kumait
23-02-2013, 04:44 PM
من يوميات مستخدَمة
حسناء فتاحي - قاصة من المغرب العربي
يتسلل شعاع أبيض ضئيل من باب غرفتها المطل على المطبخ، تصحو شيئا فشيئا، تستفيق، تتفحص هاتفها المحمول على الطرف اليمين من سريرها، الساعة السادسة و النصف، ليس هذا وقت إطالة النوم، تحس جسدها ثقيلا وعيناها مغمضتان، تبذل جهدا كبيرا لفتحهما، و تحرك جسدها بجهد أكبر.
ثقيلة استفاقة الصباح هاته، رغم أن الجو لا زال خريفيا و لا زلنا بعيدين عن فصل الشتاء، لكن العمل المتراكم و التعب المتزايد، يجعل الجسم ثقيلا و الحركة صعبة. تنهض من فراشها، تتجه إلى الحمام القريب من غرفتها، تدخل المطبخ و عيناها لا زالتا مغمضتين، تجد الأشياء بصعوبة، تبدأ في تحضير الفطور، تسمع صوت الزوج في الحمام، تتذكر أنه لم يستفيق أحد من الأطفال بعد، تذهب إليهم في غرفهم، تناديهم بأسمائهم، لا أحد يسمع أو لا أحد يريد أن يفيق، تعود إلى المطبخ، تكمل تحضير الفطور، تتقابل و الزوج في غرفة الطعام، تبادر بإلقاء تحية الصباح، "صباح الخير عْزيزي"، يرد التحية، يلاحظ عدم نهوض الأطفال من النوم، "فاطمة تنقول ليك دائما فيقي الولاد عاد وجدي الفطور"، ترد أن هذا ما فعلته لكنهم لم يستفيقوا، يدخل هو إلى غرفهم يصيح بأسمائهم بعد ثواني يجدون أنفسهم في الحمام. تلحق بالأطفال إلى غرفهم، تساعدهم على جمع حقائبهم المدرسية و ارتداء ملا بسهم، الولد كعادته يبحث عن مقرر معين أو دفتر أضاعه، تبحث معه تحت السرير، في الدولاب أو تحت طاولة الحاسوب، لا تجد شيئا، يعقب الولد: "انتي عمرك ما كتلقاي شي حاجة" و في النهاية يُعثر عما يبحث عنه.
تظل بجانب الطفلين حتى ينتهيا من تناول الإفطار، تحمل حقائبهم المدرسية و تأخذ معهم المصعد، يقفن أمام باب الإقامة إلى أن تأتي سيارة النقل المدرسي. عندما تنطلق السيارة بالأطفال، تعود هي إلى البيت، تجد الزوج و الزوجة على مائدة الإفطار، تبادر: " صباح الخير لللا أمال" ترد السيدة أمال التحية و تسأل مباشرة عن قميصها الوردي الذي لم تجده، ترد فاطمة أنها وضعته في الدولاب مع الملابس المكوية حديثا، تؤكد السيدة أنها لم تجده، تذهب فاطمة و تعود لتخبرها أنها و ضعته فوق السرير، تنهمك في ترتيب غرف الأطفال، تلحق بها السيدة، تعطيها التعليمات الخاصة بتحضير وجبات الغداء والعشاء. لا تتعب من ترديد نفس الملاحظات و التذكير بنفس الأشياء يوميا، توصيها بأن تجبر الولد على تناول وجبة الغداء بأكملها أو جلها، لأنه قليل الأكل. و بزيادة كمية الفلفل الحار بطبق الأرز لأنها لا تأكله بدون ذلك.
