مولى أبي تراب
25-01-2013, 02:50 PM
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ... وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْنَ
---------------------
معنى قول الفقهاء ( في نفسه )
كثيراً ما يذكر الفقهاء - وخاصة عند الإجابة على بعض الاستفتاءات الموجهة اليهم - عندما يذكرون حكماً معيناً كالجواز مثلاً هذه العبارة : ( في نفسه ) أو ( في حد نفسه ) أو ( في ذاته ) ، فيقولون مثلاً جائز في نفسه أو لا بأس به في حد نفسه ونحو ذلك ، فما المقصود من هذه العبارة ؟
قبل الإجابة نذكر بعض الأمثلة من كلام الفقهاء التي ورد فيها هذا التعبير :
1. منهاج الصالحين - السيد السيستاني 1 / 31
لا يجب الاستنجاء أي تطهير مخرج البول والغائط في نفسه ، ولكنه يجب لما يعتبر فيه طهارة البدن .
2. منية السائل - السيد الخوئي - ص 111
س / في كليات الطب يتحتم على الطالب أن يقوم بفحص المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي وقد يصل الفحص إلى منطقة العورة ( القبل والدبر ) وهذا الأمر لا بد من المرور به بالنسبة لطالب الطب أثناء دراسته العامة ولا مفر منه هل يجوز لطالب الطب أثناء دراسته أن يمارس هذا الأمر وهل يجري الحكم على الطبيب كما يجري على طالب الطب ؟
ج / العمل المذكور غير جائز في نفسه ولكن إذا توقف حفظ النفوس المحترمة على العمل المزبور ولو في المستقبل فهو جائز وكذلك الحكم بالنسبة إلى الطبيب .
3. منية السائل - السيد الخوئي - ص 177
س / هل تناول نوع من أنواع العقاقير الطبية من قبل المرأة لمنع العادة الشهرية جائز أم لا ؟
ج / نعم يجوز ذلك في حد نفسه .
4. صراط النجاة 1 / 432
سؤال 1183 : هل ثمة إشكال في إدماء الرأس ( التطبير ) على ما هو المعهود المعروف في بعض مظاهر إظهار الحزن وإشادة العزاء على روح إمامنا المفدى أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع فرض أمن الضرر ؟
الخوئي : لا إشكال في ذلك في مفروض السؤال في نفسه ، والله العالم .
5. إرشاد السائل - الكلبايكاني - ص 138
س 522 / إذا كان العمل هو تنظيف الصحون والكؤوس التي يوضع فيها اللحم الحرام والخمر ، هل يجوز ذلك ؟
بسمه تعالى : لا بأس بهذا العمل في حد نفسه ، والله العالم .
6. منهج الصالحين - السيد الصدر 2 / 14
الاعتكاف في نفسه مندوب ، ويجب بالعارض من نذر وشبهه .
الى ما شاء الله من الأمثلة الكثيرة ، ولبيان المعنى نقول :
إن لكل شيء في الشريعة حكماً شرعياً تكليفياً من وجوب أو حرمة أو استحباب أو كراهة أو إباحة ، وقد تتصف بعض الأشياء إن لم تكن كلها بحكمين شرعيين كالحرمة والإباحة أو الوجوب والحرمة وذلك بلحاظين مختلفين ، فمن جهة هو حرام وقد يكون من جهة أخرى جائزاً مباحاً ، أو يكون حراماً بلحاظ معين واجباً بلحاظ آخر كأكل الميتة إذا توقف عليه حفظ النفس ، والسبب في تغير حكم الشيء هو اختلاف العنوان الذي يتعنّون به ذلك الشيء والصفة التي يتلبس بها فالاعتكاف بعنوان كونه اعتكافاً فهو مندوب لكن وبعنوان كونه منذوراً فهو واجب كما في المثال الأخير ، والفحص الطبي بعنوان كونه كشفاً على العورة حرام وبعنوان توقف حفظ النفوس المحترمة عليه فهو جائز كما في المثال الثاني بل قد يكون واجباً كفائياً
إذن الفعل يتصف بحكمين بسبب اتصافه بعنوانين لهما حكمان مختلفان ، ولا بد من التنويه الى أن أحد هذين العنوانين هو العنوان الأصلي والآخر عنوان عرَضي طارئ ، فكون الاعتكاف منذوراً هذا شيء عارض على الاعتكاف وكونه اعتكافاً هو العنوان الأصلي ، وبعبارة أخرى أحد العنوانين ذاتي يمثل حقيقة الشيء وذاته وينطبق على الفعل بما هو فعل ومع قطع النظر عن أي صفة خارجية ، والآخر عرضي يمثل اتصاف الشيء بصفة عارضة وخارجية ، فعنوان الاعتكاف إنما صار أصلياً لأنه يمثل حقيقة الفعل وهي اللبث في المسجد بكيفية مخصوصة وأما عنوان كونه منذوراً فهو عرضي لأنه يشير الى اتصاف الفعل وهو الاعتكاف بصفة خارجية وهي النذر والنذر ليس من حقيقة اللبث في المسجد أي الاعتكاف .
