حوزة الهدى
22-09-2007, 12:01 AM
الخمس.... فريضة إلهيَّة (3)
شبهات حول فريضة الخمس
ثمّة شبهات أثارتها بعض الأقلام أرى مِن المناسب الإجابة عنها بنحو الإيجاز:
مستند لزوم إيصال الخمس للفقيه
الشبهة الأولى: إنَّ إيصال الخمس إلى الفقيه لا يستند إلى دليل شرعي بل ولا أصل له في الشريعة، فالخمس في الآية المباركة قد صُنِّف على أسهمٍ ستة وليس منها الفقيه ولا جاءت رواية تقتضي أن للفقيه حقًا في الخمس، فلماذا يُفتي الفقهاء بلزوم إيصال الخمس إليهم؟ وما هو وجه استحقاقهم له؟ ولماذا يصرف الفقهاء الخمس على أنفسهم؟
والجواب عن هذه الشبهة يقتضي إيضاح مجموعة من الأمور:
الأمر الأول: أن ما يفتي به مشهور الفقهاء هو لزوم إيصال نصف الخمس إليهم وهي الأسهم الثلاثة سهم الله وسهم رسوله (ص) وسهم ذي القربى، وأما الأسهم الثلاثة الأخرى فهي للفقراء المنتسبين إلى الرسول (ص) أعني الأيتام والمساكين وأبناء السبيل، والمشهور بين الفقهاء أن للمكلف حق التصدِّي بنفسه في صرف الأسهم الثلاثة الأخرى على أيتام آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ومن يُفتي من الفقهاء بلزوم إيصال تمام الخمس إلى الفقيه فهو يصرِّح بأنَّ نصف الخمس يتمُّ صرفه من قبله على أيتام آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فهو يرى بحسب ما اقتضاه اجتهاده أنَّ من له حقّ التصدي لصرف حقّ السادة عليهم هو الفقيه لا أن للفقيه حق الاستيلاء عليه والاستفادة منه، ومَن اتَّهم الفقهاء -ممَّن يرى هذا الرأي- بذلك فهو متجنٍّ وظالم ولا سبيل له في إثبات ذلك إلا سوء الظن والفرية بغير حق.
الأمر الثاني: إنَّ من الفقهاء مَن يُفتي باستحقاق المكلَّف للتصدي بنفسه لصرف الأسهم الثلاثة الأولى في مصارفها دون الحاجة إلى مراجعة الفقيه، وأما المشهور بينهم فهو لزوم الإيصال للفقيه أو مراجعته له في الصرف في مصارف الخمس، وهؤلاء الفقهاء أعني المشهور يرون أنَّ حقّ التصدِّي لصرف الأسهم الثلاثة الأولى مختص بالفقيه، فهو الذي له صلاحية صرف الأسهم الثلاثة في مصارفها.
ودور الفقيه بنظر فقهاء الإماميَّة قاطبة هو دور النظارة والإشراف على صرف الخمس، فليس له حق الاستيلاء أو الاستفادة الشخصية من الخمس، فليس له أن يأخذ درهمًا واحدًا منه إذا لم يكن مصداقًا لأحد الأصناف المذكورة في الآية المباركة، وإذا كان مصداقًا لأحد الأصناف فهو يأخذ منه مقدار حاجته شأنه شأن سائر المستحقين للخمس المذكورين في الآية المباركة.
هذا ما يُفتي به فقهاء الإماميَّة، وأمَّا ما عليه واقع حالهم فكذلك، ومن أراد التثبُّت من ذلك فلن يجد صعوبة تُذكر خصوصًا في مثل هذا الزمان الذي أصبح فيه الوصول إلى أي نقطة في الأرض
ميسورًا، فليذهب إن شاء بنفسه أو يبعث من يثق به ليطلع على أحوالهم في حاضرة النجف الأشرف أو قم المقدسة وبقية الحواضر الإسلاميّة، وحينذاك سيذعن بصوابية ما ادعيناه من تنزُّه الفقهاء عن الاستفادة الشخصية من أموال الخمس، فرغم ما يصل إليهم من أموال تجد بيوتهم دون بيوت الناس محدودي الدخل أو في مستواها، وأثاثها يربأ متوسّطو الدخل عن الاحتفاظ بمثلها، وسيجد أنَّ ما يأكله الفقهاء في بيوتهم هو بمستوى ما يأكله الفقراء، وأمّا عوائلهم فلا يختلف حالها عن حالهم إلاّ أن يتفق اشتغال بعضهم بالتكسُّب بعد أنْ يكبر وحينئذٍ يصبح مستقلاً عن أبيه في مأكله ومشربه ومسكنه ولن تجد له تميُّزًا عن سائر من يمتهنون مهنته، فليس لأبناء الفقهاء وأقربائهم أنْ يستفيدوا من أموال الخمس بمجرَّد انتسابهم، بل عليهم أنْ يعملوا كما يعمل سائر الناس، نعم قد يستفيد بعضهم من الخمس لو كان من فقراء السادة أو كان من طلبة العلوم الدينية المشتغلين بالتحصيل والتبليغ الديني، وفي مثل الفرض لا يتجاوز ما يستفيدونه عن مقدار ما يستفيده فقراء السادة أو طلبة العلوم.
هذا هو واقع ما عليه فقهاء الإماميَّة فيما يتصل بأموال الخمس ومِن أدعى غير ذلك فهو يروم التعمية على أمر مشهود فيكون ممن أعان على فضح سريرة نفسه وما انطوت عليه مِن خبث ودجل.
الأمر الثالث: إنَّ مَن يجـب إيصال الخمــس إليه من الفقـهاء -بنظر الإماميَّة - هو خصوص من توفَّر على ملكة العدالة والتقوى، فلا يصح إيصال الخمس لغير المأمون ولغير الحريص على صرف الخمس في مصارفه المقررة شرعًا والتي سوف نشير اليها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى، وإذا أردت التثبُّت من ذلك فليس عليك أكثر من مراجعة كتب الفقه الإمامي.
