هذا القتال مع انفراده وعدم وجود ناصر معه لهو أكبر دليل على شجاعته وقلة مبالاته بأعدائه وبالموت. (منتهى الآمال ج1 ص580 و581)
كما لم يهتز مسلم قيد شعرة من تهديدات ابن زياد وبطشه بعد إلقاء القبض عليه، بل كان يقرعه بالكلمات الدامغة، فقد روى أبو الفرج الاصفهاني أن مسلم بن عقيل لما ألقى ابن زياد القبض عليه أدخلوه عليه، فلم يسلم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: «إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه، فقال له عبيد الله - لعنه الله - : لتُقتلنّ، .......، قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام، قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لم تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغيلة لمن هو أحق به منك». (مقاتل الطالبيين ص66)
المحطة الثالثة: التفقه المقرون بالعبادة والورع
مسلم بن عقيل كان صهرا لأمير المؤمنين (ع) وملازما له ولولديه الإمامين الحسن والحسين (ع)، فاغترف من علومهم ومعرفتهم بالدين وأحكامه وتزود من ورعهم وخوفهم من الله عز وجل وعبادتهم له، فلا خير في علم لا ورع فيه، وعن أمير المؤمنين (ع): «أفضل الفقه الورع عن دين الله». (أمالي المفيد ص268)
ومن الشواهد على هذه الخصلة ما جاء في كتب أهل السنة أن مسلما كان يقول للناس: «ويلكم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة». (رواه الصنعاني في المصنف ج2 ص436 ح3990 بسند يعتمد عليه، إذ ليس فيه سوى صفوان بن موهب، وقد وثقه ابن حبان ولم يرد فيه جرح، وأورده ابن حزم في المحلى ج3 ص111، والعيني في عمدة القاري ج5 ص184)
وكلامه إشارة إلى حكم شرعي ورد في روايات أهل البيت (ع)، وهو أنه إذا شرع أحد بالإقامة لصلاة الجماعة الواجبة فلا ينبغي الشروع في أداء النوافل، فإنه مكروه. (وسائل الشيعة ج5 ص452 ط آل البيت)
وشاهد جلي آخر على فقهه وورعه عدم شربه الماء المختلط بالدم عند شهادته، فإنه بعد قتاله وأسره من قبل أتباع ابن زياد كان قد أصابه العطش الشديد، فلما أخذ إلى قصر ابن زياد رأى قلة (جرّة، كوز) مبردة موضوعة على بابه فقال: «اسقوني من هذا الماء» ، فقال له مسلم بن عمر وأبو قتيبة بن مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها، فوالله لا تذوق منها قطرة واحدة حتى تذوق الحميم في نار جهنم، فقال له مسلم: «ويلك، ولأمك الثكل، ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم» ، ثم جلس فتساند إلى حائط فرقّ له عمرو بن حريث فبعث إليه غلاما له فجاءه بقلة عليها منديل وقدح معه فصب فيه الماء ثم سقاه، فأخذ كلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دما من فيه فأخذ لا يشرب من الدم.
وفعل ذلك مرة أو مرتين، فلما أراد أن يشرب الثالثة سقطت ثنيتاه في القدح، فقال: «الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته». (مقاتل الطالبيين ص66، بحار الأنوار ج44 ص355، منتهى الآمال ج1 ص583)
ومن المعلوم فقهيا أنه لا يجوز شرب الماء المتنجس بالدم، ومسلم لم يحدّث نفسه بأنه في حالة الحرج الشديد المسوّغة لشرب المتنجس، بل تركه حتى بعد قدرته عليه بعد سقوط أسنانه، وأسلم الأمر لربه وقال عبارة تدل على يقين شديد بما يقسم الله عز وجل ويرضاه له، وكأن المشيئة الإلهية اقتضت أن يواسي سيد الشهداء (ع) في عطشه.
ومن الشواهد على ورع مسلم حرصه على أداء دينه في اللحظات الأخيرة من عمره، فقد روى أبو الفرج الاصفهاني أن ابن زياد حينما أخبر مسلما بقتله، قال مسلم: دعني إذن أوصي إلى بعض القوم، قال: أوص إلى من أحببت، فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر إن بيني وبينك قربة دون هؤلاء، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي، وهي سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد - لعنه الله - فقال له ابن عقيل: إن عليّ بالكوفة دينا استدنته مذ قدمتها، تقضيه عني حتى يأتيك عني غلتي من المدينة، وجثتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين فيرده، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك، قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنه لا يخون الأمين ولا يؤتمن الخائن، قال: كذا وكذا، قال: أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثته فإنا لا نشفّعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل وقد خالفنا وحرص على هلاكنا. (مقاتل الطالبيين ص67)
ومن أمثلة عبادة مسلم قضاؤه ليلة شهادته بالعبادة، ففي كامل البهائي: أن مسلم بن عقيل كان في الدعاء إذ سمع حوافر الخيل وصهيلها، فعجّل في دعائه وأتمه فلبس لامته، وقال لطوعة:« يا أمة الله، قد أديت ما عليك من الخير، ولك نصيب من شفاعة رسول الله (ع)، وقد رأيت عمي أمير المؤمنين (ع) في المنام فقال لي: ستلحق بي غدا». (كامل البهائي ج2 ص275، عنه منتهى الآمال ج1 ص580)
ويروي أبو الفرج أيضا أنه لما أرادوا أن يصعدوا بمسلم أعلى القصر ليقتلوه، صعد وهو يستغفر الله ويصلي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وعلى أنبيائه ورسله وملائكته وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكادونا وخذلونا. (مقاتل الطالبيين ص67)
المحطة الرابعة: التحلي بالقيم وعدم الانجرار إلى أخلاق الأعداء
صاحب المبادئ هو الذي يلتزم بالقيم ويجعلها المقياس في تحركاته، فلا يتجاوزها وإن كان في ذلك خسارة ظاهرية له، لأن قيمة الفضيلة أغلى من أي مكسب دنيوي، وبمدى الالتزام بهذه القيم يظهر الفارق بين الإنسان الرسالي وبين الإنسان الوصولي.