وإذا كان العنوانان أحدهما أصلي والآخر عرضي فالحكمان كذلك أحدهما أصلي وهو الحكم الذي يتعلق بالشيء بعنوانه الأصلي ويسمى بالحكم الأولي لأنه ثابت للشيء في حالته الأصلية الأولية ، والآخر حكم عرَضي وهو المتعلق بالشيء بعنوانه العرضي ويسمى بالحكم الثانوي لأنه ثابت للشيء في حالة ثانوية طارئة ، وكمثال آخر الصلاة اليومية فإذا سألنا عن حكمها في الشريعة كان الجواب أنها واجبة وهذا حكم أصلي أولي لأنه ثابت للصلاة بما هي صلاة من دون أي صفة أخرى ولذات الصلاة وفي حالتها الاعتيادية ، ولكن إذا سألنا الفقيه عن حكم الصلاة في المكان المغصوب لأجاب بأنها حرام وهذا الحكم بالحرمة حكم ثانوي ثبت للصلاة في حالة عرضية طارئة وهي اتصاف الصلاة بصفة خارجية وهي كونها غصباً فأفعال الصلاة من ركوع وسجود وغيرهما حكمها الوجوب بلحاظ عنوانها الأصلي وهو عنوان الصلاة وهو حكمها الأولي الثابت لها في حالتها الاعتيادية التي أمر بها الشارع ، وحكمها الحرمة بلحاظ انطباق عنوان آخر عليها وهو عنوان الغصبية وكونها تصرفاً في ملك الغير بغير إذنه والغصبية صفة عارضة على أفعال الصلاة وليست من حقيقتها فهو عنوان ثانوي والحكم بحرمة الصلاة في المكان المغصوب حكم ثانوي لأنه ثابت لأفعال الصلاة لا بعنوان كونها صلاة بل بعنوان ثانوي وهو الغصبية
خلاصة القول / إن لكل فعل في الشريعة حكم واقعي أولي ثابت له بعنوانه الأولي وفي حالته الطبيعية الأولية ، وقد يكون له حكم آخر مغاير للحكم الأولي يسمى بالحكم الثانوي يثبت له في حالة ثانوية وعند عروض عنوان ثانوي مغاير للعنوان الأولي وعند اتصافه بصفة خارجية ليست من حقيقته .