الأمر الرابع: إنَّ منشأ فتوى الفقهاء بلزوم إيصال الخمس إلى الفقيه هو ما عليه الإماميَّة من أنه الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، فالفقهاء وإنْ كانوا يختلفون في حدود ما ثبت له من ولاية إلا أنهم مجمعون على ثبوتها له في الجملة، فنيابة الفقهاء في عصر الغيبة عن المعصومين (ع) أمر مسلَّم بين الإماميَّة، والاختلاف بينهم إنما هو في حدودها إلاّ أنّ ثمّة قدرًا متيقَّنًا بينهم وهو ثبوت الولاية للفقيه على الأمور الحسبية والتي منها الإشراف والنظارة على أموال القاصرين والأوقاف والمظالم والأموال مجهولة المالك وأموال الخمس، هذا بالإضافة إلى القضاء وبعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وثبوت الولاية على الأمور المذكورة ليس من مختصّات الإماميَّة، بل إنّ عموم مذاهب السنة ترى أن للحاكم الشرعي الولاية على هذه الأمور، والفرق بين الإماميَّة وبينهم هو أنهم يذهبون إلى أنَّ الحاكم الشرعي هو الخليفة، وأمّا الإماميَّة فيعتقدون أنَّ الحاكم الشرعي هو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته وأنَّ الحاكميَّة الشرعيَّة في عصر الغيبة تكون للفقيه الجامع للشرائط.
فالمتابع لتاريخ الخلفاء ابتداءً من الخلافة الراشدة ومرورًا بالخلافة الأموية وانتهاء بالخلافة العباسية بل والعثمانية يجد أن سيرتهم قد استقرَّت على التصدي للولاية على هذه الأمور مستندين في ذلك على أنَّهم لـمَّا كانوا خلفاء للرسول فلهم ما للرسول (ص) مِن ولاية على هذه الشئون، والإماميَّة يرون ذلك أيضًا، غايته أنَّهم يعتقدون أنَّ الخليفة الشرعي للرسول (ص) هو الإمام المعصوم ثمَّ الفقيه الجامع للشرائط المعتبرة شرعًا كالعدالة والتقوى والورع.
فالاختلاف بين السنَّة والشيعة ليس مِن جهة استحقاق الحاكم الشرعي للنظارة على صرف الخمس، فهم مجمعون على أن ذلك يدخل في وظائف الحاكم الشرعي، نعم الاختلاف بينهم مِن جهة مَن له الحاكمية الشرعية، وذلك يدخل في صلب الاختلاف العقائدي بين الشيعة والسنة، ولولا خشية الخروج عن محل البحث لأفضنا الحديث في ذلك، إلا أن من أراد الاطلاع على مدارك الشيعة ومستندهم فيما يعتقدون به فعليه بمراجعة الكتب المتصدية لذلك فهي فوق الإحصاء.
شبهة تحليل الخمس
الشبهة الثانية: إنَّ فقهاء الشيعة يُفتون بلزوم إخراج الخمس رغم أن أئمتهم (ع) قد أباحوا الخمس لشيعتهم. فقد ورد في روايات عديدة أنَّ الشيعة في حلٍّ مما تعلَّق في أموالهم من خمس إلى أن يظهر القائم المنتظر (ع)، فإذا كان الأئمة (ع) قد طيَّبوا الخمس وأحلَّوه لشيعتهم، فلماذا يفتي الفقهاء بوجوب إيصاله إليهم ولماذا يخفون عن الناس روايات التحليل الواردة عن أهل البيت (ع)؟
والجواب عن هذه الشبهة يتّضح عند الوقوف على ما سنبيِّنه بنحوٍ موجز:
أوّلاً: لم يُخفِ الفقهاء روايات التحليل فهي مذكورة في المجاميع الروائية ومذكورة في الكتب الفقهية، وقد تصدَّى الفقهاء للبحث في أسانيدها ومداليلها في مصنَّفاتهم ومجالس درسهم شأنها شأن سائر الروايات الواردة عن أهل البيت (ع).
ومَن أراد التوثُّق من ذلك فلن يجد صعوبة تُذكر، فليس عليه سوى ملاحظة كتاب وسائل الشيعة أو الكتب الروائية الأربعة، وكذلك كتب الفقه الاستدلالي مثل كتاب مستند العروة الوثقى للسيِّد الخوئي رحمه الله وغيره من الكتب فليطَّلع على ما شاء منها، فدعوى الإخفاء مِن التوسُّل بالكذب المفضوح الذي يُراد منه النيل من نزاهة الفقهاء.
ثانيًا: إنَّ مَن أثار الشبهة أراد التعمية على القراء وإيهامهم أنَّ ما ورد عن أهل البيت (ع) فيما يتصل بمسألة الخمس ليس سوى روايات التحليل، وأراد الإيهام بأن مفادها هو سقوط الخمس مطلقًا عن الشيعة، كما حاول أنْ يوحي بأنَّ أسانيدها جميعًا صحيحة بحسب الضوابط المعتمدة عند الشيعة، وكلّ ذلك منافٍ للموضوعية التي ينبغي أنْ يكون عليها الباحث.
المعالجة الأولى لشبهة التحليل
وكيف كان فنحن هنا سوف نعالج الشبهة بما نراه مناسبًا لعموم القراء نظرًا لكون البحث من المباحث التخصُّصية،فلو بسطنا الحديث فيه لكان شاقًّا على غير المتخصِّصين في علوم الفقه وأصوله، فنقول:
إنَّ روايات التحليل على كثرتها لم يتفق مضمونها على موردٍ واحد فيمكن تصنيفها إلى طوائف.