وهذا ما كان عليه حال مسلم بن عقيل، فإنه مع معرفته بأخلاق أعدائه من الغدر ونكث العهود والمكر والكذب فإنه أبى إلا الامتثال للفضائل العالية ولم ينحدر إلى أخلاق العدو، فعندما كان في منزل هاني بن عروة متخفيا وعلم بقدوم ابن زياد لزيارة هاني بن عروة الذي كان مريضا (وقيل أن المريض كان شريك بن الأعور)، فأخبره هانئ أنه سيعطيه إشارة معينة لكي يقتل ابن زياد عندما يكون معه لوحده في غرفته، ثم لما أعطاه الجملة التي فيها الإذن بالقتل لم يفعل مسلم ذلك، حتى شك ابن زياد في هاني، فلما خرج ابن زياد سأل مسلما عن سبب امتناعه عن القتل بالرغم من أن ابن زياد فاجر غادر، فقال مسلم: إنما لم أقتله لحديث بلغني عن النبي (ص) قال فيه:« الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن» ، وإنا أهل بيت نكره الغدر. (مقاتل الطالبيين ص66، الأخبار الطوال ص235، تاريخ الكوفة للبراقي ص328)
المحطة الخامسة: السبق في الشهادة بين أصحاب الحسين وبني هاشم
مسلم بن عقيل هو أول من قتل من أصحاب الإمام الحسين (ع). (مقاتل الطالبيين ص52)
وهو أول شهيد سحبت جثته في الإسلام، فلم ينقل التاريخ عمن سحبت جثته قبله.
وهو أول رأس يحمل من بني هاشم، حيث قطعوا رأسه ثم حملوه إلى يزيد بن معاوية في الشام. (مروج الذهب ج2 ص10، والثقات لابن حبان ج2 ص309)
وهو أول من صلبت جثته بعد قتله، وفيه وفي هاني بن عروة يقول عبد الله بن الزبير بن الأشيم بن الأعشى:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل
ترى جسدا قد غيـرت المـوت لونه * ونضح دم قد سال كل مسيـل
(مروج الذهب ج2 ص10، والطبقات الكبرى ج4 ص42، وتاريخ دمشق ج28 ص259، وتذكرة الخواص ص242، وكذا في شرح الأخبار ج3 ص147، ومنه تعلم أن ما ذكره محقق كتاب "شرح الأخبار" من عدم وجود نص على صلبه من المؤرخين ليس في محله).
وهو أول من قاتل من بني هاشم لوحده بين الأعداء، وأول من أسر منهم.
وهذه الأولية والسبق ليست أولية عددية، بل أولية تعكس رتبة ومنزلة، ولا تكون إلا لعظيم الإيمان والتصديق واليقين.
المحطة السادسة: تقديم أولاده قرابين للدين والحسين (ع)
قد استشهد مع سيد الشهداء تسعة من آل عقيل، وعلى رأسهم مسلم بن عقيل، وأخوانه عبد الرحمن ومحمد وجعفر، وأولاده عبد الله ومحمد والطفلين الصغيرين، وابن أخيه محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب
وكان الإمام السجاد (ع) يميل إلى ولد عقيل فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمك هؤلاء دون آل جعفر؟ فقال: «إني لأذكر يومهم مع أبي عبد الله (ع) فأرقّ لهم». (كامل الزيارات ص216 باب35 ح2)
وقد ربى مسلم بن عقيل أولاده على حب الإمام الحسين (ع) والتضحية والفداء دونه لأن الفداء دونه يعني الفداء دون الدين، وما نقله التاريخ من مواقف خالدة لأولاده الشهداء في كربلاء إنما هو انعكاس لروحية مسلم وصفاته من الشجاعة وإيثار الآخرة على الدنيا والغيرة والحمية وهي خصال أخذها من أهل البيت (ع).
ومن المواقف التي تظهر فيها آثار تلك التربية ما رواه الدينوري أنه لما رحل الإمام الحسين (ع) من زرود تلقاه رجل من بني أسد، فسأله عن الخبر، فقال: لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيت الصبيان يجرون بأرجلهما، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله نحتسب أنفسنا.
