المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ملف : الإخوان المسلمون.. تاريخ يقطر دماً


kumait
04-01-2013, 07:50 PM
ملف : الإخوان المسلمون.. تاريخ يقطر دماً

من زمن الإخوان تحول الرأي الآخر إلي عمالة، والاختلاف في الرأي إلي زعزعة للاستقرار، والنقد إلي سوء أدب.

من ليس معهم عدو للوطن، ومن لا يعتقد عقيدتهم صاحب مصلحة، ومن يعارضهم «فلول» إنهم يرفعون راية «الصمود والتصدي» وهو صمود كما يقول الشاعر محمد الماغوط علي الكراسي، وتصد لكل من يقترب منها. فالحرية طائر لا يحق لها الطير إلا في سماواتهم، والعدالة مفتاح لفتح زنازن مضطهديهم ومظاليمهم، لكنه لا يفتح أي زنازن لمظاليم يختلفون معهم في التوجه أو العقيدة السياسية. يستغرب الناس ركونهم إلي الباطل، وغربتهم عن الحق، واختيالهم في مقاعد السلطة والنفوذ! يندهش العامة من تغليبهم لما يرون، وتنحيتهم مالا يرون، واستعلائهم علي من يخالفونهم في الرأي! يتعجب أهل مصر كيف يواصل قطار الإخوان المسلمين انطلاقه داهسا في طريقة الحرية والعدل والتوفيق الوطني! كيف يرتضون تكرار تجربة الحزب الوطني الحاكم في التعالي علي الآخر، واستبعاده، وتجاهله، وإقصائه. لكننا لا نعجب، فمنذ تأسيس جماعة الإخوان عام 1928 والدماء تسيل من جسد مصر، والعنف لا ينتهي، والتكفير والتخويف لا يتوقف. إننا نفتش صفحات الماضي ونذكر لعل الذكري تنفع المصريين.

في هذا الملف نتابع هذا التاريخ الدموي للجماعة..

نظريات سيد قطب تحكم فكر “الإرشاد”

هم أبناؤه، وتلاميذه.. ما قاله يرددونه، وما دعا إليه يطبقونه. زعيمهم الروحي، ومفكرهم الأول، وشهيدهم الأعظم. كماته «معالم» يسيرون عليها، وأفكاره مخططات يسعون إلى تطبيقها. من يقرأ دماغه يعرف توجههم، ومن يحلل نظرياته يتوقع مستقبلهم.

كان الإخوان المسلمون يعتمدون رسائل الدعوة والداعية للمرشد الأول حسن البنا «مانفستو» لهم حتى ظهر سيد قطب وانضم إلى الجماعة وتحدث باسمها وكتب لها ووضع أيديولوجية جديدة للحركة الإسلامية. لذا فإن أخطر ما تواجهه مصر حاليا أن الأدمغة المسيطرة علي صناعة القرار السياسي في مصر تحمل أفكار سيد قطب وتلتزم بنظرياته بدءاً من جاهلية المجتمع حتى الاستعلاء والإغارة علي الآخر.

كانت قصة حياة سيد قطب نموذجاً واضحاً للانقلابات الفكرية الحادة.. من اليمين إلى اليسار، ومن العلمانية إلى التشدد الديني.. ومن التحرر إلى نفى الآخر. عاش الرجل 60 عاما كتب فيها 24 كتابا ونحو 109 قصائد شعر، و495 مقالا بين السياسة والدين والنقد الأدبي. ورغم ضحالة ذلك الإنتاج الفكري مقارنة بمفكرين وكتاب جيله، فإن ما حوته كتاباته جعله مادة ثرية لأكثر من 150 كتابا حول حياته باللغة العربية، ونحو 15 كتابا باللغات الأخرى. فضلا عن 7 رسائل دكتوراه منها واحدة باللغة الانجليزية في جامعة مانشستر، وأخرى باللغة الفرنسية في جامعة السوربون.

إن أخطر ما يبدو من أفكار سيد قطب كما يقول الباحث الجاد الدكتور محمد حافظ دياب في كتابه سيد قطب الخطاب والأيديولوجيا» أنه اعتبر تصوراته مسلمات لا تقبل النقاش أو الجدل ويعنى ذلك أن نقد الخطاب القطبي «مستحيل».

يقول سيد قطب في صفحة 106 من كتاب «معالم في الطريق» – دار الشروق - «الإسلام لا يعرف سوى نوعين من المجتمعات: مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي». ويقول في صفحة 98 من نفس الكتاب «ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة على الأرض، الشيوعية والوثنية واليهودية والمسيحية، والمجتمعات التي تزعم أنها مسلمة.» ألا ترون معي أن هذه العبارات تشكك في إطلاق وصف مجتمعات إسلامية على مجتمعاتنا التي يدين أغلبيتها بالإسلام ويصلى الناس الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان ويستهجنون من يفطر بلا عذر، ويدفعون الزكاة ويسعون لحج بيت الله. ألا يعد إنكار الإسلام عن مجتمعاتنا نوعا من الغلو، وترجيحا للتكفير. ويقول الرجل أيضا ص 173 في كتاب «معالم على الطريق»: «الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية. ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين».