يخرج الزوجان، تطل من النافذة، تتأكد أنهما انطلقا كل بسيارته، تتنفس الصعداء، تحس بأول لفحة هواء صباحية تدخل صدرها، تفتح النوافذ أكثر لتستمتع بأكبر كمية من الهواء. هذا الصباح كان أقل ضغطا، و من الصباحات الهادئة التي لا تترك أثرا على الأعصاب بقية النهار. تشعل التلفزيون، تتناول فطورها على مهلها، بعد وقت ليس بالقصير، تقوم، تنهي ما تبقى لها من ترتيب البيت، و تبدأ في تحضير وجبة الغداء، يتجول خيالها و هي تعد بميكانيكية اعتيادية ما طُلب منها، تتوقف يداها لتتذكر شيئا ينقصها، تأخذ جلبابها، تحمل مفاتيحها ومحفظة النقود و تخرج قاصدة البقال في آخر الزقاق، تلتقي إحدى جاراتها، مستخدمة في نفس العمارة، تحكي كل منهما للأخرى عن ما أتعبهما في الأيام الماضية، عن المعاناة اليومية أو عن طرائف مشغليهما. كلتيهما من نفس القرية، فاطمة كانت تعول على جارتها لترسل بعض الأشياء إلى أمها، أخبرتها محدثتها أنه ليس لديها المال الكافي للذهاب لزيارة أهلها، فقط بعثت لهما ما تيسر من النقود، و وعدت فاطمة بأن تجد لها من ترسل معه ما تحتاج له أمها. و هي عائدة من عند البقال، التقت حارس السيارات "أحمد"، كان يأخذ أجرته من أحد زبنائه و حين لمحها، أتجه نحوها مسرعا و هو يصيح "فين غبرت؟"، ابتسمت و أجابته بصوت منخفض أنها لا تخرج كثيرا و أن أصحاب البيت يجلبون بأنفسهم كل ما يحتاجونه، سألها عن أحوالها، وصحتها، "مهللين فيك هادوك الناس؟"،
تجيب: "شوية و صافي، الخلاص مزيان و تمارة كاينة و هديك السيدة فيها النكير"
يحكي لها أحمد كيف أن الفتاة التي كانت تشتغل عندهم كانت تتشاجر كثيرا مع صاحبة البيت و أن أصواتهم كانت تصل إلى الشارع و أن الزوج كان يتدخل دائما لتهدئة الزوجة.
قال أحمد لفاطمة أنه رآها الأحد الماضي تمر بصحبة فتاة أخرى بشارع ما بوسط المدينة، بينما كان هو في مقهى في نفس الشارع، و سألها إذا لم يكن لديها مانع أن يقضيا ساعة من الوقت مجتمعين الأحد القادم، و لها أن تختار الوقت و المكان. فأجابته أنها لا تمانع شرط أن تكون معهما صديقتها، فوافق أحمد. و اتفقا على أن يحددا الموعد لاحقا.
كان لقاء أحمد و فاطمة و الصديقة، و تتابعت اللقاءات بين فاطمة و أحمد، و تعرفا على ظروف بعضهما، و توافقا، و اتفقا على الارتباط. سافرت فاطمة عند أهلها في عطلتها العيدية، و تبعها أحمد وأفراد أسرته في موعد محدد، و تم التعارف و كانت الخطبة. و عادت فاطمة إلى عملها و بدأت تستعد للزواج. أحمد كان يقتسم غرفة مع أصدقائه و بعد الزواج، سيضطر إلى اكتراء غرفة مستقلة. وبإعادة حساباتها، و جدت فاطمة نفسها مضطرة إلى العمل حتى بعد الذهاب إلى غرفة احمد، خاصة و أن أسرتها تحتاج إلى مساعدتها. و بدأت تقتصد في مصروفها، و تحسب لكل شيء، و تهيئ لتأثيث بيتها. أضحت الهموم أكبر، و الحمل الذي خالته عند خطبتها بدأ ينزاح شيئا فشيئا، أصبحت تحسه أكثر ثقلا فوق عنقها. حدثت مشغلتها في أمر زواجها وقالت لها أنها لن تستطيع أن تقضي الليل عندهم بعد الذهاب إلى بيت زوجها. فلم تعترض صاحبة البيت، و وافقت على أن تأتي في الثامنة صباحا و تذهب عند الخامسة بعد الزوال.
أحلام الفقراء بحجم معاناتهم، على قدر ضيق حالهم و قلة حيلتهم، يتسع أفق أمانيهم، و كانت آمال فاطمة أن تجد زوجا يعفيها من خدمة البيوت وتكتفي بخدمة بيتها و أطفالها، و تنتقل من بيت كل ما فيه يُفرض عليها حتى طريقة نومها و لباسها، إلى بيت تختار كل ما فيه بنفسها، حتى و لو كان هذا البيت خاليا إلا من الهواء، ساعتها تقرر لأي هواء تفتح النافذة.
