m-mahdi.com
25-09-2007, 02:02 PM
دعوى السفارة والمهدوية بين الماضي والحاضر
شهدت فترة نيابة السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي أزمة عقائدية حقيقية تصدى لهاJ بكل لياقة، فكان جديراً في احتواء الأزمات التي كادت تعصف بالقواعد الشيعية التي عاشت تحت ضغوطٍ عقائدية فضلاً عن كونها سياسية، فالصراع العباسي _العباسي يأخذ بالدولة إلى مسارات غير حميدة والتنافسات السياسية على أشدها بين القوى العباسية لتخلّف ضعفاً بان على أكثر مراكز الدولة آنذاك، وقد خلّف صراعاً عقائدياً غير محمود على مفاصل المجتمع الإسلامي، فكانت فتنة العامة التي تحدثت عنها المصادر التأريخية أبّان عهد الراضي العباسي وما بعده.
ولا يهمنا هنا المجريات التأريخية بقدر ما يهمنا دور القواعد الشيعية التي تعرضت إلى هزاتٍ فكرية أطاحت ببعض الوجودات الشيعية، وكان أبرزها محنة أسرة بني بسطام. كانت هذه الأسرة عريقة في ولائها لأهل البيت عليهم السلام، معروفة بقربها لأحداث وقائع الغيبة الصغرى، بل شكّلت محوراً مهماً في علاقتها بالسفير الثالث (الحسين بن روح)، وكانت عقائدها سليمة، ملتزمة بطاعة السفير الثالث وقتذاك، إلا أنها كانت على علاقة بالشلمغاني محمد بن علي المعروف بابن أبي العزاقر، وكان هذا الرجل معروفاً بعلاقته مع الحسين بن روح وشهرته بين الأوساط الشيعية بعلمه وتديّنه، قال صاحب كتاب (منتهى المقال) في معرض حديثه عن الشلمغاني كان (مقدماً في أصحابنا ولكن تغيرت حاله).
لم ينتفع الشلمغاني من علمه بل رضخ تحت مؤثرات رغبته في حب الدنيا، وكان علمه داعياً في غروره وتكبره حيث لم يجد مجالاً للورع ومانعاً عن ارتكاب الدجل والإتيان بالكذب من أجل الشهرة والتصدي، وبدلاً من أن يكون علمه مقرّباً لله تعالى فقد كان مطيته للوصول إلى رغباته في التقرب إلى بني بسطام أولئك الطيبين البسطاء الذين اطمأنوا إلى الشلمغاني وكونه عالماً إلا أنهم لم يحكّموا عقولهم ولم يتورعوا في دعاوى الشلمغاني، بل أخذوا أقواله هكذا حجة لا يمكن مناقشتها فسلّموا له وأيقنوا بكل ما يقوله على أنه رجلٌ بلغ من العلم إلى الحد الذي لا تناقش أقواله، ولا تعارض آراؤه، حتى استغفلهم فأوبق في عقولهم ما لا ينبغي لمثلهم أن يصدّقوه لتحريهم مواطن الطاعة وبلوغهم مراتب القرب للسفير.
فقد روى الشيخ الطوسي (قده) عن أم كلثوم بنت السفير الثاني قال: كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام، وذلك أن الشيخ الحسين بن روح (السفير الثالث) كان قد جعل له (أي لابن أبي العزاقر) عند الناس منزلةً وجاهاً، فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء وكفر لبني بسطام، ويسنده عن الحسين بن روح القاسم، فيقبلونه منه حتى انكشف ذلك للسفير الثالثJ، فأنكره وأعظمه، ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا، وأقاموا على توليه وذاك أنه كان يقول لهم:
"انني أدعيت السر، وقد أخذ عليّ الكتمان بالإبعاد بعد الاختصاص، لأن الأمر عظيم لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن" فيؤكد في نفوسهم عظم الأمر وجلالته، فبلغ ذلك السفير الثالث (قده) فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه، فلما وصل إليهم أظهروه عليه، فبكى بكاءً عظيماً ثم قال: "إن لهذا القول باطناً عظيماً وهو: أن اللعنة (الإبعاد) فمعنى قوله (لعنه الله) أي: باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي" ومرّغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر، قالت السيدة بنت السفير الثاني المعروفة بأم كلثوم: وقد كنت أخبرت (الحسين بن روح) _أن امرأةً منهم_ قالت لي يوماً وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت على رجلي تقبلها، فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلاً. فقالت لي: إن الشلمغاني قد كشف لنا السر، فقلت لها: وما السر؟ قالت: قد أخذ علينا كتمانه، وأفزع إن أنا أذعته عوقبت، ثم قالت: إن الشلمغاني قال لنا: إن روح رسول الله صلى الهل عليه وآله انتقلت إلى محمد بن عثمان (قده) (السفير الثاني) وروح أمير المؤمنين علي عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (السفير الثالث)، وروح مولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت إليك (يعني نبث السفير الثاني أم كلثوم) فكيف لا أعظمك فقلت لها: مهلاً، لا تفعلي فإنّ هذا كذب، فقالت لي: سر عظيم وقد أخذ علينا اننا لا نكشف هذا لأحد، فالله الله فيَّ لا يحلّ بي العذاب. قالت أم كلثوم: فلما انصرفت من عندها دخلت على الشيخ أبي القاسم الحسين بن روحJ فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي. فقال لي: يا بنية إياكِ أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولا رسولاً إن أنفذته إليكِ، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلى أن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به وحلّ فيه، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام ويعدو إلى قول الحلاج لعنه الله.