الطائفة الأولى: مفادها هو أنَّ ما أحلَّه الأئمة (ع) لشيعتهم هو الأموال التي تعلَّق بها الخمس عند أصحابها فلم تُخمَّس من قِبلهم ثم انتقلت إلى أحد الشيعة ببيع أو هبة أو ميراث أو وصية أو غير ذلك من وسائل الانتقال، ففي مثل الفرض يصح لهذا الشيعي أن يتصرَّف في هذه الأموال ولا يجب عليه إخراج الخمس الذي تعلَّق بها، رغم أن مقتضى القاعدة هو عدم جواز التصرُّف في مقدار الخمس من هذه الأموال نظرًا لكونها مملوكة للغير فمقدار ما ينتقل إليه منها بحسب القاعدة هو ما سوى مقدار الخمس، وأما مقدار الخمس فاللازم إيصاله لأصحاب الخمس لقاعدة تعاقب الأيدي عينًا كما لو انتقلت لشخصٍ أموالٌ بعضها مملوكة للناقل وبعضها مملوكة لغيره فإنَّ وظيفة من انتقلت إليه هذه الأموال هو إيصال أموال الغير إلى أصحابها وعدم جواز تملكها أو التصرف فيها.
فروايات التحليل من الطائفة الأولى مفادها إباحة التصرُّف في الأموال التي تعلَّق بها الخمس وانتقلت إليهم وهي كذلك، فليس عليهم إخراج ما تعلَّق بها من خمس قبل التصرُّف فيها بل لهم التصرُّف في مطلق المال المنتقل إليهم ممن لا يُخمِّس أو لا يعتقد بوجوب الخمس.
وهذه الطائفة من الروايات هي أكثر روايات التحليل وقد عمل بها فقهاء الشيعة وأفتوا بمضمونها.
ونذكر لهذه الطائفة رواية واحدة ليتعرَّف القارئ الكريم بها على بقيّة الروايات التي تتَّفق معها في المضمون.
موثقة يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فدخل عليه رجل من القمَّاطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقَّك فيها ثابت وإنَّا عن ذلك مقصِّرون، فقال أبو عبد الله (ع): ما أنصفناكم أن كلَّفناكم ذلك اليوم (61).
تلاحظون أنَّ مصبَّ التحليل في الرواية الشريفة هو الأموال المنتقلة للشيعي والتي تعلَّق بها الخمس، فالانتقال مستفاد من قول السائل: "تقع في أيدينا الأموال والأرباح" وتعلُّق الخمس بها مستفاد من قوله: "نعلم أن حقك فيها ثابت"، إذ أن معنى ذلك هو أن الأموال المنتقلة بحسب فرض السائل كان قد تعلق بها الخمس عند أصحابها فلم يخرجوا خمسها فانتقلت إلى السائل بالبيع وهي غير مخمَّسة، ومقتضى القاعدة هو عدم جواز التصرُّف في مقدار الخمس وأن على من انتقلت إليه الأموال إمَّا إيصال الخمس إلى الإمام أو الاستئذان منه في التصرُّف فيها.
ولذلك جاء جواب الإمام (ع) بما يفيد الإباحة في مثل هذا المورد.
الطائفة الثانية: وهي روايات كثيرة أيضًا مفادها إباحة ما انتقل إلى الشيعة مِن أموال الفيء وغنائم الحرب التي تعلَّق بها الخمس فلم تخمَّس مِن قِبل مَن لهم الولاية الظاهرية، فمفاد هذه الروايات هو حرمة التصرُّف في هذه الأموال على الناس قبل إخراج ما تعلَّق بها مِن الخمس إلاّ الشيعة فإنَّ الأئمة (ع) قد أباحوا لهم التصرُّف فيها دون إخراج الخمس الذي تعلَّق بها، وهذه الطائفة من روايات التحليل قد عمل بها كلُّ فقهاء الشيعة أيضًا وأفتوا بمضمونها.
فمن هذه الروايات ما ورد في الكافي بسنده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) في حديث قال: إنَّ الله جعل لنا أهل البيت سهامًا ثلاثة في جميع الفيء، فقال تبارك وتعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فنحن أصحاب الخمس والفيء، وقد حرَّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا، والله يا أبا حمزة ما مِن أرض تُفتح ولا خمس يُخمَّس فيضرب على شيء إلا كان حرامًا على من يصيبه فرجًا كان أو مالاً...(62).
وورد في التهذيب لأبي جعفر الطوسي بسنده إلى الفضيل قال: قال أبو عبد الله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) لفاطمة $: أحلِّي نصيبك مِن الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا، ثمّ قال: إنّا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا (63).
فمفاد الرواية أن الجواري التي تكون في ضمن الفيء لا يجوز نكاحهن ما لم يُستخرج منهنَّ الخمس فكلُّ من انتقلت إليه واحدة من هذه الجواري لزمه إيصال خمسها إلى أهل البيت (ع) ومن لم يفعل فنكاحه منها حرام إلا أنهم أباحوا ذلك لشيعتهم.
وهكذا الحال فيما يرتبط بأموال الفيء وغنائم الحرب وهو كثير في زمن الأئمة (ع).
الطائفة الثالثة: مفادها إباحة الخمس لمن أعوزته الحاجة لصرفه على نفسه، فظاهرها اختصاص التحليل بمقدار ما يستحقه الإمام مِن الخمس.
ولم نجد لهذه ااطائفة إلا رواية واحدة وردت في التهذيب لأبي جعفر الطوسي بسنده عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر (ع) عن رجل يسأله: أن يجعله في حلٍّ من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب بخطّه: مَن أعوزه شيء مِن حقّي فهو في حلّ (64).
فهذه الرواية مفادها إباحة مقدار ما يحتاجه المكلَّف من الخمس، ومعنى ذلك أن من لم يكن معوزًا وجب عليه إيصال الخمس لأصحابه وأنَّ مَن كان معوزًا فلا يحلُّ له أكثر من مقدار ما يرفع عوزه، فالرواية على عدم التحليل المطلق أدل.