فقال له: أنشدك بالله يا بن رسول الله في نفسك، وأنفس أهل بيتك، هؤلاء الذين نراهم معك، انصرف إلى موضعك، ودع المسير إلى الكوفة، فوالله ما لها بك ناصر، فقال بنو عقيل وكانوا معه: ما لنا في العيش بعد أخينا حاجة، ولسنا براجعين حتى نموت، فقال الحسين (ع): فما خير في العيش بعد هؤلاء». (الأخبار الطوال ص247)
ومن أجلى مظاهر تلك التربية نجله عبد الله بن مسلم بن عقيل، فقد روي أنه برز ووقف بإزاء الحسين (ع) وقال: «يا مولاي أتأذن لي بالبراز؟ فقال له الحسين (ع): يا بني كفاك وأهلك القتل، أنت في حل من بيعتي، حسبك قتل أبيك مسلم، خذ بيد أمك واخرج من هذه المعركة، فقال: يا عم بماذا ألقى جدك محمدا (ص) وقد تركتك سيدي، والله لا كان ذلك أبدا بل أقتل دونك حتى ألقى الله بذلك، لست والله ممن يؤثر دنياه على آخرته».
وهذه كلمة عظيمة وهي درس لنا في حياتنا، فما بلغ عبد الله منزلة الشهادة بين يدي الحسين (ع) إلا لأنه كان في حياته اليومية ممن يؤثر آخرته على دنياه.
وذكر بعضهم أن عبد الله بن مسلم هو أول من برز من أهل بيت الإمام الحسين (ع)، فبرز وحسر عن ذراعيه وهو يرتجز ويقول:
نحن بنـو هاشـم الكرام * نحمي بنـات السيد الهمـام
سبط رسول الملك العلام * نسل علي الفارس الضرغام
فدونكم أضرب بالصمصام * والطعن بالعسال باهتمام
وقال أيضا:
اليوم ألقى مسلما وهو أبي * وفتية بادوا على دين النبي
ليسوا بقوم عرفوا بالكذب * لكن خيـار وكرام النسـب
فلم يزل يقاتل حتى قتل من الأعداء نيفا وخمسين فارسا، وفي رواية أخرى: ثمانية وتسعين رجلا، ثم قتل رضوان الله عليه، فلما نظر الحسين إليه قال: «اللهم اقتل قاتل آل عقيل، ثم قال: احملوا عليهم بارك الله فيكم، وبادروا إلى الجنة التي هي دار الإيمان». (ينابيع المودة ج3 ص73، ومعالي السبطين ج1 ص402، ومقتل الحسين ومصرع أهل بيته ص113، بحا الأنوار ج45 ص23)
وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (ع)، عن أبيه الباقر (ع) عن جده زين العابدين (ع) أن عبيد الله بن زياد لما بلغه أن عمر بن سعد يكره قتال الحسين (ع) بعث إليه شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف فارس، ومعه كتاب فيه: إذا أتاك كتابي هذا فلا تمهلن الحسين بن علي وخذ بكظمه، وحل بين الماء وبينه كما حيل بين عثمان وبين الماء يوم الدار.
فلما وصل الكتاب إلى عمر بن سعد (لعنه الله) أمر مناديه فنادى: إنا قد أجلنا حسينا وأصحابه يومهم وليلتهم، فشق ذلك على الحسين (ع) وعلى أصحابه، فقام الحسين (ع) في أصحابه خطيبا: فقال: «اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحابا هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حل من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وتفرقوا في سواده، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري.
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل، فقال: يا بن رسول الله، ماذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيد الأعمام، وابن نبينا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح! لا والله أو نرد موردك، ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك، فقد قضينا ما علينا، وخرجنا مما لزمنا». (الأمالي ص220)
وعن الإمام السجاد (ع) أنه برز عبد الله بن مسلم بن عقيل بعد مقتل هلال بن حجاج، وأنشأ يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حُرَّا * وقد وجدت الموت شيئا ُمرَّا
أكره أن أدعى جبانا فرا * إن الجبان من عصى وفَرَّا
فقتل منهم ثلاثة ثم قٌتل. (الأمالي ص225 المجلس30 ح1)
مما راق لي
هناك محطات كثيرة منيرة في حياة مسلم بن عقيل رضوان الله عليه يقتبس منها الإنسان الدروس، ويستلهم منها الفضائل، فتنير له دربه في حياته اليومية، ويتزود منها بما يقربه إلى الله عز وجل ورسوله وأهل بيته صلوات الله عليهم، والقرب من الله عز وجل يكون بعبادته وطاعته، والقرب من الرسول (ص) وأهل بيته (ع) يكون بطاعتهم، وحيث أن الإشارة إلى بعض تلك المحطات يتوقف على إطلالة على عرض مختصر لشخصيته، فإنني سأقدم تعريفا موجزا حوله تمهيدا لذلك.
* تعريف مختصر
ولادته وأسرته: ولد مسلم بن عقيل في المدينة المنورة سنة 22هـ.
والده هو عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وعمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعمه الآخر جعفر الطيار الشهيد في مؤتة، فهو من أكرم الأصول وأطهرها، ومن الذين نشأوا بين خير الآباء والأعمام.