وقد خرج التوقيع من الإمام صاحب الزمان¨ يخاطب به الحسين بن روح (السفير الثاني) وهذا نصه: "عرِّف _أطال الله بقاك! وعرَّفك الله الخير كله وختم به عملك_ من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من إخواننا أدام الله سعادتهم، بأن محمد بن علي المعروف بالشلمغاني عجل الله له النقمة ولا أمهله، قد ارتد عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله وادعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى، وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً. وإنا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه، ولعناه، عليه لعاين الله تترى، في الظاهر منا والباطن، والسر والجهر، وفي كل وقت، وعلى كل حال، وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منا فأقام عليه.
أعلمهم _تولاك الله_ : إننا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليه ممن تقدمه من نظرائه من: السريعي، والنميري، والهلالي، والبلالي وغيرهم، وعادة الله جل ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق وإياه نستعين وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل.
وبعد هذا كله ما الذي نتوخاه من ذكر هذه الواقعة؟ وما الذي نستفيده من تأريخ هذا المقطع المهم من تأريخ الغيبة الصغرى، وهل كانت دعوى الشلمغاني واتباع بني بسطام له مجرد حادثة عابرة أم انها تحمل المعاني الجسام في مطاويها؟ وبالتحليل لهذه الحادثة نجد ما يلي:
أولاً: إن المحنة التي مرّ بها بنو بسطام هي محنة عقائدية ناتجة عن تعلقهم وحبهم وشغفهم للإمام المهدي عجل اله تعالى فرجه الشريف إلا أنها تعاني _أي ظاهرة الحب_ من الجهل وعدم الوعي وعدم معرفتهم لأمور الإمامة وأصول الاعتقادات وعدم التثقيف على قضية الإمام المهدي عجل الهه تعالى فرجه الشريف بل عدم الورع كذلك، إذ بإمكان هؤلاء حينما وقفوا على نوايا الشلمغاني وآرائه الغريبة أن يرفعوا الأمر إلى الحسين بن روح سفير الإمام عجل الهم تعالى فرجه الشريف ومعتمده وأن يتحققوا من صحة هذه المدعيات ومدى صلاحيتها وأن لا يعتقدوا أمراً لم يكن سفير الإمام قد اطلع عليه وعرفه ليمضيه بعد ذلك ويؤيده.
ثانياً: إن بني بسطام وثقوا من الشلمغاني واعتقدوا صحة عقيدته حتى أن اعتقادهم به أعماهم وأصمّهم من نصيحة الحسين بن روح بعدم الإصغاء له والاستماع إليه، ولما أظهروا له البراءة منه خدعهم واحتال في استمالة قلوبهم وكذب عليهم وجعل اللعن فضيلة ومنزلة فصدقوه وتركوا نصيحة الحسين بن روح، وبذلك لاصرارهم وإقامتهم على ما هم عليه من الاعتقاد بالشلمغاني فحبطت أعمالهم ونالتهم لعنة الإمام عجل الهع تعالى فرجه الشريف بقوله في التوقيع الصادر عنه: وعلى كل من شايعه، فكان بنو بسطام ممن شايعه واعتقد به دون أن يصغوا إلى نهيٍ أو نصيحة.