وفى كتابه «خصائص التصور الإسلامي – طبعة دار الشروق، يقول ص 85: «إما أن يلتزم الناس الإسلام ديناً أي منهجاً للحياة ونظاماً وإلا فهو الكفر والجاهلية.» وبهذا المعنى يحكم الرجل على الراقصات واللصوص والعاهرات من المسلمين بالكفر، فليس هناك شك أن أياً منهم لا يلتزم بالإسلام منهجا للحياة. وبدون شك أو مدارة فإن ذلك القول هو التكفير بعينه، وهو ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام عن أى من العصاة أو الفاسقين. لقد خلط الكاتب بين المعاصي والكفر بصورة خطيرة سيطرت على معظم كتاباته التي لم تكن تراجع فقهيا بسبب ظروف سجنه الطويلة.

وفى كتاب «في ظلال القرآن. ج1» ص25 نجده يقول «القوى الإنسانية نوعان، قوة مهتدية، تؤمن بالله وتتبع منهجه وهذه يجب أن نؤازرها ونتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن نحاربها ونكافحها ونغير عليها».

وعلى الرغم من صدامية هذه الأفكار وحدتها ومجانبتها أصول الإسلام كما وضح بعد ذلك الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة والشيخ ناصر الألباني وغيرهم من علماء الإسلام، فإن النظام الناصري استغلها في الإيقاع به والصعود به إلى طبلية الإعدام، وهو ما لا نقره ونعتبره جريمة من جرائم عبد الناصر. وقد بقيت لنا وثيقة متهمة اشتهرت باسم «لماذا أعدموني» يحكى فيها سيد قطب قصته كاملة مع الإخوان والثورة وقضية قلب نظام الحكم.

يقول «قطب» في بداية الوثيقة «لقد آن الأوان أن يقدم إنسان مسلم رأسه ثمنا لإعلان وجود حركة إسلامية وتنظيم غير مصرح به قام لإقامة النظام الإسلامي أيا كانت الوسائل التي سيستخدمها لذلك»، ويحكى الرجل بداية التحاقه بجماعة الإخوان عام 1953 واعتقاله بعد حادث المنشية واتهامه بأنه المسئول عن تحرير المنشورات وهو ما لم يكن صحيحا حسب قوله. ثم يتحدث عن محن الإخوان المسلمين في سجون ناصر ومذبحة طرة واتساع حجم الغضب بين شباب الإخوان ونمو تنظيمات عديدة تدعو للانتقام من الدولة التي لا تطبق الإسلام. ثم يقول صاحب الوثيقة «كنا قد اتفقنا على استبعاد استخدام القوة في تغيير نظام الحكم وفى الوقت نفسه قررنا استخدامها في حالة الاعتداء على التنظيم. وكان معنى ذلك البحث في موضوع التدريب والأسلحة اللازمة لهذا الغرض»، ثم يقول «أخذ الإخوة في محاولات لصنع قنابل نجحت بالفعل لكنها كانت في حاجة لتحسين».

وتحكى الوثيقة كيف تم شراء أسلحة من ليبيا ثم يقرر كاتبها في وضوح تحوله للرأي القائل بمشروعية تغيير نظام الحكم بالقوة فيقول «وكان أمامنا المبدأ الذي يقرره الله سبحانه وتعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وكان الاعتداء قد وقع علينا بالفعل في 1954 وفى 1957 بالاعتقال والتعذيب وإهدار الآدمية وتشريد الأطفال والنساء.» ثم يقول «ووفقا لهذا جاءوا في اللقاء التالي ومع أحمد عبد المجيد قائمة باقتراحات تتناول الأعمال التي تكفى لشل الجهاز الحكومي. وهذه الأعمال هي الرد فور وقوع اعتقالات لأعضاء التنظيم بإزالة رؤوس في مقدمتها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومدير المخابرات ومدير البوليس الحربي، ثم نسف بعض المنشآت التي تشل حركة المواصلات لضمان عدم تتبع بقية الإخوان.

«وتتحدث الوثيقة بعد ذلك عن علاقات وزيارات ولقاءات لقطب بأفراد وشخصيات عامة ثم تنتهي بتقرير «إن العنف الذي عومل به الإخوان عام 1954 بناء على حادث مدبر لهم وليس منهم هو الذي أنشأ فكرة رد الاعتداء بالقوة.» ولاشك أن هذه الوثيقة وما تحمله من اعترافات تدور في محور تبرير العنف في التغيير، وهو نفس المنهج الذي اتبعته الجماعات المسلحة خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وانتهت إلى آلاف الضحايا وتكريس للاستبداد السياسي وتبرير للقوانين الاستثنائية المقيدة للحريات.

كما أن المتابع لمقالات سيد قطب في عامي 1952، 1953 يتعجب من ذلك التحريض الفظ من جانب الرجل ضد الحريات وتبنيه للدعوة إلى نفى الآخر تماما ،بل والى اقتلاعه تماما من المجتمع. يقول سيد قطب محرضا على الدستور في مقال له بجريدة الأخبار بتاريخ 8 أغسطس 1952 تحت عنوان «استجواب إلى البطل محمد نجيب»: «إن الرجعية اليوم تتستر بالدستور، وهذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من الفساد إن لم تمضوا أنتم في التطهير الشامل الذي يحرم الملوثين من كل نشاط دستوري ولا يبيح الحرية إلا للشرفاء». ويتوسع خطاب سيد قطب المساند للديكتاتورية التي بدت على ثوار يوليو فيقول في ذات المقال «لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية شريرة خمسة عشر عاما أو تزيد.. أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة ستة أشهر!!.»….. وربما توضح هذه المقالة أصول فكرة المستبد العادل التي ترددت وقتها بين ثوار يوليو. إن الرجل يرى أن تحمل استبداد الثورة ضروري ولازم لإقامة دولة حديثة. وهو رأى غريب عانى منه كافة المختلفين مع الثوار وكان الإخوان المسلمون من بينهم.