أمه أم ولد (أي جارية) يقال لها علية اشتراها عقيل بن أبي طالب. (مقاتل الطالبيين ص52)
كنيته: أبو داود. (الثقات لابن حبان ج5 ص391)
زوجاته وأولاده: تزوج بابنة عمه رقية بنت أمير المؤمنين (ع) المعروفة برقية الصغرى، فولدت له عبد الله، وقد رافقت زوجته رقية أخاها الإمام الحسين (ع) مع ابنها عبد الله في خروجه من مكة، فاستشهد عبد الله في كربلاء وأمه تنظر إليه على يد عمرو بن صبيح لعنه الله، حيث أصابه بسهم وكان واضعا يده على جبينه ليتقيه، فأصاب السهم كفه ونفذ إلى جبهته فسمرها به، ولم يستطع تحريك يده فطعنه آخر برمح في قلبه. (أمالي الصدوق ص217 المجلس30 ح1، مقاتل الطالبيين ص62، إبصار العين ص224، الإرشاد ج2 ص107)
كما تزوج مسلم بأم ولد فولدت له محمدا الذي استشهد في كربلاء على يد أبي مرهم الأزدي ولقيط بن إياس الجهني. (مقاتل الطالبيين ص62)
كما نقل الشيخ الصدوق في أماليه قصة طفلين صغيرين لمسلم بن عقيل أسرا من معسكر الإمام الحسين (ع) ثم أخذا إلى عبيد الله بن زياد فأوصى السجان بالتضييق عليهما في المأكل والمشرب وغير ذلك، فكانا يصومان النهار فإذا جنّهما الليل أفطرا على قرصين من شعير وكوز من الماء، ثم تذكر الرواية كيفية خروجهما من السجن وهروبهما حتى إلقاء القبض عليهما ثم قتلهما بقطع رؤوسهما. (الأمالي المجلس 19 ح2)
وهناك مقام لهما بالقرب من مدينة المسيّب.
صفاته الخلقية: عرف بقوة البدن والفتوة، ففي بعض كتب المناقب: أرسل الإمام الحسين (ع) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد، وكان من قوته أنه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت. (بحار الأنوار ج44 ص354)
كما أشارت بعض المصادر إلى شبهه بالنبي (ص)، فعن أبي هريرة أنه قال: "ما رأيت من ولد عبد المطلب أشبه بالنبي (ص) من مسلم بن عقيل. (التاريخ الكبير للبخاري ج7 ص266، الثقات لابن حبان ج5 ص391)
سيرته: شارك مسلم بن عقيل في معركة صفين سنة 37هـ ولبسالته وشجاعته جعله أمير المؤمنين (ع) على ميمنة العسكر مع الحسن والحسين (ع) وعبد الله بن جعفر الطيار، بالرغم من أن عمر مسلم لم يبلغ آنذاك الثامنة عشر عاما.
بعد موت معاوية وانقضاء مدة الصلح وتخلف معاوية عن بنود الصلح أرسل الإمام الحسين (ع) مسلما في أواخر شهر رمضان سنة 60 للهجرة إلى أهل الكوفة بعد أن كتبوا إليه الكتب يشكون الحال، فأتى مسلم المدينة المنورة وصلى في مسجد الرسول (ص) ثم غادرها إلى الكوفة، ولما وصل الكوفة نزل دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وبايعه 18 ألفا من أهلها وكانوا يترددون عليه بشكل علني، فأرسل كتابا إلى الإمام الحسين (ع) بتاريخ 12 ذو القعدة مع عابس بن شبيب الشاكري يخبره ببيعة أهل الكوفة له.
واشتكى جماعة من أتباع بني أمية إلى يزيد من حال الوالي النعمان بن بشير واتهموه بالضعف وطالبوا بتغييره لعدم مواجهته حركة مسلم بن عقيل بالقوة والبطش، فوافق يزيد على جعل عبيد الله بن زياد واليا عليها مضافا إلى ولايته على البصرة، فقدم ابن زياد إلى الكوفة ومعه جمع من خاصته، وأخذ يهدد الناس ويتوعدهم، وأخذت سياسة التهديد تؤثر في النفوس الضعيفة، فتحول مسلم إلى دار هانئ بن عروة وصار الشيعة يتحولون إلى داره بشكل مخفي إلى أن اعتقل هاني بن عروة فخرج مسلم يوم 8 ذو الحجة هـ فتخلف أهل الكوفة عن نصرته حتى بقي وحيدا، وبقي ليلته في دار امرأة مؤمنة اسمها طوعة بعد أن قبلت باستضافته.
شهادته:
استشهد مسلم بن عقيل في الكوفة يوم 9 ذو الحجة سنة 60هـ بعد يوم واحد من خروج الإمام الحسين (ع) من مكة، وبعد مقاومة شديدة قتل فيها جمعا من جند ابن زياد تم إلقاء القبض عليه غدرا من قبل جيش ابن زياد، وقد أمر ابن زياد بقطع رأسه بالسيف وإلحاق بدنه بجسمه، فرفع أعلى قصر الكوفة فقتله بكير بن حمران الأحمري، ثم رميت جثته الطاهرة من أعلى القصر، ودفن بعد ذلك في مشهده المجاور لمسجد الكوفة.