ثالثاً: كان بنو بسطام قد أخذتهم العزة بالإثم وظنوا أن الحسين بن روح حينما نهاهم عن التصديق بدعاوى الشلمغاني ظنوا أن ذلك حسداً من الحسين بن روح للشلمغاني ومنافسةً له، فاستكبروا وأصروا على الإقامة على عقيدتهم والتزامهم لدعاوى هذا الدجال.
هذه خلاصة أسباب تورط بني بسطام بدعاوى الشلمغاني واعتقادهم به وإقامتهم على دجله وكذبه.
أما محنة الشلمغاني ووقوعه في مشكلة الادعاءات الباطلة فنلخصها بما يلي:
أولاً: إن الشلمغاني اعتقد أن ما يملكه من العلم سينزهه عن كل خطأ واعتداده بنفسه واعتقاده بأنه الأحق بأمر السفارة جرّه إلى هذا التفكير المنحرف.
ثانياً: حسد الشلمغاني للحسين بن روح على ما آتاه الله من هذه المنزلة والمقام الرفيع دعا الشلمغاني أن يفكر أن السفارة تُنال على أساس الحسابات المادية التي اعتقدها الشلمغاني وكانت هذه الحسابات الخاطئة قد صوّرت له أهليته لمنصب السفارة وعدم استحقاق الحسين بن روح لهذا المقام، وكأن القضية هي أذواق ومشتهيات خاضعة لحساباتٍ شخصية، وقد غفل أن أمر السفارة قضية إلهية باختيار الإمام عجل اله، تعالى فرجه الشريف ضمن شروطٍ ومواصفات خاصة لا يعلمها إلا الله والإمام المؤتمن على هذا الأمر.
ثالثاً: ان حب الدنيا هي أهم مشاكل الشلمغاني، فالتصدي وحب المنصب واجتماع الأتباع دعا الشلمغاني أن يستغل تعاطف بني بسطام، فسخر هذا الإيمان الساذج لهؤلاء لصالح مآربه الخاصة.
وبهذا فلا يمكن أن نقرأ هذه الحادثة كمقطع تأريخي مجرّد مالم نطبقه على واقعنا المعاشي، فبنو بسطام يشكّلون أولئك الذين يتمسكون بالإمام المهدي عجل الها تعالى فرجه الشريف دون وعيٍ وعلمٍ في عصرنا الحاضر، بل أن جهلهم بالقضية المهدوية أوقعهم في هذا الإشكال، لذا فلا يمكن أن نسمح لأنفسنا بتصديق كل من يدعي المهدوية دون الرجوع إلى العلماء وأهل الخبرة والسؤال عن حال أولئك المدعين، فلا يكفي أن يدعي أحد أنه صاحب علاقة بالإمام عجل الها تعالى فرجه الشريف مالم نطلب منه الدليل على ذلك ونراجع علمائنا في هذا الشأن فقبول الدعوى والتصديق المجرد يوقعنا في سخط الإمام عجل الهب تعالى فرجه الشريف وغضبه وتشملنا لعنة الإمام كما شملت بني بسطام الذين ابتعدوا عن نصيحة الحسين بن روح وظنوا بجهلهم أن الحسين بن روح لا يرضى بدعاوى الشلمغاني حسداً منه ومنافسةً، فابعاد هذه الوساوس والأفكار من أذهاننا وتمتين الصلة بعلمائنا والوثوق من مراجعنا وأن قولهم حجةٌ بيننا وبين الله تعالى، فإن ذلك وظيفة الجميع في عصر الغيبة الكبرى لننال رضا الإمام عجل الهه تعالى فرجه الشريف ورعايته، ماذا لو واجهنا الإمام المهدي عجل اله تعالى فرجه الشريف بدعاوى ليس فيها حجة؟ ما الذي سنعتذره من الإمام عجل الهن تعالى فرجه الشريف وما الذي سنقوله بعد ذلك؟ اذن فلابد من التروي في أي دعوى مهدوية وأن لا نسخط الإمام بالإنجرار وراء هذه الأباطيل كما أسخط بنو بسطام الإمام المهدي عجل الهر تعالى فرجه الشريف فدعا عليهم ولعنهم وتبرأ من عملهم الشنيع.
هذه خلاصة محنة الشلمغاني، وبذلك فإن محنتي الشلمغاني وبني بسطام تشكلان بادرةً خطيرة في الاعتقادات المنحرفة غير الصحيحة التي بُليت بها قضية الإمام المهدي عجل الهل تعالى فرجه الشريف.
نسأل الله تعالى أن يعصمنا من هاتين المحنتين وأمثالهما بالتمسك بالحق والصراط المستقيم.
شهدت فترة نيابة السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي أزمة عقائدية حقيقية تصدى لهاJ بكل لياقة، فكان جديراً في احتواء الأزمات التي كادت تعصف بالقواعد الشيعية التي عاشت تحت ضغوطٍ عقائدية فضلاً عن كونها سياسية، فالصراع العباسي _العباسي يأخذ بالدولة إلى مسارات غير حميدة والتنافسات السياسية على أشدها بين القوى العباسية لتخلّف ضعفاً بان على أكثر مراكز الدولة آنذاك، وقد خلّف صراعاً عقائدياً غير محمود على مفاصل المجتمع الإسلامي، فكانت فتنة العامة التي تحدثت عنها المصادر التأريخية أبّان عهد الراضي العباسي وما بعده.
ولا يهمنا هنا المجريات التأريخية بقدر ما يهمنا دور القواعد الشيعية التي تعرضت إلى هزاتٍ فكرية أطاحت ببعض الوجودات الشيعية، وكان أبرزها محنة أسرة بني بسطام. كانت هذه الأسرة عريقة في ولائها لأهل البيت عليهم السلام، معروفة بقربها لأحداث وقائع الغيبة الصغرى، بل شكّلت محوراً مهماً في علاقتها بالسفير الثالث (الحسين بن روح)، وكانت عقائدها سليمة، ملتزمة بطاعة السفير الثالث وقتذاك، إلا أنها كانت على علاقة بالشلمغاني محمد بن علي المعروف بابن أبي العزاقر، وكان هذا الرجل معروفاً بعلاقته مع الحسين بن روح وشهرته بين الأوساط الشيعية بعلمه وتديّنه، قال صاحب كتاب (منتهى المقال) في معرض حديثه عن الشلمغاني كان (مقدماً في أصحابنا ولكن تغيرت حاله).
لم ينتفع الشلمغاني من علمه بل رضخ تحت مؤثرات رغبته في حب الدنيا، وكان علمه داعياً في غروره وتكبره حيث لم يجد مجالاً للورع ومانعاً عن ارتكاب الدجل والإتيان بالكذب من أجل الشهرة والتصدي، وبدلاً من أن يكون علمه مقرّباً لله تعالى فقد كان مطيته للوصول إلى رغباته في التقرب إلى بني بسطام أولئك الطيبين البسطاء الذين اطمأنوا إلى الشلمغاني وكونه عالماً إلا أنهم لم يحكّموا عقولهم ولم يتورعوا في دعاوى الشلمغاني، بل أخذوا أقواله هكذا حجة لا يمكن مناقشتها فسلّموا له وأيقنوا بكل ما يقوله على أنه رجلٌ بلغ من العلم إلى الحد الذي لا تناقش أقواله، ولا تعارض آراؤه، حتى استغفلهم فأوبق في عقولهم ما لا ينبغي لمثلهم أن يصدّقوه لتحريهم مواطن الطاعة وبلوغهم مراتب القرب للسفير.
فقد روى الشيخ الطوسي (قده) عن أم كلثوم بنت السفير الثاني قال: كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام، وذلك أن الشيخ الحسين بن روح (السفير الثالث) كان قد جعل له (أي لابن أبي العزاقر) عند الناس منزلةً وجاهاً، فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء وكفر لبني بسطام، ويسنده عن الحسين بن روح القاسم، فيقبلونه منه حتى انكشف ذلك للسفير الثالثJ، فأنكره وأعظمه، ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا، وأقاموا على توليه وذاك أنه كان يقول لهم:
"انني أدعيت السر، وقد أخذ عليّ الكتمان بالإبعاد بعد الاختصاص، لأن الأمر عظيم لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن" فيؤكد في نفوسهم عظم الأمر وجلالته، فبلغ ذلك السفير الثالث (قده) فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه، فلما وصل إليهم أظهروه عليه، فبكى بكاءً عظيماً ثم قال: "إن لهذا القول باطناً عظيماً وهو: أن اللعنة (الإبعاد) فمعنى قوله (لعنه الله) أي: باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي" ومرّغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر، قالت السيدة بنت السفير الثاني المعروفة بأم كلثوم: وقد كنت أخبرت (الحسين بن روح) _أن امرأةً منهم_ قالت لي يوماً وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت على رجلي تقبلها، فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلاً. فقالت لي: إن الشلمغاني قد كشف لنا السر، فقلت لها: وما السر؟ قالت: قد أخذ علينا كتمانه، وأفزع إن أنا أذعته عوقبت، ثم قالت: إن الشلمغاني قال لنا: إن روح رسول الله صلى الهل عليه وآله انتقلت إلى محمد بن عثمان (قده) (السفير الثاني) وروح أمير المؤمنين علي عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (السفير الثالث)، وروح مولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت إليك (يعني نبث السفير الثاني أم كلثوم) فكيف لا أعظمك فقلت لها: مهلاً، لا تفعلي فإنّ هذا كذب، فقالت لي: سر عظيم وقد أخذ علينا اننا لا نكشف هذا لأحد، فالله الله فيَّ لا يحلّ بي العذاب. قالت أم كلثوم: فلما انصرفت من عندها دخلت على الشيخ أبي القاسم الحسين بن روحJ فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي. فقال لي: يا بنية إياكِ أن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولا رسولاً إن أنفذته إليكِ، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلى أن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به وحلّ فيه، كما يقول النصارى في المسيح عليه السلام ويعدو إلى قول الحلاج لعنه الله.
وقد خرج التوقيع من الإمام صاحب الزمان¨ يخاطب به الحسين بن روح (السفير الثاني) وهذا نصه: "عرِّف _أطال الله بقاك! وعرَّفك الله الخير كله وختم به عملك_ من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من إخواننا أدام الله سعادتهم، بأن محمد بن علي المعروف بالشلمغاني عجل الله له النقمة ولا أمهله، قد ارتد عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله وادعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى، وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً. وإنا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه، ولعناه، عليه لعاين الله تترى، في الظاهر منا والباطن، والسر والجهر، وفي كل وقت، وعلى كل حال، وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منا فأقام عليه.
أعلمهم _تولاك الله_ : إننا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليه ممن تقدمه من نظرائه من: السريعي، والنميري، والهلالي، والبلالي وغيرهم، وعادة الله جل ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق وإياه نستعين وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل.
وبعد هذا كله ما الذي نتوخاه من ذكر هذه الواقعة؟ وما الذي نستفيده من تأريخ هذا المقطع المهم من تأريخ الغيبة الصغرى، وهل كانت دعوى الشلمغاني واتباع بني بسطام له مجرد حادثة عابرة أم انها تحمل المعاني الجسام في مطاويها؟ وبالتحليل لهذه الحادثة نجد ما يلي:
أولاً: إن المحنة التي مرّ بها بنو بسطام هي محنة عقائدية ناتجة عن تعلقهم وحبهم وشغفهم للإمام المهدي عجل اله تعالى فرجه الشريف إلا أنها تعاني _أي ظاهرة الحب_ من الجهل وعدم الوعي وعدم معرفتهم لأمور الإمامة وأصول الاعتقادات وعدم التثقيف على قضية الإمام المهدي عجل الهه تعالى فرجه الشريف بل عدم الورع كذلك، إذ بإمكان هؤلاء حينما وقفوا على نوايا الشلمغاني وآرائه الغريبة أن يرفعوا الأمر إلى الحسين بن روح سفير الإمام عجل الهم تعالى فرجه الشريف ومعتمده وأن يتحققوا من صحة هذه المدعيات ومدى صلاحيتها وأن لا يعتقدوا أمراً لم يكن سفير الإمام قد اطلع عليه وعرفه ليمضيه بعد ذلك ويؤيده.
ثانياً: إن بني بسطام وثقوا من الشلمغاني واعتقدوا صحة عقيدته حتى أن اعتقادهم به أعماهم وأصمّهم من نصيحة الحسين بن روح بعدم الإصغاء له والاستماع إليه، ولما أظهروا له البراءة منه خدعهم واحتال في استمالة قلوبهم وكذب عليهم وجعل اللعن فضيلة ومنزلة فصدقوه وتركوا نصيحة الحسين بن روح، وبذلك لاصرارهم وإقامتهم على ما هم عليه من الاعتقاد بالشلمغاني فحبطت أعمالهم ونالتهم لعنة الإمام عجل الهع تعالى فرجه الشريف بقوله في التوقيع الصادر عنه: وعلى كل من شايعه، فكان بنو بسطام ممن شايعه واعتقد به دون أن يصغوا إلى نهيٍ أو نصيحة.