وينقل الكاتب حلمي النمنم في كتابه «سيد قطب وثورة يوليو» نصوصاً كاملة من مقالات لسيد قطب كلها تصب في التحريض على الساسة والأحزاب من خارج الثورة. فمنها مثلا ما كتبه في جريدة الأخبار بتاريخ 15 أغسطس 1952 حول تظاهر العمال في كفر الدوار احتجاجا على الفساد حيث قال «هذه الحوادث المفتعلة في كفر الدوار لن تخيفنا. لقد كنا نتوقع ما هو أشد منها. إن الرجعية لن تقف مكتوفة الأيدي وهى تشهد مصرعها» ثم يضيف قائلا: «فلنضرب بسرعة. أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب»، وبالفعل اعتبرت ثورة يوليو أحداث كفر الدوار تحدىاً قوياً لاختبار قدرة الساسة الجدد على اتخاذ القرارات وأخذت بنصيحة «قطب» وأصدرت أحكاما قاسية على عمال كفر الدوار منها حكم بإعدام اثنين من العمال هما خميس والبقري وصدق مجلس قيادة الثورة على الأحكام.

ويكشف مقال آخر في مجلة روز اليوسف بتاريخ 29 سبتمبر 1952 آراء سيد قطب في عودة الأحزاب السياسية، ورفضه الشديد لفكرة التعددية حيث يقول « هذه الأحزاب ليست صالحة للبقاء، إنها ستتفتت وتنهار سواء طلب الجيش ذلك أم لم يطلبها، لقد استوفت أيامها وعاشت بعد أوانها». ويكتب الرجل في روز اليوسف بتاريخ 10 سبتمبر 1952 مؤيدا قرارات حركة الضباط ومحاكماتهم قائلا: «لأن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت… هل يصدق أحد أن يكتب شاعر ومفكر هذه الكلمات؟ فعلها الرجل وأراشيف الصحف شاهدة ولا نملك إلا أن نسأل الله له المغفرة.

وعلى هذه الأفكار خرج تلامذة أكثر عنفا وأشد دموية نادوا صراحة بتكفير الآخر والدعوة إلى قتاله كان أبرزهم شكري مصطفى الذي نادي بالهجرة من دار الكفر وتكفير المجتمع وانتهى به الحال إلى اختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف عام 1977 واغتياله برصاصة في عينه ليتم إعدامه عام 1978. منهم أيضا محمد عبد السلام فرج صاحب كتاب «الفريضة الغائبة» والعقل المدبر لاغتيال أنور السادات في أكتوبر 1981. ومنهم أيضا أيمن الظواهري القيادي بتنظيم القاعدة الذي يقول في كتاب «فرسان تحت راية النبي»: كانت ولا تزال دعوة سيد قطب إلى إخلاص التوحيد لله ولسيادة المنهج الرباني شرارة البدء في إشعال الثورة الإسلامية ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج.

الجماعة.. من مساندة طغيان الملكية إلى التحالف مع العسكر
في النضال إلى الحرية لا تسقط الجرائم السياسية بالتقادم، ولا تغفر الشعوب خطايا البشر.

كان الإخوان المسلمون دائما ضد الحرية، وضد العدالة، وضد الديمقراطية. لا يوجد طاغية مر بوادي النيل منذ تأسيس الجماعة ولم تتحالف معه، عبر كل العصور ساندوا الظلمة، وأيدوا المستبدين ثم ذاقوا مرار كؤوسهم. في عام 1930 ترفع الجهات الأمنية تقريرا إلى إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء ببعض المخاوف من توسع جماعة الإخوان، ويقرر وقتها «صدقي» استغلال الجماعة ضد الوفد حزب الأغلبية ويعرض عليهم إعانات مالية مقابل تأييد الحكومة ضد الوفد، ويعرف وقتها البنا حجم جماعته وقوتها ويقرر الانتقال بها إلى القاهرة. وبالفعل تخرج مظاهرات الإخوان رافعة لافتات تستخدم الآية القرآنية «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صديقا نبيا». ويتوافد المنضمون إلى الجماعة الوليدة وبعد عام واحد يرتفع عدد شعب الإخوان داخل القاهرة وقتها إلى 50 شعبة، ثم تعقد الجماعة أول مؤتمراتها عام 1933 ويتوالى الصعود والانتشار والتدخل في السياسة.

وفى عام 1936 يقوم الإخوان بتسيير مظاهرات في شوارع القاهرة تهتف «الله مع الملك» والمناداة باختيار فاروق خليفة للمسلمين. ويظهر أن البوليس المصري كان لديه تعليمات وقتها بحماية الإخوان ومساندتهم وهو ما أسهم في انفلات أعضاء الجماعة وأدى إلى موجة خروج مبكر لبعض الإصلاحيين الأوائل في الجماعة وعلى رأسهم الشيخ أحمد السكري نفسه. وقد اتهم المنشقون الشيخ بالبعد عن الشورى والاستبداد بالرأي والوقوف ضد الوفد حزب الأغلبية.