إذا عرفت ذلك فاعلم إن قول الفقهاء : ( في نفسه ) أو ( في حد نفسه ) أو ( في ذاته ) ونحو ذلك يقصدون الحكم الأولي للشيء الثابت له في نفسه بعنوانه الأصلي ، أي عندما نلحظه بذاته من دون افتراض وجود حالة عرضية ثانوية له فهذا هو حكمه الذي هو الحكم الأولي الواقعي الأصلي ، وفي نفس الوقت يريدون الإشارة الى أنه يمكن أن يكون له حكم آخر غير هذا الحكم عندما لا نلحظه في نفسه لكنه ليس حكماً في نفسه بل حكم ثانوي ، فقول السيد الخوئي قدس سره في المثال الرابع المتقدم في بيان حكم التطبير أنه لا إشكال في ذلك في نفسه يقصد أن الحكم الأولي للتطبير هو الجواز وعدم الإشكال أي إذا تكلمنا عن نفس التطبير وبعنوانه الأصلي وبحقيقته وهي إدماء الرأس فلا إشكال فيه ، وفي نفس الوقت يريد السيد الإشارة الى أن هذا الحكم يمكن أن يتغير ويكون في التطبير إشكال عندما لا نلحظه في نفسه أي عندما ينطبق عليه عنوان آخر كعنوان الإضرار المحرّم بالنفس ، وكأن الفقيه يريد تنبيه المكلف الى أن الحكم المذكور ليس حكماً مطلقاً وغير قابل للتغيير بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الحالات فقوله لا إشكال فيه لا يعني أنه كذلك دائماً .
إذن قول الفقيه ( في نفسه ) أي هذا هو الحكم الأولي الثابت للشيء بلحاظ ذاته وعنوانه الأولي ، ويمكن أن يكون له حكم آخر مغاير بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خارجية تقتضي خلاف الحكم الأولي ويشير الى هذا المعنى جواب هذا الاستفتاء الموجه الى مكتب السيد السيستاني :
299 . السؤال : في الإجابة على سؤال ما حكم كشف وجه المرأة في منطقة القطيف جاء رد سماحتكم يجوز في نفسه فما المقصود بكلمة نفسه ؟
الجواب : ربما تكون ظروف خاصة تمنع ذلك كما لو علمت المرأة بأن إبداء وجهها موجب لوقوعها أو غيرها في المفسدة . ( استفتاءات - السيد السيستاني 83 )
فظاهر الاستفتاء أنه في جواب استفتاء سابق عن حكم كشف الوجه للمرأة كان الجواب : يجوز في نفسه ، وفي هذا الاستفتاء تم إيضاح هذا التعبير ، وحاصل الإيضاح أننا إنما قلنا في نفسه للتنبيه على أن كشف الوجه حكمه الأولي هو الجواز خلافاً للسيد الخوئي الذي كان يحتاط لزوماً بعدم جواز كشفه أمام الأجانب ، ولكن هذا الحكم بالجواز الثابت لكشف الوجه في نفسه قد يتغير ويصير الكشف ممنوعاً غير جائز لظروف خاصة وعناوين ثانوية كالإيقاع في المفسدة فمن حيث كونه كشفاً هو جائز لعدم وجوب ستر الوجه لكن من حيث كونه موجباً للمفسدة فهو غير جائز فلولا الإيقاع في المفسدة فهو جائز في نفسه .
وخلاصة القول / قول الفقيه في نفسه معناه أننا لو كنا والحالة الطبيعية والاعتيادية والأولية للشي فهذا هو حكمه ، لكن هذا الحكم قد يتغير عند حصول عوارض وطوارئ خارجية وعناوين ثانوية من قبيل عنوان الضرر وعنوان الحرج والمفسدة واختلال النظام وعنوان حفظ المصالح العامة وحفظ النفوس المحترمة ونحو ذلك ، فهي عناوين طارئة وثانوية توجب تغيير الأحكام الأصلية للأشياء وتكون حاكمة ومقدمة على العناوين الأولية الأصلية وبالتالي يجب الالتزام بالأحكام الثانوية لا الأولية فمن نذر الأعتكاف لا يصح أن يقول هو مستحب في نفسه فيجوز أن أتركه بل يجب عليه فعله لأنه منذور ، ولا يجوز للمرأة كشف وجهها مع كون كشفه موجباً للوقوع في المفسدة بحجة أن الكشف جائز في نفسه بل يحرم الكشف لمكان العنوان الثانوي وهو الوقوع في المفسدة ، وهكذا .