ثالثاً: كان بنو بسطام قد أخذتهم العزة بالإثم وظنوا أن الحسين بن روح حينما نهاهم عن التصديق بدعاوى الشلمغاني ظنوا أن ذلك حسداً من الحسين بن روح للشلمغاني ومنافسةً له، فاستكبروا وأصروا على الإقامة على عقيدتهم والتزامهم لدعاوى هذا الدجال.
هذه خلاصة أسباب تورط بني بسطام بدعاوى الشلمغاني واعتقادهم به وإقامتهم على دجله وكذبه.
أما محنة الشلمغاني ووقوعه في مشكلة الادعاءات الباطلة فنلخصها بما يلي:
أولاً: إن الشلمغاني اعتقد أن ما يملكه من العلم سينزهه عن كل خطأ واعتداده بنفسه واعتقاده بأنه الأحق بأمر السفارة جرّه إلى هذا التفكير المنحرف.
ثانياً: حسد الشلمغاني للحسين بن روح على ما آتاه الله من هذه المنزلة والمقام الرفيع دعا الشلمغاني أن يفكر أن السفارة تُنال على أساس الحسابات المادية التي اعتقدها الشلمغاني وكانت هذه الحسابات الخاطئة قد صوّرت له أهليته لمنصب السفارة وعدم استحقاق الحسين بن روح لهذا المقام، وكأن القضية هي أذواق ومشتهيات خاضعة لحساباتٍ شخصية، وقد غفل أن أمر السفارة قضية إلهية باختيار الإمام عجل اله، تعالى فرجه الشريف ضمن شروطٍ ومواصفات خاصة لا يعلمها إلا الله والإمام المؤتمن على هذا الأمر.
ثالثاً: ان حب الدنيا هي أهم مشاكل الشلمغاني، فالتصدي وحب المنصب واجتماع الأتباع دعا الشلمغاني أن يستغل تعاطف بني بسطام، فسخر هذا الإيمان الساذج لهؤلاء لصالح مآربه الخاصة.
وبهذا فلا يمكن أن نقرأ هذه الحادثة كمقطع تأريخي مجرّد مالم نطبقه على واقعنا المعاشي، فبنو بسطام يشكّلون أولئك الذين يتمسكون بالإمام المهدي عجل الها تعالى فرجه الشريف دون وعيٍ وعلمٍ في عصرنا الحاضر، بل أن جهلهم بالقضية المهدوية أوقعهم في هذا الإشكال، لذا فلا يمكن أن نسمح لأنفسنا بتصديق كل من يدعي المهدوية دون الرجوع إلى العلماء وأهل الخبرة والسؤال عن حال أولئك المدعين، فلا يكفي أن يدعي أحد أنه صاحب علاقة بالإمام عجل الها تعالى فرجه الشريف مالم نطلب منه الدليل على ذلك ونراجع علمائنا في هذا الشأن فقبول الدعوى والتصديق المجرد يوقعنا في سخط الإمام عجل الهب تعالى فرجه الشريف وغضبه وتشملنا لعنة الإمام كما شملت بني بسطام الذين ابتعدوا عن نصيحة الحسين بن روح وظنوا بجهلهم أن الحسين بن روح لا يرضى بدعاوى الشلمغاني حسداً منه ومنافسةً، فابعاد هذه الوساوس والأفكار من أذهاننا وتمتين الصلة بعلمائنا والوثوق من مراجعنا وأن قولهم حجةٌ بيننا وبين الله تعالى، فإن ذلك وظيفة الجميع في عصر الغيبة الكبرى لننال رضا الإمام عجل الهه تعالى فرجه الشريف ورعايته، ماذا لو واجهنا الإمام المهدي عجل اله تعالى فرجه الشريف بدعاوى ليس فيها حجة؟ ما الذي سنعتذره من الإمام عجل الهن تعالى فرجه الشريف وما الذي سنقوله بعد ذلك؟ اذن فلابد من التروي في أي دعوى مهدوية وأن لا نسخط الإمام بالإنجرار وراء هذه الأباطيل كما أسخط بنو بسطام الإمام المهدي عجل الهر تعالى فرجه الشريف فدعا عليهم ولعنهم وتبرأ من عملهم الشنيع.
هذه خلاصة محنة الشلمغاني، وبذلك فإن محنتي الشلمغاني وبني بسطام تشكلان بادرةً خطيرة في الاعتقادات المنحرفة غير الصحيحة التي بُليت بها قضية الإمام المهدي عجل الهل تعالى فرجه الشريف.
نسأل الله تعالى أن يعصمنا من هاتين المحنتين وأمثالهما بالتمسك بالحق والصراط المستقيم.