kumait
16-12-2012, 01:50 AM
مفهوم الحرية عند مفكري الاسلام
الدلالة اللغوية للحرية
قال ابن منظور (1232-1311م) في شرح معاني كلمة الحرية: (والحر بالضم: نقيض العبد والجمع احرار وحرار، الاخيرة عن ابن جني عثمان الموصلي (322-392هـ)، والحرة: نقيض الأَمَة والجمع حرائر. وحرره، وفي الحديث من فعل كذا وكذا فله عدل محرر أي اجر معتق، المحرر الذي جعل من العبيد حرا فأعتق، يقال حر العبد يحر حرارة بالفتح أي صار حرا) (1). وقال الجصاص (ت 370هـ): (تحرير رقبة يعني عتق رقبة، وتحريرها ايقاع الحرية عليها، وذكر الرقبة واراد به جملة الشخص تشبيها له بالاسير الذي تفك رقبته ويطلق فصارت الرقبة عبارة عن الشخص وكذلك قال اصحابنا إذا قال رقبتك حرة انه يعتق كقوله أنت حر) (2).
ويقول الباحث والكاتب العراقي، الشيخ القرشي: (الحرية في اللغة تطلق على الخلوص من العبودية، فيقال هو حر أي غير مُسترق، وتطلق على الخلوص من القيد والاسر. وفي الاسلام فان الحرية تارة يراد بها الخلوص من العبودية فيقال حر (أي غير مملوك) واخرى يُراد بها الرضا والاختيار، فيقال فلان حر في تصرفاته أي غير مكره، كما انها تطلق ويراد منها تخليص النفس من الأوهام والخرافات، كما يقال: فلان متحرر من الاوهام) (3)، ويعرف المفكر المصري محمد فريد وجدي (1878-1954م) الحرية بانها: (الخلوص وصفه الحر. وقد اطلقت هذه الكلمة في عصرنا هذا على خلوص الامم من استبداد المسيطرين عليها) (4)، والحر هو الكريم من كل شيء أي خياره واعتقه وطيبه، يقال (فرس حر) أي عتيق الاصل، و (طين حر) أي لا رمل فيه، و (حر الارض) أطيبها، وارض حرة: لا رمل فيها، ورملة: لا طين فيها، وحرية القوم- بضم الحاء وتشديد الراء والياء-: أشرافهم، يقال: (هو من حُرّية قومه) أي من أشرافهم (5).
وتحرير الولد ان يفرده لطاعة الله عز وجل وخدمة المسجد، من ذلك قول القران المجيد على لسان ام مريم وهو يستعرض جانبا من قصة مريم بنت عمران ووليدها السيد المسيح عيسى (642ق.هـ - رفع 609ق.هـ) (6) التي ارادت والدتها ان يكون ما في بطنها ذكرا توقفه لخدمة المعبد مدى الحياة:{اذ قالت إمرأة عمران رب إني نذرت ما في بطني محررا..} (سورة آل عمران:35) (7)، فتفريغ الفرد لخدمة المعبد أو المسجد، انما يعني تحريره من كل قيود الحياة، والاقتصار في التعامل مع مستلزمات الحياة بالاقل الممكن، فالتفرغ لعمل معين دون غيره وصب الاهتمام عليه بكل الجوانح والجوارح يتضمن معنى التحرر والتخلص من قيد كل عمل آخر.
ويستل القرطبي (ت 671هـ) من الآية الكريمة الخاصة بمريم (ع) واحدة من معاني الحرية، إذ ان: (قوله تعالى محررا ماخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب وهو تخليصه من الاضطراب والفساد) (8).
مفهوم الحرية اصطلاحا
اذا كان تعريف الحرية لغة من الكثرة بمكان، فانه في مجالها الاصطلاحي اكثر عددا وتنوعا وتشعبا، وبمرور الزمن يتم استحداث مصطلحات لمعنى الحرية، توفرها وتخلق ظروفها تطورات الزمن، فعلى سبيل المثال، اصبحت المسامحة في البيع والشراء عند العرب تعني عند مجتمعات اخرى مثل الغرب، العطاء الحر أو المجاني، أو المبايعة التي في جانب منها عطاء حر من غير ثمن، أو العمل الطوعي أو العمل المجاني، من قبيل ان تدخل مطعما وتأكل صحن طعام بثمن يقابله صحن مجاني، أو أن تشتري سلعة بثمن وتأخذ الثانية مجانا، واشتهر عندهم القول: (buy one get one free)، فالمجانية في مصطلحنا العربي، تعني في هذه المجتمعات البيع الحر، أو لك كامل الحرية في ان تأكل أو تشتري وجبتين بثمن وجبة واحدة، وما شابه، هذه المقايضة المتضمنة لجزئية الحرية أملتها الحياة الاقتصادية القائمة على المنافسة الحرة الشديدة، خلقت معها مصطلحات لم تكن معروفة من قبل.
والاستحداثات المستمرة لمفردة الحرية، نجد مصاديقها الخارجية في مجالات قد يصعب تقبلها عند بعض الشعوب أو الامم حتى وان كانت في الجانب السياسي محكومة من قبل طواغيت ومستبدين، فعلى سبيل المثال، لا يجد باحث بريطاني في الشؤون السياسية مثل NEIL McNAUGHTON، اية غضاضة من اطلاق وصف الحرية على ما تصفه شعوب العالم الثالث بالاستعمار، فعنده: (عندما يكون كل الناس مستعمرين -بفتح الميم- ويتم انتزاعهم من القوة الارهابية ويحررون من الاستعباد من قبل قوة خارجية، نحن نقول انهم الان قد تحرروا)(9). وربما نستطيع ان نفهم من خلال هذه الخلفية الثقافية للكاتب البريطاني، لماذا رفعت بريطانيا اثناء الحرب العالمية الاولى شعار (جئنا محررين لا فاتحين) اثناء دحرها للقوات العثمانية واحتلالها للبلدان العربية، وبخاصة شعارها الذي رفعته اثناء احتلال العراق العام 1917، معتبرة ان العراق واقع تحت سلطة قوة اجنبية وانه مستعمر من قبل العثمانيين الاتراك، واعتقد ان NEIL McNAUGHTON يحاول في كتابه تبرير مرحلة الاستعمار البريطاني لكثير من دول العالم الشرقي، والا يمكن ان نعتبر مجيئ القوة الخارجية الاولى السابقة (وهنا الاتراك) على القوة الخارجية التالية (وهنا بريطانيا) هي قوة محررة لا مستعمرة ايضا، على اعتبار ان أدبيات وبيانات القوة الأجنبية الاولى هي الاخرى تحكي عن تخليص هذه البلدان من انظمة ظالمة أو اجنبية، على ان للوجود العثماني في البلدان العربية والاسلامية مداليل دينية غير متوفرة في الاستعمار البريطاني.
واعتقد ان التعريف الانف الذكر يعتريه الكثير من النقصان، ولا يمكن تقبله، ليس اقل من منظور اسلامي، الذي حرم تسلط غير المسلم على المسلم حتى ولو كان بحجة التحرير لا الفتح، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (سورة النساء: 141). وهكذا الامر في كثير من مجالات الحياة، وربما سنجد في المستقبل استعمالات اخرى لكلمة الحرية ليست قائمة في الوقت الحاضر، بلحاظ ان تطور الاصطلاحات امر قائم في كل لغة من لغات الشعوب وليس وقفا على لغة دون اخرى.
الحرية وسيادة الذات
وفي الاصطلاح نجد تعاريف كثيرة للحرية منها: تعريف جابر بن حيان الكوفي (ت815هـ) بانها: ارادة تقدمتها روية مع تمييز. وقال ابو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد (450-505هـ) بأن: الحر من يصدر منه الفعل مع الارادة للفعل على سبيل الاختيار، على العلم بالمراد. وعرفها الدكتور زكريا ابراهيم بانها: تلك الملكة الخاصة التي تميز الكائن الحر الناطق من حيث هو موجود عاقل يصدر افعاله عن ارادته هو، لا عن ارادة اخرى غريبة عنه، فالحرية بحسب معناها (الاشتقاقي) هي انعدام القسر الخارجي. ويرى الشيخ ابو زهرة محمد بن احمد بن مصطفى (1898-1974م): ان الحر حقا هو الشخص الذي تتجلى فيه المعاني الانسانية العالية، الذي يعلو بنفسه عن سفاسف الامور، ويتجه إلى معاليها ويضبط نفسه، فلا تنطلق اهواؤه ولا يكون عبدا لشهوة معينة، بل يكون سيد نفسه، فالحر من يبتدئ بالسيادة على نفسه، ومتى ساد نفسه وانضبطت أهواؤه وأحاسيسه يكون حرا بلا ريب (10).