ونشير الى أن الحكم الثانوي ليس بالضرورة أن يكون واحداً وثابتاً دائماً بل يمكن أن يكون متعدداً فيكون للشيء أكثر من حكم ثانوي وذلك لتعدد العناوين الثانوية الطارئة عليه وإن كان قد يذوب أحدهما في الآخر كطرو عنوانين أحدهما يقتضي الحرمة والآخر يقتضي الكراهة ، كما أن العنوان الثانوي عنوان متغير غير ثابت دائماً فما يكون موجباً للضرر في حال قد لا يكون كذلك في حال أخرى ، وما يكون موجباً لحصول المفسدة في زمان أو مكان قد لا يكون كذلك في غيرهما وهكذا ، ويبقى تشخيص العنوان الثانوي أمر مهم وهو ما يقع فيه الخلاف عادة وذلك لاختلاف الناس في التشخيص .
تنويه / قد يذكر الفقهاء هذا التعبير ( في نفسه ) ولا يقصدون المعنى المتقدم وهو حكم الشيء بعنوانه الذاتي الأصلي وحالته الأولية بقطع النظر عن الحالات الطارئة عليه ، وإنما يقصدون معنى آخر ، كقولهم في شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ( أن لا يخاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ترتب ضرر عليه في نفسه ) أي أن لا يحصل ضرر شخصي عليه كالضرر في بدنه مثلاً ، وقولهم ( وأما حج الافراد فهو عمل مستقل في نفسه ) أي بذاته غير مرتبط بالعمرة المفردة فليس هو كحج التمتع المرتبط بعمرة التمتع ، وقولهم ( الوضوء مستحب في نفسه ) أي استحبابه نفسي في مقابل الاستحباب الغيري أي استحبابه ليس لأجل غيره من الأفعال بل هو مستحب بذاته وعبادة مستقلة لاشتماله على مصلحة ذاتية توجب استحبابه وكونه محبوباً للمولى في نفسه في مقابل بعض الأفعال التي هي محبوبة للمولى لتوقف أفعال أخرى راجحة عليها وليس لذاتها ، الى غير ذلك من الأمثلة ، ويمكن معرفة المراد لمن خَبَر كلام الفقهاء وحصل عنده الاستئناس بلغتهم .
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ... وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِيْنَ
---------------------
معنى قول الفقهاء ( في نفسه )
كثيراً ما يذكر الفقهاء - وخاصة عند الإجابة على بعض الاستفتاءات الموجهة اليهم - عندما يذكرون حكماً معيناً كالجواز مثلاً هذه العبارة : ( في نفسه ) أو ( في حد نفسه ) أو ( في ذاته ) ، فيقولون مثلاً جائز في نفسه أو لا بأس به في حد نفسه ونحو ذلك ، فما المقصود من هذه العبارة ؟
قبل الإجابة نذكر بعض الأمثلة من كلام الفقهاء التي ورد فيها هذا التعبير :
1. منهاج الصالحين - السيد السيستاني 1 / 31
لا يجب الاستنجاء أي تطهير مخرج البول والغائط في نفسه ، ولكنه يجب لما يعتبر فيه طهارة البدن .
2. منية السائل - السيد الخوئي - ص 111
س / في كليات الطب يتحتم على الطالب أن يقوم بفحص المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي وقد يصل الفحص إلى منطقة العورة ( القبل والدبر ) وهذا الأمر لا بد من المرور به بالنسبة لطالب الطب أثناء دراسته العامة ولا مفر منه هل يجوز لطالب الطب أثناء دراسته أن يمارس هذا الأمر وهل يجري الحكم على الطبيب كما يجري على طالب الطب ؟
ج / العمل المذكور غير جائز في نفسه ولكن إذا توقف حفظ النفوس المحترمة على العمل المزبور ولو في المستقبل فهو جائز وكذلك الحكم بالنسبة إلى الطبيب .
3. منية السائل - السيد الخوئي - ص 177
س / هل تناول نوع من أنواع العقاقير الطبية من قبل المرأة لمنع العادة الشهرية جائز أم لا ؟
ج / نعم يجوز ذلك في حد نفسه .