الطائفة الرابعة: ومفادها تحليل الخمس بنحو مطلق للشيعة، وهذه هي التي عناها مثير الشبهة، وعمدة هذه الطائفة ثلاث روايات:
الأولى: صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (ع)، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدّوا إلينا حقنا، ألا وأنَّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ وفي رواية الصدوق في الفقيه "أبناءهم"(65).
الثانية: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: "إنَّ أمير المؤمنين حلَّلهم من الخمس يعني الشيعة ليطيب مولدهم"(66).
الثالثة: معتبرة الحارث بن المغيرة النصري قال: دخلت على أبي جعفر (ع) فجلست عنده فإذا نجيَّة قد استأذن عليه فأذن فدخل فجثى على ركبتيه ثمَّ قال:جُعلت فداك إني أريد أن أسألك عن مسألة والله ما أريد بها إلا فكاك رقبتي من النار، فكأنّه رقَّ له فاستوى جالسًا إلى أنْ قال: يا نجيَّة إنَّ لنا الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال إلى أنْ قال: اللهم إنَّا قد أحللنا ذلك لشيعتنا (67).
هذه هي عمدة الروايات المناسبة لهذه الطائفة وما بقي من روايات هذه الطائفة إمَّا ضعيف السند أو غير تام من حيث الدلالة، ورغم ذلك فنحن سنبني على تماميتها سندًا ودلالة وسنجيب عن هذه الطائفة بمجموع رواياتها فنقول:
إنَّ دلالة هذه الطائفة على تحليل الخمس للشيعة إنما هو بالإطلاق والعموم، وبذلك تكون علاقتها مع الطوائف الثلاث الآنفة الذكر هي علاقة الإطلاق والتقييد، وذلك يقتضي تقييد روايات هذه الطائفة بروايات الطوائف الثلاث كما هو مقتضى قاعدة الجمع العرفي المعتمدة عند جميع علماء الأصول ويعبَّر عنها بقاعدة حمل المطلق على المقيَّد.
وبيان ذلك: أنّه إذا ورد خطابان عن الشارع المقدس مفاد أحدهما مثلاً الترخيص في غيبة الفاسق المسلم مطلقًا ثم ورد خطاب آخر مفاده الترخيص في غيبة الفاسق إذا كان متجاهرًا بفسقه، فإن العرف يجَمعون بين هذين الخطابين بحمل الترخيص في الخطاب الأول على الترخيص في الخطاب الثاني، فيكون المتحصَّل من مجموع الخطابين هو جواز غيبة الفاسق المتجاهر بالفسق، وبذلك تبقى غيبة الفاسق المسلم غير المتجاهر بالفسق على أصل الحرمة الثابتة بالخطاب العام القاضي بحرمة غيبة المسلم.
وهكذا الحال فيما يرتبط بمورد البحث، فالطائفة الرابعة من الروايات تقتضي إباحة الخمس للشيعة مطلقًا، وأما الطائفة الأولى مثلاً فتقتضي إباحة الخمس إذا تعلَّق بالمال المنتقل للشيعي بالبيع أو الهبة أو الميراث، ومقتضى الجمع بين هاتين الطائفتين هو أن ما أُبيح للشيعة من الخمس هو خصوص ما كان متعلِّقا بالأموال المنتقلة إليهم بواحد من وسائل الانتقال.
وهكذا بالنسبة لعلاقة الطائفة الرابعة بالطائفة الثالثة فإن مفاد الطائفة الثالثة هو إباحة الخمس للشيعة إذا أعوزتهم الحاجة إليه ومفاد الطائفة الرابعة هو الإباحة المطلقة للخمس، ومقتضى الصناعة الأصولية والجمع العرفي بين الخطابين هو البناء على أن المراد الجدِّي من الطائفة الرابعة هو الإباحة بالمقدار الذي أفادته الطائفة الثالثة أي إباحة الخمس لمن أعوزته الحاجة إليه.
وعليه يكون حاصل الجمع بين الطوائف الأربع هو أن ما أبيح للشيعة من الخمس يختص بالخمس المنتقل للشيعي بأحد وسائل النقل وأموال الفيء وغنائم الحرب التي تعلّق بها الخمس وانتقلت للشيعي دون أن تُخمَّس أو خُمِّست ولكنَّها صُرفت من قبل من له الولاية الظاهرية وكذلك من أعوزته الحاجة للخمس من غير الموردين المذكورين.
وبتعبير آخر: إنَّ الخطاب الشرعي لا يؤخذ بإطلاقه ابتداءً قبل ملاحظة الخطابات الأخرى بل لابدَّ من ملاحظة مجموع الخطابات المتعلقة بموضوع واحد لغرض استكشاف المراد الجدِّي من مجموعها، والتعبير عن ذلك بالجمع العرفي باعتبار أنه الوسيلة التي يعتمدها العرف والعقلاء لغرض استكشاف المراد الجدي للمتكلم.
فالقاضي الذي يريد تفسير مادة من مواد القانون لا يسعه تفسيرها بقطع النظر عن المواد الأخرى المتصلة بها بل لا بدَّ من ملاحظتها جميعًا ليستكشف من ذلك المراد الجدي للمقنِّن.
فحينما يقرأ القاضي مادة في القانون مفادها أن للأم الحضانة فإنَّه لا يسعه العمل بإطلاق هذه المادة وقطع النظر عن مادة أخرى مفادها أن استحقاق الأم للحضانة مشروط بالأهليَّة.
الهوامش:
--------------------
61-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح6.
62-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح19.
63-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح10.
64-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح2.
65-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح1.
66-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح15.
67-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح14.