ويقرر الباحث والاكاديمي اللبناني الدكتور زيادة: (ان الحرية هي الاعمال التي نقوم بها والتي لا تخضع لقوانين حتمية تخرج عن سلطتنا، أو هي مجموعة الاختبارات التي نقوم بها من تلقاء ذاتنا دون اكراه خارجي) (11). ويعرف السيد محمد باقر بن حيدر الصدر (1935-1980م)، الحرية: (بأنها: (نفي سيطرة الغير). ومن هنا كانت هذه الحرية مقيدة بما يمنع اعتداء الاخرين بعضهم على بعض) (12).
في واقع الحال ان تجنب الاضرار بالاخرين هو امر غاية في الاهمية، ولكن لا يستطيع الانسان بمفرده ان يجنب الاخرين كامل الضرر اثناء إعماله لحريته وارادته، لان هناك اضرارا مرئية ملموسة واخرى غير مرئية، وقليل من الناس من يدرك الاضرار غير المحسوسة، فهو قادر على مشاهدة الضرر الظاهري، وربما يعجز عن ادراك الضرر غير المرئي، ونحن في حياتنا قد نسلك سبلا بملء ارادتنا وتنشيطا لحريتنا نراها لا تجلب الضرر للاخرين، ولكن غيرنا يرى الضرر، ربما نراه أو نتحسسه فيما بعد، فعلى سبيل المثال، للمرء كامل الحرية في بناء الدار فوق ارضه، ولكن قد يسبب رفع البناء في الحاق الاذى بجيرانه من حيث لا يشعر، كأن يكون البناء قد سد قرص الشمس عن نافذة جيرانه، ولذلك في هذه الحالة نحن بحاجة إلى شخص اخر يقنن حرية البناء، وهو مهندس البلدية، أي اننا لوحدنا قد لا نستطيع ادراك الضرر غير المرئي، من هنا ندرك اهمية التشريع والتقنين، وفي معظم البلدان المتحضرة، فان البلدية لا تكتفي بتقرير المهندس المختص، بل انها تستأذن الجيران وتطلب منهم ابداء الرأي فيما يخص اي بناء جديد في المنطقة أو منزل أو شقة بعينها، واذا ما قرر الجيران ان البناء الجديد أو تحوير وتغيير بناء قديم يضر بمصلحة الجيران أو يشوه من جاذبية الشارع أو الزقاق، فان البلدية تنزل عند مصلحة الجيران رغم انف المهندس المختص أو صاحب العقار.
مركب الحرية
والحرية بمعناها الفلسفي كما يقول استاذ القانون ادمون رباط (ت1991م) تعني: (حالة الكائن الذي لا يكون خاضعا لاي عامل من عوامل الجبر، بل يكون عاملا حسب رغبته وفقا لطبيعته، وفي جانبها الفقهي كما يقول الباحث الاردني الدكتور محمد فتحي الدريني تعني: الاباحة والتي يفهم منها عدم قسر الانسان على الفعل والترك)، ويضيف غرايبة فهمه الفقهي للحرية بان منح الانسان: (كامل حريته في دائرة واسعة من الافعال، يطلق عليها في الفقه الاسلامي دائرة العفو) (13)، أو بتعبير الفقيه الشيرازي (1347-1422هـ): (المباحات التي يصطلح عليها في الحال الحاضر بالحريات) (14). وقد عرفها الباحث والاكاديمي الاردني الدكتور غرايبة بانها: (المكنة العامة التي يقررها الشارع للافراد، بحيث تجعلهم قادرين على اداء واجباتهم واستيفاء حقوقهم، واختيار ما يجلب المنفعة ويدرأ المفسدة دون الحاق الضرر بالاخرين) (15).
ويعرفها الباحث السعودي الشيخ العليوات بقوله: (الحرية ان تمارس ارادتك على ارضية المسؤولية، وتسمح للاخرين ان يمارسوها كما تحب انت ان تفعل) (16). ويؤخذ على هذا التعريف، ان الحرية متأصلة في كينونة الانسان، واذا جردنا الحرية مما يلحق بها، فانه ليس للانسان سيادة على اخر حتى يسمح أو لا يسمح، لان الناس تكوينيا وتشريعيا وعرفا سواسية واحرار، قال الامام علي عليه السلام: (ايها الناس ان آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وان الناس كلهم احرار) (17).
نعم يقتضي الامر ان لا تزاحم حريتك حرية انسان اخر والعكس صحيح، اتساقا مع وصية الامام علي لنجله الامام الحسن عليهما السلام: (يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تُظلم، واحسن كما تحب ان يُحسن اليك، واستقبح ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك) (18)، وتقتضي الحرية المنفعة المشتركة وفق مديات كل انسان وحقوقه، إذ لا يمكن تصور حرية حقيقية تقوم على حساب فرد مقابل منفعة فرد اخر دون وجه حق، وفي الحديث النبوي (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم اعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في اسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فان تركوهم وما ارادوا هلكوا جميعا، وان اخذوا على ايديهم نََجَوْ، ونَجَوْ جميعا) (19). ويضيف المحقق اللبناني الشيخ صبحي بن ابراهيم الصالح (1926-1986م)، في تعليقه على الحديث النبوي: (وكأن الحديث، يعرف الحرية في بساطة خالية من التعقيد، بأنها تبتدئ من حيث يستفيد الفرد وتنتهي حيث يبدأ ضرر الآخرين، والقاعدة الاسلامية المستمدة من الحديث الشريف تقول كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:لا ضرر ولا ضرار). اذن فالناس كلهم في مركب واحد، فلا يمكن تجاوز الحدود بحجة الحرية الشخصية أو اثبات الذات.
الحرية وأسر الذات
والحرية عند المفكر العراقي السيد حسن بن مهدي الشيرازي (1354-1400هـ) هي: (التخلص من انواع الاسر الذي يجعل الانسان اخيذا، لسلطة عليه ارادتها، ويدين لها بالطاعة، وهي كلمة تقابل كلمة (العبودية) وبتعبير آخر، ان الحرية تعني استقلال تفكير الفرد في ان يفعل ما يشاء)(20)، هذا المعنى يقترب منه كثيرا الباحث العراقي استاذ الحوزة العلمية الشيخ الصفار بقوله: (ان الحرية تعني استقلال الفرد في ان يفكر ما يريد ويفعل ما يشاء ويملك ما يقدر على امتلاكه)، وقد اعتبر الصفار: (ان الحرية ليست سوى ان يكون الوضع الاجتماعي بنحو يستطيع فيه كل فرد من افراد المجتمع من ممارسة اعماله ويفجر مواهبه وقابلياته، وانتخاب طريقة حياته، والعقيدة التي يؤمن بها بلا مانع يمنعه أو حاجز يحجزه من ذلك) (21).
مرة اخرى نجد انفسنا امام تفسير للحرية لا يستطيع ان يكون جامعا مانعا، فالانسان يفكر في كل شيء، واذا اعطي القياد في تحويل الفكرة إلى واقع، فمن الطبيعي ان يصطدم مع حريات الآخرين، فقولنا (يفعل ما يشاء) أو (دون مانع يمنعه أو حاجز يحجزه من ذلك)، انما يتضمن فيما يتضمن تضاربا مع حريات آخرين، إذ لا يمكن تصور حرية مطلقة على وجه البسيطة، قد لا تكون هناك موانع قانونية أو تشريعية، ولكن قد نصطدم بموانع عرفية أو اجتماعية أو عائلية أو عشائرية، تكون محترمة اكثر من القانون المدني أو التشريعي نفسه، فمثلا يستطيع المرء في جو اكاديمي علمي ان يتحدث عن العلاقات الجنسية من جوانبها الطبية والنفسية والاجتماعية، ولكنه غير قادر على فعل ذلك في مكان اجتماعي آخر، لأن العرف في مثل هذا الجو يمنعه من ذلك ويحجزه عن الافصاح بكل ما يرغب ان يفصح عنه، مع ان القانون أو التشريع لم يحظر عليه ذلك، فالحرية تكون مقبولة في ظرف ومرفوضة في ظرف آخر، والعرف يحدد طبيعة الموضوع وابعاده، ويدخل العرف كأحد موارد التقنين.