4. صراط النجاة 1 / 432
سؤال 1183 : هل ثمة إشكال في إدماء الرأس ( التطبير ) على ما هو المعهود المعروف في بعض مظاهر إظهار الحزن وإشادة العزاء على روح إمامنا المفدى أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع فرض أمن الضرر ؟
الخوئي : لا إشكال في ذلك في مفروض السؤال في نفسه ، والله العالم .
5. إرشاد السائل - الكلبايكاني - ص 138
س 522 / إذا كان العمل هو تنظيف الصحون والكؤوس التي يوضع فيها اللحم الحرام والخمر ، هل يجوز ذلك ؟
بسمه تعالى : لا بأس بهذا العمل في حد نفسه ، والله العالم .
6. منهج الصالحين - السيد الصدر 2 / 14
الاعتكاف في نفسه مندوب ، ويجب بالعارض من نذر وشبهه .
الى ما شاء الله من الأمثلة الكثيرة ، ولبيان المعنى نقول :
إن لكل شيء في الشريعة حكماً شرعياً تكليفياً من وجوب أو حرمة أو استحباب أو كراهة أو إباحة ، وقد تتصف بعض الأشياء إن لم تكن كلها بحكمين شرعيين كالحرمة والإباحة أو الوجوب والحرمة وذلك بلحاظين مختلفين ، فمن جهة هو حرام وقد يكون من جهة أخرى جائزاً مباحاً ، أو يكون حراماً بلحاظ معين واجباً بلحاظ آخر كأكل الميتة إذا توقف عليه حفظ النفس ، والسبب في تغير حكم الشيء هو اختلاف العنوان الذي يتعنّون به ذلك الشيء والصفة التي يتلبس بها فالاعتكاف بعنوان كونه اعتكافاً فهو مندوب لكن وبعنوان كونه منذوراً فهو واجب كما في المثال الأخير ، والفحص الطبي بعنوان كونه كشفاً على العورة حرام وبعنوان توقف حفظ النفوس المحترمة عليه فهو جائز كما في المثال الثاني بل قد يكون واجباً كفائياً
إذن الفعل يتصف بحكمين بسبب اتصافه بعنوانين لهما حكمان مختلفان ، ولا بد من التنويه الى أن أحد هذين العنوانين هو العنوان الأصلي والآخر عنوان عرَضي طارئ ، فكون الاعتكاف منذوراً هذا شيء عارض على الاعتكاف وكونه اعتكافاً هو العنوان الأصلي ، وبعبارة أخرى أحد العنوانين ذاتي يمثل حقيقة الشيء وذاته وينطبق على الفعل بما هو فعل ومع قطع النظر عن أي صفة خارجية ، والآخر عرضي يمثل اتصاف الشيء بصفة عارضة وخارجية ، فعنوان الاعتكاف إنما صار أصلياً لأنه يمثل حقيقة الفعل وهي اللبث في المسجد بكيفية مخصوصة وأما عنوان كونه منذوراً فهو عرضي لأنه يشير الى اتصاف الفعل وهو الاعتكاف بصفة خارجية وهي النذر والنذر ليس من حقيقة اللبث في المسجد أي الاعتكاف .