ويأخذ كثير من الباحثين على الشيخ البنا ما يعتبرونه انتهازية في ذلك الوقت والوقوف إلى جوار الظلم والطغيان. وقد دفع ذلك الزعيم أحمد حسين إلى كتابة سلسلة من المقالات يهاجم بها البنا ويشبهه بـ «راسبوتين» وهو أحد رجال الدين الذين ساندوا الحكومات المستبدة في روسيا القيصرية. ومنذ المؤتمر الأول والجماعة تتجه إلى إنشاء فرق للجوالة مهمتها القيام بالرياضة، ثم تحولت بعد ذلك إلى «كتائب» لحماية الدعوة والعمل العام، ثم أصبحت تلك الكتائب ميلشيات خاصة، كثير من أعضائها سريون وتقوم بأعمال اغتيال وتصفية سياسية لحساب من تعتقد أنه يقف في طريق الجماعة. وفى جريدة «النذير» عام 1938 يكتب «البنا» لأعضاء جماعته «إننا سنتحول من دعوة الكلام إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأفعال» ثم يقول «إنكم ستخاصمون جميع الساسة في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم».

إن حسن البنا يطالب بحل جميع الأحزاب السياسية وإفساح الطريق أمام جماعته. ويختلف مع كل من يقبل بمساندة الوفد أو أي حزب سياسي بل يفصله من جماعته. ومما كان يحكيه الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله انه كان حريصا على حضور لقاءات الثلاثاء في جماعة الإخوان وكان وفديا وقال يومها لحسن البنا أن الإخوان يجب أن يساندوا رجلا نزيها مثل مصطفى النحاس ففوجئ بالبنا غاضبا وقال له: إن الوفد بشكل خاص هو أعدى أعدائنا، لأننا يمكننا أن نبصق على جميع الأحزاب السياسية، إلا الوفد. يومها ترك الشيخ الشعراوي الإخوان ولم يعد مرة أخرى.

وبعد قيام ثورة يوليو يتخذ الإخوان موقفا مساندا يدفع قادتهم ومفكريهم إلى الصمت عن حل الأحزاب وكتابة مقالات في الصحف تحرض ضد الساسة القدامى وتؤيد إيقاف الدستور وكان من أبرزها مقالات سيد قطب في روز اليوسف. ولم يلبث أن انقلب عبد الناصر على الإخوان وساقهم إلى السجون والمشانق بعد أن لعبوا دور «سنمار» في بناء دولته.

ويأتي أنور السادات ليستعين بالإخوان في مواجهة الناصريين واليساريين المعارضين، ويخرج الإسلاميون للعمل العلني ويسيطرون على النقابات واتحادات الطلبة ثم لا يلبث أن يتم اغتيال السادات نفسه على أياديهم وسط رجاله. لذا لم يكن غريبا على الجماعة أن تخاصم كل القوى السياسية الليبرالية وتتحالف مع المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير وترفض المشاركة في نصرة الشباب والثوار في شارع محمد محمود ومجلس الوزراء، بل تحرض ضدهم.

القتل باسم السماء..
اغتالوا «النقراشي» و«ماهر» و«الخازندار» وأسسوا تنظيماً لردع المعارضين

وفي الوقت نفسه ومع المضي في برنامج تربوي كهذا لابد من حماية الحركة من الاعتداء عليها من الخارج.. وهذه الحماية تتم عن طريق وجود مجموعات مدربة تدريبا فدائيا بعد تمام تربيتها الإسلامية. من قاعدة العقيدة ثم الخلق فإن هذه المجموعات لا تدخل في الأحداث الجارية ولكنها تدخل عند الاعتداء على الحركة والدعوة والجماعة لرد الاعتداء وضرب القوة المعتدية بالقدر الذي يسمح للحركة أن تستمر في طريقها.

سيد قطب معالم على الطريق

نظرة واحدة متأنية للتاريخ المعاصر تبين أن جماعة الإخوان المسلمين أول من اتجه لتسييس الإسلام واستخدام الدين في تحقيق مغانم ومكاسب سياسية. الجماعة التي نشأت عام 1928، على يد حسن البنا في أحد مراكز محافظة البحيرة، وفي عام 1931 بعد إشهار الجماعة برز نشاطها في القاهرة حيث أسس البنا عددا من الشُعَب في أكثر من محافظة، تعامل معها الاحتلال الإنجليزي بصفتها ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، أي يمكن تصنيفها بكونها حزبًا سياسيًا، لمواجهة فاعلية شيوخ ورموز النهضة العربية الأولى، وكتبهم التي بدأت تشكل مرجعا لتيارات سياسية ذات طابع استقلالي، أو التي كانت تطالب بخروج الاستعمار، على المستوى الفكري، إضافة إلى مواجهتها لأحزاب أخرى كانت تكتسح الساحة السياسية كحزب الوفد ومصر الفتاة. واللافت للنظر أن الإخوان المسلمين أخذوا على عاتقهم مهمة القضاء على التيار الشيوعي حيث طلب حسن البنا من السفارة الأمريكية وقتها تكوين مكتب مشترك بين الإخوان والأمريكيين لمكافحة الشيوعية على أن يكون معظم أعضائه من الإخوان، وتتولى أمريكا إدارة المكتب ودفع مرتبات أعضاء الإخوان فيه. وهذا الطلب، إن صح، فهو يدل على عمق العلاقة كتبادل مصلحي.

وما ميز المرحلة التأسيسية للإخوان وما بعدها حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين هو فترة الاغتيالات السياسية التي كانت تتم بمباركة القصر تارة أو الاحتلال الإنجليزي تارة أخرى. ورغم أن الاغتيالات السياسية في تلك الفترة كانت منتشرة في كل الحركات السياسية في العالم وليست مقتصرة على الإخوان، والانجليز وكل العالم الغربي، والقوى السياسية المصرية كانت تتعامل مع الإخوان المسلمين بصفتهم حزبًا سياسيًا في الدرجة الأولى والأخيرة، ولم يجرِ التعامل معهم على أنهم تعبير أو ممثل سياسي وثقافي وحيد للإسلام وللمسلمين، وبقيت هذه المعاملة حتى التسعينيات من القرن الماضي. في هذا الوقت كان النظر إلى العنف مشطورًا بانشطار العالم إلى معسكرين، منهم من يراه عنفًا ثوريًا، «المعسكر الشيوعي الشرقي بزعامة السوفييت»، ومنهم من يراه إجرامًا وسفكاً للدماء «المعسكر الغربي»، ولكن الأطرف من كل هذا، أن مفهوم العنف الإجرامي «الإرهاب» كان يتبدل من مكان إلى آخر، فتارة الغرب يمجد العنف ويساعده في مكان ويجرِّمه في مكان آخر، وتارة أيضًا السوفييت يجرمون العنف في مكان ويساعدونه ويعتبرونه ثوريًا في مكان آخر، في تبادل أدوار ومواقع ورمزيات بين الغرب والشرق حسب الرؤى والمصالح.

وخير دليل على تلك الرؤية أن الغرب لم يجرم آنذاك أي نوع من أنواع العنف الذي مارسه الإخوان المسلمون في كل دول العالم، لسبب بسيط أنه كان موجهًا ضد القوى المحسوبة على المعسكر الشرقي، لهذا كانت الدول التي تسمى إسلامية في غالبيتها تعيش معركة في صفوف الغرب ضد الشرق.

اغتيال أحمد باشا ماهر.. البنا سقط في الانتخابات ورجاله اغتالوا رئيس الوزراء

في 24 من فبراير 1945 كان «أحمد ماهر» باشا متوجهاً لمجلس النواب لإلقاء بيان، وأثناء مروره بالبهو الفرعوني قام «محمود العيسوي» بإطلاق الرصاص عليه وقتله في الحال، وبعد الحادث تم إلقاء القبض على كل من «حسن البنا، وأحمد السكري، وعبد الحكيم عابدين» ولكن بعد أيام تم الإفراج عنهم نتيجة الاعتراف «العيسوي» بأنه ينتمي للحزب الوطني، وتأتي شهادة «أحمد حسن الباقوري» التي خطها بيده في كتابه «بقايا ذكريات» لتثبت انتماء «العيسوي» للإخوان، التي أقر فيها بأن أعضاء «النظام الخاص» داخل الإخوان لم يكونوا معروفين إلا لفئة قليلة، وقد قرروا الانتقام من أحمد ماهر بعد إسقاط «البنا» في انتخابات الدائرة بالإسماعيلية وكان العيسوي من أكثر المتحمسين لذلك.

kumait
04-01-2013, 07:55 PM
المستشار أحمد الخازندار..
عندما صاح البنا «لو حد يخلصنا منه». 22 مارس 1948

حصلت في منتصف عقد الأربعينيات مِن القرن الماضي، سلسلة اغتيالات بمصر، طالت كبار رجال الدَّولة، أحمد ماهر 1945 رئيس الوزراء، الذي اغتيل في قاعة البرلمان، ثم المستشار والقاضي أحمد الخازندار 1948، وبعده بشهور لقي رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النُّقراشي مصرعه، عند ديوان وزارة الدَّاخلية. في كلِّ تلك الأعمال حضر اسم الإخوان المسلمين بقوة، فهم الطَّرف الأهم في العمل السِّري والعلني ضد السُّلطة آنذاك، ولديهم قضايا مع المغتالين، لكن ربُّما يبقى للظنون حصة في أمر ماهر والنُّقراشي، إلا أن أمر أحمد الخازندار، يصعب عده مِن الظُّنون، إنما يرقى إلى المؤكدات.

ترجع القصة حينما كانت هناك قضية كبرى ينظرها القاضي أحمد الخازندار تخص تورط جماعة الإخوان المسلمين في تفجير دار سينما مترو، وفى صباح ٢٢ مارس ١٩٤٨ اغتيل المستشار أحمد الخازندار أمام منزله في حلوان، فيما كان متجها إلى عمله، على أيدى شابين من الإخوان هما: محمود زينهم وحسن عبد الحافظ سكرتير حسن البنا، على خلفية مواقف الخازندار فى قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان لاعتدائهم على جنود بريطانيين في الإسكندرية بالأشغال الشاقة المؤبدة فى ٢٢ نوفمبر ١٩٤٧. وعلى أثر اغتيال الخازندار استدعى حسن البنا المرشد العام للإخوان للتحقيق معه بشأن الحادث ثم أفرج عنه لعدم كفاية الأدلة. ووفق ما ورد في مذكرات الدكتور عبد العزيز كامل، عضو النظام الخاص بالإخوان المسلمين ووزير الأوقاف الأسبق، فإنه خلال الجلسة التي عقدت في اليوم التالي لواقعة الاغتيال، بدا البنا متوتراً للغاية وقد عقدت هذه الجلسة لمناقشة ما حدث وما قد يسفر عنه من تداعيات، ورأس حسن البنا هذه الجلسة التي حضرها أعضاء النظام الخاص.

وبدا المرشد متوتراً وعصبياً وبجواره عبد الرحمن السندي رئيس التنظيم الخاص الذي كان لا يقل توتراً وتحفزاً عن البنا، وفى هذه الجلسة قال المرشد: كل ما صدر منى تعليقاً على أحكام الخازندار في قضايا الإخوان هو «لو ربنا يخلصنا منه» أو «لو نخلص منه» أو «لو حد يخلصنا منه»، بما يعنى أن كلماتي لا تزيد على الأمنيات ولم تصل إلى حد الأمر، ولم أكلف أحداً بتنفيذ ذلك، ففهم عبد الرحمن السندي هذه الأمنية على أنها أمر واتخذ إجراءاته التنفيذية وفوجئت بالتنفيذ. وكان البنا مساء يوم الحادث، ولهول ما حدث صلى العشاء ٣ ركعات وأكمل الركعة سهواً وهى المرة الوحيدة التي شاهد فيها أعضاء التنظيم المرشد يسهو في الصلاة.

واحتدم الخلاف بين البنا والسندي أمام قادة النظام الخاص، وكانت مجلة المصور قدمت متابعة لحادث الاغتيال عبر شهود عيان ومن أولئك العجلاتي «زغلول العمبورى» الذى لعبت الصدفة دورا لكي يكون شاهدا على الحادث يقول «العمبوري»: «صباح يوم الحادث كنت ذاهبا إلى دكاني فوجدته مغلقا فأدركت أن شقيقي الأصغر أهمل فتحه ووجدت دراجة أمام الباب فبدا لي أن أحدا قد استأجرها ليلا وتركها أمام الدكان فركبتها وانطلقت بحثا عن شقيقي وما إن وصلت إلى منتصف شارع زكى حتى سمعت صوت طلق ناري، وأسرعت إلى مصدر الصوت فإذا بالطلقات النارية تتوالى وعلى بعد ١٥ مترا منى وجدت الخازندار بك واقفا بين قاتليه وهما يمطرانه بالرصاص وهو يصرخ ثم سقط على الأرض وولى هاربين».

كانت هذه شهادة العمبورى العجلاتي، التي لم تكن الوحيدة فلقد كان هناك ٩ شهود عيان منهم «علي عبد الرحمن» الذي قال لمجلة المصور إنه فتح دكانه في السادسة صباحا مع ابنيه إبراهيم ومحمد ثم جاء جاره «المكوجي» ليفتح دكانه وإذا بصوت طلقات رصاص مدوية في هدأة الصباح الباكر، وظننا أن بعض التلاميذ يلعبون بالبمب كالعادة لكن صوت الطلقات المتتابعة دفعنا لاستطلاع الأمر فجرينا حيث مصدر الصوت لنجد الخازندار بك ملقى على الأرض مضرجا في دمائه.
قضية السيارة الجيب..
المستندات التي فضحت التنظيم السري 15 نوفمبر 1948
قضية السيارة الجيب في 15 نوفمبر 1948، قام عدد من أعضاء النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين في مصر بنقل أوراق خاصة بالنظام وبعض الأسلحة والمتفجرات في سيارة جيب من إحدى الشقق بحي المحمدي إلى شقة أحد الإخوان بالعباسية إلا أنه تم الاشتباه في السيارة التي لم تكن تحمل أرقاماً وتم القبض على أعضاء التنظيم والسيارة لينكشف بذلك النظام الخاص السري لجماعة الإخوان المسلمين. وأدى هذا الحادث إلى إعلان محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء آنذاك أمرا عسكريا بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أعضائها وتأميم ممتلكاتها وفصل موظفي الدولة والطلبة المنتمين لها، وكان هذا القرار سببا جعل النظام الخاص يقوم بقتل النقراشي، وانتهت القضية فيما بعد ببراءة النظام الخاص من التهم المنسوبة إليه وإلغاء قرار النقراشي من حل الجماعة وتأميم ممتلكاتها.

محمود فهمي النقراشي…
قتلته علشان حل جماعة الإخوان المسلمين وهدم الدين!! 28 ديسمبر 1948

في العاشرة إلا الثلث من صباح ذلك اليوم دخل ضابط بوليس برتبة ملازم أول صالة وزارة الداخلية في الطابق الأول فأدي له حراس الوزارة التحية العسكرية وأخذ يقطع الوقت بالسير البطيء في صالة الوزارة كأنه ينتظر شيئا وعندما أحس بقرب وصوله النقراشي باشا اتجه نحو الأسانسير ووقف بجانبه الأيمن وفي تمام العاشرة وخمس دقائق حضر النقراشي باشا ونزل من سيارته محاطا بحرسه الخاص واتجه للأسانسير فأدي له هذا الضابط التحية العسكرية فرد عليه مبتسما وعندما أوشك النقراشي علي دخول الأسانسير أطلق عليه هذا الضابط ثلاث رصاصات في ظهره فسقط قتيلا ونقل جثمانه إلي داره بمصر الجديدة وأعلنت محطة الإذاعة الحداد لمدة يومين. أما القاتل فقد اتضح أنه ضابط مزيف كان يتردد علي قهوة بالقرب من وزارة الداخلية، كان النقراشي رئيسا للوزارة ووزيرا الداخلية في آن واحد.

وقال رواد المقهى أنهم عرفوا الضابط المزيف باسم حسني أفندي وأنه تلقي مكالمة تليفونية قبل الجريمة بعشرين دقيقة من شخص مجهول أخبره بأن النقراشي باشا في طريقه إلي مكتبه بوزارة الداخلية.. أما الاسم الحقيقي للقاتل فهو عبد الحميد أحمد حسن وكان طالبا بكلية الطب البيطري وينتمي لجماعة الإخوان المسلمين وعندما سأله المحقق عن مصدر البدلة العسكرية أجاب بتهكم: في «سوق الكانتو منها كتير» وقال القاتل في هدوء وثبات.. «أيوه قتلته واعترف بكده لأنه أصدر قرارا بحل جمعية الإخوان المسلمين وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الدين.. قتلته لأني أتزعم شعبة الإخوان منذ كنت تلميذا في مدرسة فؤاد الأول الثانوية». والحقيقة أنه بعد وقوع عدة حوادث عنف واغتيال ارتبطت بعناصر من الإخوان المسلمين، قرر النقراشي حل الجماعة بعد عريضة اتهام طويلة، واعتقل كل رجال الحركة البارزين، وأغلق جميع الأماكن المخصصة لنشاطهم، وصادر جميع الأوراق والوثائق والمطبوعات والأموال المملوكة للجماعة.

وقبل حادثة الاغتيال بيوم أذاع راديو القاهرة أمر الحاكم العسكري العام رقم 63 لسنة 1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين بكل فروعها في البلاد ومصادرة أموالها وممتلكاتها. وبعد أقل من عشر دقائق خرج الإخوان من المقر العام فوجدوا أن المكان قد تم حصاره من جميع الجهات وأنهم وقعوا في الفخ وألقي القبض عليهم جميعاً، ما عدا حسن البنا المرشد العام ومؤسس الجماعة. وتبع هذا الأمر العسكري صدور أوامر عسكرية أخرى بتصفية شركاتهم، والعمل على استخلاص أموال الجماعة لتخصيصها في الوجوه العامة التي يقررها وزير الشئون الاجتماعية.

اغتيال فايز حلاوة – 45 نوفمبر 1953 –
عندما ينقلب التنظيم علي المنظم

كان المهندس سيد فايز من كبار المسئولين في النظام الخاص ومن الناقمين علي تصرفات السندي، لذلك امتثل لأمر المرشد وسعى إلى ضم أفراد النظام الخاص الذي كان يشرف عليه السندي إلى قيادته الجديدة برئاسة يوسف طلعت، ووضع نفسه تحت إمرة المرشد العام لتحرير هذا النظام في القاهرة علي الأقل من سلطته، وأنه قطع في ذلك شوطاً باتصاله بأعضاء النظام بالقاهرة وإقناعهم بذلك ، نظرا لأنه كان مسئولا عنه في فترة من الفترات. ولم يحدث ما يعكر صفو الانتقال من النظام الخاص القديم إلى النظام الجديد تحت قيادة يوسف طلعت سوى حادث اغتيال سيد فايز.

وفي هذه الظروف المريبة قتل المهندس السيد فايز عبد المطلب عصر الثالثة بعد ظهر الخميس 20 من نوفمبر 1953م بواسطة صندوق من الديناميت وصل إلي منزله علي أنه هدية من الحلوى بمناسبة المولد النبوي، وقد قتل معه بسبب الحادث شقيقه الصغير البالغ من العمر تسع سنوات وطفلة صغيرة كانت تسير تحت الشرفة التي انهارت نتيجة الانفجار وشيعت جنازته في اليوم التالي .ونشرت الصحف نبأ استشهاد السيد فايز صباح يوم الجمعة 21 نوفمبر عام 1953م.

«تسييس الدين» لعبة الجبابرة لتصفية معارضيهم

إذا كان الإسلام قد أزال سلطة رجال الدين عن السياسة، وأزال وسطاء الناس بالسماء، فإن البعض مازال راغبا في استغلال الدين في السياسة وهو ما يعرف مصطلحا بـ«تسييس الدين»، الذي يختلف تماما. عن مصطلح «تديين السياسة» الذي قصده بعض علماء الإسلام القدامى والمحدثين عندما كتبوا عما يسمى بـ«السياسة الشرعية». إن «تسييس الدين» يعنى استخدامه كحصن لبعض القوى السياسية ضد المعارضة والنقد عن طريق اكساب الفعل البشرى «قداسة» زائفة. ولاشك أن ذلك كان دافعا للإمام محمد عبده أن يقول مقولته الشهيرة «أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة». والمدهش أن تلك الظاهرة لم تستخدم إلا من خلال حكام ظلمة مستبدين يعانون ضعف الشعبية وكراهية الشعب طمعاً في استجلاب تعاطف أو تأييد عن طريق التحصن بالدين. أما أصحاب الجماهيرية الشعبية فقد رفضوا رفضاً باتاً مبدأ «تسييس الدين» تقديراً لعظمته ورفعته وهو مثلا ما يجعل الدكتور محمد الجوادي، الباحث الشهير يقول في كتابه الأخير عن مصطفى النحاس انه «كان مع إبعاد السياسة عن الدين، وليس إبعاد الدين عن السياسة».

وقديما استغل الجبابرة الدين في صراعهم ضد قوى المعارضة. إن معاوية بن أبى سفيان مؤسس دولة بني أمية يقول في أول خطاب سياسي له: «إني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، وإنما جالدتكم بسيفي هذا مجادلة».

ونجد زياد بن أبيه واليه على العراق يخطب يوما في الناس فيقول: «أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم زادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، ونذود عنكم بفيء الله الذي خوله لنا»، وفى سبيل ذلك قتل آل البيت وشيعة على بن أبى طالب في مختلف الأقطار.

ويقول الدكتور إمام عبد الفتاح في كتابه الشهير «الطاغية» متحدثا عن يزيد بن معاوية:

أصبحت البيعة مجرد إجراء شكلي أقرب ما يكون إلى الاستفتاءات العصرية التي يجريها الرؤساء في بلادنا، وتكون نتيجتها ٩٩٬٩% ولا أدل على ذلك من وقعة الحرة الشهيرة – تلك النقطة السوداء في تاريخ يزيد وما أكثر النقاط السوداء في تاريخه والتي باع فيها دينه وقتل فيها خلق من الصحابة وافتض فيها ألف عذراء. وكان قائد يزيد وقتها هو مسلم بن عقبة فكان يقتل من يقول «أبايعه على كتاب الله وسنة رسوله».

واستخدم عبد الملك بن مروان واحدا من أشهر وأسوأ محبي الدماء وسافكيها للقضاء على المعارضة السياسية وهو الحجاج بن يوسف الثقفي والذي سير الجيوش وقتل الشيوخ وأهدر الدماء وانتهك الحرمات ولم يخش ربا ولم يجد رادعاً حتى صح عن عمر بن عبد العزيز أنه قال «لو جاءت كل أمة بظالميها وجئنا بالحجاج لفاقهم ظلما».

ومما ينقله الدكتور إمام عبد الفتاح عن أبى جعفر المنصور قوله: «أيها الناس أنا سلطان الله في أرضه أسوسك وكان من العجيب أن تتواتر الأخبار أن هارون الرشيد كان يصلى كل يوم مائة ركعة سنة لله وكان يحج سنويا ثم نجده يقتل وزراءه غدرا ويسفك دماءهم دون أي وازع من ضمير أو أخلاق أو دين!! بتوفيقه وتسديده وإرادته وأنا حارسه على ماله.»وفى تاريخنا الحديث كم من الجرائم والمذابح ارتكبت تحت غطاء حماية الدولة للدين! وكم من المعارضين قمعوا بزعم رفضهم حكم الله!!

إن السلطان فؤاد سعى فور سقوط الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924 إلى تنصيب نفسه خليفة للمسلمين على ما لديه من استبداد وفساد وسوء إدارة، وهو ما دفع الشيخ على عبد الرازق إلى التصدي له بإصدار كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذي استبعد فيه وجود شكل محدد للدولة في الإسلام. وحاول الملك فاروق اختطاف شعبية الجماهير عند تنصيبه ملكا عام 1936 عن طريق مراسم دينية يحلف فيها الملك اليمين في الأزهر، وهو ما وقف ضده حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس قائلا «انه ليس لحرص على الإسلام منه، لكن الإسلام لا يمنح الحاكم سلطة روحية».

وكان الرئيس السادات أكثر حرصاً على استغلال الدين لمواجهة خصومه ومعارضيه، وكان أول ذلك إطلاقه مصطلح دولة «العلم والإيمان» على دولته ، ثم إطلاق لفظ «الرئيس المؤمن» عليه في وسائل الإعلام الحكومية وتمادى بعض أنصاره لدرجة الدعوة لإطلاق لقب «خامس الخلفاء الراشدين» عليه، وتلقيب البعض له بـ«الإمام العادل» وهو ما كان موضع سخرية الداعية الإسلامي خفيف الظل المرحوم الشيخ عبد الحميد كشك والذي رد بأنه «ماحصلش عادل إمام».

والغريب أن الرئيس السادات استعان بالآية الكريمة «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» في خطابه الذي أعلن فيه عن التحفظ على 1500 سياسي وعزل البابا شنودة ونقل بعض الصحفيين وأساتذة الجامعات إلى أعمال إدارية!

والأغرب من ذلك أن «السادات» نفسه هو صاحب عبارة الفصل التام بين الدين والسياسة عندما قال «لا دين في السياسة ولا سياسة فى الدين».
……………………………
ملف من إعداد: مصطفي عبيد ـ عن جريدة الوفد المصرية