كما انه لا يمكن بتقديري القبول كليا من ناحية اخرى بمقولة قدرة الانسان ان يفعل كل ما يشاء، لاننا حينئذ سنصطدم بوضعيات من الحرية تنسجم مع بعض النفسيات ولكنها تتعارض مع الفطرة السليمة، والفطرة لاشك مقدمة على النفسية الانسانية، لان الفطرة كل لا يتجزأ نابتة في منبت الخير اصالة، قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (سورة الروم: 30)، في حين ان النفوس تختلف وتتراوح ما بين الخير والشر يمينا ويسارا، قال تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} (سورة الشمس:8)، ولذلك فإن السيد الشيرازي لا يجعل هذه المشيئة مطلقة كما يوحي من التعريف مجردا وانما يؤطرها بسلطات ليس للانسان ان يتجاوزها، والا خرج عن مفهوم الحرية الحقة، فهناك سلطات تكون محمودة تمنع الانسان من ان يفعل كل ما يشاء، منها سلطة العقل التي تحجر على الانسان ارتكاب الخطأ وترشده إلى الصواب، وسلطة العبودية لله التي تمنع الانسان من الوقوع في الفتن والاهواء، وتقابلها سلطة العبودية للنفس، من هنا فان الباحث والاكاديمي السوري الشيخ الزحيلي رئيس قسم الفقه الاسلامي ومذاهبه في كلية الشريعة بجامعة دمشق، يعطي للحرية مفهوما مؤطرا فهي: (تعني ان يعيش الانسان على النحو الذي يتفق مع نظرته ومع أصول الأخلاق العامة وقضايا النظام العام، فليست الحرية معنى مرادفا للفوضوية، فالفوضى لا يقبلها الاسلام) (22). كما لا يقبلها المنطق السليم وتستنكرها جل القوانين الوضعية، وقد يخضع الانسان في لحظة ضعف للفوضى، ولكنه في قرارة نفسه يرفضها تماما، يقول الأديب السوري المعلم بطرس البستاني (1819-1883م): (توهم البعض في معنى الحرية جواز فعل كل ما يخطر في البال وهذا نوع من اساءة استعمال الحرية) (23).
الحرية والآخر
وينتقد الفيلسوف الايراني الشيخ الجعفري (1925-1998م)، اولئك الذين يصفون الحرية بانها (احتفظ للاخرين بحقوقهم ولا تزاحمها ثم افعل ما تشاء) والتي راجت في المجتمعات الغربية، واصفا اياها: (بانها جملة غير انسانية، لان كل انسان يستطيع ان يشرب الخمر أو ينتحر فيسيغ ويستسيغ اجرامه تجاه نفسه)، مضيفا: (ان على هؤلاء ان يعلموا ان الشخص إذا فسد في أعماقه فمن المحال عليه ان يقول بحق الحياة والكرامة لآخرين، انه لا يفهم اصلا معنى للحق والحكم والحياة والكرامة والحرية، فضلا عن أن يقوم بمراعاتها، وهؤلاء الاشخاص الفاسدون في الواقع يعدون تجسيدا للمزاحمة والتعدي والخيانة والجناية بالقوة، ويتحول بأقل دافع إلى الفعلية). ويصف اولئك: (بان مثلهم مثل من يوصي بركانا ان يفعل ما يشاء في اعماقه، وان يصنع ما يشاء من حمم، ثم لا يتعدى على مزارع الاخرين وبيوتهم، وهؤلاء لا يقتصر حالهم على صنع البراكين في المجتمع، بل انهم يخونون اولئك الافراد ايضا، ذلك انهم بتلك التوصية بالحرية المطلقة يكبتون سلوكهم وعقولهم ووجدانهم وقواهم العاملة للتكامل والرقي) (24).
وأجد نفسي ميالا إلى رأي الشيخ الجعفري، وقد دلت الظواهر الاجتماعية السيئة على ذلك، فالادمان الذي ينخلق عند متناول المخدرات أو المشروبات الكحولية يجعل منه انسانا لا اباليا، ومتحفزا لارتكاب اية مخالفة أو حماقة أو جنحة، وبالتالي فان استعماله السيئ لحريته الشخصية ساهم في الاساءة إلى نفسه والى الاخرين، فمن هنا فان بعض الفقهاء على سبيل المثال، ومن باب لا ضرر ولا ضرار، لا يجوّز على متناول الدخان من اشعال سيجارة في مكان مغلق فيه اناس الا بعد استئذانهم، لان بعض الحضور لا يدخن، والدخان المنبعث من السيجارة تزعجه نفسيا أو صحيا، مثل المريض بالربو أو سرطان الرئة، ولهذا نجد في بعض الاماكن العامة أو في الطائرات أو الحافلات أو المطاعم عبارات تحظر التدخين في جانب من المكان وتجيزه في جانب اخر.
وفَهمَ الدكتور سري نُسيبة، من الحرية انها: (الامكانية أو القدرة على النمو والتطور، لتحقيق الوضع الافضل للانسان أي سلخ القيود المانعة عن هذا النمو والتطور نحو الافضل، وذلك التعريف لا يقودنا إلى القبول بحتمية الطبائع الشريرة فردا أو جماعة) (25).
وفي تقديري، فان هذا التعريف رغم جهد المعرِّف، فانه لا يسلم من النقد، فما يراه البعض نموا وتطورا نحو الأحسن، قد لا يراه اخر بهذا النحو، فعلى سبيل المثال، فان الاستنساخ أو الاستنسال البشري، عملية يراها البعض نموا وتطورا نحو الافضل لتحسين النوعية الانسانية، لكن البعض يشكك بها، من هنا فان بعض الحكومات سنّت قوانين حدت من حرية الاطباء في مجال الاستنساخ، فالطبيب المقتنع بهذه العملية يرى حريته في الاستمرار بها، لكن السلطة أو اطباء اخرين يرون في القضية برمتها عملية لا اخلاقية، لانه بالامكان استنسال مجرمين محترفين، أو طواغيت وجبابرة.
ولا شك ان الاستنساخ يعد نموا وتطورا طبيا نحو الافضل لتحسين الاجيال نباتية كانت أو حيوانية أو انسية، ولكن إذا انسلخت عملية الاستنساخ أو الاستنسال عن القيود المانعة، فان المطاف سينتهي إلى ما لا يحمد عقباه على البشرية جمعاء، فلا يمكن ان تكون حرية التطور العلمي بكل صنوفه قائمة على حساب حرية الشخص أو البشرية، لان الاشياء خلقت لاجل الانسان وليس العكس.
الاختيار محور الحرية
ولما كان الانسان مختارا، انطلاقا من مبدأ الخلقة: {وهديناه النجدين} (سورة البلد:10)، {انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} (سورة الانسان: 3)، فانه لا يمكن الفصل بين الحرية والاختيار، بل ان الاختيار هو محور الحرية، إذ لا يمكن اطلاق وصف الحرية على انسان ما، إذا لم يكن مختارا اصالة، والا انتفت الحرية، ولازمية الاختيار في وصف الحرية وتعريفها، يشير اليها البستاني، فالحرية عنده هي: (حالة يكون الانسان فيها قادرا على فعل شيء، أو تركه بحسب ارادته واختياره) (26)، لكن المفكر السوري عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي (1854-1902م) وعلى لسان المولى الرومي الذي جمعه مع عدد من حجاج بيت الله الحرام من جنسيات مختلفة ضمن جلسة حوارية حول الدين والحياة، يضيف شيئا جديدا إلى تعريف الحرية، فهي عنده: (بان يكون الانسان مختارا في قوله وفعله، لا يعترضه مانع ظالم) (27). وهو بهذا التعريف يقر بوجود موانع في حياة الانسان تمنعه من إعمال ارادته وحريته، ولكنه وضع قيدا للمانع وهو ان لا يكون ظالما، وهذه مرحلة متطورة من التعريفات، على خلاف الذين عرّفوا الحرية بمطلق الارادة وادانة أي مانع في طريق حرية الانسان، واعتقد ان هذا امر يمكن التسليم به، فيما لو انعمنا النظر فيما حولنا، فالمرض على سبيل المثال يحول دون ان يقوم المريض بترجمة حريته في موارد عدة، فهو لا يستطيع ان يأكل كل ما يحب، بل ويجبر قسرا على تناول ما لا يرغب، فهو يمنع من الصوم إذا اضر بصحته رغم وجوب الاتيان بالصوم، فهذه موانع غير ظالمة حدّت من حرية الانسان، لكنها موانع مؤقتة أملتها ظروف استثنائية.