وإذا كان العنوانان أحدهما أصلي والآخر عرضي فالحكمان كذلك أحدهما أصلي وهو الحكم الذي يتعلق بالشيء بعنوانه الأصلي ويسمى بالحكم الأولي لأنه ثابت للشيء في حالته الأصلية الأولية ، والآخر حكم عرَضي وهو المتعلق بالشيء بعنوانه العرضي ويسمى بالحكم الثانوي لأنه ثابت للشيء في حالة ثانوية طارئة ، وكمثال آخر الصلاة اليومية فإذا سألنا عن حكمها في الشريعة كان الجواب أنها واجبة وهذا حكم أصلي أولي لأنه ثابت للصلاة بما هي صلاة من دون أي صفة أخرى ولذات الصلاة وفي حالتها الاعتيادية ، ولكن إذا سألنا الفقيه عن حكم الصلاة في المكان المغصوب لأجاب بأنها حرام وهذا الحكم بالحرمة حكم ثانوي ثبت للصلاة في حالة عرضية طارئة وهي اتصاف الصلاة بصفة خارجية وهي كونها غصباً فأفعال الصلاة من ركوع وسجود وغيرهما حكمها الوجوب بلحاظ عنوانها الأصلي وهو عنوان الصلاة وهو حكمها الأولي الثابت لها في حالتها الاعتيادية التي أمر بها الشارع ، وحكمها الحرمة بلحاظ انطباق عنوان آخر عليها وهو عنوان الغصبية وكونها تصرفاً في ملك الغير بغير إذنه والغصبية صفة عارضة على أفعال الصلاة وليست من حقيقتها فهو عنوان ثانوي والحكم بحرمة الصلاة في المكان المغصوب حكم ثانوي لأنه ثابت لأفعال الصلاة لا بعنوان كونها صلاة بل بعنوان ثانوي وهو الغصبية
خلاصة القول / إن لكل فعل في الشريعة حكم واقعي أولي ثابت له بعنوانه الأولي وفي حالته الطبيعية الأولية ، وقد يكون له حكم آخر مغاير للحكم الأولي يسمى بالحكم الثانوي يثبت له في حالة ثانوية وعند عروض عنوان ثانوي مغاير للعنوان الأولي وعند اتصافه بصفة خارجية ليست من حقيقته .
إذا عرفت ذلك فاعلم إن قول الفقهاء : ( في نفسه ) أو ( في حد نفسه ) أو ( في ذاته ) ونحو ذلك يقصدون الحكم الأولي للشيء الثابت له في نفسه بعنوانه الأصلي ، أي عندما نلحظه بذاته من دون افتراض وجود حالة عرضية ثانوية له فهذا هو حكمه الذي هو الحكم الأولي الواقعي الأصلي ، وفي نفس الوقت يريدون الإشارة الى أنه يمكن أن يكون له حكم آخر غير هذا الحكم عندما لا نلحظه في نفسه لكنه ليس حكماً في نفسه بل حكم ثانوي ، فقول السيد الخوئي قدس سره في المثال الرابع المتقدم في بيان حكم التطبير أنه لا إشكال في ذلك في نفسه يقصد أن الحكم الأولي للتطبير هو الجواز وعدم الإشكال أي إذا تكلمنا عن نفس التطبير وبعنوانه الأصلي وبحقيقته وهي إدماء الرأس فلا إشكال فيه ، وفي نفس الوقت يريد السيد الإشارة الى أن هذا الحكم يمكن أن يتغير ويكون في التطبير إشكال عندما لا نلحظه في نفسه أي عندما ينطبق عليه عنوان آخر كعنوان الإضرار المحرّم بالنفس ، وكأن الفقيه يريد تنبيه المكلف الى أن الحكم المذكور ليس حكماً مطلقاً وغير قابل للتغيير بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الحالات فقوله لا إشكال فيه لا يعني أنه كذلك دائماً .
إذن قول الفقيه ( في نفسه ) أي هذا هو الحكم الأولي الثابت للشيء بلحاظ ذاته وعنوانه الأولي ، ويمكن أن يكون له حكم آخر مغاير بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خارجية تقتضي خلاف الحكم الأولي ويشير الى هذا المعنى جواب هذا الاستفتاء الموجه الى مكتب السيد السيستاني :
299 . السؤال : في الإجابة على سؤال ما حكم كشف وجه المرأة في منطقة القطيف جاء رد سماحتكم يجوز في نفسه فما المقصود بكلمة نفسه ؟
الجواب : ربما تكون ظروف خاصة تمنع ذلك كما لو علمت المرأة بأن إبداء وجهها موجب لوقوعها أو غيرها في المفسدة . ( استفتاءات - السيد السيستاني 83 )
فظاهر الاستفتاء أنه في جواب استفتاء سابق عن حكم كشف الوجه للمرأة كان الجواب : يجوز في نفسه ، وفي هذا الاستفتاء تم إيضاح هذا التعبير ، وحاصل الإيضاح أننا إنما قلنا في نفسه للتنبيه على أن كشف الوجه حكمه الأولي هو الجواز خلافاً للسيد الخوئي الذي كان يحتاط لزوماً بعدم جواز كشفه أمام الأجانب ، ولكن هذا الحكم بالجواز الثابت لكشف الوجه في نفسه قد يتغير ويصير الكشف ممنوعاً غير جائز لظروف خاصة وعناوين ثانوية كالإيقاع في المفسدة فمن حيث كونه كشفاً هو جائز لعدم وجوب ستر الوجه لكن من حيث كونه موجباً للمفسدة فهو غير جائز فلولا الإيقاع في المفسدة فهو جائز في نفسه .