و عادت بها ذاكرتها إلى البعيد، يوم أن حملها رجل من قريتهم، بعد أن اتفق مع الوالد على الأجر، و جاء بها إلى دنيا غريبة عنها، حتى وجوه الناس لم تكن تشبه وجوه ناس قريتها. و تمر بذاكرتها كل وجوه مشغليها و أفراد أسرهم و معارفهم، و تتذكر أشياء كثيرة، لكنها لا تقف عند شيء محدد و لا تريد تبيان التفاصيل، تراها تمر سريعة و بعيدة كتلك المناظر التي تترائى لها من نافذة الحافلة التي تقلها من هذه المدينة إلى قريتها. عندما كانت تحاول التذكر و تفكر فيما وقع و يقع لها، كانت تنتابها حالة مرضية، يضطر معها مشغليها إلى إرجاعها إلى بيت أهلها. حينذاك يغضب الأب و يثور، لأنها كانت مصدره القار الوحيد للرزق، و يجبرها على العودة للعمل، أما الأم فتطوف بها عند صارعي الجن و الدجالين مؤكدة أن ما بابنتها هو مس من الجن، خاصة و أنها تدخل بيوتا كثيرة و قد يكون بيت من هذه البيوت موطنا لذوي القوة الخفية. فلم تعد تتذكر، و لم تعد تقوى على التذكر، و لم يعد لها الوقت للتذكر. كل همها أصبح أن تعمل في ظروف مناسبة، و ترسل لوالدها قسطا من المال، و تحتفظ هي بقسط يساعدها على الارتباط يوما ما برجل، قد يكون من نصيبها.
كانت قد تعرفت بامرأة في الخمسين من عمرها، و كانت هذه المرأة تشتغل عند والدة مشغلتها، و لها أطفال في العشرينيات من عمرهم. كانت هذه المرأة قد بدأت العمل في البيوت في السابعة من عمرها، حين كان الخادمات يشتغلن مقابل إطعامهن و إيوائهن. كانت قد تزوجت عاملا، أصبح، بعد إفلاس المؤسسة التي تشغله، بائعا متجولا. و لا زالت تشتغل و تتحمل أعباء الأسرة المادية و غيرها، و تقول لفاطمة أنها ستظل تشتغل حتى بعد سن الستين. و ما دامت الخادمة تشتغل، فهي تتلقى أجرا، و عندما تتوقف عن العمل لأي سبب كان، فإنها تصبح بلا أجر، لا نظام ضمان اجتماعي و لا تقاعد و لا شيء من هذا. أما الأولاد، فمستقبلهم غامض، لم يستطيعوا إكمال تعليمهم، و لم يستطيعوا حتى الإستقرار في عمل ما. و تجيب المرأة حين تسألها فاطمة عن حال أولادها: "أولاد الضائعين، يولدون و يكبرون و يموتون وهم ضائعون".
تفكير فاطمة أضحت تخيم عليه ظلال حياة هذه المرأة الخمسينية ، كما أنها لا تفتأ تتذكر حكايات نساء كثيرات عرفتهن، بدأن خادمات و أنهين حياتهن خادمات أو بائعات متجولات. كن متزوجات أوعازبات، مطلقات أو أرامل، المسار واحد و المصير متشابه. و فاطمة على مشارف حياة جديدة، واعدة و مكلِّفة، تتردد و تود لو تغير تماما وجهة حياتها و تترك خدمة البيوت و الزوج و الأسرة. لكنها لا تعرف شيئا آخر غير خدمة البيوت، و لا تعرف معنى أن لا تكون لها أسرة. إبان عطلة عيد الأضحى أو العطلة الصيفية، لا تعرف إلا أن تأخذ الحافلة المتجهة إلى بيتها القروي. و لا تعرف حكاية خادمة انحرفت عن خدمة البيوت إلى منحى آخر، إلا و كان نهج حياتها سلسة مخاطر متتالية أو حدث مأساوي يشغل أعمدة الجرائد.
تعلمت، من بين ما تعلمت، في مسيرتها القصيرة، أن تتبع ما يسلكه الآخرون أو غالبيتهم، في ما يختارونه لتسيير حيواتهم لأنه يكون في غالب الأحيان هو الأصلح، على الأقل في البيئة ذاتها و في شروط متشابهة.
و تزوجت فاطمة أحمد .......