يبقى ان بعض الموانع، قد يراها المبتلى بها انها ظالمة وتحد من اختياره وحريته، ولكنها في حقيقة الامر غير ظالمة إذا تعامل معها بايجابية، فالذي يولد مكفوفا، أو أبكما أو أصما أو أعرجا أو أعورا، أو ما شابه من الامراض الولادية، فان لكل عاهة أو نقص تأثيراً نفسياً على صاحبها كالمكفوف أو الابكم أو الاصم أو الاعرج، أو ما اشبه من الامراض الخلقية لا يمكن نكران ذلك، لكن بعضهم يتعايش مع ما هو فيه رغم ان الواقع دل ان من يفقد شيئا من حواسه أو جوارحه يوفر له الله قدرة من جانب اخر يتفوق بها على كثير من الاصحاء، والامثال كثيرة، وبعضهم يعتبر فقدانه لحاسة ما ظلما وقع عليه، فمن ينظر إلى الامر كظلم يخرج عن نطاق التعريف، ومن يسلّم بالامر يدخل فيه، ولكن لا يمكن نكران حقيقة مرة ان بعض الامراض الولادية تأتي من جناية الاباء جهلا أو عمدا، مثلما يولد الطفل وهو يحمل فيروس الايدز عن والديه أو احدهما.
من مجمل التعريفات الواردة حول الحرية، أعتقد ان الحرية هي: حق الفرد في ان يتصرف اختيارا بما لا يضر بنفسه أو بالاخرين، منطلقا من ارادة نزيهة عن هوى النفس، ومحكوما بالتشريع والقوانين.
ويلاحظ في تعريف الحرية ان عملية الاضرار بالنفس لايريدها الاسلام للانسان المسلم وان اقتنع بها المرء نفسه أو وافق عليها بملء رغبته، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم وجوبه على كل انسان ذكرا أو انثى فان من شروط هذا الوجوب هو عدم وقوع الضرر للآمر أو الناهي، فالحرية عملية اختيارية للانسان له ان يفعل الشيء أو لا يفعله، ولكن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي ليس للانسان فيه اختيار الفعل أو الترك، فلو قام به انسان كفى الجميع وان لم يقم به احدهم أثم الجميع، مع ذلك فان واحدة من الشروط الاربعة لوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: (ان لا يترتب على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر بنفس الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر أو باحد من المسلمين، واذا لزم جراء الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر الحاق الضرر بالآمر أو الناهي أو بغيره من المسلمين، لم يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجب في حالات خاصة يراجع بها الحاكم الشرعي) (28)، وبالتالي فانه من باب اولى ان لا تشتمل الحرية على اضرار النفس وان طلبها الانسان طواعية، على ان هناك استثناءات في باب الاضرار بالنفس، مثل الجهاد في سبيل الله تحت راية امام عادل، وقول كلمة الحق امام سلطان جائر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب ج4 (بيروت، دار صادر، الطبعة 1) ص181.
2- الجصاص، احمد بن علي الرازي، احكام القران، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي ج2 (بيروت، دار احياء التراث العربي، 1405هـ) ص121.
3- القرشي، الشيخ باقر شريف، نظام الاسلام السياسي (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 2، 1398هـ/1978م) ص183-184.
4- وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين ج3 (بيروت، دار المعرفة، الطبعة 3، 1971) ص408.
5- راجع: المنجد في اللغة (بيروت، دار المشرق، الطبعة السادسة والثلاثون 1997م) ص124.
(6) راجع: الكرباسي، محمد صادق محمد، الحسين والتشريع الاسلامي، ج1 (لندن، المركز الحسيني للدراسات، الطبعة 1، 1421/2000م) ص82.
7- قال ابو اسحاق الزجاج (ت 923م): (هذا قول امرأة عمران ومعناه جعلته خادما يخدم في متعبداتك وكان ذلك جائزا لهم وكان على اولادهم فرضا ان يطيعوهم في نذرهم فكان الرجل ينذر في ولده ان يكون خادما يخدمهم في متعبدهم ولعبادهم ولم يكن ذلك النذر في النساء انما كان في الذكور فلما ولدت امراة عمران مريم قالت رب اني وضعتها انثى وليست الانثى مما تصلح للنذر فجعل الله من الايات في مريم لما اراده من امر عيسى عليه السلام ان جعلها متقبلة في النذر فقال تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن، والمحرر النذير والمحرر النذيرة وكان يفعل ذلك بني اسرائيل كان احدهم ربما ولد له ولد فربما حرره أي جعله نذيرة في خدمة الكنيسة ما عاش لا يسعه تركها في دينه.
انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب ج 4 (مصدر سابق) ص181.
8- القرطبي، محمد بن احمد الانصاري، تفسير القرطبي، تحقيق: احمد عبد العليم البردوني ج4 (القاهرة، دار الشعب، الطبعة 2، 1372هـ) ص66.
9- NEIL McNAUGHTON، SUCCESS IN POLITICS، John Murray (Publishers) Ltd، Second Edition 2001، p21
10- انظر: السامرائي، د. نعمان عبد الرزاق، النظام السياسي في الاسلام (الرياض، فهرست مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة 1، 1419هـ/1999م) ص175-176.
11- زيادة، د. معن، موسوعة الفلسفة العربية، مجلد 1 (باريس، بيروت، معهد الانماء العربي، الطبعة 1، 1988م) ص365.
12- بحر العلوم، د. محمد، آفاق حضارية للنظرية السياسية في الاسلام (لندن، معهد الدراسات العربية والاسلامية، 1421هـ/2000م) ص196.
13 غرايبة، د. رحيل محمد، الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الاسلامية (عمّان، المعهد العالمي للفكر الاسلامي والمنار للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 1421هـ/2000م) ص33-34.
14- الشيرازي، السيد محمد، الحريات (بيروت، مؤسسة الفكر الاسلامي، الطبعة 1، 1414هـ/1994م) ص7.
15- غرايبة، د. رحيل محمد، الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الاسلامية (مصدر سابق) ص41.
16- العليوات، الشيخ محمد حسن، التجديد الاجتماعي.. تأملات في التأهيل المجتمعي (بيروت، دار الصفوة، الطبعة 1، 1417هـ/1997م) ص59.
17- انظر: الشيرازي، السيد محمد، الأزمات وحلولها (بيروت، مركز الرسول الاعظم للتحقيق والنشر، الطبعة 1، 1420هـ/1999م) ص42.
18- نهج البلاغة للامام علي، جمع: الشريف الرضي، شرح: الشيخ محمد عبده ج3 (بيروت، دار البلاغة، الطبعة 4، 1409هـ/1989م) ص565.
19- الصالح، د. صبحي، الاسلام ومستقبل الحضارة (بيروت، دار الشورى، الطبعة 1، 1982م) ص 199.
20- الشيرازي، السيد حسن، حديث رمضان (الكويت، هيئة محمد الامين، الطبعة 3، 1415هـ/1995م) ص116.
21- الصفار، الشيخ فاضل، ضد الاستبداد (بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، الطبعة 1، 1418هـ/1997م) ص ص54-55 و129.
22- الزحيلي، د. وهبة (حوار النور مع الزحيلي) مجلة النور (لندن، دار النور للنشر، السنة 11، العدد 125، 1422هـ/2001م) ص50.
23- البستاني، بطرس، دائرة المعارف، ج7 (بيروت، دار المعرفة) ص3.
24- الجعفري، الشيخ محمد تقي (مقدمة للاعلان العالمي لحقوق الانسان) كتاب: حقوق الانسان في الاسلام (طهران، العلاقات الدولية في منظمة الاعلام الاسلامي، 1408هـ/1988م) ص200.
25- نُسيبة، سري، الحرية بين الحد والنسبي (لندن، دار الساقي، الطبعة 1، 1995م) ص122.
26- البستاني، بطرس، دائرة المعارف ج7 (مصدر سابق) ص2.
27- عمارة، محمد، عبد الرحمن الكواكبي.. ام القرى.. الاعمال الكاملة (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف، 1970م) ص153.
28- الحكيم، د. عبد الهادي محمد تقي، حواريات فقهية (بيروت، مؤسسة المرشد، الطبعة 11، 1422هـ/2002م) ص300-301.
