kumait
04-01-2013, 07:50 PM
ملف : الإخوان المسلمون.. تاريخ يقطر دماً
من زمن الإخوان تحول الرأي الآخر إلي عمالة، والاختلاف في الرأي إلي زعزعة للاستقرار، والنقد إلي سوء أدب.
من ليس معهم عدو للوطن، ومن لا يعتقد عقيدتهم صاحب مصلحة، ومن يعارضهم «فلول» إنهم يرفعون راية «الصمود والتصدي» وهو صمود كما يقول الشاعر محمد الماغوط علي الكراسي، وتصد لكل من يقترب منها. فالحرية طائر لا يحق لها الطير إلا في سماواتهم، والعدالة مفتاح لفتح زنازن مضطهديهم ومظاليمهم، لكنه لا يفتح أي زنازن لمظاليم يختلفون معهم في التوجه أو العقيدة السياسية. يستغرب الناس ركونهم إلي الباطل، وغربتهم عن الحق، واختيالهم في مقاعد السلطة والنفوذ! يندهش العامة من تغليبهم لما يرون، وتنحيتهم مالا يرون، واستعلائهم علي من يخالفونهم في الرأي! يتعجب أهل مصر كيف يواصل قطار الإخوان المسلمين انطلاقه داهسا في طريقة الحرية والعدل والتوفيق الوطني! كيف يرتضون تكرار تجربة الحزب الوطني الحاكم في التعالي علي الآخر، واستبعاده، وتجاهله، وإقصائه. لكننا لا نعجب، فمنذ تأسيس جماعة الإخوان عام 1928 والدماء تسيل من جسد مصر، والعنف لا ينتهي، والتكفير والتخويف لا يتوقف. إننا نفتش صفحات الماضي ونذكر لعل الذكري تنفع المصريين.
في هذا الملف نتابع هذا التاريخ الدموي للجماعة..
نظريات سيد قطب تحكم فكر “الإرشاد”
هم أبناؤه، وتلاميذه.. ما قاله يرددونه، وما دعا إليه يطبقونه. زعيمهم الروحي، ومفكرهم الأول، وشهيدهم الأعظم. كماته «معالم» يسيرون عليها، وأفكاره مخططات يسعون إلى تطبيقها. من يقرأ دماغه يعرف توجههم، ومن يحلل نظرياته يتوقع مستقبلهم.
كان الإخوان المسلمون يعتمدون رسائل الدعوة والداعية للمرشد الأول حسن البنا «مانفستو» لهم حتى ظهر سيد قطب وانضم إلى الجماعة وتحدث باسمها وكتب لها ووضع أيديولوجية جديدة للحركة الإسلامية. لذا فإن أخطر ما تواجهه مصر حاليا أن الأدمغة المسيطرة علي صناعة القرار السياسي في مصر تحمل أفكار سيد قطب وتلتزم بنظرياته بدءاً من جاهلية المجتمع حتى الاستعلاء والإغارة علي الآخر.
كانت قصة حياة سيد قطب نموذجاً واضحاً للانقلابات الفكرية الحادة.. من اليمين إلى اليسار، ومن العلمانية إلى التشدد الديني.. ومن التحرر إلى نفى الآخر. عاش الرجل 60 عاما كتب فيها 24 كتابا ونحو 109 قصائد شعر، و495 مقالا بين السياسة والدين والنقد الأدبي. ورغم ضحالة ذلك الإنتاج الفكري مقارنة بمفكرين وكتاب جيله، فإن ما حوته كتاباته جعله مادة ثرية لأكثر من 150 كتابا حول حياته باللغة العربية، ونحو 15 كتابا باللغات الأخرى. فضلا عن 7 رسائل دكتوراه منها واحدة باللغة الانجليزية في جامعة مانشستر، وأخرى باللغة الفرنسية في جامعة السوربون.
إن أخطر ما يبدو من أفكار سيد قطب كما يقول الباحث الجاد الدكتور محمد حافظ دياب في كتابه سيد قطب الخطاب والأيديولوجيا» أنه اعتبر تصوراته مسلمات لا تقبل النقاش أو الجدل ويعنى ذلك أن نقد الخطاب القطبي «مستحيل».
يقول سيد قطب في صفحة 106 من كتاب «معالم في الطريق» – دار الشروق - «الإسلام لا يعرف سوى نوعين من المجتمعات: مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي». ويقول في صفحة 98 من نفس الكتاب «ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة على الأرض، الشيوعية والوثنية واليهودية والمسيحية، والمجتمعات التي تزعم أنها مسلمة.» ألا ترون معي أن هذه العبارات تشكك في إطلاق وصف مجتمعات إسلامية على مجتمعاتنا التي يدين أغلبيتها بالإسلام ويصلى الناس الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان ويستهجنون من يفطر بلا عذر، ويدفعون الزكاة ويسعون لحج بيت الله. ألا يعد إنكار الإسلام عن مجتمعاتنا نوعا من الغلو، وترجيحا للتكفير. ويقول الرجل أيضا ص 173 في كتاب «معالم على الطريق»: «الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية. ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين».
وفى كتابه «خصائص التصور الإسلامي – طبعة دار الشروق، يقول ص 85: «إما أن يلتزم الناس الإسلام ديناً أي منهجاً للحياة ونظاماً وإلا فهو الكفر والجاهلية.» وبهذا المعنى يحكم الرجل على الراقصات واللصوص والعاهرات من المسلمين بالكفر، فليس هناك شك أن أياً منهم لا يلتزم بالإسلام منهجا للحياة. وبدون شك أو مدارة فإن ذلك القول هو التكفير بعينه، وهو ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام عن أى من العصاة أو الفاسقين. لقد خلط الكاتب بين المعاصي والكفر بصورة خطيرة سيطرت على معظم كتاباته التي لم تكن تراجع فقهيا بسبب ظروف سجنه الطويلة.
وفى كتاب «في ظلال القرآن. ج1» ص25 نجده يقول «القوى الإنسانية نوعان، قوة مهتدية، تؤمن بالله وتتبع منهجه وهذه يجب أن نؤازرها ونتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن نحاربها ونكافحها ونغير عليها».