نشر بتاريخ 18-12-2011
حسناء فتاحي - قاصة من المغرب العربي
يتسلل شعاع أبيض ضئيل من باب غرفتها المطل على المطبخ، تصحو شيئا فشيئا، تستفيق، تتفحص هاتفها المحمول على الطرف اليمين من سريرها، الساعة السادسة و النصف، ليس هذا وقت إطالة النوم، تحس جسدها ثقيلا وعيناها مغمضتان، تبذل جهدا كبيرا لفتحهما، و تحرك جسدها بجهد أكبر.
ثقيلة استفاقة الصباح هاته، رغم أن الجو لا زال خريفيا و لا زلنا بعيدين عن فصل الشتاء، لكن العمل المتراكم و التعب المتزايد، يجعل الجسم ثقيلا و الحركة صعبة. تنهض من فراشها، تتجه إلى الحمام القريب من غرفتها، تدخل المطبخ و عيناها لا زالتا مغمضتين، تجد الأشياء بصعوبة، تبدأ في تحضير الفطور، تسمع صوت الزوج في الحمام، تتذكر أنه لم يستفيق أحد من الأطفال بعد، تذهب إليهم في غرفهم، تناديهم بأسمائهم، لا أحد يسمع أو لا أحد يريد أن يفيق، تعود إلى المطبخ، تكمل تحضير الفطور، تتقابل و الزوج في غرفة الطعام، تبادر بإلقاء تحية الصباح، "صباح الخير عْزيزي"، يرد التحية، يلاحظ عدم نهوض الأطفال من النوم، "فاطمة تنقول ليك دائما فيقي الولاد عاد وجدي الفطور"، ترد أن هذا ما فعلته لكنهم لم يستفيقوا، يدخل هو إلى غرفهم يصيح بأسمائهم بعد ثواني يجدون أنفسهم في الحمام. تلحق بالأطفال إلى غرفهم، تساعدهم على جمع حقائبهم المدرسية و ارتداء ملا بسهم، الولد كعادته يبحث عن مقرر معين أو دفتر أضاعه، تبحث معه تحت السرير، في الدولاب أو تحت طاولة الحاسوب، لا تجد شيئا، يعقب الولد: "انتي عمرك ما كتلقاي شي حاجة" و في النهاية يُعثر عما يبحث عنه.
تظل بجانب الطفلين حتى ينتهيا من تناول الإفطار، تحمل حقائبهم المدرسية و تأخذ معهم المصعد، يقفن أمام باب الإقامة إلى أن تأتي سيارة النقل المدرسي. عندما تنطلق السيارة بالأطفال، تعود هي إلى البيت، تجد الزوج و الزوجة على مائدة الإفطار، تبادر: " صباح الخير لللا أمال" ترد السيدة أمال التحية و تسأل مباشرة عن قميصها الوردي الذي لم تجده، ترد فاطمة أنها وضعته في الدولاب مع الملابس المكوية حديثا، تؤكد السيدة أنها لم تجده، تذهب فاطمة و تعود لتخبرها أنها و ضعته فوق السرير، تنهمك في ترتيب غرف الأطفال، تلحق بها السيدة، تعطيها التعليمات الخاصة بتحضير وجبات الغداء والعشاء. لا تتعب من ترديد نفس الملاحظات و التذكير بنفس الأشياء يوميا، توصيها بأن تجبر الولد على تناول وجبة الغداء بأكملها أو جلها، لأنه قليل الأكل. و بزيادة كمية الفلفل الحار بطبق الأرز لأنها لا تأكله بدون ذلك.
