صادق العارضي
05-12-2012, 06:12 PM
الحسين (عليه السلام) سفير الله في الأرض
يتجنب كثير من المفكرين أن يكونوا أدباء في قضايا التاريخ، إلا في واقعة الطف، إنها الجدية التي لا يتمالك كثيرون أنفسهم تجاه ذلك الحدث العظيم، لأنه بلغ من الدراماتيكية ما يفقد الإنسان كل تقنياته المعرفية. ذلك لأن الهدف الذي من أجله سطر أروع ملحم البطولة والفداء كان هدفاً نبيلاً.
كل هذا لا يسمح للشرفاء أن يقوموا بسرد الإحصاءات و (فبركات) في مثل تكلم المشاهد. فلا غرابة للقارئ إذا أخذت بنا هذه الجدية التي لا يملك فيها الإنسان نفسه أمام مذبحة أبي الضيم صلوات المصلين عليه.
مازالت الذكرى تسوق بذاكرة الخيرين من المؤمنين بكل تفاصيل مأساة كربلاء حيث ماتزال ظلالها الحزينة ترافق ظلي إلى اليوم.
وتفصيلها لا تتسع لها هذه الأسطر المتواضعة جداً فهي تطلب المزيد في غيره، والآثار النفسية التي تركتها في أعماق عشاق الحق والفضيلة، مازالت تجرعها السموم ولا يمتلك أحد أن ينقلها كما يحسُّها ويستشعرها في كيانه.
كان الحسين يريد أن ينتشل الأمة من جمودها، يحركها للثورة ضد الإمبراطورية الجاثمة على السلطة ولابد من تقديم التضحيات الجزال، ولابد من دم شريف يراق، ليحدث الانقلاب في نفوس القوم الذين خذلوا قضيته وما زالوا يخذلون..
كان يعلم منذ البداية كما أبيه، أنه سيموت لا محالة مقتولاً، لذلك لما وصل إلى كربلاء وسأل عنها القوم، قال: هذا كرب وبلاء. لقد حاصره الجنود في هذه المنطقة النائية حتى ينفذوا فيه الجريمة النكراء. فالقضية وقبل كل شيء قضية إنسانية، إذ أن أهله معه وأبناءه وبناته وحتى رضعانه معه.
ولابدّ أن يراعي الأعداء حقه في حماية هؤلاء نزلوا يلتمسون ماء، فمنعهم القوم. منعوهم وهم لا يأبهون، ولعمري أي ملة وأي دين كان يجيز لهم منع الماء عن الأطفال والنساء. وهب أننا عذرناهم في منع الحسين فما بال الأمهات ورضعهن، قال شهر بن حوشب وكان من عملاء يزيد: لا تشربون منه حتى تشربوا من الحميم.
طرح الحسين خيارات كثيرة، فإما أن يدعوه يرجع وأما أن يدعوه يلتقي بيزيد. غير أن القوم المجرمين، علموا أن وجود الحسين أمام يزيد قد يقلب المعادلة. كما حدث لولده الإمام زين العابدين وذلك بعد مصرع أبيه الحسين وقد يثير عليهم لوم الناس وأحقادهم، فأبوا إلا أن يقتلوه في هذه الصحراء النائية، وليمتص رمل الصحراء دمه ولا يعلم به أحد.
فالناس ليس أمامهم رقابة تمنعهم. أجل، ليس أمامهم إلا الله. وكانوا به لا يأبهون..
وكان القدر الزم من الظل للإمام الحسين وكان لابد أن يدفع الثمن كله. ثمن أخيه وأبيه وجده.
طرح عليهم اختياراته فأبوا إلا أن ينزل على حكم ابن زياد. فقال لهم الحسين: انزل على حكم ابن الزانية؟ والله لا أفعل، الموت دون ذلك أحلى. لقد خرج الحسين في مهمة رسالية، فرضتها عليه ظروف المرحلة، مرحلة السيطرة الكاملة والسافرة للمجرمين وأعداء الشعب على أمة إنما وجدت لتخاطب البشرية بالفضيلة والسلام والحرية وكل المعاني التي اندكت في عهد بني أمية، كان هذا منهج الإمام الحسين وهو خارج إلى الكوفة حيث قال:
(إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
ثم راح يطوف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وانهى عمرته. لقد حاولوا تجبين الإمام وهو في الطريق إلى الكوفة، غير أنه لم يلتفت إليهم. ومضى في طريقه إلى الموت وهو يهتف:
(سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً).