نضير الخزرجي - إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات - لندن
الدلالة اللغوية للحرية
قال ابن منظور (1232-1311م) في شرح معاني كلمة الحرية: (والحر بالضم: نقيض العبد والجمع احرار وحرار، الاخيرة عن ابن جني عثمان الموصلي (322-392هـ)، والحرة: نقيض الأَمَة والجمع حرائر. وحرره، وفي الحديث من فعل كذا وكذا فله عدل محرر أي اجر معتق، المحرر الذي جعل من العبيد حرا فأعتق، يقال حر العبد يحر حرارة بالفتح أي صار حرا) (1). وقال الجصاص (ت 370هـ): (تحرير رقبة يعني عتق رقبة، وتحريرها ايقاع الحرية عليها، وذكر الرقبة واراد به جملة الشخص تشبيها له بالاسير الذي تفك رقبته ويطلق فصارت الرقبة عبارة عن الشخص وكذلك قال اصحابنا إذا قال رقبتك حرة انه يعتق كقوله أنت حر) (2).
ويقول الباحث والكاتب العراقي، الشيخ القرشي: (الحرية في اللغة تطلق على الخلوص من العبودية، فيقال هو حر أي غير مُسترق، وتطلق على الخلوص من القيد والاسر. وفي الاسلام فان الحرية تارة يراد بها الخلوص من العبودية فيقال حر (أي غير مملوك) واخرى يُراد بها الرضا والاختيار، فيقال فلان حر في تصرفاته أي غير مكره، كما انها تطلق ويراد منها تخليص النفس من الأوهام والخرافات، كما يقال: فلان متحرر من الاوهام) (3)، ويعرف المفكر المصري محمد فريد وجدي (1878-1954م) الحرية بانها: (الخلوص وصفه الحر. وقد اطلقت هذه الكلمة في عصرنا هذا على خلوص الامم من استبداد المسيطرين عليها) (4)، والحر هو الكريم من كل شيء أي خياره واعتقه وطيبه، يقال (فرس حر) أي عتيق الاصل، و (طين حر) أي لا رمل فيه، و (حر الارض) أطيبها، وارض حرة: لا رمل فيها، ورملة: لا طين فيها، وحرية القوم- بضم الحاء وتشديد الراء والياء-: أشرافهم، يقال: (هو من حُرّية قومه) أي من أشرافهم (5).
وتحرير الولد ان يفرده لطاعة الله عز وجل وخدمة المسجد، من ذلك قول القران المجيد على لسان ام مريم وهو يستعرض جانبا من قصة مريم بنت عمران ووليدها السيد المسيح عيسى (642ق.هـ - رفع 609ق.هـ) (6) التي ارادت والدتها ان يكون ما في بطنها ذكرا توقفه لخدمة المعبد مدى الحياة:{اذ قالت إمرأة عمران رب إني نذرت ما في بطني محررا..} (سورة آل عمران:35) (7)، فتفريغ الفرد لخدمة المعبد أو المسجد، انما يعني تحريره من كل قيود الحياة، والاقتصار في التعامل مع مستلزمات الحياة بالاقل الممكن، فالتفرغ لعمل معين دون غيره وصب الاهتمام عليه بكل الجوانح والجوارح يتضمن معنى التحرر والتخلص من قيد كل عمل آخر.
ويستل القرطبي (ت 671هـ) من الآية الكريمة الخاصة بمريم (ع) واحدة من معاني الحرية، إذ ان: (قوله تعالى محررا ماخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب وهو تخليصه من الاضطراب والفساد) (8).
مفهوم الحرية اصطلاحا
اذا كان تعريف الحرية لغة من الكثرة بمكان، فانه في مجالها الاصطلاحي اكثر عددا وتنوعا وتشعبا، وبمرور الزمن يتم استحداث مصطلحات لمعنى الحرية، توفرها وتخلق ظروفها تطورات الزمن، فعلى سبيل المثال، اصبحت المسامحة في البيع والشراء عند العرب تعني عند مجتمعات اخرى مثل الغرب، العطاء الحر أو المجاني، أو المبايعة التي في جانب منها عطاء حر من غير ثمن، أو العمل الطوعي أو العمل المجاني، من قبيل ان تدخل مطعما وتأكل صحن طعام بثمن يقابله صحن مجاني، أو أن تشتري سلعة بثمن وتأخذ الثانية مجانا، واشتهر عندهم القول: (buy one get one free)، فالمجانية في مصطلحنا العربي، تعني في هذه المجتمعات البيع الحر، أو لك كامل الحرية في ان تأكل أو تشتري وجبتين بثمن وجبة واحدة، وما شابه، هذه المقايضة المتضمنة لجزئية الحرية أملتها الحياة الاقتصادية القائمة على المنافسة الحرة الشديدة، خلقت معها مصطلحات لم تكن معروفة من قبل.
والاستحداثات المستمرة لمفردة الحرية، نجد مصاديقها الخارجية في مجالات قد يصعب تقبلها عند بعض الشعوب أو الامم حتى وان كانت في الجانب السياسي محكومة من قبل طواغيت ومستبدين، فعلى سبيل المثال، لا يجد باحث بريطاني في الشؤون السياسية مثل NEIL McNAUGHTON، اية غضاضة من اطلاق وصف الحرية على ما تصفه شعوب العالم الثالث بالاستعمار، فعنده: (عندما يكون كل الناس مستعمرين -بفتح الميم- ويتم انتزاعهم من القوة الارهابية ويحررون من الاستعباد من قبل قوة خارجية، نحن نقول انهم الان قد تحرروا)(9). وربما نستطيع ان نفهم من خلال هذه الخلفية الثقافية للكاتب البريطاني، لماذا رفعت بريطانيا اثناء الحرب العالمية الاولى شعار (جئنا محررين لا فاتحين) اثناء دحرها للقوات العثمانية واحتلالها للبلدان العربية، وبخاصة شعارها الذي رفعته اثناء احتلال العراق العام 1917، معتبرة ان العراق واقع تحت سلطة قوة اجنبية وانه مستعمر من قبل العثمانيين الاتراك، واعتقد ان NEIL McNAUGHTON يحاول في كتابه تبرير مرحلة الاستعمار البريطاني لكثير من دول العالم الشرقي، والا يمكن ان نعتبر مجيئ القوة الخارجية الاولى السابقة (وهنا الاتراك) على القوة الخارجية التالية (وهنا بريطانيا) هي قوة محررة لا مستعمرة ايضا، على اعتبار ان أدبيات وبيانات القوة الأجنبية الاولى هي الاخرى تحكي عن تخليص هذه البلدان من انظمة ظالمة أو اجنبية، على ان للوجود العثماني في البلدان العربية والاسلامية مداليل دينية غير متوفرة في الاستعمار البريطاني.
واعتقد ان التعريف الانف الذكر يعتريه الكثير من النقصان، ولا يمكن تقبله، ليس اقل من منظور اسلامي، الذي حرم تسلط غير المسلم على المسلم حتى ولو كان بحجة التحرير لا الفتح، قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (سورة النساء: 141). وهكذا الامر في كثير من مجالات الحياة، وربما سنجد في المستقبل استعمالات اخرى لكلمة الحرية ليست قائمة في الوقت الحاضر، بلحاظ ان تطور الاصطلاحات امر قائم في كل لغة من لغات الشعوب وليس وقفا على لغة دون اخرى.
الحرية وسيادة الذات
وفي الاصطلاح نجد تعاريف كثيرة للحرية منها: تعريف جابر بن حيان الكوفي (ت815هـ) بانها: ارادة تقدمتها روية مع تمييز. وقال ابو حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد (450-505هـ) بأن: الحر من يصدر منه الفعل مع الارادة للفعل على سبيل الاختيار، على العلم بالمراد. وعرفها الدكتور زكريا ابراهيم بانها: تلك الملكة الخاصة التي تميز الكائن الحر الناطق من حيث هو موجود عاقل يصدر افعاله عن ارادته هو، لا عن ارادة اخرى غريبة عنه، فالحرية بحسب معناها (الاشتقاقي) هي انعدام القسر الخارجي. ويرى الشيخ ابو زهرة محمد بن احمد بن مصطفى (1898-1974م): ان الحر حقا هو الشخص الذي تتجلى فيه المعاني الانسانية العالية، الذي يعلو بنفسه عن سفاسف الامور، ويتجه إلى معاليها ويضبط نفسه، فلا تنطلق اهواؤه ولا يكون عبدا لشهوة معينة، بل يكون سيد نفسه، فالحر من يبتدئ بالسيادة على نفسه، ومتى ساد نفسه وانضبطت أهواؤه وأحاسيسه يكون حرا بلا ريب (10).