يخرج الزوجان، تطل من النافذة، تتأكد أنهما انطلقا كل بسيارته، تتنفس الصعداء، تحس بأول لفحة هواء صباحية تدخل صدرها، تفتح النوافذ أكثر لتستمتع بأكبر كمية من الهواء. هذا الصباح كان أقل ضغطا، و من الصباحات الهادئة التي لا تترك أثرا على الأعصاب بقية النهار. تشعل التلفزيون، تتناول فطورها على مهلها، بعد وقت ليس بالقصير، تقوم، تنهي ما تبقى لها من ترتيب البيت، و تبدأ في تحضير وجبة الغداء، يتجول خيالها و هي تعد بميكانيكية اعتيادية ما طُلب منها، تتوقف يداها لتتذكر شيئا ينقصها، تأخذ جلبابها، تحمل مفاتيحها ومحفظة النقود و تخرج قاصدة البقال في آخر الزقاق، تلتقي إحدى جاراتها، مستخدمة في نفس العمارة، تحكي كل منهما للأخرى عن ما أتعبهما في الأيام الماضية، عن المعاناة اليومية أو عن طرائف مشغليهما. كلتيهما من نفس القرية، فاطمة كانت تعول على جارتها لترسل بعض الأشياء إلى أمها، أخبرتها محدثتها أنه ليس لديها المال الكافي للذهاب لزيارة أهلها، فقط بعثت لهما ما تيسر من النقود، و وعدت فاطمة بأن تجد لها من ترسل معه ما تحتاج له أمها. و هي عائدة من عند البقال، التقت حارس السيارات "أحمد"، كان يأخذ أجرته من أحد زبنائه و حين لمحها، أتجه نحوها مسرعا و هو يصيح "فين غبرت؟"، ابتسمت و أجابته بصوت منخفض أنها لا تخرج كثيرا و أن أصحاب البيت يجلبون بأنفسهم كل ما يحتاجونه، سألها عن أحوالها، وصحتها، "مهللين فيك هادوك الناس؟"،
تجيب: "شوية و صافي، الخلاص مزيان و تمارة كاينة و هديك السيدة فيها النكير"
يحكي لها أحمد كيف أن الفتاة التي كانت تشتغل عندهم كانت تتشاجر كثيرا مع صاحبة البيت و أن أصواتهم كانت تصل إلى الشارع و أن الزوج كان يتدخل دائما لتهدئة الزوجة.
قال أحمد لفاطمة أنه رآها الأحد الماضي تمر بصحبة فتاة أخرى بشارع ما بوسط المدينة، بينما كان هو في مقهى في نفس الشارع، و سألها إذا لم يكن لديها مانع أن يقضيا ساعة من الوقت مجتمعين الأحد القادم، و لها أن تختار الوقت و المكان. فأجابته أنها لا تمانع شرط أن تكون معهما صديقتها، فوافق أحمد. و اتفقا على أن يحددا الموعد لاحقا.
كان لقاء أحمد و فاطمة و الصديقة، و تتابعت اللقاءات بين فاطمة و أحمد، و تعرفا على ظروف بعضهما، و توافقا، و اتفقا على الارتباط. سافرت فاطمة عند أهلها في عطلتها العيدية، و تبعها أحمد وأفراد أسرته في موعد محدد، و تم التعارف و كانت الخطبة. و عادت فاطمة إلى عملها و بدأت تستعد للزواج. أحمد كان يقتسم غرفة مع أصدقائه و بعد الزواج، سيضطر إلى اكتراء غرفة مستقلة. وبإعادة حساباتها، و جدت فاطمة نفسها مضطرة إلى العمل حتى بعد الذهاب إلى غرفة احمد، خاصة و أن أسرتها تحتاج إلى مساعدتها. و بدأت تقتصد في مصروفها، و تحسب لكل شيء، و تهيئ لتأثيث بيتها. أضحت الهموم أكبر، و الحمل الذي خالته عند خطبتها بدأ ينزاح شيئا فشيئا، أصبحت تحسه أكثر ثقلا فوق عنقها. حدثت مشغلتها في أمر زواجها وقالت لها أنها لن تستطيع أن تقضي الليل عندهم بعد الذهاب إلى بيت زوجها. فلم تعترض صاحبة البيت، و وافقت على أن تأتي في الثامنة صباحا و تذهب عند الخامسة بعد الزوال.
أحلام الفقراء بحجم معاناتهم، على قدر ضيق حالهم و قلة حيلتهم، يتسع أفق أمانيهم، و كانت آمال فاطمة أن تجد زوجا يعفيها من خدمة البيوت وتكتفي بخدمة بيتها و أطفالها، و تنتقل من بيت كل ما فيه يُفرض عليها حتى طريقة نومها و لباسها، إلى بيت تختار كل ما فيه بنفسها، حتى و لو كان هذا البيت خاليا إلا من الهواء، ساعتها تقرر لأي هواء تفتح النافذة.