فهو لم ينهض من بعد أخيه، إلا لمّا نقض معاوية الوثيقة، ونصب ابنه على الأمة..
وكيف يسكت الإمام الحسين على هذا الأمر. فلابد لصوت أن ينطق يشق فضاء الثورة. ولابد لضمير أن يهتز لهذه المعاني الفاضلة التي تجسدت بريحانه رسول الله (صلوات الله عليهما).
(إنّا أهل بيت النبوة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد شارب الخمور وراكب الفجور، وقاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).
وربما قد تعذره روحي فداه. لو أنه استسلم، وربما امتدحه القوم، وأملوا منصبه. غير أنالحسين هو أمين الله ورسوله في الأرض، لا يحيد عن مصلحة الأمة، وهذا الفيصل الذي يفصل بين الأئمة حيث أنهم يرعون المصلحة العامة على الخاصة وليس العكس كما هو دارج عند حكام بني أمية وبني العباس.. ولو أدّى به الأمر إلى خسران حياته، إذ لا قيمة للحياة في ظل ذل وفساد، ولا قيمة لحياة، لا تستثمر في إقامة أركان الدين ونصرة الإسلام، لقد قالها للتاريخ، واستلمتها منه الأجيال في مسيرات كافحها:
(إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي، يا سيوف خذيني) لقد صمم الإمام على مغادرة مكة، ليتجه إلى عاصمة أبيه علي أمير المؤمنين ، حيث الأنصار، الذين يتأرجون بين نصرته وخذلانه، وقد اعترضه الفرزدق وقال له قولته المعروفة (قلوبهم معك وسيوفهم عليك) غير أن الإمام روحي فداه كان يرسم استراتيجية مرسومة سلفاً في اللوح المحفوظ، كان عالماً بما سيجري له ولآل بيته. وقام خطيباً:
(الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما اولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا، واجربة سغبا، ولا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، ينجز بهم وعده. إلا ومن كان فينا باذلاً مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى).
وللمرة الأولى تتحد الأمة الإسلامية في تاريخها وذلك يوم وقفت صفاً واحداً كالبنيان المرصوص ضد أبي عبد الله متآمرة فخذلته (سلام الله عليه). ولم يكن الإمام يريد شق الصفوف وتفريق الشعث. ولكن حركة الإجرام كانت تتجه صوب قمع كل صوت وهدم كل فضيلة، فالأمة ابتليت بخليفة يشرب الخمور، لا يرتاح من اللهو، ولا يفهم معنى الورع.
كان لاهياً عابثاً في الصحراء لمّا فرضه أبوه على المسلمين وجاء متأخراً يلهو بالقرد، وكان يريد أن يأخذ البيعة غصباً وبالقوة والزور من الحسين .
أراد بنو أمية ممارسة إذلال للحسين فما كان إلا أن قال : هيهات منا الذّلة.
الحسين تعلم من أبيه أمير المؤمنين أسلوب الحوار الهادئ، وذلك بعد العرض الفكري الساطع المطلع من أقبية القرآن الكريم الدستور الإلهي القويم، وحاول إقناعهم، إلا أنهم أصروا على منعه من أبسط حقوقه الشرعية، فمنعوه من الماء وأبوا إلا قتله، فدخل إلى الخيمة التي كانت بها بطلة الحرب النفسية الحوراء زينب حيث كان علي بن الحسين عليلاً. وهو يقول:
يا دهر أفّ لك من خليل كم لك في الإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل وكل حيٍ سالك سبيلي
ومن هنا يتضح موقفه النبيل من أشرف رفاق وأصدق أصحاب عرفهم التاريخ ليقول لهم هذه الكلمات الرقيقة الهادئة (أن القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حلّ) فقالوا: لا والله، يا بن رسول الله، حتى تكون أنفسنا قبل نفسك، ثم يذكر اليعقوبي في تاريخه، أن زهير بن القين خرج على فرس له فنادى: يا أهل الكوفة. نذار لكم من عذاب الله، عباد الله، ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ولد سميّة، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم، أيّها الناس. انه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت بني إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغّصه الله الدنيا، وعذبّه أشدّ عذاب الآخرة. وانطلق البغاة الانتهازيون، يحرقون خيام الإمام الحسين وقتلوا كل من كان معه، وتشرد حريم الحسين فهام الصبية على وجوههم هاربين من الهجمة البربرية الشرسة.
لقد عرف الجميع انهم يقتلون ابن رسول الله فلقد عرّفهم بمنزلته من الرسول إلا أن حب الدنيا والسلطة كانت قد حجبت عنهم كل حقيقة من الحقائق التي أشار إليها ريحانة النبي. قال كلمة يسترجعهم فيها إلى الاستقامة:
(أيها الناس انسبوني من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ الست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي. أو ليس جعفر الطيار عمي.
أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقوله، وهو الحق والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم عن سفك دمي؟ فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف أن كان يدري ما يقول. فقال حبيب بن مظاهر: والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنك صادق.
قال الإمام الحسين : (فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم.
ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته. أو مال لكم استهلكته أو بقصاص أو غرامة، ثم نادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجاز بن أبجر ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن أقدم، قد أينعت الثمار وأخضر الجناب وإنما تقدم على جندِ لك مجندة فقالوا: لم نفعل
قال: سبحان الله بلى والله لقد فعلتم.
فقال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال الحسين: أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد.
وبذلك حرص الإمام على كرامة الأمة ومصلحتها ويحول دون يزيد وإذلاله.. (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من إن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).
وبذلك أصبح الحسين رمزاً لكل أبطال العالم من طلاب الفضيلة والإباء والشرف الرفيع في كل زمان ومكان.
مما راق لي
يتجنب كثير من المفكرين أن يكونوا أدباء في قضايا التاريخ، إلا في واقعة الطف، إنها الجدية التي لا يتمالك كثيرون أنفسهم تجاه ذلك الحدث العظيم، لأنه بلغ من الدراماتيكية ما يفقد الإنسان كل تقنياته المعرفية. ذلك لأن الهدف الذي من أجله سطر أروع ملحم البطولة والفداء كان هدفاً نبيلاً.
كل هذا لا يسمح للشرفاء أن يقوموا بسرد الإحصاءات و (فبركات) في مثل تكلم المشاهد. فلا غرابة للقارئ إذا أخذت بنا هذه الجدية التي لا يملك فيها الإنسان نفسه أمام مذبحة أبي الضيم صلوات المصلين عليه.
مازالت الذكرى تسوق بذاكرة الخيرين من المؤمنين بكل تفاصيل مأساة كربلاء حيث ماتزال ظلالها الحزينة ترافق ظلي إلى اليوم.
وتفصيلها لا تتسع لها هذه الأسطر المتواضعة جداً فهي تطلب المزيد في غيره، والآثار النفسية التي تركتها في أعماق عشاق الحق والفضيلة، مازالت تجرعها السموم ولا يمتلك أحد أن ينقلها كما يحسُّها ويستشعرها في كيانه.
كان الحسين يريد أن ينتشل الأمة من جمودها، يحركها للثورة ضد الإمبراطورية الجاثمة على السلطة ولابد من تقديم التضحيات الجزال، ولابد من دم شريف يراق، ليحدث الانقلاب في نفوس القوم الذين خذلوا قضيته وما زالوا يخذلون..
كان يعلم منذ البداية كما أبيه، أنه سيموت لا محالة مقتولاً، لذلك لما وصل إلى كربلاء وسأل عنها القوم، قال: هذا كرب وبلاء. لقد حاصره الجنود في هذه المنطقة النائية حتى ينفذوا فيه الجريمة النكراء. فالقضية وقبل كل شيء قضية إنسانية، إذ أن أهله معه وأبناءه وبناته وحتى رضعانه معه.
ولابدّ أن يراعي الأعداء حقه في حماية هؤلاء نزلوا يلتمسون ماء، فمنعهم القوم. منعوهم وهم لا يأبهون، ولعمري أي ملة وأي دين كان يجيز لهم منع الماء عن الأطفال والنساء. وهب أننا عذرناهم في منع الحسين فما بال الأمهات ورضعهن، قال شهر بن حوشب وكان من عملاء يزيد: لا تشربون منه حتى تشربوا من الحميم.
طرح الحسين خيارات كثيرة، فإما أن يدعوه يرجع وأما أن يدعوه يلتقي بيزيد. غير أن القوم المجرمين، علموا أن وجود الحسين أمام يزيد قد يقلب المعادلة. كما حدث لولده الإمام زين العابدين وذلك بعد مصرع أبيه الحسين وقد يثير عليهم لوم الناس وأحقادهم، فأبوا إلا أن يقتلوه في هذه الصحراء النائية، وليمتص رمل الصحراء دمه ولا يعلم به أحد.
فالناس ليس أمامهم رقابة تمنعهم. أجل، ليس أمامهم إلا الله. وكانوا به لا يأبهون..
وكان القدر الزم من الظل للإمام الحسين وكان لابد أن يدفع الثمن كله. ثمن أخيه وأبيه وجده.
طرح عليهم اختياراته فأبوا إلا أن ينزل على حكم ابن زياد. فقال لهم الحسين: انزل على حكم ابن الزانية؟ والله لا أفعل، الموت دون ذلك أحلى. لقد خرج الحسين في مهمة رسالية، فرضتها عليه ظروف المرحلة، مرحلة السيطرة الكاملة والسافرة للمجرمين وأعداء الشعب على أمة إنما وجدت لتخاطب البشرية بالفضيلة والسلام والحرية وكل المعاني التي اندكت في عهد بني أمية، كان هذا منهج الإمام الحسين وهو خارج إلى الكوفة حيث قال:
(إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا، أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين).
ثم راح يطوف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وانهى عمرته. لقد حاولوا تجبين الإمام وهو في الطريق إلى الكوفة، غير أنه لم يلتفت إليهم. ومضى في طريقه إلى الموت وهو يهتف:
(سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً).
فهو لم ينهض من بعد أخيه، إلا لمّا نقض معاوية الوثيقة، ونصب ابنه على الأمة..
وكيف يسكت الإمام الحسين على هذا الأمر. فلابد لصوت أن ينطق يشق فضاء الثورة. ولابد لضمير أن يهتز لهذه المعاني الفاضلة التي تجسدت بريحانه رسول الله (صلوات الله عليهما).
(إنّا أهل بيت النبوة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد شارب الخمور وراكب الفجور، وقاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).
وربما قد تعذره روحي فداه. لو أنه استسلم، وربما امتدحه القوم، وأملوا منصبه. غير أنالحسين هو أمين الله ورسوله في الأرض، لا يحيد عن مصلحة الأمة، وهذا الفيصل الذي يفصل بين الأئمة حيث أنهم يرعون المصلحة العامة على الخاصة وليس العكس كما هو دارج عند حكام بني أمية وبني العباس.. ولو أدّى به الأمر إلى خسران حياته، إذ لا قيمة للحياة في ظل ذل وفساد، ولا قيمة لحياة، لا تستثمر في إقامة أركان الدين ونصرة الإسلام، لقد قالها للتاريخ، واستلمتها منه الأجيال في مسيرات كافحها:
(إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي، يا سيوف خذيني) لقد صمم الإمام على مغادرة مكة، ليتجه إلى عاصمة أبيه علي أمير المؤمنين ، حيث الأنصار، الذين يتأرجون بين نصرته وخذلانه، وقد اعترضه الفرزدق وقال له قولته المعروفة (قلوبهم معك وسيوفهم عليك) غير أن الإمام روحي فداه كان يرسم استراتيجية مرسومة سلفاً في اللوح المحفوظ، كان عالماً بما سيجري له ولآل بيته. وقام خطيباً:
(الحمد لله وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله. خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما اولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا، واجربة سغبا، ولا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، ينجز بهم وعده. إلا ومن كان فينا باذلاً مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى).
وللمرة الأولى تتحد الأمة الإسلامية في تاريخها وذلك يوم وقفت صفاً واحداً كالبنيان المرصوص ضد أبي عبد الله متآمرة فخذلته (سلام الله عليه). ولم يكن الإمام يريد شق الصفوف وتفريق الشعث. ولكن حركة الإجرام كانت تتجه صوب قمع كل صوت وهدم كل فضيلة، فالأمة ابتليت بخليفة يشرب الخمور، لا يرتاح من اللهو، ولا يفهم معنى الورع.
كان لاهياً عابثاً في الصحراء لمّا فرضه أبوه على المسلمين وجاء متأخراً يلهو بالقرد، وكان يريد أن يأخذ البيعة غصباً وبالقوة والزور من الحسين .
أراد بنو أمية ممارسة إذلال للحسين فما كان إلا أن قال : هيهات منا الذّلة.
الحسين تعلم من أبيه أمير المؤمنين أسلوب الحوار الهادئ، وذلك بعد العرض الفكري الساطع المطلع من أقبية القرآن الكريم الدستور الإلهي القويم، وحاول إقناعهم، إلا أنهم أصروا على منعه من أبسط حقوقه الشرعية، فمنعوه من الماء وأبوا إلا قتله، فدخل إلى الخيمة التي كانت بها بطلة الحرب النفسية الحوراء زينب حيث كان علي بن الحسين عليلاً. وهو يقول:
يا دهر أفّ لك من خليل كم لك في الإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل والدهر لا يقنع بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل وكل حيٍ سالك سبيلي
ومن هنا يتضح موقفه النبيل من أشرف رفاق وأصدق أصحاب عرفهم التاريخ ليقول لهم هذه الكلمات الرقيقة الهادئة (أن القوم ليسوا يقصدون غيري، وقد قضيتم ما عليكم فانصرفوا، فأنتم في حلّ) فقالوا: لا والله، يا بن رسول الله، حتى تكون أنفسنا قبل نفسك، ثم يذكر اليعقوبي في تاريخه، أن زهير بن القين خرج على فرس له فنادى: يا أهل الكوفة. نذار لكم من عذاب الله، عباد الله، ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ولد سميّة، فإن لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم، أيّها الناس. انه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت بني إلا الحسين، فلا يعين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغّصه الله الدنيا، وعذبّه أشدّ عذاب الآخرة. وانطلق البغاة الانتهازيون، يحرقون خيام الإمام الحسين وقتلوا كل من كان معه، وتشرد حريم الحسين فهام الصبية على وجوههم هاربين من الهجمة البربرية الشرسة.
لقد عرف الجميع انهم يقتلون ابن رسول الله فلقد عرّفهم بمنزلته من الرسول إلا أن حب الدنيا والسلطة كانت قد حجبت عنهم كل حقيقة من الحقائق التي أشار إليها ريحانة النبي. قال كلمة يسترجعهم فيها إلى الاستقامة:
(أيها الناس انسبوني من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ الست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟ أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي. أو ليس جعفر الطيار عمي.
أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقوله، وهو الحق والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضرّ من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا سعد الساعدي وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم عن سفك دمي؟ فقال شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف أن كان يدري ما يقول. فقال حبيب بن مظاهر: والله إني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنك صادق.
قال الإمام الحسين : (فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم.
ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته. أو مال لكم استهلكته أو بقصاص أو غرامة، ثم نادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجاز بن أبجر ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن أقدم، قد أينعت الثمار وأخضر الجناب وإنما تقدم على جندِ لك مجندة فقالوا: لم نفعل
قال: سبحان الله بلى والله لقد فعلتم.
فقال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه. فقال الحسين: أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد.
وبذلك حرص الإمام على كرامة الأمة ومصلحتها ويحول دون يزيد وإذلاله.. (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنين وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من إن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).
وبذلك أصبح الحسين رمزاً لكل أبطال العالم من طلاب الفضيلة والإباء والشرف الرفيع في كل زمان ومكان.
مما راق لي