ويقرر الباحث والاكاديمي اللبناني الدكتور زيادة: (ان الحرية هي الاعمال التي نقوم بها والتي لا تخضع لقوانين حتمية تخرج عن سلطتنا، أو هي مجموعة الاختبارات التي نقوم بها من تلقاء ذاتنا دون اكراه خارجي) (11). ويعرف السيد محمد باقر بن حيدر الصدر (1935-1980م)، الحرية: (بأنها: (نفي سيطرة الغير). ومن هنا كانت هذه الحرية مقيدة بما يمنع اعتداء الاخرين بعضهم على بعض) (12).
في واقع الحال ان تجنب الاضرار بالاخرين هو امر غاية في الاهمية، ولكن لا يستطيع الانسان بمفرده ان يجنب الاخرين كامل الضرر اثناء إعماله لحريته وارادته، لان هناك اضرارا مرئية ملموسة واخرى غير مرئية، وقليل من الناس من يدرك الاضرار غير المحسوسة، فهو قادر على مشاهدة الضرر الظاهري، وربما يعجز عن ادراك الضرر غير المرئي، ونحن في حياتنا قد نسلك سبلا بملء ارادتنا وتنشيطا لحريتنا نراها لا تجلب الضرر للاخرين، ولكن غيرنا يرى الضرر، ربما نراه أو نتحسسه فيما بعد، فعلى سبيل المثال، للمرء كامل الحرية في بناء الدار فوق ارضه، ولكن قد يسبب رفع البناء في الحاق الاذى بجيرانه من حيث لا يشعر، كأن يكون البناء قد سد قرص الشمس عن نافذة جيرانه، ولذلك في هذه الحالة نحن بحاجة إلى شخص اخر يقنن حرية البناء، وهو مهندس البلدية، أي اننا لوحدنا قد لا نستطيع ادراك الضرر غير المرئي، من هنا ندرك اهمية التشريع والتقنين، وفي معظم البلدان المتحضرة، فان البلدية لا تكتفي بتقرير المهندس المختص، بل انها تستأذن الجيران وتطلب منهم ابداء الرأي فيما يخص اي بناء جديد في المنطقة أو منزل أو شقة بعينها، واذا ما قرر الجيران ان البناء الجديد أو تحوير وتغيير بناء قديم يضر بمصلحة الجيران أو يشوه من جاذبية الشارع أو الزقاق، فان البلدية تنزل عند مصلحة الجيران رغم انف المهندس المختص أو صاحب العقار.
مركب الحرية
والحرية بمعناها الفلسفي كما يقول استاذ القانون ادمون رباط (ت1991م) تعني: (حالة الكائن الذي لا يكون خاضعا لاي عامل من عوامل الجبر، بل يكون عاملا حسب رغبته وفقا لطبيعته، وفي جانبها الفقهي كما يقول الباحث الاردني الدكتور محمد فتحي الدريني تعني: الاباحة والتي يفهم منها عدم قسر الانسان على الفعل والترك)، ويضيف غرايبة فهمه الفقهي للحرية بان منح الانسان: (كامل حريته في دائرة واسعة من الافعال، يطلق عليها في الفقه الاسلامي دائرة العفو) (13)، أو بتعبير الفقيه الشيرازي (1347-1422هـ): (المباحات التي يصطلح عليها في الحال الحاضر بالحريات) (14). وقد عرفها الباحث والاكاديمي الاردني الدكتور غرايبة بانها: (المكنة العامة التي يقررها الشارع للافراد، بحيث تجعلهم قادرين على اداء واجباتهم واستيفاء حقوقهم، واختيار ما يجلب المنفعة ويدرأ المفسدة دون الحاق الضرر بالاخرين) (15).
ويعرفها الباحث السعودي الشيخ العليوات بقوله: (الحرية ان تمارس ارادتك على ارضية المسؤولية، وتسمح للاخرين ان يمارسوها كما تحب انت ان تفعل) (16). ويؤخذ على هذا التعريف، ان الحرية متأصلة في كينونة الانسان، واذا جردنا الحرية مما يلحق بها، فانه ليس للانسان سيادة على اخر حتى يسمح أو لا يسمح، لان الناس تكوينيا وتشريعيا وعرفا سواسية واحرار، قال الامام علي عليه السلام: (ايها الناس ان آدم لم يلد عبدا ولا أمة، وان الناس كلهم احرار) (17).
نعم يقتضي الامر ان لا تزاحم حريتك حرية انسان اخر والعكس صحيح، اتساقا مع وصية الامام علي لنجله الامام الحسن عليهما السلام: (يا بني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تُظلم، واحسن كما تحب ان يُحسن اليك، واستقبح ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك) (18)، وتقتضي الحرية المنفعة المشتركة وفق مديات كل انسان وحقوقه، إذ لا يمكن تصور حرية حقيقية تقوم على حساب فرد مقابل منفعة فرد اخر دون وجه حق، وفي الحديث النبوي (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم اعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في اسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فان تركوهم وما ارادوا هلكوا جميعا، وان اخذوا على ايديهم نََجَوْ، ونَجَوْ جميعا) (19). ويضيف المحقق اللبناني الشيخ صبحي بن ابراهيم الصالح (1926-1986م)، في تعليقه على الحديث النبوي: (وكأن الحديث، يعرف الحرية في بساطة خالية من التعقيد، بأنها تبتدئ من حيث يستفيد الفرد وتنتهي حيث يبدأ ضرر الآخرين، والقاعدة الاسلامية المستمدة من الحديث الشريف تقول كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:لا ضرر ولا ضرار). اذن فالناس كلهم في مركب واحد، فلا يمكن تجاوز الحدود بحجة الحرية الشخصية أو اثبات الذات.
الحرية وأسر الذات
والحرية عند المفكر العراقي السيد حسن بن مهدي الشيرازي (1354-1400هـ) هي: (التخلص من انواع الاسر الذي يجعل الانسان اخيذا، لسلطة عليه ارادتها، ويدين لها بالطاعة، وهي كلمة تقابل كلمة (العبودية) وبتعبير آخر، ان الحرية تعني استقلال تفكير الفرد في ان يفعل ما يشاء)(20)، هذا المعنى يقترب منه كثيرا الباحث العراقي استاذ الحوزة العلمية الشيخ الصفار بقوله: (ان الحرية تعني استقلال الفرد في ان يفكر ما يريد ويفعل ما يشاء ويملك ما يقدر على امتلاكه)، وقد اعتبر الصفار: (ان الحرية ليست سوى ان يكون الوضع الاجتماعي بنحو يستطيع فيه كل فرد من افراد المجتمع من ممارسة اعماله ويفجر مواهبه وقابلياته، وانتخاب طريقة حياته، والعقيدة التي يؤمن بها بلا مانع يمنعه أو حاجز يحجزه من ذلك) (21).
مرة اخرى نجد انفسنا امام تفسير للحرية لا يستطيع ان يكون جامعا مانعا، فالانسان يفكر في كل شيء، واذا اعطي القياد في تحويل الفكرة إلى واقع، فمن الطبيعي ان يصطدم مع حريات الآخرين، فقولنا (يفعل ما يشاء) أو (دون مانع يمنعه أو حاجز يحجزه من ذلك)، انما يتضمن فيما يتضمن تضاربا مع حريات آخرين، إذ لا يمكن تصور حرية مطلقة على وجه البسيطة، قد لا تكون هناك موانع قانونية أو تشريعية، ولكن قد نصطدم بموانع عرفية أو اجتماعية أو عائلية أو عشائرية، تكون محترمة اكثر من القانون المدني أو التشريعي نفسه، فمثلا يستطيع المرء في جو اكاديمي علمي ان يتحدث عن العلاقات الجنسية من جوانبها الطبية والنفسية والاجتماعية، ولكنه غير قادر على فعل ذلك في مكان اجتماعي آخر، لأن العرف في مثل هذا الجو يمنعه من ذلك ويحجزه عن الافصاح بكل ما يرغب ان يفصح عنه، مع ان القانون أو التشريع لم يحظر عليه ذلك، فالحرية تكون مقبولة في ظرف ومرفوضة في ظرف آخر، والعرف يحدد طبيعة الموضوع وابعاده، ويدخل العرف كأحد موارد التقنين.