شبهات حول فريضة الخمس
ثمّة شبهات أثارتها بعض الأقلام أرى مِن المناسب الإجابة عنها بنحو الإيجاز:
مستند لزوم إيصال الخمس للفقيه
الشبهة الأولى: إنَّ إيصال الخمس إلى الفقيه لا يستند إلى دليل شرعي بل ولا أصل له في الشريعة، فالخمس في الآية المباركة قد صُنِّف على أسهمٍ ستة وليس منها الفقيه ولا جاءت رواية تقتضي أن للفقيه حقًا في الخمس، فلماذا يُفتي الفقهاء بلزوم إيصال الخمس إليهم؟ وما هو وجه استحقاقهم له؟ ولماذا يصرف الفقهاء الخمس على أنفسهم؟
والجواب عن هذه الشبهة يقتضي إيضاح مجموعة من الأمور:
الأمر الأول: أن ما يفتي به مشهور الفقهاء هو لزوم إيصال نصف الخمس إليهم وهي الأسهم الثلاثة سهم الله وسهم رسوله (ص) وسهم ذي القربى، وأما الأسهم الثلاثة الأخرى فهي للفقراء المنتسبين إلى الرسول (ص) أعني الأيتام والمساكين وأبناء السبيل، والمشهور بين الفقهاء أن للمكلف حق التصدِّي بنفسه في صرف الأسهم الثلاثة الأخرى على أيتام آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ومن يُفتي من الفقهاء بلزوم إيصال تمام الخمس إلى الفقيه فهو يصرِّح بأنَّ نصف الخمس يتمُّ صرفه من قبله على أيتام آل الرسول (ص) ومساكينهم وأبناء سبيلهم، فهو يرى بحسب ما اقتضاه اجتهاده أنَّ من له حقّ التصدي لصرف حقّ السادة عليهم هو الفقيه لا أن للفقيه حق الاستيلاء عليه والاستفادة منه، ومَن اتَّهم الفقهاء -ممَّن يرى هذا الرأي- بذلك فهو متجنٍّ وظالم ولا سبيل له في إثبات ذلك إلا سوء الظن والفرية بغير حق.
الأمر الثاني: إنَّ من الفقهاء مَن يُفتي باستحقاق المكلَّف للتصدي بنفسه لصرف الأسهم الثلاثة الأولى في مصارفها دون الحاجة إلى مراجعة الفقيه، وأما المشهور بينهم فهو لزوم الإيصال للفقيه أو مراجعته له في الصرف في مصارف الخمس، وهؤلاء الفقهاء أعني المشهور يرون أنَّ حقّ التصدِّي لصرف الأسهم الثلاثة الأولى مختص بالفقيه، فهو الذي له صلاحية صرف الأسهم الثلاثة في مصارفها.
ودور الفقيه بنظر فقهاء الإماميَّة قاطبة هو دور النظارة والإشراف على صرف الخمس، فليس له حق الاستيلاء أو الاستفادة الشخصية من الخمس، فليس له أن يأخذ درهمًا واحدًا منه إذا لم يكن مصداقًا لأحد الأصناف المذكورة في الآية المباركة، وإذا كان مصداقًا لأحد الأصناف فهو يأخذ منه مقدار حاجته شأنه شأن سائر المستحقين للخمس المذكورين في الآية المباركة.
هذا ما يُفتي به فقهاء الإماميَّة، وأمَّا ما عليه واقع حالهم فكذلك، ومن أراد التثبُّت من ذلك فلن يجد صعوبة تُذكر خصوصًا في مثل هذا الزمان الذي أصبح فيه الوصول إلى أي نقطة في الأرض
ميسورًا، فليذهب إن شاء بنفسه أو يبعث من يثق به ليطلع على أحوالهم في حاضرة النجف الأشرف أو قم المقدسة وبقية الحواضر الإسلاميّة، وحينذاك سيذعن بصوابية ما ادعيناه من تنزُّه الفقهاء عن الاستفادة الشخصية من أموال الخمس، فرغم ما يصل إليهم من أموال تجد بيوتهم دون بيوت الناس محدودي الدخل أو في مستواها، وأثاثها يربأ متوسّطو الدخل عن الاحتفاظ بمثلها، وسيجد أنَّ ما يأكله الفقهاء في بيوتهم هو بمستوى ما يأكله الفقراء، وأمّا عوائلهم فلا يختلف حالها عن حالهم إلاّ أن يتفق اشتغال بعضهم بالتكسُّب بعد أنْ يكبر وحينئذٍ يصبح مستقلاً عن أبيه في مأكله ومشربه ومسكنه ولن تجد له تميُّزًا عن سائر من يمتهنون مهنته، فليس لأبناء الفقهاء وأقربائهم أنْ يستفيدوا من أموال الخمس بمجرَّد انتسابهم، بل عليهم أنْ يعملوا كما يعمل سائر الناس، نعم قد يستفيد بعضهم من الخمس لو كان من فقراء السادة أو كان من طلبة العلوم الدينية المشتغلين بالتحصيل والتبليغ الديني، وفي مثل الفرض لا يتجاوز ما يستفيدونه عن مقدار ما يستفيده فقراء السادة أو طلبة العلوم.
هذا هو واقع ما عليه فقهاء الإماميَّة فيما يتصل بأموال الخمس ومِن أدعى غير ذلك فهو يروم التعمية على أمر مشهود فيكون ممن أعان على فضح سريرة نفسه وما انطوت عليه مِن خبث ودجل.
الأمر الثالث: إنَّ مَن يجـب إيصال الخمــس إليه من الفقـهاء -بنظر الإماميَّة - هو خصوص من توفَّر على ملكة العدالة والتقوى، فلا يصح إيصال الخمس لغير المأمون ولغير الحريص على صرف الخمس في مصارفه المقررة شرعًا والتي سوف نشير اليها فيما بعد إنْ شاء الله تعالى، وإذا أردت التثبُّت من ذلك فليس عليك أكثر من مراجعة كتب الفقه الإمامي.
الأمر الرابع: إنَّ منشأ فتوى الفقهاء بلزوم إيصال الخمس إلى الفقيه هو ما عليه الإماميَّة من أنه الحاكم الشرعي في عصر الغيبة، فالفقهاء وإنْ كانوا يختلفون في حدود ما ثبت له من ولاية إلا أنهم مجمعون على ثبوتها له في الجملة، فنيابة الفقهاء في عصر الغيبة عن المعصومين (ع) أمر مسلَّم بين الإماميَّة، والاختلاف بينهم إنما هو في حدودها إلاّ أنّ ثمّة قدرًا متيقَّنًا بينهم وهو ثبوت الولاية للفقيه على الأمور الحسبية والتي منها الإشراف والنظارة على أموال القاصرين والأوقاف والمظالم والأموال مجهولة المالك وأموال الخمس، هذا بالإضافة إلى القضاء وبعض مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وثبوت الولاية على الأمور المذكورة ليس من مختصّات الإماميَّة، بل إنّ عموم مذاهب السنة ترى أن للحاكم الشرعي الولاية على هذه الأمور، والفرق بين الإماميَّة وبينهم هو أنهم يذهبون إلى أنَّ الحاكم الشرعي هو الخليفة، وأمّا الإماميَّة فيعتقدون أنَّ الحاكم الشرعي هو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته وأنَّ الحاكميَّة الشرعيَّة في عصر الغيبة تكون للفقيه الجامع للشرائط.
فالمتابع لتاريخ الخلفاء ابتداءً من الخلافة الراشدة ومرورًا بالخلافة الأموية وانتهاء بالخلافة العباسية بل والعثمانية يجد أن سيرتهم قد استقرَّت على التصدي للولاية على هذه الأمور مستندين في ذلك على أنَّهم لـمَّا كانوا خلفاء للرسول فلهم ما للرسول (ص) مِن ولاية على هذه الشئون، والإماميَّة يرون ذلك أيضًا، غايته أنَّهم يعتقدون أنَّ الخليفة الشرعي للرسول (ص) هو الإمام المعصوم ثمَّ الفقيه الجامع للشرائط المعتبرة شرعًا كالعدالة والتقوى والورع.
فالاختلاف بين السنَّة والشيعة ليس مِن جهة استحقاق الحاكم الشرعي للنظارة على صرف الخمس، فهم مجمعون على أن ذلك يدخل في وظائف الحاكم الشرعي، نعم الاختلاف بينهم مِن جهة مَن له الحاكمية الشرعية، وذلك يدخل في صلب الاختلاف العقائدي بين الشيعة والسنة، ولولا خشية الخروج عن محل البحث لأفضنا الحديث في ذلك، إلا أن من أراد الاطلاع على مدارك الشيعة ومستندهم فيما يعتقدون به فعليه بمراجعة الكتب المتصدية لذلك فهي فوق الإحصاء.
شبهة تحليل الخمس
الشبهة الثانية: إنَّ فقهاء الشيعة يُفتون بلزوم إخراج الخمس رغم أن أئمتهم (ع) قد أباحوا الخمس لشيعتهم. فقد ورد في روايات عديدة أنَّ الشيعة في حلٍّ مما تعلَّق في أموالهم من خمس إلى أن يظهر القائم المنتظر (ع)، فإذا كان الأئمة (ع) قد طيَّبوا الخمس وأحلَّوه لشيعتهم، فلماذا يفتي الفقهاء بوجوب إيصاله إليهم ولماذا يخفون عن الناس روايات التحليل الواردة عن أهل البيت (ع)؟
والجواب عن هذه الشبهة يتّضح عند الوقوف على ما سنبيِّنه بنحوٍ موجز:
أوّلاً: لم يُخفِ الفقهاء روايات التحليل فهي مذكورة في المجاميع الروائية ومذكورة في الكتب الفقهية، وقد تصدَّى الفقهاء للبحث في أسانيدها ومداليلها في مصنَّفاتهم ومجالس درسهم شأنها شأن سائر الروايات الواردة عن أهل البيت (ع).
ومَن أراد التوثُّق من ذلك فلن يجد صعوبة تُذكر، فليس عليه سوى ملاحظة كتاب وسائل الشيعة أو الكتب الروائية الأربعة، وكذلك كتب الفقه الاستدلالي مثل كتاب مستند العروة الوثقى للسيِّد الخوئي رحمه الله وغيره من الكتب فليطَّلع على ما شاء منها، فدعوى الإخفاء مِن التوسُّل بالكذب المفضوح الذي يُراد منه النيل من نزاهة الفقهاء.
ثانيًا: إنَّ مَن أثار الشبهة أراد التعمية على القراء وإيهامهم أنَّ ما ورد عن أهل البيت (ع) فيما يتصل بمسألة الخمس ليس سوى روايات التحليل، وأراد الإيهام بأن مفادها هو سقوط الخمس مطلقًا عن الشيعة، كما حاول أنْ يوحي بأنَّ أسانيدها جميعًا صحيحة بحسب الضوابط المعتمدة عند الشيعة، وكلّ ذلك منافٍ للموضوعية التي ينبغي أنْ يكون عليها الباحث.
المعالجة الأولى لشبهة التحليل
وكيف كان فنحن هنا سوف نعالج الشبهة بما نراه مناسبًا لعموم القراء نظرًا لكون البحث من المباحث التخصُّصية،فلو بسطنا الحديث فيه لكان شاقًّا على غير المتخصِّصين في علوم الفقه وأصوله، فنقول:
إنَّ روايات التحليل على كثرتها لم يتفق مضمونها على موردٍ واحد فيمكن تصنيفها إلى طوائف.
الطائفة الأولى: مفادها هو أنَّ ما أحلَّه الأئمة (ع) لشيعتهم هو الأموال التي تعلَّق بها الخمس عند أصحابها فلم تُخمَّس من قِبلهم ثم انتقلت إلى أحد الشيعة ببيع أو هبة أو ميراث أو وصية أو غير ذلك من وسائل الانتقال، ففي مثل الفرض يصح لهذا الشيعي أن يتصرَّف في هذه الأموال ولا يجب عليه إخراج الخمس الذي تعلَّق بها، رغم أن مقتضى القاعدة هو عدم جواز التصرُّف في مقدار الخمس من هذه الأموال نظرًا لكونها مملوكة للغير فمقدار ما ينتقل إليه منها بحسب القاعدة هو ما سوى مقدار الخمس، وأما مقدار الخمس فاللازم إيصاله لأصحاب الخمس لقاعدة تعاقب الأيدي عينًا كما لو انتقلت لشخصٍ أموالٌ بعضها مملوكة للناقل وبعضها مملوكة لغيره فإنَّ وظيفة من انتقلت إليه هذه الأموال هو إيصال أموال الغير إلى أصحابها وعدم جواز تملكها أو التصرف فيها.
فروايات التحليل من الطائفة الأولى مفادها إباحة التصرُّف في الأموال التي تعلَّق بها الخمس وانتقلت إليهم وهي كذلك، فليس عليهم إخراج ما تعلَّق بها من خمس قبل التصرُّف فيها بل لهم التصرُّف في مطلق المال المنتقل إليهم ممن لا يُخمِّس أو لا يعتقد بوجوب الخمس.
وهذه الطائفة من الروايات هي أكثر روايات التحليل وقد عمل بها فقهاء الشيعة وأفتوا بمضمونها.
ونذكر لهذه الطائفة رواية واحدة ليتعرَّف القارئ الكريم بها على بقيّة الروايات التي تتَّفق معها في المضمون.
موثقة يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) فدخل عليه رجل من القمَّاطين، فقال: جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال والأرباح وتجارات نعلم أن حقَّك فيها ثابت وإنَّا عن ذلك مقصِّرون، فقال أبو عبد الله (ع): ما أنصفناكم أن كلَّفناكم ذلك اليوم (61).
تلاحظون أنَّ مصبَّ التحليل في الرواية الشريفة هو الأموال المنتقلة للشيعي والتي تعلَّق بها الخمس، فالانتقال مستفاد من قول السائل: "تقع في أيدينا الأموال والأرباح" وتعلُّق الخمس بها مستفاد من قوله: "نعلم أن حقك فيها ثابت"، إذ أن معنى ذلك هو أن الأموال المنتقلة بحسب فرض السائل كان قد تعلق بها الخمس عند أصحابها فلم يخرجوا خمسها فانتقلت إلى السائل بالبيع وهي غير مخمَّسة، ومقتضى القاعدة هو عدم جواز التصرُّف في مقدار الخمس وأن على من انتقلت إليه الأموال إمَّا إيصال الخمس إلى الإمام أو الاستئذان منه في التصرُّف فيها.
ولذلك جاء جواب الإمام (ع) بما يفيد الإباحة في مثل هذا المورد.
الطائفة الثانية: وهي روايات كثيرة أيضًا مفادها إباحة ما انتقل إلى الشيعة مِن أموال الفيء وغنائم الحرب التي تعلَّق بها الخمس فلم تخمَّس مِن قِبل مَن لهم الولاية الظاهرية، فمفاد هذه الروايات هو حرمة التصرُّف في هذه الأموال على الناس قبل إخراج ما تعلَّق بها مِن الخمس إلاّ الشيعة فإنَّ الأئمة (ع) قد أباحوا لهم التصرُّف فيها دون إخراج الخمس الذي تعلَّق بها، وهذه الطائفة من روايات التحليل قد عمل بها كلُّ فقهاء الشيعة أيضًا وأفتوا بمضمونها.
فمن هذه الروايات ما ورد في الكافي بسنده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) في حديث قال: إنَّ الله جعل لنا أهل البيت سهامًا ثلاثة في جميع الفيء، فقال تبارك وتعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فنحن أصحاب الخمس والفيء، وقد حرَّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا، والله يا أبا حمزة ما مِن أرض تُفتح ولا خمس يُخمَّس فيضرب على شيء إلا كان حرامًا على من يصيبه فرجًا كان أو مالاً...(62).
وورد في التهذيب لأبي جعفر الطوسي بسنده إلى الفضيل قال: قال أبو عبد الله (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) لفاطمة $: أحلِّي نصيبك مِن الفيء لآباء شيعتنا ليطيبوا، ثمّ قال: إنّا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا (63).
فمفاد الرواية أن الجواري التي تكون في ضمن الفيء لا يجوز نكاحهن ما لم يُستخرج منهنَّ الخمس فكلُّ من انتقلت إليه واحدة من هذه الجواري لزمه إيصال خمسها إلى أهل البيت (ع) ومن لم يفعل فنكاحه منها حرام إلا أنهم أباحوا ذلك لشيعتهم.
وهكذا الحال فيما يرتبط بأموال الفيء وغنائم الحرب وهو كثير في زمن الأئمة (ع).
الطائفة الثالثة: مفادها إباحة الخمس لمن أعوزته الحاجة لصرفه على نفسه، فظاهرها اختصاص التحليل بمقدار ما يستحقه الإمام مِن الخمس.
ولم نجد لهذه ااطائفة إلا رواية واحدة وردت في التهذيب لأبي جعفر الطوسي بسنده عن علي بن مهزيار قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر (ع) عن رجل يسأله: أن يجعله في حلٍّ من مأكله ومشربه من الخمس، فكتب بخطّه: مَن أعوزه شيء مِن حقّي فهو في حلّ (64).
فهذه الرواية مفادها إباحة مقدار ما يحتاجه المكلَّف من الخمس، ومعنى ذلك أن من لم يكن معوزًا وجب عليه إيصال الخمس لأصحابه وأنَّ مَن كان معوزًا فلا يحلُّ له أكثر من مقدار ما يرفع عوزه، فالرواية على عدم التحليل المطلق أدل.