وعلى الرغم من صدامية هذه الأفكار وحدتها ومجانبتها أصول الإسلام كما وضح بعد ذلك الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة والشيخ ناصر الألباني وغيرهم من علماء الإسلام، فإن النظام الناصري استغلها في الإيقاع به والصعود به إلى طبلية الإعدام، وهو ما لا نقره ونعتبره جريمة من جرائم عبد الناصر. وقد بقيت لنا وثيقة متهمة اشتهرت باسم «لماذا أعدموني» يحكى فيها سيد قطب قصته كاملة مع الإخوان والثورة وقضية قلب نظام الحكم.
يقول «قطب» في بداية الوثيقة «لقد آن الأوان أن يقدم إنسان مسلم رأسه ثمنا لإعلان وجود حركة إسلامية وتنظيم غير مصرح به قام لإقامة النظام الإسلامي أيا كانت الوسائل التي سيستخدمها لذلك»، ويحكى الرجل بداية التحاقه بجماعة الإخوان عام 1953 واعتقاله بعد حادث المنشية واتهامه بأنه المسئول عن تحرير المنشورات وهو ما لم يكن صحيحا حسب قوله. ثم يتحدث عن محن الإخوان المسلمين في سجون ناصر ومذبحة طرة واتساع حجم الغضب بين شباب الإخوان ونمو تنظيمات عديدة تدعو للانتقام من الدولة التي لا تطبق الإسلام. ثم يقول صاحب الوثيقة «كنا قد اتفقنا على استبعاد استخدام القوة في تغيير نظام الحكم وفى الوقت نفسه قررنا استخدامها في حالة الاعتداء على التنظيم. وكان معنى ذلك البحث في موضوع التدريب والأسلحة اللازمة لهذا الغرض»، ثم يقول «أخذ الإخوة في محاولات لصنع قنابل نجحت بالفعل لكنها كانت في حاجة لتحسين».
وتحكى الوثيقة كيف تم شراء أسلحة من ليبيا ثم يقرر كاتبها في وضوح تحوله للرأي القائل بمشروعية تغيير نظام الحكم بالقوة فيقول «وكان أمامنا المبدأ الذي يقرره الله سبحانه وتعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وكان الاعتداء قد وقع علينا بالفعل في 1954 وفى 1957 بالاعتقال والتعذيب وإهدار الآدمية وتشريد الأطفال والنساء.» ثم يقول «ووفقا لهذا جاءوا في اللقاء التالي ومع أحمد عبد المجيد قائمة باقتراحات تتناول الأعمال التي تكفى لشل الجهاز الحكومي. وهذه الأعمال هي الرد فور وقوع اعتقالات لأعضاء التنظيم بإزالة رؤوس في مقدمتها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومدير المخابرات ومدير البوليس الحربي، ثم نسف بعض المنشآت التي تشل حركة المواصلات لضمان عدم تتبع بقية الإخوان.
«وتتحدث الوثيقة بعد ذلك عن علاقات وزيارات ولقاءات لقطب بأفراد وشخصيات عامة ثم تنتهي بتقرير «إن العنف الذي عومل به الإخوان عام 1954 بناء على حادث مدبر لهم وليس منهم هو الذي أنشأ فكرة رد الاعتداء بالقوة.» ولاشك أن هذه الوثيقة وما تحمله من اعترافات تدور في محور تبرير العنف في التغيير، وهو نفس المنهج الذي اتبعته الجماعات المسلحة خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وانتهت إلى آلاف الضحايا وتكريس للاستبداد السياسي وتبرير للقوانين الاستثنائية المقيدة للحريات.
كما أن المتابع لمقالات سيد قطب في عامي 1952، 1953 يتعجب من ذلك التحريض الفظ من جانب الرجل ضد الحريات وتبنيه للدعوة إلى نفى الآخر تماما ،بل والى اقتلاعه تماما من المجتمع. يقول سيد قطب محرضا على الدستور في مقال له بجريدة الأخبار بتاريخ 8 أغسطس 1952 تحت عنوان «استجواب إلى البطل محمد نجيب»: «إن الرجعية اليوم تتستر بالدستور، وهذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من الفساد إن لم تمضوا أنتم في التطهير الشامل الذي يحرم الملوثين من كل نشاط دستوري ولا يبيح الحرية إلا للشرفاء». ويتوسع خطاب سيد قطب المساند للديكتاتورية التي بدت على ثوار يوليو فيقول في ذات المقال «لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية شريرة خمسة عشر عاما أو تزيد.. أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة ستة أشهر!!.»….. وربما توضح هذه المقالة أصول فكرة المستبد العادل التي ترددت وقتها بين ثوار يوليو. إن الرجل يرى أن تحمل استبداد الثورة ضروري ولازم لإقامة دولة حديثة. وهو رأى غريب عانى منه كافة المختلفين مع الثوار وكان الإخوان المسلمون من بينهم.
وينقل الكاتب حلمي النمنم في كتابه «سيد قطب وثورة يوليو» نصوصاً كاملة من مقالات لسيد قطب كلها تصب في التحريض على الساسة والأحزاب من خارج الثورة. فمنها مثلا ما كتبه في جريدة الأخبار بتاريخ 15 أغسطس 1952 حول تظاهر العمال في كفر الدوار احتجاجا على الفساد حيث قال «هذه الحوادث المفتعلة في كفر الدوار لن تخيفنا. لقد كنا نتوقع ما هو أشد منها. إن الرجعية لن تقف مكتوفة الأيدي وهى تشهد مصرعها» ثم يضيف قائلا: «فلنضرب بسرعة. أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب»، وبالفعل اعتبرت ثورة يوليو أحداث كفر الدوار تحدىاً قوياً لاختبار قدرة الساسة الجدد على اتخاذ القرارات وأخذت بنصيحة «قطب» وأصدرت أحكاما قاسية على عمال كفر الدوار منها حكم بإعدام اثنين من العمال هما خميس والبقري وصدق مجلس قيادة الثورة على الأحكام.