كما انه لا يمكن بتقديري القبول كليا من ناحية اخرى بمقولة قدرة الانسان ان يفعل كل ما يشاء، لاننا حينئذ سنصطدم بوضعيات من الحرية تنسجم مع بعض النفسيات ولكنها تتعارض مع الفطرة السليمة، والفطرة لاشك مقدمة على النفسية الانسانية، لان الفطرة كل لا يتجزأ نابتة في منبت الخير اصالة، قال تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (سورة الروم: 30)، في حين ان النفوس تختلف وتتراوح ما بين الخير والشر يمينا ويسارا، قال تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} (سورة الشمس:8)، ولذلك فإن السيد الشيرازي لا يجعل هذه المشيئة مطلقة كما يوحي من التعريف مجردا وانما يؤطرها بسلطات ليس للانسان ان يتجاوزها، والا خرج عن مفهوم الحرية الحقة، فهناك سلطات تكون محمودة تمنع الانسان من ان يفعل كل ما يشاء، منها سلطة العقل التي تحجر على الانسان ارتكاب الخطأ وترشده إلى الصواب، وسلطة العبودية لله التي تمنع الانسان من الوقوع في الفتن والاهواء، وتقابلها سلطة العبودية للنفس، من هنا فان الباحث والاكاديمي السوري الشيخ الزحيلي رئيس قسم الفقه الاسلامي ومذاهبه في كلية الشريعة بجامعة دمشق، يعطي للحرية مفهوما مؤطرا فهي: (تعني ان يعيش الانسان على النحو الذي يتفق مع نظرته ومع أصول الأخلاق العامة وقضايا النظام العام، فليست الحرية معنى مرادفا للفوضوية، فالفوضى لا يقبلها الاسلام) (22). كما لا يقبلها المنطق السليم وتستنكرها جل القوانين الوضعية، وقد يخضع الانسان في لحظة ضعف للفوضى، ولكنه في قرارة نفسه يرفضها تماما، يقول الأديب السوري المعلم بطرس البستاني (1819-1883م): (توهم البعض في معنى الحرية جواز فعل كل ما يخطر في البال وهذا نوع من اساءة استعمال الحرية) (23).
الحرية والآخر
وينتقد الفيلسوف الايراني الشيخ الجعفري (1925-1998م)، اولئك الذين يصفون الحرية بانها (احتفظ للاخرين بحقوقهم ولا تزاحمها ثم افعل ما تشاء) والتي راجت في المجتمعات الغربية، واصفا اياها: (بانها جملة غير انسانية، لان كل انسان يستطيع ان يشرب الخمر أو ينتحر فيسيغ ويستسيغ اجرامه تجاه نفسه)، مضيفا: (ان على هؤلاء ان يعلموا ان الشخص إذا فسد في أعماقه فمن المحال عليه ان يقول بحق الحياة والكرامة لآخرين، انه لا يفهم اصلا معنى للحق والحكم والحياة والكرامة والحرية، فضلا عن أن يقوم بمراعاتها، وهؤلاء الاشخاص الفاسدون في الواقع يعدون تجسيدا للمزاحمة والتعدي والخيانة والجناية بالقوة، ويتحول بأقل دافع إلى الفعلية). ويصف اولئك: (بان مثلهم مثل من يوصي بركانا ان يفعل ما يشاء في اعماقه، وان يصنع ما يشاء من حمم، ثم لا يتعدى على مزارع الاخرين وبيوتهم، وهؤلاء لا يقتصر حالهم على صنع البراكين في المجتمع، بل انهم يخونون اولئك الافراد ايضا، ذلك انهم بتلك التوصية بالحرية المطلقة يكبتون سلوكهم وعقولهم ووجدانهم وقواهم العاملة للتكامل والرقي) (24).
وأجد نفسي ميالا إلى رأي الشيخ الجعفري، وقد دلت الظواهر الاجتماعية السيئة على ذلك، فالادمان الذي ينخلق عند متناول المخدرات أو المشروبات الكحولية يجعل منه انسانا لا اباليا، ومتحفزا لارتكاب اية مخالفة أو حماقة أو جنحة، وبالتالي فان استعماله السيئ لحريته الشخصية ساهم في الاساءة إلى نفسه والى الاخرين، فمن هنا فان بعض الفقهاء على سبيل المثال، ومن باب لا ضرر ولا ضرار، لا يجوّز على متناول الدخان من اشعال سيجارة في مكان مغلق فيه اناس الا بعد استئذانهم، لان بعض الحضور لا يدخن، والدخان المنبعث من السيجارة تزعجه نفسيا أو صحيا، مثل المريض بالربو أو سرطان الرئة، ولهذا نجد في بعض الاماكن العامة أو في الطائرات أو الحافلات أو المطاعم عبارات تحظر التدخين في جانب من المكان وتجيزه في جانب اخر.
وفَهمَ الدكتور سري نُسيبة، من الحرية انها: (الامكانية أو القدرة على النمو والتطور، لتحقيق الوضع الافضل للانسان أي سلخ القيود المانعة عن هذا النمو والتطور نحو الافضل، وذلك التعريف لا يقودنا إلى القبول بحتمية الطبائع الشريرة فردا أو جماعة) (25).
وفي تقديري، فان هذا التعريف رغم جهد المعرِّف، فانه لا يسلم من النقد، فما يراه البعض نموا وتطورا نحو الأحسن، قد لا يراه اخر بهذا النحو، فعلى سبيل المثال، فان الاستنساخ أو الاستنسال البشري، عملية يراها البعض نموا وتطورا نحو الافضل لتحسين النوعية الانسانية، لكن البعض يشكك بها، من هنا فان بعض الحكومات سنّت قوانين حدت من حرية الاطباء في مجال الاستنساخ، فالطبيب المقتنع بهذه العملية يرى حريته في الاستمرار بها، لكن السلطة أو اطباء اخرين يرون في القضية برمتها عملية لا اخلاقية، لانه بالامكان استنسال مجرمين محترفين، أو طواغيت وجبابرة.
ولا شك ان الاستنساخ يعد نموا وتطورا طبيا نحو الافضل لتحسين الاجيال نباتية كانت أو حيوانية أو انسية، ولكن إذا انسلخت عملية الاستنساخ أو الاستنسال عن القيود المانعة، فان المطاف سينتهي إلى ما لا يحمد عقباه على البشرية جمعاء، فلا يمكن ان تكون حرية التطور العلمي بكل صنوفه قائمة على حساب حرية الشخص أو البشرية، لان الاشياء خلقت لاجل الانسان وليس العكس.
الاختيار محور الحرية
ولما كان الانسان مختارا، انطلاقا من مبدأ الخلقة: {وهديناه النجدين} (سورة البلد:10)، {انا هديناه السبيل اما شاكرا واما كفورا} (سورة الانسان: 3)، فانه لا يمكن الفصل بين الحرية والاختيار، بل ان الاختيار هو محور الحرية، إذ لا يمكن اطلاق وصف الحرية على انسان ما، إذا لم يكن مختارا اصالة، والا انتفت الحرية، ولازمية الاختيار في وصف الحرية وتعريفها، يشير اليها البستاني، فالحرية عنده هي: (حالة يكون الانسان فيها قادرا على فعل شيء، أو تركه بحسب ارادته واختياره) (26)، لكن المفكر السوري عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي (1854-1902م) وعلى لسان المولى الرومي الذي جمعه مع عدد من حجاج بيت الله الحرام من جنسيات مختلفة ضمن جلسة حوارية حول الدين والحياة، يضيف شيئا جديدا إلى تعريف الحرية، فهي عنده: (بان يكون الانسان مختارا في قوله وفعله، لا يعترضه مانع ظالم) (27). وهو بهذا التعريف يقر بوجود موانع في حياة الانسان تمنعه من إعمال ارادته وحريته، ولكنه وضع قيدا للمانع وهو ان لا يكون ظالما، وهذه مرحلة متطورة من التعريفات، على خلاف الذين عرّفوا الحرية بمطلق الارادة وادانة أي مانع في طريق حرية الانسان، واعتقد ان هذا امر يمكن التسليم به، فيما لو انعمنا النظر فيما حولنا، فالمرض على سبيل المثال يحول دون ان يقوم المريض بترجمة حريته في موارد عدة، فهو لا يستطيع ان يأكل كل ما يحب، بل ويجبر قسرا على تناول ما لا يرغب، فهو يمنع من الصوم إذا اضر بصحته رغم وجوب الاتيان بالصوم، فهذه موانع غير ظالمة حدّت من حرية الانسان، لكنها موانع مؤقتة أملتها ظروف استثنائية.