الطائفة الرابعة: ومفادها تحليل الخمس بنحو مطلق للشيعة، وهذه هي التي عناها مثير الشبهة، وعمدة هذه الطائفة ثلاث روايات:
الأولى: صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (ع)، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): هلك الناس في بطونهم وفروجهم لأنهم لم يؤدّوا إلينا حقنا، ألا وأنَّ شيعتنا من ذلك وآباءهم في حلّ وفي رواية الصدوق في الفقيه "أبناءهم"(65).
الثانية: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: "إنَّ أمير المؤمنين حلَّلهم من الخمس يعني الشيعة ليطيب مولدهم"(66).
الثالثة: معتبرة الحارث بن المغيرة النصري قال: دخلت على أبي جعفر (ع) فجلست عنده فإذا نجيَّة قد استأذن عليه فأذن فدخل فجثى على ركبتيه ثمَّ قال:جُعلت فداك إني أريد أن أسألك عن مسألة والله ما أريد بها إلا فكاك رقبتي من النار، فكأنّه رقَّ له فاستوى جالسًا إلى أنْ قال: يا نجيَّة إنَّ لنا الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال إلى أنْ قال: اللهم إنَّا قد أحللنا ذلك لشيعتنا (67).
هذه هي عمدة الروايات المناسبة لهذه الطائفة وما بقي من روايات هذه الطائفة إمَّا ضعيف السند أو غير تام من حيث الدلالة، ورغم ذلك فنحن سنبني على تماميتها سندًا ودلالة وسنجيب عن هذه الطائفة بمجموع رواياتها فنقول:
إنَّ دلالة هذه الطائفة على تحليل الخمس للشيعة إنما هو بالإطلاق والعموم، وبذلك تكون علاقتها مع الطوائف الثلاث الآنفة الذكر هي علاقة الإطلاق والتقييد، وذلك يقتضي تقييد روايات هذه الطائفة بروايات الطوائف الثلاث كما هو مقتضى قاعدة الجمع العرفي المعتمدة عند جميع علماء الأصول ويعبَّر عنها بقاعدة حمل المطلق على المقيَّد.
وبيان ذلك: أنّه إذا ورد خطابان عن الشارع المقدس مفاد أحدهما مثلاً الترخيص في غيبة الفاسق المسلم مطلقًا ثم ورد خطاب آخر مفاده الترخيص في غيبة الفاسق إذا كان متجاهرًا بفسقه، فإن العرف يجَمعون بين هذين الخطابين بحمل الترخيص في الخطاب الأول على الترخيص في الخطاب الثاني، فيكون المتحصَّل من مجموع الخطابين هو جواز غيبة الفاسق المتجاهر بالفسق، وبذلك تبقى غيبة الفاسق المسلم غير المتجاهر بالفسق على أصل الحرمة الثابتة بالخطاب العام القاضي بحرمة غيبة المسلم.
وهكذا الحال فيما يرتبط بمورد البحث، فالطائفة الرابعة من الروايات تقتضي إباحة الخمس للشيعة مطلقًا، وأما الطائفة الأولى مثلاً فتقتضي إباحة الخمس إذا تعلَّق بالمال المنتقل للشيعي بالبيع أو الهبة أو الميراث، ومقتضى الجمع بين هاتين الطائفتين هو أن ما أُبيح للشيعة من الخمس هو خصوص ما كان متعلِّقا بالأموال المنتقلة إليهم بواحد من وسائل الانتقال.
وهكذا بالنسبة لعلاقة الطائفة الرابعة بالطائفة الثالثة فإن مفاد الطائفة الثالثة هو إباحة الخمس للشيعة إذا أعوزتهم الحاجة إليه ومفاد الطائفة الرابعة هو الإباحة المطلقة للخمس، ومقتضى الصناعة الأصولية والجمع العرفي بين الخطابين هو البناء على أن المراد الجدِّي من الطائفة الرابعة هو الإباحة بالمقدار الذي أفادته الطائفة الثالثة أي إباحة الخمس لمن أعوزته الحاجة إليه.
وعليه يكون حاصل الجمع بين الطوائف الأربع هو أن ما أبيح للشيعة من الخمس يختص بالخمس المنتقل للشيعي بأحد وسائل النقل وأموال الفيء وغنائم الحرب التي تعلّق بها الخمس وانتقلت للشيعي دون أن تُخمَّس أو خُمِّست ولكنَّها صُرفت من قبل من له الولاية الظاهرية وكذلك من أعوزته الحاجة للخمس من غير الموردين المذكورين.
وبتعبير آخر: إنَّ الخطاب الشرعي لا يؤخذ بإطلاقه ابتداءً قبل ملاحظة الخطابات الأخرى بل لابدَّ من ملاحظة مجموع الخطابات المتعلقة بموضوع واحد لغرض استكشاف المراد الجدِّي من مجموعها، والتعبير عن ذلك بالجمع العرفي باعتبار أنه الوسيلة التي يعتمدها العرف والعقلاء لغرض استكشاف المراد الجدي للمتكلم.
فالقاضي الذي يريد تفسير مادة من مواد القانون لا يسعه تفسيرها بقطع النظر عن المواد الأخرى المتصلة بها بل لا بدَّ من ملاحظتها جميعًا ليستكشف من ذلك المراد الجدي للمقنِّن.
فحينما يقرأ القاضي مادة في القانون مفادها أن للأم الحضانة فإنَّه لا يسعه العمل بإطلاق هذه المادة وقطع النظر عن مادة أخرى مفادها أن استحقاق الأم للحضانة مشروط بالأهليَّة.
الهوامش:
--------------------
61-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح6.
62-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح19.
63-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح10.
64-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح2.
65-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح1.
66-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح15.
67-وسائل الشيعة باب 4 مِن أبواب الأنفال ح14.