ويكشف مقال آخر في مجلة روز اليوسف بتاريخ 29 سبتمبر 1952 آراء سيد قطب في عودة الأحزاب السياسية، ورفضه الشديد لفكرة التعددية حيث يقول « هذه الأحزاب ليست صالحة للبقاء، إنها ستتفتت وتنهار سواء طلب الجيش ذلك أم لم يطلبها، لقد استوفت أيامها وعاشت بعد أوانها». ويكتب الرجل في روز اليوسف بتاريخ 10 سبتمبر 1952 مؤيدا قرارات حركة الضباط ومحاكماتهم قائلا: «لأن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت… هل يصدق أحد أن يكتب شاعر ومفكر هذه الكلمات؟ فعلها الرجل وأراشيف الصحف شاهدة ولا نملك إلا أن نسأل الله له المغفرة.
وعلى هذه الأفكار خرج تلامذة أكثر عنفا وأشد دموية نادوا صراحة بتكفير الآخر والدعوة إلى قتاله كان أبرزهم شكري مصطفى الذي نادي بالهجرة من دار الكفر وتكفير المجتمع وانتهى به الحال إلى اختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف عام 1977 واغتياله برصاصة في عينه ليتم إعدامه عام 1978. منهم أيضا محمد عبد السلام فرج صاحب كتاب «الفريضة الغائبة» والعقل المدبر لاغتيال أنور السادات في أكتوبر 1981. ومنهم أيضا أيمن الظواهري القيادي بتنظيم القاعدة الذي يقول في كتاب «فرسان تحت راية النبي»: كانت ولا تزال دعوة سيد قطب إلى إخلاص التوحيد لله ولسيادة المنهج الرباني شرارة البدء في إشعال الثورة الإسلامية ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج.
الجماعة.. من مساندة طغيان الملكية إلى التحالف مع العسكر
في النضال إلى الحرية لا تسقط الجرائم السياسية بالتقادم، ولا تغفر الشعوب خطايا البشر.
كان الإخوان المسلمون دائما ضد الحرية، وضد العدالة، وضد الديمقراطية. لا يوجد طاغية مر بوادي النيل منذ تأسيس الجماعة ولم تتحالف معه، عبر كل العصور ساندوا الظلمة، وأيدوا المستبدين ثم ذاقوا مرار كؤوسهم. في عام 1930 ترفع الجهات الأمنية تقريرا إلى إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء ببعض المخاوف من توسع جماعة الإخوان، ويقرر وقتها «صدقي» استغلال الجماعة ضد الوفد حزب الأغلبية ويعرض عليهم إعانات مالية مقابل تأييد الحكومة ضد الوفد، ويعرف وقتها البنا حجم جماعته وقوتها ويقرر الانتقال بها إلى القاهرة. وبالفعل تخرج مظاهرات الإخوان رافعة لافتات تستخدم الآية القرآنية «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صديقا نبيا». ويتوافد المنضمون إلى الجماعة الوليدة وبعد عام واحد يرتفع عدد شعب الإخوان داخل القاهرة وقتها إلى 50 شعبة، ثم تعقد الجماعة أول مؤتمراتها عام 1933 ويتوالى الصعود والانتشار والتدخل في السياسة.
وفى عام 1936 يقوم الإخوان بتسيير مظاهرات في شوارع القاهرة تهتف «الله مع الملك» والمناداة باختيار فاروق خليفة للمسلمين. ويظهر أن البوليس المصري كان لديه تعليمات وقتها بحماية الإخوان ومساندتهم وهو ما أسهم في انفلات أعضاء الجماعة وأدى إلى موجة خروج مبكر لبعض الإصلاحيين الأوائل في الجماعة وعلى رأسهم الشيخ أحمد السكري نفسه. وقد اتهم المنشقون الشيخ بالبعد عن الشورى والاستبداد بالرأي والوقوف ضد الوفد حزب الأغلبية.
ويأخذ كثير من الباحثين على الشيخ البنا ما يعتبرونه انتهازية في ذلك الوقت والوقوف إلى جوار الظلم والطغيان. وقد دفع ذلك الزعيم أحمد حسين إلى كتابة سلسلة من المقالات يهاجم بها البنا ويشبهه بـ «راسبوتين» وهو أحد رجال الدين الذين ساندوا الحكومات المستبدة في روسيا القيصرية. ومنذ المؤتمر الأول والجماعة تتجه إلى إنشاء فرق للجوالة مهمتها القيام بالرياضة، ثم تحولت بعد ذلك إلى «كتائب» لحماية الدعوة والعمل العام، ثم أصبحت تلك الكتائب ميلشيات خاصة، كثير من أعضائها سريون وتقوم بأعمال اغتيال وتصفية سياسية لحساب من تعتقد أنه يقف في طريق الجماعة. وفى جريدة «النذير» عام 1938 يكتب «البنا» لأعضاء جماعته «إننا سنتحول من دعوة الكلام إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأفعال» ثم يقول «إنكم ستخاصمون جميع الساسة في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم».
إن حسن البنا يطالب بحل جميع الأحزاب السياسية وإفساح الطريق أمام جماعته. ويختلف مع كل من يقبل بمساندة الوفد أو أي حزب سياسي بل يفصله من جماعته. ومما كان يحكيه الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله انه كان حريصا على حضور لقاءات الثلاثاء في جماعة الإخوان وكان وفديا وقال يومها لحسن البنا أن الإخوان يجب أن يساندوا رجلا نزيها مثل مصطفى النحاس ففوجئ بالبنا غاضبا وقال له: إن الوفد بشكل خاص هو أعدى أعدائنا، لأننا يمكننا أن نبصق على جميع الأحزاب السياسية، إلا الوفد. يومها ترك الشيخ الشعراوي الإخوان ولم يعد مرة أخرى.
وبعد قيام ثورة يوليو يتخذ الإخوان موقفا مساندا يدفع قادتهم ومفكريهم إلى الصمت عن حل الأحزاب وكتابة مقالات في الصحف تحرض ضد الساسة القدامى وتؤيد إيقاف الدستور وكان من أبرزها مقالات سيد قطب في روز اليوسف. ولم يلبث أن انقلب عبد الناصر على الإخوان وساقهم إلى السجون والمشانق بعد أن لعبوا دور «سنمار» في بناء دولته.
ويأتي أنور السادات ليستعين بالإخوان في مواجهة الناصريين واليساريين المعارضين، ويخرج الإسلاميون للعمل العلني ويسيطرون على النقابات واتحادات الطلبة ثم لا يلبث أن يتم اغتيال السادات نفسه على أياديهم وسط رجاله. لذا لم يكن غريبا على الجماعة أن تخاصم كل القوى السياسية الليبرالية وتتحالف مع المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير وترفض المشاركة في نصرة الشباب والثوار في شارع محمد محمود ومجلس الوزراء، بل تحرض ضدهم.
القتل باسم السماء..
اغتالوا «النقراشي» و«ماهر» و«الخازندار» وأسسوا تنظيماً لردع المعارضين
وفي الوقت نفسه ومع المضي في برنامج تربوي كهذا لابد من حماية الحركة من الاعتداء عليها من الخارج.. وهذه الحماية تتم عن طريق وجود مجموعات مدربة تدريبا فدائيا بعد تمام تربيتها الإسلامية. من قاعدة العقيدة ثم الخلق فإن هذه المجموعات لا تدخل في الأحداث الجارية ولكنها تدخل عند الاعتداء على الحركة والدعوة والجماعة لرد الاعتداء وضرب القوة المعتدية بالقدر الذي يسمح للحركة أن تستمر في طريقها.
سيد قطب معالم على الطريق
نظرة واحدة متأنية للتاريخ المعاصر تبين أن جماعة الإخوان المسلمين أول من اتجه لتسييس الإسلام واستخدام الدين في تحقيق مغانم ومكاسب سياسية. الجماعة التي نشأت عام 1928، على يد حسن البنا في أحد مراكز محافظة البحيرة، وفي عام 1931 بعد إشهار الجماعة برز نشاطها في القاهرة حيث أسس البنا عددا من الشُعَب في أكثر من محافظة، تعامل معها الاحتلال الإنجليزي بصفتها ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، أي يمكن تصنيفها بكونها حزبًا سياسيًا، لمواجهة فاعلية شيوخ ورموز النهضة العربية الأولى، وكتبهم التي بدأت تشكل مرجعا لتيارات سياسية ذات طابع استقلالي، أو التي كانت تطالب بخروج الاستعمار، على المستوى الفكري، إضافة إلى مواجهتها لأحزاب أخرى كانت تكتسح الساحة السياسية كحزب الوفد ومصر الفتاة. واللافت للنظر أن الإخوان المسلمين أخذوا على عاتقهم مهمة القضاء على التيار الشيوعي حيث طلب حسن البنا من السفارة الأمريكية وقتها تكوين مكتب مشترك بين الإخوان والأمريكيين لمكافحة الشيوعية على أن يكون معظم أعضائه من الإخوان، وتتولى أمريكا إدارة المكتب ودفع مرتبات أعضاء الإخوان فيه. وهذا الطلب، إن صح، فهو يدل على عمق العلاقة كتبادل مصلحي.
وما ميز المرحلة التأسيسية للإخوان وما بعدها حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين هو فترة الاغتيالات السياسية التي كانت تتم بمباركة القصر تارة أو الاحتلال الإنجليزي تارة أخرى. ورغم أن الاغتيالات السياسية في تلك الفترة كانت منتشرة في كل الحركات السياسية في العالم وليست مقتصرة على الإخوان، والانجليز وكل العالم الغربي، والقوى السياسية المصرية كانت تتعامل مع الإخوان المسلمين بصفتهم حزبًا سياسيًا في الدرجة الأولى والأخيرة، ولم يجرِ التعامل معهم على أنهم تعبير أو ممثل سياسي وثقافي وحيد للإسلام وللمسلمين، وبقيت هذه المعاملة حتى التسعينيات من القرن الماضي. في هذا الوقت كان النظر إلى العنف مشطورًا بانشطار العالم إلى معسكرين، منهم من يراه عنفًا ثوريًا، «المعسكر الشيوعي الشرقي بزعامة السوفييت»، ومنهم من يراه إجرامًا وسفكاً للدماء «المعسكر الغربي»، ولكن الأطرف من كل هذا، أن مفهوم العنف الإجرامي «الإرهاب» كان يتبدل من مكان إلى آخر، فتارة الغرب يمجد العنف ويساعده في مكان ويجرِّمه في مكان آخر، وتارة أيضًا السوفييت يجرمون العنف في مكان ويساعدونه ويعتبرونه ثوريًا في مكان آخر، في تبادل أدوار ومواقع ورمزيات بين الغرب والشرق حسب الرؤى والمصالح.
وخير دليل على تلك الرؤية أن الغرب لم يجرم آنذاك أي نوع من أنواع العنف الذي مارسه الإخوان المسلمون في كل دول العالم، لسبب بسيط أنه كان موجهًا ضد القوى المحسوبة على المعسكر الشرقي، لهذا كانت الدول التي تسمى إسلامية في غالبيتها تعيش معركة في صفوف الغرب ضد الشرق.
اغتيال أحمد باشا ماهر.. البنا سقط في الانتخابات ورجاله اغتالوا رئيس الوزراء
في 24 من فبراير 1945 كان «أحمد ماهر» باشا متوجهاً لمجلس النواب لإلقاء بيان، وأثناء مروره بالبهو الفرعوني قام «محمود العيسوي» بإطلاق الرصاص عليه وقتله في الحال، وبعد الحادث تم إلقاء القبض على كل من «حسن البنا، وأحمد السكري، وعبد الحكيم عابدين» ولكن بعد أيام تم الإفراج عنهم نتيجة الاعتراف «العيسوي» بأنه ينتمي للحزب الوطني، وتأتي شهادة «أحمد حسن الباقوري» التي خطها بيده في كتابه «بقايا ذكريات» لتثبت انتماء «العيسوي» للإخوان، التي أقر فيها بأن أعضاء «النظام الخاص» داخل الإخوان لم يكونوا معروفين إلا لفئة قليلة، وقد قرروا الانتقام من أحمد ماهر بعد إسقاط «البنا» في انتخابات الدائرة بالإسماعيلية وكان العيسوي من أكثر المتحمسين لذلك.
من زمن الإخوان تحول الرأي الآخر إلي عمالة، والاختلاف في الرأي إلي زعزعة للاستقرار، والنقد إلي سوء أدب.
من ليس معهم عدو للوطن، ومن لا يعتقد عقيدتهم صاحب مصلحة، ومن يعارضهم «فلول» إنهم يرفعون راية «الصمود والتصدي» وهو صمود كما يقول الشاعر محمد الماغوط علي الكراسي، وتصد لكل من يقترب منها. فالحرية طائر لا يحق لها الطير إلا في سماواتهم، والعدالة مفتاح لفتح زنازن مضطهديهم ومظاليمهم، لكنه لا يفتح أي زنازن لمظاليم يختلفون معهم في التوجه أو العقيدة السياسية. يستغرب الناس ركونهم إلي الباطل، وغربتهم عن الحق، واختيالهم في مقاعد السلطة والنفوذ! يندهش العامة من تغليبهم لما يرون، وتنحيتهم مالا يرون، واستعلائهم علي من يخالفونهم في الرأي! يتعجب أهل مصر كيف يواصل قطار الإخوان المسلمين انطلاقه داهسا في طريقة الحرية والعدل والتوفيق الوطني! كيف يرتضون تكرار تجربة الحزب الوطني الحاكم في التعالي علي الآخر، واستبعاده، وتجاهله، وإقصائه. لكننا لا نعجب، فمنذ تأسيس جماعة الإخوان عام 1928 والدماء تسيل من جسد مصر، والعنف لا ينتهي، والتكفير والتخويف لا يتوقف. إننا نفتش صفحات الماضي ونذكر لعل الذكري تنفع المصريين.
في هذا الملف نتابع هذا التاريخ الدموي للجماعة..
نظريات سيد قطب تحكم فكر “الإرشاد”
هم أبناؤه، وتلاميذه.. ما قاله يرددونه، وما دعا إليه يطبقونه. زعيمهم الروحي، ومفكرهم الأول، وشهيدهم الأعظم. كماته «معالم» يسيرون عليها، وأفكاره مخططات يسعون إلى تطبيقها. من يقرأ دماغه يعرف توجههم، ومن يحلل نظرياته يتوقع مستقبلهم.
كان الإخوان المسلمون يعتمدون رسائل الدعوة والداعية للمرشد الأول حسن البنا «مانفستو» لهم حتى ظهر سيد قطب وانضم إلى الجماعة وتحدث باسمها وكتب لها ووضع أيديولوجية جديدة للحركة الإسلامية. لذا فإن أخطر ما تواجهه مصر حاليا أن الأدمغة المسيطرة علي صناعة القرار السياسي في مصر تحمل أفكار سيد قطب وتلتزم بنظرياته بدءاً من جاهلية المجتمع حتى الاستعلاء والإغارة علي الآخر.
كانت قصة حياة سيد قطب نموذجاً واضحاً للانقلابات الفكرية الحادة.. من اليمين إلى اليسار، ومن العلمانية إلى التشدد الديني.. ومن التحرر إلى نفى الآخر. عاش الرجل 60 عاما كتب فيها 24 كتابا ونحو 109 قصائد شعر، و495 مقالا بين السياسة والدين والنقد الأدبي. ورغم ضحالة ذلك الإنتاج الفكري مقارنة بمفكرين وكتاب جيله، فإن ما حوته كتاباته جعله مادة ثرية لأكثر من 150 كتابا حول حياته باللغة العربية، ونحو 15 كتابا باللغات الأخرى. فضلا عن 7 رسائل دكتوراه منها واحدة باللغة الانجليزية في جامعة مانشستر، وأخرى باللغة الفرنسية في جامعة السوربون.
إن أخطر ما يبدو من أفكار سيد قطب كما يقول الباحث الجاد الدكتور محمد حافظ دياب في كتابه سيد قطب الخطاب والأيديولوجيا» أنه اعتبر تصوراته مسلمات لا تقبل النقاش أو الجدل ويعنى ذلك أن نقد الخطاب القطبي «مستحيل».
يقول سيد قطب في صفحة 106 من كتاب «معالم في الطريق» – دار الشروق - «الإسلام لا يعرف سوى نوعين من المجتمعات: مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي». ويقول في صفحة 98 من نفس الكتاب «ويدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة على الأرض، الشيوعية والوثنية واليهودية والمسيحية، والمجتمعات التي تزعم أنها مسلمة.» ألا ترون معي أن هذه العبارات تشكك في إطلاق وصف مجتمعات إسلامية على مجتمعاتنا التي يدين أغلبيتها بالإسلام ويصلى الناس الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان ويستهجنون من يفطر بلا عذر، ويدفعون الزكاة ويسعون لحج بيت الله. ألا يعد إنكار الإسلام عن مجتمعاتنا نوعا من الغلو، وترجيحا للتكفير. ويقول الرجل أيضا ص 173 في كتاب «معالم على الطريق»: «الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية. ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين».
وفى كتابه «خصائص التصور الإسلامي – طبعة دار الشروق، يقول ص 85: «إما أن يلتزم الناس الإسلام ديناً أي منهجاً للحياة ونظاماً وإلا فهو الكفر والجاهلية.» وبهذا المعنى يحكم الرجل على الراقصات واللصوص والعاهرات من المسلمين بالكفر، فليس هناك شك أن أياً منهم لا يلتزم بالإسلام منهجا للحياة. وبدون شك أو مدارة فإن ذلك القول هو التكفير بعينه، وهو ما لم يقل به أحد من علماء الإسلام عن أى من العصاة أو الفاسقين. لقد خلط الكاتب بين المعاصي والكفر بصورة خطيرة سيطرت على معظم كتاباته التي لم تكن تراجع فقهيا بسبب ظروف سجنه الطويلة.
وفى كتاب «في ظلال القرآن. ج1» ص25 نجده يقول «القوى الإنسانية نوعان، قوة مهتدية، تؤمن بالله وتتبع منهجه وهذه يجب أن نؤازرها ونتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن نحاربها ونكافحها ونغير عليها».
وعلى الرغم من صدامية هذه الأفكار وحدتها ومجانبتها أصول الإسلام كما وضح بعد ذلك الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد عمارة والشيخ ناصر الألباني وغيرهم من علماء الإسلام، فإن النظام الناصري استغلها في الإيقاع به والصعود به إلى طبلية الإعدام، وهو ما لا نقره ونعتبره جريمة من جرائم عبد الناصر. وقد بقيت لنا وثيقة متهمة اشتهرت باسم «لماذا أعدموني» يحكى فيها سيد قطب قصته كاملة مع الإخوان والثورة وقضية قلب نظام الحكم.
يقول «قطب» في بداية الوثيقة «لقد آن الأوان أن يقدم إنسان مسلم رأسه ثمنا لإعلان وجود حركة إسلامية وتنظيم غير مصرح به قام لإقامة النظام الإسلامي أيا كانت الوسائل التي سيستخدمها لذلك»، ويحكى الرجل بداية التحاقه بجماعة الإخوان عام 1953 واعتقاله بعد حادث المنشية واتهامه بأنه المسئول عن تحرير المنشورات وهو ما لم يكن صحيحا حسب قوله. ثم يتحدث عن محن الإخوان المسلمين في سجون ناصر ومذبحة طرة واتساع حجم الغضب بين شباب الإخوان ونمو تنظيمات عديدة تدعو للانتقام من الدولة التي لا تطبق الإسلام. ثم يقول صاحب الوثيقة «كنا قد اتفقنا على استبعاد استخدام القوة في تغيير نظام الحكم وفى الوقت نفسه قررنا استخدامها في حالة الاعتداء على التنظيم. وكان معنى ذلك البحث في موضوع التدريب والأسلحة اللازمة لهذا الغرض»، ثم يقول «أخذ الإخوة في محاولات لصنع قنابل نجحت بالفعل لكنها كانت في حاجة لتحسين».
وتحكى الوثيقة كيف تم شراء أسلحة من ليبيا ثم يقرر كاتبها في وضوح تحوله للرأي القائل بمشروعية تغيير نظام الحكم بالقوة فيقول «وكان أمامنا المبدأ الذي يقرره الله سبحانه وتعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وكان الاعتداء قد وقع علينا بالفعل في 1954 وفى 1957 بالاعتقال والتعذيب وإهدار الآدمية وتشريد الأطفال والنساء.» ثم يقول «ووفقا لهذا جاءوا في اللقاء التالي ومع أحمد عبد المجيد قائمة باقتراحات تتناول الأعمال التي تكفى لشل الجهاز الحكومي. وهذه الأعمال هي الرد فور وقوع اعتقالات لأعضاء التنظيم بإزالة رؤوس في مقدمتها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ومدير المخابرات ومدير البوليس الحربي، ثم نسف بعض المنشآت التي تشل حركة المواصلات لضمان عدم تتبع بقية الإخوان.
«وتتحدث الوثيقة بعد ذلك عن علاقات وزيارات ولقاءات لقطب بأفراد وشخصيات عامة ثم تنتهي بتقرير «إن العنف الذي عومل به الإخوان عام 1954 بناء على حادث مدبر لهم وليس منهم هو الذي أنشأ فكرة رد الاعتداء بالقوة.» ولاشك أن هذه الوثيقة وما تحمله من اعترافات تدور في محور تبرير العنف في التغيير، وهو نفس المنهج الذي اتبعته الجماعات المسلحة خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وانتهت إلى آلاف الضحايا وتكريس للاستبداد السياسي وتبرير للقوانين الاستثنائية المقيدة للحريات.
كما أن المتابع لمقالات سيد قطب في عامي 1952، 1953 يتعجب من ذلك التحريض الفظ من جانب الرجل ضد الحريات وتبنيه للدعوة إلى نفى الآخر تماما ،بل والى اقتلاعه تماما من المجتمع. يقول سيد قطب محرضا على الدستور في مقال له بجريدة الأخبار بتاريخ 8 أغسطس 1952 تحت عنوان «استجواب إلى البطل محمد نجيب»: «إن الرجعية اليوم تتستر بالدستور، وهذا الدستور لا يستطيع حمايتنا من الفساد إن لم تمضوا أنتم في التطهير الشامل الذي يحرم الملوثين من كل نشاط دستوري ولا يبيح الحرية إلا للشرفاء». ويتوسع خطاب سيد قطب المساند للديكتاتورية التي بدت على ثوار يوليو فيقول في ذات المقال «لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية شريرة خمسة عشر عاما أو تزيد.. أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة ستة أشهر!!.»….. وربما توضح هذه المقالة أصول فكرة المستبد العادل التي ترددت وقتها بين ثوار يوليو. إن الرجل يرى أن تحمل استبداد الثورة ضروري ولازم لإقامة دولة حديثة. وهو رأى غريب عانى منه كافة المختلفين مع الثوار وكان الإخوان المسلمون من بينهم.
وينقل الكاتب حلمي النمنم في كتابه «سيد قطب وثورة يوليو» نصوصاً كاملة من مقالات لسيد قطب كلها تصب في التحريض على الساسة والأحزاب من خارج الثورة. فمنها مثلا ما كتبه في جريدة الأخبار بتاريخ 15 أغسطس 1952 حول تظاهر العمال في كفر الدوار احتجاجا على الفساد حيث قال «هذه الحوادث المفتعلة في كفر الدوار لن تخيفنا. لقد كنا نتوقع ما هو أشد منها. إن الرجعية لن تقف مكتوفة الأيدي وهى تشهد مصرعها» ثم يضيف قائلا: «فلنضرب بسرعة. أما الشعب فعليه أن يحفر القبر وأن يهيل التراب»، وبالفعل اعتبرت ثورة يوليو أحداث كفر الدوار تحدىاً قوياً لاختبار قدرة الساسة الجدد على اتخاذ القرارات وأخذت بنصيحة «قطب» وأصدرت أحكاما قاسية على عمال كفر الدوار منها حكم بإعدام اثنين من العمال هما خميس والبقري وصدق مجلس قيادة الثورة على الأحكام.
ويكشف مقال آخر في مجلة روز اليوسف بتاريخ 29 سبتمبر 1952 آراء سيد قطب في عودة الأحزاب السياسية، ورفضه الشديد لفكرة التعددية حيث يقول « هذه الأحزاب ليست صالحة للبقاء، إنها ستتفتت وتنهار سواء طلب الجيش ذلك أم لم يطلبها، لقد استوفت أيامها وعاشت بعد أوانها». ويكتب الرجل في روز اليوسف بتاريخ 10 سبتمبر 1952 مؤيدا قرارات حركة الضباط ومحاكماتهم قائلا: «لأن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خير من أن ندع الثورة كلها تذبل وتموت… هل يصدق أحد أن يكتب شاعر ومفكر هذه الكلمات؟ فعلها الرجل وأراشيف الصحف شاهدة ولا نملك إلا أن نسأل الله له المغفرة.
وعلى هذه الأفكار خرج تلامذة أكثر عنفا وأشد دموية نادوا صراحة بتكفير الآخر والدعوة إلى قتاله كان أبرزهم شكري مصطفى الذي نادي بالهجرة من دار الكفر وتكفير المجتمع وانتهى به الحال إلى اختطاف الشيخ الذهبي وزير الأوقاف عام 1977 واغتياله برصاصة في عينه ليتم إعدامه عام 1978. منهم أيضا محمد عبد السلام فرج صاحب كتاب «الفريضة الغائبة» والعقل المدبر لاغتيال أنور السادات في أكتوبر 1981. ومنهم أيضا أيمن الظواهري القيادي بتنظيم القاعدة الذي يقول في كتاب «فرسان تحت راية النبي»: كانت ولا تزال دعوة سيد قطب إلى إخلاص التوحيد لله ولسيادة المنهج الرباني شرارة البدء في إشعال الثورة الإسلامية ضد أعداء الإسلام في الداخل والخارج.
الجماعة.. من مساندة طغيان الملكية إلى التحالف مع العسكر
في النضال إلى الحرية لا تسقط الجرائم السياسية بالتقادم، ولا تغفر الشعوب خطايا البشر.
كان الإخوان المسلمون دائما ضد الحرية، وضد العدالة، وضد الديمقراطية. لا يوجد طاغية مر بوادي النيل منذ تأسيس الجماعة ولم تتحالف معه، عبر كل العصور ساندوا الظلمة، وأيدوا المستبدين ثم ذاقوا مرار كؤوسهم. في عام 1930 ترفع الجهات الأمنية تقريرا إلى إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء ببعض المخاوف من توسع جماعة الإخوان، ويقرر وقتها «صدقي» استغلال الجماعة ضد الوفد حزب الأغلبية ويعرض عليهم إعانات مالية مقابل تأييد الحكومة ضد الوفد، ويعرف وقتها البنا حجم جماعته وقوتها ويقرر الانتقال بها إلى القاهرة. وبالفعل تخرج مظاهرات الإخوان رافعة لافتات تستخدم الآية القرآنية «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صديقا نبيا». ويتوافد المنضمون إلى الجماعة الوليدة وبعد عام واحد يرتفع عدد شعب الإخوان داخل القاهرة وقتها إلى 50 شعبة، ثم تعقد الجماعة أول مؤتمراتها عام 1933 ويتوالى الصعود والانتشار والتدخل في السياسة.
وفى عام 1936 يقوم الإخوان بتسيير مظاهرات في شوارع القاهرة تهتف «الله مع الملك» والمناداة باختيار فاروق خليفة للمسلمين. ويظهر أن البوليس المصري كان لديه تعليمات وقتها بحماية الإخوان ومساندتهم وهو ما أسهم في انفلات أعضاء الجماعة وأدى إلى موجة خروج مبكر لبعض الإصلاحيين الأوائل في الجماعة وعلى رأسهم الشيخ أحمد السكري نفسه. وقد اتهم المنشقون الشيخ بالبعد عن الشورى والاستبداد بالرأي والوقوف ضد الوفد حزب الأغلبية.
ويأخذ كثير من الباحثين على الشيخ البنا ما يعتبرونه انتهازية في ذلك الوقت والوقوف إلى جوار الظلم والطغيان. وقد دفع ذلك الزعيم أحمد حسين إلى كتابة سلسلة من المقالات يهاجم بها البنا ويشبهه بـ «راسبوتين» وهو أحد رجال الدين الذين ساندوا الحكومات المستبدة في روسيا القيصرية. ومنذ المؤتمر الأول والجماعة تتجه إلى إنشاء فرق للجوالة مهمتها القيام بالرياضة، ثم تحولت بعد ذلك إلى «كتائب» لحماية الدعوة والعمل العام، ثم أصبحت تلك الكتائب ميلشيات خاصة، كثير من أعضائها سريون وتقوم بأعمال اغتيال وتصفية سياسية لحساب من تعتقد أنه يقف في طريق الجماعة. وفى جريدة «النذير» عام 1938 يكتب «البنا» لأعضاء جماعته «إننا سنتحول من دعوة الكلام إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأفعال» ثم يقول «إنكم ستخاصمون جميع الساسة في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم».
إن حسن البنا يطالب بحل جميع الأحزاب السياسية وإفساح الطريق أمام جماعته. ويختلف مع كل من يقبل بمساندة الوفد أو أي حزب سياسي بل يفصله من جماعته. ومما كان يحكيه الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله انه كان حريصا على حضور لقاءات الثلاثاء في جماعة الإخوان وكان وفديا وقال يومها لحسن البنا أن الإخوان يجب أن يساندوا رجلا نزيها مثل مصطفى النحاس ففوجئ بالبنا غاضبا وقال له: إن الوفد بشكل خاص هو أعدى أعدائنا، لأننا يمكننا أن نبصق على جميع الأحزاب السياسية، إلا الوفد. يومها ترك الشيخ الشعراوي الإخوان ولم يعد مرة أخرى.
وبعد قيام ثورة يوليو يتخذ الإخوان موقفا مساندا يدفع قادتهم ومفكريهم إلى الصمت عن حل الأحزاب وكتابة مقالات في الصحف تحرض ضد الساسة القدامى وتؤيد إيقاف الدستور وكان من أبرزها مقالات سيد قطب في روز اليوسف. ولم يلبث أن انقلب عبد الناصر على الإخوان وساقهم إلى السجون والمشانق بعد أن لعبوا دور «سنمار» في بناء دولته.
ويأتي أنور السادات ليستعين بالإخوان في مواجهة الناصريين واليساريين المعارضين، ويخرج الإسلاميون للعمل العلني ويسيطرون على النقابات واتحادات الطلبة ثم لا يلبث أن يتم اغتيال السادات نفسه على أياديهم وسط رجاله. لذا لم يكن غريبا على الجماعة أن تخاصم كل القوى السياسية الليبرالية وتتحالف مع المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير وترفض المشاركة في نصرة الشباب والثوار في شارع محمد محمود ومجلس الوزراء، بل تحرض ضدهم.
القتل باسم السماء..
اغتالوا «النقراشي» و«ماهر» و«الخازندار» وأسسوا تنظيماً لردع المعارضين
وفي الوقت نفسه ومع المضي في برنامج تربوي كهذا لابد من حماية الحركة من الاعتداء عليها من الخارج.. وهذه الحماية تتم عن طريق وجود مجموعات مدربة تدريبا فدائيا بعد تمام تربيتها الإسلامية. من قاعدة العقيدة ثم الخلق فإن هذه المجموعات لا تدخل في الأحداث الجارية ولكنها تدخل عند الاعتداء على الحركة والدعوة والجماعة لرد الاعتداء وضرب القوة المعتدية بالقدر الذي يسمح للحركة أن تستمر في طريقها.
سيد قطب معالم على الطريق
نظرة واحدة متأنية للتاريخ المعاصر تبين أن جماعة الإخوان المسلمين أول من اتجه لتسييس الإسلام واستخدام الدين في تحقيق مغانم ومكاسب سياسية. الجماعة التي نشأت عام 1928، على يد حسن البنا في أحد مراكز محافظة البحيرة، وفي عام 1931 بعد إشهار الجماعة برز نشاطها في القاهرة حيث أسس البنا عددا من الشُعَب في أكثر من محافظة، تعامل معها الاحتلال الإنجليزي بصفتها ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، أي يمكن تصنيفها بكونها حزبًا سياسيًا، لمواجهة فاعلية شيوخ ورموز النهضة العربية الأولى، وكتبهم التي بدأت تشكل مرجعا لتيارات سياسية ذات طابع استقلالي، أو التي كانت تطالب بخروج الاستعمار، على المستوى الفكري، إضافة إلى مواجهتها لأحزاب أخرى كانت تكتسح الساحة السياسية كحزب الوفد ومصر الفتاة. واللافت للنظر أن الإخوان المسلمين أخذوا على عاتقهم مهمة القضاء على التيار الشيوعي حيث طلب حسن البنا من السفارة الأمريكية وقتها تكوين مكتب مشترك بين الإخوان والأمريكيين لمكافحة الشيوعية على أن يكون معظم أعضائه من الإخوان، وتتولى أمريكا إدارة المكتب ودفع مرتبات أعضاء الإخوان فيه. وهذا الطلب، إن صح، فهو يدل على عمق العلاقة كتبادل مصلحي.
وما ميز المرحلة التأسيسية للإخوان وما بعدها حتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين هو فترة الاغتيالات السياسية التي كانت تتم بمباركة القصر تارة أو الاحتلال الإنجليزي تارة أخرى. ورغم أن الاغتيالات السياسية في تلك الفترة كانت منتشرة في كل الحركات السياسية في العالم وليست مقتصرة على الإخوان، والانجليز وكل العالم الغربي، والقوى السياسية المصرية كانت تتعامل مع الإخوان المسلمين بصفتهم حزبًا سياسيًا في الدرجة الأولى والأخيرة، ولم يجرِ التعامل معهم على أنهم تعبير أو ممثل سياسي وثقافي وحيد للإسلام وللمسلمين، وبقيت هذه المعاملة حتى التسعينيات من القرن الماضي. في هذا الوقت كان النظر إلى العنف مشطورًا بانشطار العالم إلى معسكرين، منهم من يراه عنفًا ثوريًا، «المعسكر الشيوعي الشرقي بزعامة السوفييت»، ومنهم من يراه إجرامًا وسفكاً للدماء «المعسكر الغربي»، ولكن الأطرف من كل هذا، أن مفهوم العنف الإجرامي «الإرهاب» كان يتبدل من مكان إلى آخر، فتارة الغرب يمجد العنف ويساعده في مكان ويجرِّمه في مكان آخر، وتارة أيضًا السوفييت يجرمون العنف في مكان ويساعدونه ويعتبرونه ثوريًا في مكان آخر، في تبادل أدوار ومواقع ورمزيات بين الغرب والشرق حسب الرؤى والمصالح.
وخير دليل على تلك الرؤية أن الغرب لم يجرم آنذاك أي نوع من أنواع العنف الذي مارسه الإخوان المسلمون في كل دول العالم، لسبب بسيط أنه كان موجهًا ضد القوى المحسوبة على المعسكر الشرقي، لهذا كانت الدول التي تسمى إسلامية في غالبيتها تعيش معركة في صفوف الغرب ضد الشرق.
اغتيال أحمد باشا ماهر.. البنا سقط في الانتخابات ورجاله اغتالوا رئيس الوزراء
في 24 من فبراير 1945 كان «أحمد ماهر» باشا متوجهاً لمجلس النواب لإلقاء بيان، وأثناء مروره بالبهو الفرعوني قام «محمود العيسوي» بإطلاق الرصاص عليه وقتله في الحال، وبعد الحادث تم إلقاء القبض على كل من «حسن البنا، وأحمد السكري، وعبد الحكيم عابدين» ولكن بعد أيام تم الإفراج عنهم نتيجة الاعتراف «العيسوي» بأنه ينتمي للحزب الوطني، وتأتي شهادة «أحمد حسن الباقوري» التي خطها بيده في كتابه «بقايا ذكريات» لتثبت انتماء «العيسوي» للإخوان، التي أقر فيها بأن أعضاء «النظام الخاص» داخل الإخوان لم يكونوا معروفين إلا لفئة قليلة، وقد قرروا الانتقام من أحمد ماهر بعد إسقاط «البنا» في انتخابات الدائرة بالإسماعيلية وكان العيسوي من أكثر المتحمسين لذلك.