محطات نورانية
وكما أسلفت فإن هناك محطات مشرقة في حياة هذا البطل العظيم، ومن أبرز تلك المحطات:
المحطة الأولى: الاعتماد والوثاقة
فقد قال الإمام الحسين (ع) في حقه حينما أرسله إلى أهل الكوفة: «وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل». (تاريخ الطبري ج4 ص262)
وأن يكون مسلم بن عقيل أخا لسيد الشهداء (ع) فهذا اختصاص وفضل عظيم، وكذا أن يبلغ رتبة يكون فيها موضع ثقة الإمام الحسين (ع)، فإن الوثاقة لا تأتي بمجرد الصدق فرب صادق ولكنه بسيط فيخدع، وقد يكون الشخص صادقا ولكنه لا يثبت ولا يدقق فلا يمكنك الاعتماد عليه، أما مسلم بن عقيل فقد كان موضع الاعتماد، فقد كان عينا للإمام الحسين (ع) ونقل له الصورة بحسب الظاهر، وليس المطلوب في الاعتماد سوى التثبت ظاهرا وإيكال البواطن إلى الله عز وجل، وبالتالي فهو لا يتحمل غدر أهل الكوفة وانقلابهم.
وجاءت في زيارة مسلم بن عقيل الإشارة إلى بعض الجهات الموجبة للاعتماد وهي: «أشهد لك بالتسليم والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل». (المزار الكبير للمشهدي ص177)
فقد كان مسلّما لإمامه فيما يقول، ومن الشواهد الجلية على ذلك قصة ما جرى عليه في بعثه إلى الكوفة من قبل سيد الشهداء (ع) سفيرا له، إذ أخذ معه دليلين فتاها وماتا في الطريق، فالتجأ إلى قرية يقال لها "المضيق"، وكتب إلى سيد الشهداء (ع) معربا عن تشاؤمه من سفره لما جرى على الدليلين وسأله أن يعفيه من هذه المهمة، فأجابه الإمام (ع) بإلزامه تحمل المهمة، فسلّم له وأذعن لأمره. (الإرشاد ج2 ص40، المناقب ج3 ص242)
أما الوفاء للإمام الحسين (ع) فقد تجلى في حرصه على إيصال رسالة للإمام الحسين (ع) يذكره فيها بغدر أهل الكوفة وهو على مسافة قريبة من الموت في قصر الكوفة.
فعندما ألقي القبض عليه بكى، فقيل له: «إن من يطلب مثل الذي تطلب لا يبكي، إذا نزل به الذي نزل بك لم يبك، قال: إني والله ما لنفسي بكيت، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إليّ، أبكي للحسين (ع) وآل الحسين». ( الإرشاد ج2 ص59)
وعندما أدخل على ابن زياد وأخبره أنه مقتول لا محالة، قال له: «دعني أوصي إلى بعض قومي، فقال: افعل، فنظر مسلم إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد، فقال: إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهي سر، فامتنع عمر بن سعد تظاهرا لعبيد الله بالإخلاص والمودة، فقال له عبيد الله: ويلك، لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك؟ فلما سمع ذلك من ابن زياد قام ابن سعد وأخذ مسلما إلى ناحية من القصر، وكان مما قال له مسلم: وابعث إلى الحسين (ع) من يردّه فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا"» . (تاريخ الطبري ج4 ص282، والإرشاد ج2 ص61، ومنتهى الآمال ج1 ص584)
وأما النصيحة فقد تعددت النصوص من أهل البيت (ع) بدعوة المؤمنين إلى النصح للإمام المعصوم. (الكافي ج3 ص538، الأمالي ص432)
ومعنى النصح للإمام (ع) طلب الخير له، وهذا لا يكون إلا مع النية الخالصة المقترنة بالإذعان وبذل غاية الجهد في القول والفعل، أما الإمام المعصوم فهو في غنى عن توجيه الآخرين له لما أعطاه الله عز وجل من علم الغيب ولعصمته من الخطأ، وهذا يؤكد على أن توجه الأمر للناس بالنصح للإمام المعصوم (ع) من جهة حسن إظهار الحرص لأمر الإمام بين الناس في الاتباع له وتقوية أمره وإن كان الناصح مخطئا في تشخيصه وتقييمه في واقع الأمر.
وقد ظهرت نصيحة مسلم بن عقيل في إبلاغه الإمام الحسين (ع) ما يراه من ظواهر الأمور، كما في الرسائل التي كتبها إلى الإمام الحسين (ع) من الكوفة، وكذلك حينما قدّر أن الأفضل أن يبتعد الإمام الحسين (ع) من الطريق العام حينما خرج من المدينة متوجها إلى مكة بعد طلب يزيد من والي المدينة أخذ البيعة له منه، إذ قال له: «يا بن بنت رسول الله، لو عدلنا عن الطريق وسلكنا غير الجادة كما فعل عبد الله بن الزبير، كان عندي الرأي، فإنا نخاف أن يلحقنا الطلب، فقال له الحسين (ع): لا والله يا بن عمي، لا فارقت هذا الطريق أبد، أو أنظر إلى أبيات مكة أو يقضي الله في ذلك ما يحب ويرضى». (الفتوح لابن أعثم ج5 ص22)
المحطة الثانية: الثبات والشجاعة
فمسلم بن عقيل بعد أن عرف ابن زياد بموضع اختبائه في دار "طوعة" أرسل الجند للهجوم عليه في الدار، فخرج مسلم إليهم بسيفه وشد عليهم حتى أخرجهم من الدار، وقاتلهم قتالا شديدا حتى قتل خمسة وأربعين رجلا منهم، فجعلوا يفرون منه أينما توجه، ولقد أصيب في مقاتلته لهم بضربة سيف بكر بن حمران أصابت شفته العليا فقطعها وأسرع السيف إلى السفلى حتى وصلت إلى ثنيتاه (أسنان المقدم)، ولكن ذلك لم يوقفه عن مواصلة القتال.
ولما عجز جند ابن زياد من مواجهته وجها لوجه استعانوا بطريقة أخرى وهي رميه بالحجارة وإلقاء النار المشتعلة بأطنان القصب عليه، ومع ذلك بقي صامدا وهجم عليهم ثانية وقتل جمعا آخر منهم، وإن نفس هذا القتال مع انفراده وعدم وجود ناصر معه لهو أكبر دليل على شجاعته وقلة مبالاته بأعدائه وبالموت. (منتهى الآمال ج1 ص580 و581)
كما لم يهتز مسلم قيد شعرة من تهديدات ابن زياد وبطشه بعد إلقاء القبض عليه، بل كان يقرعه بالكلمات الدامغة، فقد روى أبو الفرج الاصفهاني أن مسلم بن عقيل لما ألقى ابن زياد القبض عليه أدخلوه عليه، فلم يسلم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: «إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه، فقال له عبيد الله - لعنه الله - : لتُقتلنّ، .......، قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام، قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لم تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغيلة لمن هو أحق به منك». (مقاتل الطالبيين ص66)
المحطة الثالثة: التفقه المقرون بالعبادة والورع
مسلم بن عقيل كان صهرا لأمير المؤمنين (ع) وملازما له ولولديه الإمامين الحسن والحسين (ع)، فاغترف من علومهم ومعرفتهم بالدين وأحكامه وتزود من ورعهم وخوفهم من الله عز وجل وعبادتهم له، فلا خير في علم لا ورع فيه، وعن أمير المؤمنين (ع): «أفضل الفقه الورع عن دين الله». (أمالي المفيد ص268)
ومن الشواهد على هذه الخصلة ما جاء في كتب أهل السنة أن مسلما كان يقول للناس: «ويلكم إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة». (رواه الصنعاني في المصنف ج2 ص436 ح3990 بسند يعتمد عليه، إذ ليس فيه سوى صفوان بن موهب، وقد وثقه ابن حبان ولم يرد فيه جرح، وأورده ابن حزم في المحلى ج3 ص111، والعيني في عمدة القاري ج5 ص184)
وكلامه إشارة إلى حكم شرعي ورد في روايات أهل البيت (ع)، وهو أنه إذا شرع أحد بالإقامة لصلاة الجماعة الواجبة فلا ينبغي الشروع في أداء النوافل، فإنه مكروه. (وسائل الشيعة ج5 ص452 ط آل البيت)
وشاهد جلي آخر على فقهه وورعه عدم شربه الماء المختلط بالدم عند شهادته، فإنه بعد قتاله وأسره من قبل أتباع ابن زياد كان قد أصابه العطش الشديد، فلما أخذ إلى قصر ابن زياد رأى قلة (جرّة، كوز) مبردة موضوعة على بابه فقال: «اسقوني من هذا الماء» ، فقال له مسلم بن عمر وأبو قتيبة بن مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها، فوالله لا تذوق منها قطرة واحدة حتى تذوق الحميم في نار جهنم، فقال له مسلم: «ويلك، ولأمك الثكل، ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك، أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم» ، ثم جلس فتساند إلى حائط فرقّ له عمرو بن حريث فبعث إليه غلاما له فجاءه بقلة عليها منديل وقدح معه فصب فيه الماء ثم سقاه، فأخذ كلما أراد أن يشرب امتلأ القدح دما من فيه فأخذ لا يشرب من الدم.
وفعل ذلك مرة أو مرتين، فلما أراد أن يشرب الثالثة سقطت ثنيتاه في القدح، فقال: «الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته». (مقاتل الطالبيين ص66، بحار الأنوار ج44 ص355، منتهى الآمال ج1 ص583)
ومن المعلوم فقهيا أنه لا يجوز شرب الماء المتنجس بالدم، ومسلم لم يحدّث نفسه بأنه في حالة الحرج الشديد المسوّغة لشرب المتنجس، بل تركه حتى بعد قدرته عليه بعد سقوط أسنانه، وأسلم الأمر لربه وقال عبارة تدل على يقين شديد بما يقسم الله عز وجل ويرضاه له، وكأن المشيئة الإلهية اقتضت أن يواسي سيد الشهداء (ع) في عطشه.
ومن الشواهد على ورع مسلم حرصه على أداء دينه في اللحظات الأخيرة من عمره، فقد روى أبو الفرج الاصفهاني أن ابن زياد حينما أخبر مسلما بقتله، قال مسلم: دعني إذن أوصي إلى بعض القوم، قال: أوص إلى من أحببت، فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر إن بيني وبينك قربة دون هؤلاء، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي، وهي سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد - لعنه الله - فقال له ابن عقيل: إن عليّ بالكوفة دينا استدنته مذ قدمتها، تقضيه عني حتى يأتيك عني غلتي من المدينة، وجثتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين فيرده، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك، قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنه لا يخون الأمين ولا يؤتمن الخائن، قال: كذا وكذا، قال: أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكفّ عنه، وأما جثته فإنا لا نشفّعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل وقد خالفنا وحرص على هلاكنا. (مقاتل الطالبيين ص67)
ومن أمثلة عبادة مسلم قضاؤه ليلة شهادته بالعبادة، ففي كامل البهائي: أن مسلم بن عقيل كان في الدعاء إذ سمع حوافر الخيل وصهيلها، فعجّل في دعائه وأتمه فلبس لامته، وقال لطوعة:« يا أمة الله، قد أديت ما عليك من الخير، ولك نصيب من شفاعة رسول الله (ع)، وقد رأيت عمي أمير المؤمنين (ع) في المنام فقال لي: ستلحق بي غدا». (كامل البهائي ج2 ص275، عنه منتهى الآمال ج1 ص580)
ويروي أبو الفرج أيضا أنه لما أرادوا أن يصعدوا بمسلم أعلى القصر ليقتلوه، صعد وهو يستغفر الله ويصلي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وعلى أنبيائه ورسله وملائكته وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكادونا وخذلونا. (مقاتل الطالبيين ص67)
المحطة الرابعة: التحلي بالقيم وعدم الانجرار إلى أخلاق الأعداء
صاحب المبادئ هو الذي يلتزم بالقيم ويجعلها المقياس في تحركاته، فلا يتجاوزها وإن كان في ذلك خسارة ظاهرية له، لأن قيمة الفضيلة أغلى من أي مكسب دنيوي، وبمدى الالتزام بهذه القيم يظهر الفارق بين الإنسان الرسالي وبين الإنسان الوصولي.
وهذا ما كان عليه حال مسلم بن عقيل، فإنه مع معرفته بأخلاق أعدائه من الغدر ونكث العهود والمكر والكذب فإنه أبى إلا الامتثال للفضائل العالية ولم ينحدر إلى أخلاق العدو، فعندما كان في منزل هاني بن عروة متخفيا وعلم بقدوم ابن زياد لزيارة هاني بن عروة الذي كان مريضا (وقيل أن المريض كان شريك بن الأعور)، فأخبره هانئ أنه سيعطيه إشارة معينة لكي يقتل ابن زياد عندما يكون معه لوحده في غرفته، ثم لما أعطاه الجملة التي فيها الإذن بالقتل لم يفعل مسلم ذلك، حتى شك ابن زياد في هاني، فلما خرج ابن زياد سأل مسلما عن سبب امتناعه عن القتل بالرغم من أن ابن زياد فاجر غادر، فقال مسلم: إنما لم أقتله لحديث بلغني عن النبي (ص) قال فيه:« الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن» ، وإنا أهل بيت نكره الغدر. (مقاتل الطالبيين ص66، الأخبار الطوال ص235، تاريخ الكوفة للبراقي ص328)
المحطة الخامسة: السبق في الشهادة بين أصحاب الحسين وبني هاشم
مسلم بن عقيل هو أول من قتل من أصحاب الإمام الحسين (ع). (مقاتل الطالبيين ص52)
وهو أول شهيد سحبت جثته في الإسلام، فلم ينقل التاريخ عمن سحبت جثته قبله.
وهو أول رأس يحمل من بني هاشم، حيث قطعوا رأسه ثم حملوه إلى يزيد بن معاوية في الشام. (مروج الذهب ج2 ص10، والثقات لابن حبان ج2 ص309)
وهو أول من صلبت جثته بعد قتله، وفيه وفي هاني بن عروة يقول عبد الله بن الزبير بن الأشيم بن الأعشى:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هانئ في السوق وابن عقيل
ترى جسدا قد غيـرت المـوت لونه * ونضح دم قد سال كل مسيـل
(مروج الذهب ج2 ص10، والطبقات الكبرى ج4 ص42، وتاريخ دمشق ج28 ص259، وتذكرة الخواص ص242، وكذا في شرح الأخبار ج3 ص147، ومنه تعلم أن ما ذكره محقق كتاب "شرح الأخبار" من عدم وجود نص على صلبه من المؤرخين ليس في محله).
وهو أول من قاتل من بني هاشم لوحده بين الأعداء، وأول من أسر منهم.
وهذه الأولية والسبق ليست أولية عددية، بل أولية تعكس رتبة ومنزلة، ولا تكون إلا لعظيم الإيمان والتصديق واليقين.
المحطة السادسة: تقديم أولاده قرابين للدين والحسين (ع)
قد استشهد مع سيد الشهداء تسعة من آل عقيل، وعلى رأسهم مسلم بن عقيل، وأخوانه عبد الرحمن ومحمد وجعفر، وأولاده عبد الله ومحمد والطفلين الصغيرين، وابن أخيه محمد بن أبي سعيد بن عقيل بن أبي طالب
وكان الإمام السجاد (ع) يميل إلى ولد عقيل فقيل له: ما بالك تميل إلى بني عمك هؤلاء دون آل جعفر؟ فقال: «إني لأذكر يومهم مع أبي عبد الله (ع) فأرقّ لهم». (كامل الزيارات ص216 باب35 ح2)
وقد ربى مسلم بن عقيل أولاده على حب الإمام الحسين (ع) والتضحية والفداء دونه لأن الفداء دونه يعني الفداء دون الدين، وما نقله التاريخ من مواقف خالدة لأولاده الشهداء في كربلاء إنما هو انعكاس لروحية مسلم وصفاته من الشجاعة وإيثار الآخرة على الدنيا والغيرة والحمية وهي خصال أخذها من أهل البيت (ع).
ومن المواقف التي تظهر فيها آثار تلك التربية ما رواه الدينوري أنه لما رحل الإمام الحسين (ع) من زرود تلقاه رجل من بني أسد، فسأله عن الخبر، فقال: لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، ورأيت الصبيان يجرون بأرجلهما، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله نحتسب أنفسنا.
فقال له: أنشدك بالله يا بن رسول الله في نفسك، وأنفس أهل بيتك، هؤلاء الذين نراهم معك، انصرف إلى موضعك، ودع المسير إلى الكوفة، فوالله ما لها بك ناصر، فقال بنو عقيل وكانوا معه: ما لنا في العيش بعد أخينا حاجة، ولسنا براجعين حتى نموت، فقال الحسين (ع): فما خير في العيش بعد هؤلاء». (الأخبار الطوال ص247)
ومن أجلى مظاهر تلك التربية نجله عبد الله بن مسلم بن عقيل، فقد روي أنه برز ووقف بإزاء الحسين (ع) وقال: «يا مولاي أتأذن لي بالبراز؟ فقال له الحسين (ع): يا بني كفاك وأهلك القتل، أنت في حل من بيعتي، حسبك قتل أبيك مسلم، خذ بيد أمك واخرج من هذه المعركة، فقال: يا عم بماذا ألقى جدك محمدا (ص) وقد تركتك سيدي، والله لا كان ذلك أبدا بل أقتل دونك حتى ألقى الله بذلك، لست والله ممن يؤثر دنياه على آخرته».
وهذه كلمة عظيمة وهي درس لنا في حياتنا، فما بلغ عبد الله منزلة الشهادة بين يدي الحسين (ع) إلا لأنه كان في حياته اليومية ممن يؤثر آخرته على دنياه.
وذكر بعضهم أن عبد الله بن مسلم هو أول من برز من أهل بيت الإمام الحسين (ع)، فبرز وحسر عن ذراعيه وهو يرتجز ويقول:
نحن بنـو هاشـم الكرام * نحمي بنـات السيد الهمـام
سبط رسول الملك العلام * نسل علي الفارس الضرغام
فدونكم أضرب بالصمصام * والطعن بالعسال باهتمام
وقال أيضا:
اليوم ألقى مسلما وهو أبي * وفتية بادوا على دين النبي
ليسوا بقوم عرفوا بالكذب * لكن خيـار وكرام النسـب
فلم يزل يقاتل حتى قتل من الأعداء نيفا وخمسين فارسا، وفي رواية أخرى: ثمانية وتسعين رجلا، ثم قتل رضوان الله عليه، فلما نظر الحسين إليه قال: «اللهم اقتل قاتل آل عقيل، ثم قال: احملوا عليهم بارك الله فيكم، وبادروا إلى الجنة التي هي دار الإيمان». (ينابيع المودة ج3 ص73، ومعالي السبطين ج1 ص402، ومقتل الحسين ومصرع أهل بيته ص113، بحا الأنوار ج45 ص23)
وروى الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (ع)، عن أبيه الباقر (ع) عن جده زين العابدين (ع) أن عبيد الله بن زياد لما بلغه أن عمر بن سعد يكره قتال الحسين (ع) بعث إليه شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف فارس، ومعه كتاب فيه: إذا أتاك كتابي هذا فلا تمهلن الحسين بن علي وخذ بكظمه، وحل بين الماء وبينه كما حيل بين عثمان وبين الماء يوم الدار.
فلما وصل الكتاب إلى عمر بن سعد (لعنه الله) أمر مناديه فنادى: إنا قد أجلنا حسينا وأصحابه يومهم وليلتهم، فشق ذلك على الحسين (ع) وعلى أصحابه، فقام الحسين (ع) في أصحابه خطيبا: فقال: «اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحابا هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حل من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وتفرقوا في سواده، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري.
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل، فقال: يا بن رسول الله، ماذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا وكبيرنا وسيدنا وابن سيد الأعمام، وابن نبينا سيد الأنبياء، لم نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح! لا والله أو نرد موردك، ونجعل أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك، فقد قضينا ما علينا، وخرجنا مما لزمنا». (الأمالي ص220)
وعن الإمام السجاد (ع) أنه برز عبد الله بن مسلم بن عقيل بعد مقتل هلال بن حجاج، وأنشأ يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حُرَّا * وقد وجدت الموت شيئا ُمرَّا
أكره أن أدعى جبانا فرا * إن الجبان من عصى وفَرَّا
فقتل منهم ثلاثة ثم قٌتل. (الأمالي ص225 المجلس30 ح1)
مما راق لي