المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الموضوع ليس الإقتصاد... إنه الثقافة


kumait
22-11-2012, 04:18 AM
دعنا نطرح الاسئلة التالية:
الموضوع ليس الإقتصاد... إنه الثقافة
د. علي محمد فخرو

لماذااستطاعت كوريا الجنوبية خلال ستة عقود فقط من زيادة معدُّل دخل الفرد الكوري الذي كان في أواسط الخمسينات من القرن الماضي يراوح حول أربعة وستٍّين دولاراً ليصبح الآن حوالي عشرين ألف دولار؟ لماذا استطاعت أن تنتقل في تلك الفترة الوجيزة من دولة زراعية متخلٍّفة لتصبح الآن احدى الدول الصناعية المتقدٍّمة على مستوى العالم كلًّه بما فيها إمتلاك عدًّة شركات عملاقة عابرة للقارات في عدة مجالات صناعية تمثٍّل عصب الحياة العصرية من مثل تكنولوجيا الإلكترونيات والعلوم الحياتية وكل وسائل التواصل الإلكترونية؟

لماذا استطاع ذلك البلد بمساعدات امريكية متواضعة، لم تزد عن ستين مليار دولار خلال ثلاثين سنة امتدَّت من عام 1946 - 1978، بناء أسس تلك النهضة الاقتصادية بحيث أنها قلبته من بلد يستجدي مثل تلك المساعدات الامريكية إلى بلد يقدًّم المساعدات للآخرين؟

تلك كانت أسئلة طرحتها في ندوة عقدت مؤخًّراَ في مركزالإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية حول التعاون الكوري الشرق أوسطي عندما دعيت للتعليق على ما قاله عدة متحدٍّثين حول موضوع التبادل الثقافي لبناء الجسور بين كوريا وهذه المنطقة. لقد لفت نظري أن المتحدثين ركًّزوا جلًّ اهتمامهم على الجوانب المظهرية والتجارية للعلاقات الثقافية: تبادل الأخبار والأفلام والصحف،تنشيط ترجمة الكتب الهامة من وإلى اللغتين العربية والكورية، تشجيع السياحة، تبادل الزيارات من قبل الأساتذة والطلبة والباحثين، إلخ ... من المقترحات التي لا تمسُّ جوهر الموضوع الثقافي.

جوهر الموضوع يظهر جليَّاَ عندما نقابل الأسئلة السابقةالذكر بشأن كوريا الجنوبية بطرح أسئلة مماثلة حول منطقتنا العربية بصورة عامة ومنطقة دول الخليج العربية بصورة خاصة. خلال تلك العقود الستًّة جاءت لدول البترول العربية فرصة تاريخية عندما وصل الدخل الإجمالي عبر فترة وجيزة عدة تريليونات من الدولارات. كان باستطاعة تلك الأموال أن تنقل على الأقل بعضاً من أقطارنا العربية من دول زراعية متخلٍّفة إلى دول صناعية متقدَّمة ومن اقتصاد ريعي يوزَع الثروات حسب قوانين الولاءات الاستزلامية النفعيَة إلى اقتصاد انتاجي معرفي،تماماً كما فعلت كوريا الجنوبية، وفعلته بمساعدات واستثمارات محدودة للغاية إذا قورنت بمداخيل البترول والغاز العربيّين.

لنأخذ مثالاُ آخر. إن الإنسان يتوقَّع بأنه بعد تواجد البترول والغاز في بلاد العرب عبر سبعة عقود تقريباً أن تكون لديناشركات بترولية عربية عملاقة عابرة للقارات وأن تكون لدينا إمكانيات علمية وبحثية في حقول الطاقة بالغة التقدم وتضاهي مثيلاتها في العالم. لكن ذلك لم يحدث، بل إنالقدرات العربية في هذه الحقول تراجعت ومحاولات الخمسينات من القرن الماضي لجعل الصناعة البترولية والغازية صناعة عربية ذاتية مستقلة عن الحاجة للآخرين انتكست بأشكال مفجعة ورجعنا إلى الاعتماد شبه الكامل على الشركات الأجنبية في استخراج البترول أو الغاز وتصفيته ونقله وتوزيعه وتطوير تكنولوجياته. هذا في الوقت الذي نجحت فيه كوريا في بناء شركاتها العالمية العملاقة كما ذكرنا سابقاً ونجحت في أنتكون الخامسة على مستوى العالم بالنسبة للأبحاث التنموية والتطويرية في العلوم والتكنولوجيا.

تعاملنا مع موضوع التبادل الثقافي إذن يجب أن ينطلق من الإجابةعلى كل تلك الأسئلة. وفي اعتقادي أن الإجابة ستشير إلى موضوع الإختلاف في ثقافة الجهتين.

عندهم وجدت ثقافة أدُت إلى بناء نظام تعليمي يعتبر من بين الأفضل فيالعالم، بالرًغم من بعض نواقصه، والذي بدوره جعل مستوى تعليم الفرد هو أساس المنافسة والفرص في داخل مجتمعهم، وهذا بدوره خلق إنساناً مالكاً لسلوكيات العملالجاد والإنتظام واحترام الوقت والالتزام الضميري تجاه الإتقان والجودة في ميادين العمل والنشاطات الإنسانية الأخرى. عندهم وجدت ثقافة سياسية جعلت من سلطات الدولة أهم محرٍّك للنهضة الإقتصادية والتنكولوجية والعلمية البحثية.

أما الثقافة عندنا فلا حاجة لذكر الكثير من مشاكلها والتي كتب الكثير عنها. وكان من نتائجها أنظمة سياسية فاسدة مشغولة ببقائها في الحكم ونهب وتبديد ثروات الأمة. إنها أنظمة فشلت في بناء التنمية الإقتصادية مثلما فشلت في حقول التطوير التربوي والعلمي والبحثي. وبعقليتها الريعية الاستزلامية قضت على إبداع وطموحات الأفراد وانتاجيّتهم، طالما أن المستوى العلمي والجهد الفردي المنتج لاقيمة لهما عند تلك الأنظمة. المقارنة تحتاج إلى كتب ولا يمكن حصرها في مقال. لكن المهم هو أن أيةمقارنة بيننا وبين الآخرين لا تعالج المسألة الثقافية ستكون جهوداً ضائعة تنتج تبادلات مادية مؤقتة وعلاقات معنوية ضحلة لكنها تنتج تفاعلاً ثقافياً عميقاً مفيداً للجهتين وإنما ستظل تدور في عالم التبادل الثقافي الذي لن يكون أكثر من تبادل تجاري سلعي تحت مسمًّى الثقافة.