و عادت بها ذاكرتها إلى البعيد، يوم أن حملها رجل من قريتهم، بعد أن اتفق مع الوالد على الأجر، و جاء بها إلى دنيا غريبة عنها، حتى وجوه الناس لم تكن تشبه وجوه ناس قريتها. و تمر بذاكرتها كل وجوه مشغليها و أفراد أسرهم و معارفهم، و تتذكر أشياء كثيرة، لكنها لا تقف عند شيء محدد و لا تريد تبيان التفاصيل، تراها تمر سريعة و بعيدة كتلك المناظر التي تترائى لها من نافذة الحافلة التي تقلها من هذه المدينة إلى قريتها. عندما كانت تحاول التذكر و تفكر فيما وقع و يقع لها، كانت تنتابها حالة مرضية، يضطر معها مشغليها إلى إرجاعها إلى بيت أهلها. حينذاك يغضب الأب و يثور، لأنها كانت مصدره القار الوحيد للرزق، و يجبرها على العودة للعمل، أما الأم فتطوف بها عند صارعي الجن و الدجالين مؤكدة أن ما بابنتها هو مس من الجن، خاصة و أنها تدخل بيوتا كثيرة و قد يكون بيت من هذه البيوت موطنا لذوي القوة الخفية. فلم تعد تتذكر، و لم تعد تقوى على التذكر، و لم يعد لها الوقت للتذكر. كل همها أصبح أن تعمل في ظروف مناسبة، و ترسل لوالدها قسطا من المال، و تحتفظ هي بقسط يساعدها على الارتباط يوما ما برجل، قد يكون من نصيبها.
كانت قد تعرفت بامرأة في الخمسين من عمرها، و كانت هذه المرأة تشتغل عند والدة مشغلتها، و لها أطفال في العشرينيات من عمرهم. كانت هذه المرأة قد بدأت العمل في البيوت في السابعة من عمرها، حين كان الخادمات يشتغلن مقابل إطعامهن و إيوائهن. كانت قد تزوجت عاملا، أصبح، بعد إفلاس المؤسسة التي تشغله، بائعا متجولا. و لا زالت تشتغل و تتحمل أعباء الأسرة المادية و غيرها، و تقول لفاطمة أنها ستظل تشتغل حتى بعد سن الستين. و ما دامت الخادمة تشتغل، فهي تتلقى أجرا، و عندما تتوقف عن العمل لأي سبب كان، فإنها تصبح بلا أجر، لا نظام ضمان اجتماعي و لا تقاعد و لا شيء من هذا. أما الأولاد، فمستقبلهم غامض، لم يستطيعوا إكمال تعليمهم، و لم يستطيعوا حتى الإستقرار في عمل ما. و تجيب المرأة حين تسألها فاطمة عن حال أولادها: "أولاد الضائعين، يولدون و يكبرون و يموتون وهم ضائعون".
تفكير فاطمة أضحت تخيم عليه ظلال حياة هذه المرأة الخمسينية ، كما أنها لا تفتأ تتذكر حكايات نساء كثيرات عرفتهن، بدأن خادمات و أنهين حياتهن خادمات أو بائعات متجولات. كن متزوجات أوعازبات، مطلقات أو أرامل، المسار واحد و المصير متشابه. و فاطمة على مشارف حياة جديدة، واعدة و مكلِّفة، تتردد و تود لو تغير تماما وجهة حياتها و تترك خدمة البيوت و الزوج و الأسرة. لكنها لا تعرف شيئا آخر غير خدمة البيوت، و لا تعرف معنى أن لا تكون لها أسرة. إبان عطلة عيد الأضحى أو العطلة الصيفية، لا تعرف إلا أن تأخذ الحافلة المتجهة إلى بيتها القروي. و لا تعرف حكاية خادمة انحرفت عن خدمة البيوت إلى منحى آخر، إلا و كان نهج حياتها سلسة مخاطر متتالية أو حدث مأساوي يشغل أعمدة الجرائد.
تعلمت، من بين ما تعلمت، في مسيرتها القصيرة، أن تتبع ما يسلكه الآخرون أو غالبيتهم، في ما يختارونه لتسيير حيواتهم لأنه يكون في غالب الأحيان هو الأصلح، على الأقل في البيئة ذاتها و في شروط متشابهة.
و تزوجت فاطمة أحمد .......
نشر بتاريخ 18-12-2011