يبقى ان بعض الموانع، قد يراها المبتلى بها انها ظالمة وتحد من اختياره وحريته، ولكنها في حقيقة الامر غير ظالمة إذا تعامل معها بايجابية، فالذي يولد مكفوفا، أو أبكما أو أصما أو أعرجا أو أعورا، أو ما شابه من الامراض الولادية، فان لكل عاهة أو نقص تأثيراً نفسياً على صاحبها كالمكفوف أو الابكم أو الاصم أو الاعرج، أو ما اشبه من الامراض الخلقية لا يمكن نكران ذلك، لكن بعضهم يتعايش مع ما هو فيه رغم ان الواقع دل ان من يفقد شيئا من حواسه أو جوارحه يوفر له الله قدرة من جانب اخر يتفوق بها على كثير من الاصحاء، والامثال كثيرة، وبعضهم يعتبر فقدانه لحاسة ما ظلما وقع عليه، فمن ينظر إلى الامر كظلم يخرج عن نطاق التعريف، ومن يسلّم بالامر يدخل فيه، ولكن لا يمكن نكران حقيقة مرة ان بعض الامراض الولادية تأتي من جناية الاباء جهلا أو عمدا، مثلما يولد الطفل وهو يحمل فيروس الايدز عن والديه أو احدهما.
من مجمل التعريفات الواردة حول الحرية، أعتقد ان الحرية هي: حق الفرد في ان يتصرف اختيارا بما لا يضر بنفسه أو بالاخرين، منطلقا من ارادة نزيهة عن هوى النفس، ومحكوما بالتشريع والقوانين.
ويلاحظ في تعريف الحرية ان عملية الاضرار بالنفس لايريدها الاسلام للانسان المسلم وان اقتنع بها المرء نفسه أو وافق عليها بملء رغبته، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم وجوبه على كل انسان ذكرا أو انثى فان من شروط هذا الوجوب هو عدم وقوع الضرر للآمر أو الناهي، فالحرية عملية اختيارية للانسان له ان يفعل الشيء أو لا يفعله، ولكن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي ليس للانسان فيه اختيار الفعل أو الترك، فلو قام به انسان كفى الجميع وان لم يقم به احدهم أثم الجميع، مع ذلك فان واحدة من الشروط الاربعة لوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو: (ان لا يترتب على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرر بنفس الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر أو باحد من المسلمين، واذا لزم جراء الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر الحاق الضرر بالآمر أو الناهي أو بغيره من المسلمين، لم يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجب في حالات خاصة يراجع بها الحاكم الشرعي) (28)، وبالتالي فانه من باب اولى ان لا تشتمل الحرية على اضرار النفس وان طلبها الانسان طواعية، على ان هناك استثناءات في باب الاضرار بالنفس، مثل الجهاد في سبيل الله تحت راية امام عادل، وقول كلمة الحق امام سلطان جائر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب ج4 (بيروت، دار صادر، الطبعة 1) ص181.
2- الجصاص، احمد بن علي الرازي، احكام القران، تحقيق: محمد الصادق قمحاوي ج2 (بيروت، دار احياء التراث العربي، 1405هـ) ص121.
3- القرشي، الشيخ باقر شريف، نظام الاسلام السياسي (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة 2، 1398هـ/1978م) ص183-184.
4- وجدي، محمد فريد، دائرة معارف القرن العشرين ج3 (بيروت، دار المعرفة، الطبعة 3، 1971) ص408.
5- راجع: المنجد في اللغة (بيروت، دار المشرق، الطبعة السادسة والثلاثون 1997م) ص124.
(6) راجع: الكرباسي، محمد صادق محمد، الحسين والتشريع الاسلامي، ج1 (لندن، المركز الحسيني للدراسات، الطبعة 1، 1421/2000م) ص82.
7- قال ابو اسحاق الزجاج (ت 923م): (هذا قول امرأة عمران ومعناه جعلته خادما يخدم في متعبداتك وكان ذلك جائزا لهم وكان على اولادهم فرضا ان يطيعوهم في نذرهم فكان الرجل ينذر في ولده ان يكون خادما يخدمهم في متعبدهم ولعبادهم ولم يكن ذلك النذر في النساء انما كان في الذكور فلما ولدت امراة عمران مريم قالت رب اني وضعتها انثى وليست الانثى مما تصلح للنذر فجعل الله من الايات في مريم لما اراده من امر عيسى عليه السلام ان جعلها متقبلة في النذر فقال تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن، والمحرر النذير والمحرر النذيرة وكان يفعل ذلك بني اسرائيل كان احدهم ربما ولد له ولد فربما حرره أي جعله نذيرة في خدمة الكنيسة ما عاش لا يسعه تركها في دينه.
انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب ج 4 (مصدر سابق) ص181.
8- القرطبي، محمد بن احمد الانصاري، تفسير القرطبي، تحقيق: احمد عبد العليم البردوني ج4 (القاهرة، دار الشعب، الطبعة 2، 1372هـ) ص66.
9- NEIL McNAUGHTON، SUCCESS IN POLITICS، John Murray (Publishers) Ltd، Second Edition 2001، p21
10- انظر: السامرائي، د. نعمان عبد الرزاق، النظام السياسي في الاسلام (الرياض، فهرست مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة 1، 1419هـ/1999م) ص175-176.
11- زيادة، د. معن، موسوعة الفلسفة العربية، مجلد 1 (باريس، بيروت، معهد الانماء العربي، الطبعة 1، 1988م) ص365.
12- بحر العلوم، د. محمد، آفاق حضارية للنظرية السياسية في الاسلام (لندن، معهد الدراسات العربية والاسلامية، 1421هـ/2000م) ص196.
13 غرايبة، د. رحيل محمد، الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الاسلامية (عمّان، المعهد العالمي للفكر الاسلامي والمنار للنشر والتوزيع، الطبعة 1، 1421هـ/2000م) ص33-34.
14- الشيرازي، السيد محمد، الحريات (بيروت، مؤسسة الفكر الاسلامي، الطبعة 1، 1414هـ/1994م) ص7.
15- غرايبة، د. رحيل محمد، الحقوق والحريات السياسية في الشريعة الاسلامية (مصدر سابق) ص41.
16- العليوات، الشيخ محمد حسن، التجديد الاجتماعي.. تأملات في التأهيل المجتمعي (بيروت، دار الصفوة، الطبعة 1، 1417هـ/1997م) ص59.
17- انظر: الشيرازي، السيد محمد، الأزمات وحلولها (بيروت، مركز الرسول الاعظم للتحقيق والنشر، الطبعة 1، 1420هـ/1999م) ص42.
18- نهج البلاغة للامام علي، جمع: الشريف الرضي، شرح: الشيخ محمد عبده ج3 (بيروت، دار البلاغة، الطبعة 4، 1409هـ/1989م) ص565.
19- الصالح، د. صبحي، الاسلام ومستقبل الحضارة (بيروت، دار الشورى، الطبعة 1، 1982م) ص 199.
20- الشيرازي، السيد حسن، حديث رمضان (الكويت، هيئة محمد الامين، الطبعة 3، 1415هـ/1995م) ص116.
21- الصفار، الشيخ فاضل، ضد الاستبداد (بيروت، دار الخليج العربي للطباعة والنشر، الطبعة 1، 1418هـ/1997م) ص ص54-55 و129.
22- الزحيلي، د. وهبة (حوار النور مع الزحيلي) مجلة النور (لندن، دار النور للنشر، السنة 11، العدد 125، 1422هـ/2001م) ص50.
23- البستاني، بطرس، دائرة المعارف، ج7 (بيروت، دار المعرفة) ص3.
24- الجعفري، الشيخ محمد تقي (مقدمة للاعلان العالمي لحقوق الانسان) كتاب: حقوق الانسان في الاسلام (طهران، العلاقات الدولية في منظمة الاعلام الاسلامي، 1408هـ/1988م) ص200.
25- نُسيبة، سري، الحرية بين الحد والنسبي (لندن، دار الساقي، الطبعة 1، 1995م) ص122.
26- البستاني، بطرس، دائرة المعارف ج7 (مصدر سابق) ص2.
27- عمارة، محمد، عبد الرحمن الكواكبي.. ام القرى.. الاعمال الكاملة (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف، 1970م) ص153.
28- الحكيم، د. عبد الهادي محمد تقي، حواريات فقهية (بيروت، مؤسسة المرشد، الطبعة 11، 1422هـ/2002م) ص300-301.
نضير الخزرجي - إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات - لندن