وخلاصة القول / قول الفقيه في نفسه معناه أننا لو كنا والحالة الطبيعية والاعتيادية والأولية للشي فهذا هو حكمه ، لكن هذا الحكم قد يتغير عند حصول عوارض وطوارئ خارجية وعناوين ثانوية من قبيل عنوان الضرر وعنوان الحرج والمفسدة واختلال النظام وعنوان حفظ المصالح العامة وحفظ النفوس المحترمة ونحو ذلك ، فهي عناوين طارئة وثانوية توجب تغيير الأحكام الأصلية للأشياء وتكون حاكمة ومقدمة على العناوين الأولية الأصلية وبالتالي يجب الالتزام بالأحكام الثانوية لا الأولية فمن نذر الأعتكاف لا يصح أن يقول هو مستحب في نفسه فيجوز أن أتركه بل يجب عليه فعله لأنه منذور ، ولا يجوز للمرأة كشف وجهها مع كون كشفه موجباً للوقوع في المفسدة بحجة أن الكشف جائز في نفسه بل يحرم الكشف لمكان العنوان الثانوي وهو الوقوع في المفسدة ، وهكذا .
ونشير الى أن الحكم الثانوي ليس بالضرورة أن يكون واحداً وثابتاً دائماً بل يمكن أن يكون متعدداً فيكون للشيء أكثر من حكم ثانوي وذلك لتعدد العناوين الثانوية الطارئة عليه وإن كان قد يذوب أحدهما في الآخر كطرو عنوانين أحدهما يقتضي الحرمة والآخر يقتضي الكراهة ، كما أن العنوان الثانوي عنوان متغير غير ثابت دائماً فما يكون موجباً للضرر في حال قد لا يكون كذلك في حال أخرى ، وما يكون موجباً لحصول المفسدة في زمان أو مكان قد لا يكون كذلك في غيرهما وهكذا ، ويبقى تشخيص العنوان الثانوي أمر مهم وهو ما يقع فيه الخلاف عادة وذلك لاختلاف الناس في التشخيص .
تنويه / قد يذكر الفقهاء هذا التعبير ( في نفسه ) ولا يقصدون المعنى المتقدم وهو حكم الشيء بعنوانه الذاتي الأصلي وحالته الأولية بقطع النظر عن الحالات الطارئة عليه ، وإنما يقصدون معنى آخر ، كقولهم في شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ( أن لا يخاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ترتب ضرر عليه في نفسه ) أي أن لا يحصل ضرر شخصي عليه كالضرر في بدنه مثلاً ، وقولهم ( وأما حج الافراد فهو عمل مستقل في نفسه ) أي بذاته غير مرتبط بالعمرة المفردة فليس هو كحج التمتع المرتبط بعمرة التمتع ، وقولهم ( الوضوء مستحب في نفسه ) أي استحبابه نفسي في مقابل الاستحباب الغيري أي استحبابه ليس لأجل غيره من الأفعال بل هو مستحب بذاته وعبادة مستقلة لاشتماله على مصلحة ذاتية توجب استحبابه وكونه محبوباً للمولى في نفسه في مقابل بعض الأفعال التي هي محبوبة للمولى لتوقف أفعال أخرى راجحة عليها وليس لذاتها ، الى غير ذلك من الأمثلة ، ويمكن معرفة المراد لمن خَبَر كلام الفقهاء وحصل عنده الاستئناس بلغتهم .
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين