عاشق نور فاطمة
05-03-2013, 06:42 PM
اللهم صلي على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر العظيم المستودع فيها عدد ما أحاط به علمك .
اللهم صلي على مُحمد وآل مُحمد وعجل فرجهم واهلك عدوهم من الجن والإنس من الأولين والآخرين
إهداء: إلى روحك الطاهرة يا مولاتي الصديقة أهدي أنفاسي، وحركة روحي، ونبض قلبي، ونور بصري، وعشقي لأنوارك الإلهية، وصالح أعمالي، وعملي الحقير المتواضع هنا وفي كل مكان مكتوبٌ فيه فاطمة ع،
أن تشفعي لي، ولإخواني وأخواتي، وكل من قرأ سورة المباركة الفاتحة عن روحك الطاهرة المتجولة بين السماوات الدنيا والسماوات العلى في مواكبك النورانية المهيبة
يوم أقامت مجالس العزاء والبكاء على النبي صلى الله عليه وآله وأصرت عليها!!!
روت مصادر الجميع أن فاطمة عليها السلام كانت تندب أباها صلى الله عليه وآله وتبكيه، وروت فقرات مؤثرة من نوحها عليه، وأبيات شعر بليغة.
قال البخاري: 5 / 144: (عن أنس قال لما ثقل النبي (ص) جعل يتغشاه فقالت فاطمة: واكرب أباه! فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم! فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه. يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب!). انتهى.
وروت مصادر الحديث والسيرة أحاديث أخرى تهز قلب الإنسان، من ذلك (أنها أخذت قبضة من تراب النبي (ص) فوضعتها على عينيها ثم قالت:
ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام عدن لياليا (مسند أحمد: 2 / 489) أين كانت تقيم فاطمة عليها السلام مجالس عزائها على أبيها صلى الله عليه وآله؟
تدل الروايات على أنها كانت تقيمها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وفي بيتها وفي البقيع، وكانت تذهب إلى قبر عمها حمزة رحمه الله كل يوم خميس واثنين. واستمر برنامجها هذا طوال مدتها بعد النبي صلى الله عليه وآله، وهي كما في رواياتنا نحو ثلاثة أشهر وفي رواية البخاري ستة أشهر، وفيما يلي بعض الضوء على هذه المجالس:
من الطبيعي أن تكون نساء الأنصار والمهاجرين قد أقمن مجالس ندب على النبي صلى الله عليه وآله في أحيائهن كما فعلن يوم شهادة حمزة رحمه الله وغيره وأن يحضر غالبهن مجلس فاطمة الزهراء عليها السلام فيعزينها ويندبن معها رسول الله صلى الله عليه وآله!
وطبيعي أن يكون لهذه المجالس دور اجتماعي وسياسي في ذلك الظرف الحساس، الذي حدثت فيه بيعة السقيفة، وخالفها بنو هاشم وغيرهم، وهاجم الطلقاء بيت فاطمة وعلي صلى الله عليه وآله لإجبار من فيه على البيعة.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما بال رواة السلطة لم يرووا أخبار هذه المجالس؟
والجواب: أن الوضع لم يكن طبيعيا لا في المسجد ولا في بيت علي وفاطمة! فالحزب القرشي بعد بيعة أبي بكر جعلوا السقيفة مركز نشاطهم، بعد أن أهانوا سعد بن عبادة المريض، فحمله أولاده إلى بيته، وتركوا لهم السقيفة!
لكنهم بعد الهجوم على بيت علي وفاطمة صلى الله عليه وآله جعلوا مسجد النبي صلى الله عليه وآله مركزهم! واتخذوا إجراءات مشددة في المسجد وحول القبر النبوي الشريف، شبيها بالأحكام العرفية، ومنعوا إقامة مجالس العزاء، ومطلق التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه وآله، فقد كان خوف السلطة القرشية الجديدة من أمرين:
الأول، مجالس الندب التي تقيمها فاطمة عليها السلام، أن توظفها لتأليب الأنصار وبعض المهاجرين ضد بيعة أبي بكر.
والثاني، أن تستجير فاطمة وعلي بقبر النبي صلى الله عليه وآله كما هي عادة العرب، معلنين أنهم أهل الوصية والخلافة، مطالبين بالوفاء لهم بالبيعة ورد بيعة أبي بكر!
فكان الحل عند القرشيين أن أطلقوا نصا دينيا يمنع التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه وآله حتى للصلاة! وقالوا إن ذلك آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وآله في آخر لحظات حياته، وأنه لعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، أي صلوا عندها! وفرضوا تنفيذ هذه (الوصية النبوية) بالقوة!
قالت عائشة: (لما نزل برسول الله (ص) طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. البخاري: 1 / 422، 6 / 386، 8 / 116، ومسلم: 2 / 67، والنسائي: 1 / 115، والدارمي: 1 / 326، والبيهقي: 4 / 80، وأحمد: 1 / 218، 6 / 34، 229، 275). (الألباني في أحكام الجنائز ص 216) وقالت عائشة: (قال رسول الله (ص) في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا). البخاري: 3 / 156، 198، 8 / 114، وأبو عوانة: 2 / 399، وأحمد: 6 / 80، 121، 255). (الألباني في أحكام الجنائز ص 216).
وقال السرخسي في المبسوط: 1 / 206: (ورأى عمر رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه: القبر القبر، فظن الرجل أنه يقول القمر، فجعل ينظر إلى السماء، فما زال به حتى بينه). انتهى.
والى يومنا هذا لم يستطع عالم من أتباع الخلافة القرشية أن يثبت أن اليهود والنصارى اتخذوا قبرا لنبي من أنبيائهم مسجدا! اللهم إلا المؤمنون الذين مدحهم الله بأنهم اتخذوا مسجدا على قبور أهل الكهف فقال تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا). (الكهف: 21).
فقد غفل واضعوا الحديث فكذبوا على تاريخ اليهود والنصارى، كما غفلوا عن هذه الآية التي تكذب زعمهم! لأن همهم كان منع مجالس فاطمة عليها السلام!
الأحكام العرفية في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وعند قبره!
ثم اخترع القرشيون حديثا للتأكيد على تحريم التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه وآله ومنع استجارة بني هاشم به فقالوا إن النبي نفسه نهى أن يجعل قبره صنما ومجمعا ولو للعبادة فقال: (لا تتخذوا قبري عيدا أو وثنا)! وفسروه بالنهي عن قصد قبره صلى الله عليه وآله في أوقات معينة، أو مطلقا للتعبد عنده أو لغير ذلك! (أحكام الجنائز للألباني ص 219)!
وبذلك ضمنوا (التبرير الشرعي) لمنع علي عليه السلام إن أراد أن يستجير بقبر النبي صلى الله عليه وآله ويطالب بالخلافة! لأن الاستجارة بالقبر عند العرب تفرض الاستجابة لمطلب المستجير، وإلا لحق العار بذوي صاحب القبر ومن يعز عليهم!
ولكنهم لم يكونوا يعرفون أن حرمة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله عند علي وفاطمة عليهما السلام أعظم من الخلافة، وأنهما ليسا حاضرين لكسر حرمته صلى الله عليه وآله بأي ثمن!
قد يقال: إن عادة الاستجارة بالقبر قد نسخها الإسلام.
وجوابه: أن التاريخ يثبت أن العرب ما زالوا في الجاهلية والإسلام يستجيرون بقبور عظمائهم فينصبون خيمة ويقيمون عند القبر حتى يلبى طلبهم! وقد روت المصادر استجارة جماعة بقبر غالب جد الفرزذق، وهو بكاظمة قرب الكويت، قال في المستطرف: 217: (وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة فمن استجار بقبر أبيه أجاره، وإن امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها وينسبها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها إسما ولا نسبا، ولكن قال: فلا والذي عاذت به لا أضيرها... عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب (راجع أنساب الأشراف للبلاذري: 2 / 3037، الاشتقاق لابن دريد ص 147، والتذكرة الحمدونية ص 317، والأعلام: 5 / 114، وغيرها).
كما رووا استجارة الكميت بقبر معاوية بن هشام، بعد أن قبض عليه الأمويون وأرادوا قتله فأجاره عبد الملك بن مروان: (فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهل؟ إن أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك! قال أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني أحتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك
ويقولون: هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق بإجارته! فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر! فقال: يجار من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له. فقيل: فإنه الكميت. فقال: يحضر أعنف إحضار! فلما دعى به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات وما حظه من الدنيا، فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به! فبكى هشام حتى انتحب ثم أقبل على الكميت فقال له....) (الغدير: 2 / 207) وذكر عتابه للكميت على قصائده المدوية في ذم بني أمية، واعتذار الكميت، وعفوه عنه.
ورووا قصة استجارة عجرد الشاعر بقبر سليمان بن علي العباسي وعفو المنصور عنه، ذكر ذلك الصولي في (أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم ص 2). إلى آخر قصص الاستجارة بالقبر في الجاهلية والإسلام.
إجراء جديد لمنع مجلس فاطمة عليها السلام رغم كل هذه الإجراءات، بقي مجلس فاطمة الزهراء عليها السلام مصدر قلق للحكومة الجديدة، فعملت لمنعه بحديث روته عن النبي صلى الله عليه وآله ينهى عن أصل البكاء على الميت، لأن الله يعذبه ببكاء أهله عليه! قال البخاري: 2 / 85: (وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب)!
لكن حديث عمر وتشدده في تطبيقه لم ينفع في إيقاف مجالس فاطمة الزهراء عليها السلام! خاصة أن نساء الأنصار كن ينحن في عهد النبي صلى الله عليه وآله فلم ينههن بل أقمن مجلس نياحة على حمزة عند باب المسجد يعزين بذلك النبي صلى الله عليه وآله في عمه حمزة رحمه الله! فقد روى أحمد في مسنده: 2 / 40، عن ابن عمر أن رسول الله لما رجع من أحد فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن، قال فقال رسول الله (ص): ولكن حمزة لا بواكي له! قال ثم نام فاستنبه وهن يبكين، قال: فهن اليوم إذا يبكين يندبن بحمزة). انتهى.
وفي مسند ابن راهويه: 2 / 599: (فقال رسول الله (ص): لكن حمزة لا بواكي له! قال فأمر سعد بن معاذ نساء بني ساعدة أن يبكين عند باب المسجد على حمزة، فجعلت عائشة تبكي معهن، فنام رسول الله (ص) فاستيقظ عند المغرب، فصلى المغرب ثم نام ونحن نبكي، فاستيقظ رسول الله (ص) العشاء الآخرة فصلى العشاء، ثم نام ونحن نبكي، فاستيقظ رسول الله ونحن نبكي، فقال: ألا أراهن يبكين حتى الآن؟ مروهن فليرجعن، ثم دعا لهن ولأزواجهن ولأولادهن). انتهى.
لكن رواة السلطة حرفوا هذا الحديث ووضعوا فيه أن النبي صلى الله عليه وآله عامل نساء الأنصار بفظاظة وسوء خلق! مع أنهن جئن من أجله، وأقمن مجلس النياحة على عمه أمام باب داره ومسجده! ففي مسند أحمد: 2 / 84، عن عبد الله بن عمر أيضا! (أن رسول الله (ص) لما رجع من أحد سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهن فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فبلغ ذلك نساء الأنصار فجئن يبكين على حمزة، قال فانتبه رسول الله (ص) من الليل فسمعهن وهن يبكين فقال: ويحهن لم يزلن يبكين بعد منذ الليلة؟! مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم)! انتهى.
ولا يمكن لعاقل أن يقبل أنه صلى الله عليه وآله خرب مجلسهن أو أنهاه بهذه الفظاظة، فوبخهن على تطويل النياحة، ثم نهاهن عن البكاء على أي ميت!!
والخلاصة، أن هذا الحديث العمري لم ينفع في منع مجلس فاطمة عليها السلام، لكن يبدو أنها نقلته بعد المسجد إلى دارها!
وربما كان مجلسها في الفترة الأولى لوفاة النبي صلى الله عليه وآله صباحا ومساءا، وبعد انتهاء المجالس في أحياء الأنصار، كان هو المجلس الوحيد الذي تقصده نساء
الأنصار وبعض نساء المهاجرين، وربما بعض نساء الطلقاء!
هنا يأتي دور ما ذكرته مصادرنا من أن (بعض أهل المدينة) شكوا من استمرار مجالس فاطمة عليها السلام ليلا ونهارا! قال الإمام الصادق عليه السلام: (البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين عليهم السلام.
فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية!
وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين.
وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما.
وأما فاطمة فبكت على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك! فكانت تخرج إلى المقابر فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف.
وأما علي بن الحسين فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة). انتهى. (الخصال للصدوق ص 272 ورواه أيضا في الأمالي ص 204، والنيسابوري في روضة الواعظين ص 451، وابن شهرآشوب في المناقب: 3 / 104).
وقال المجلسي في بحار الأنوار: 43 / 177: (واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين فقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلا أو نهارا، فقال: حبا وكرامة، فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام حتى دخل على فاطمة وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء ، فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلا وإما نهارا. فقالت: يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فوالله لا أسكت ليلا ولا نهارا، أو ألحق بأبي رسول الله! فقال لها علي: إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك. ثم إنه بني لها بيتا في البقيع نازحا عن المدينة يسمى بيت الأحزان، وكانت إذا أصبحت عليها السلام قدمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية، فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها)!
أقول: ينبغي الإلفات إلى أن تأذي بعض أهل المدينة أو جماعة السلطة، لا يمكن أن يكون من مجرد بكاء فاطمة عليها السلام وذويها في بيتها أو في البقيع، بل من مجلسها الذي كان يحضره نساء الأنصار فيأخذ قسما من النهار وجزءا من الليل، وتندب فيه النادبات، ويقرأن فيه القرآن والشعر، وربما تحدثت فيه فاطمة! ثم تنعكس أخباره وأجواؤه على مدينة النبي صلى الله عليه وآله وحكومتها الجديدة!
أراكة الأحزان.. وبيت الأحزان!
يقع مشهد الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في أعلى نقطة في البقيع على يمين الداخل، وقد هدمه الوهابيون في سنة 1348 هجرية، وما زال قسم من جداره الشرقي موجودا. وموضع بيت الأحزان في البقيع خلف هذا المشهد الشريف من جهة الشرق، وقد شمله الهدم، ففي الذريعة: 7 / 52: (ولكن انهدم بيت الأحزان في بقيع الغرقد لمجاورته مراقد أئمة الشيعة عليهم السلام، وذلك لأجل أنه قد يؤخذ الجار بجرم الجار).
وقال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد ص 301: (وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء عليها السلام عن البلد في نياحتها على أبيها صلى الله عليه وآله وخروجها بولديها في لمة من نسائها إلى البقيع يندبن رسول الله صلى الله عليه وآله، في ظل أراكة كانت هناك، فلما قطعت بني لها علي عليه السلام بيتا في البقيع كانت تأوى إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان، وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة، كما تزار المشاهد المقدسة، حتى هدم في هذه الأيام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي، لما استولى على الحجاز وهدم المقدسات في البقيع، عملا بما يقتضيه مذهبه الوهابي، وذلك سنة 1344 للهجرة. وكنا سنة 1339 تشرفنا بزيارة هذا البيت بيت الأحزان، إذ من الله علينا في تلك السنة بحج بيته وزيارة نبيه، ومشاهد أهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام في البقيع).
وقال صاحب الذريعة: 7 / 52: (أقول: إن دار تميم الداري معروفة بالمدينة وهو مشهد يزار حتى اليوم، وكذا دار أبي بكر وعثمان، ولكن انهدم بيت الأحزان في بقيع الغرقد لمجاورته مراقد أئمة الشيعة عليهم السلام، وذلك لأجل أنه: قد يؤخذ الجار بجرم الجار)! انتهى.
ورحم الله صاحب الذريعة على حسن ظنه، فقد تصور أن غرضهم هدم المشهد فقط، وأن بيت الأحزان لم يكن مقصودهم بالأصل بل بالعرض!
لكن الذي يعرف تفكيرهم أكثر يجزم بأن بيت الأحزان كان مقصودا لهم بالأصل كالمشهد وضريحه وقبته، إن لم يكن مقصودا بالكره أكثر منه!
لقد أصدر عمر الحكم بإعدام أراكة البقيع أو سدرته فقطعوها، ولم يكن ذنبها إلا أن الزهراء عليها السلام ونساء الأنصار استظللن بها وندبن النبي صلى الله عليه وآله تحتها. أما بيت الأحزان الذي بناه علي عليه السلام لهذا الغرض فيظهر أنهم لم يستطيعوا هدمه يومذاك، ثم توارث المسلمون تجديده، معلما وشاهدا ولئن كان بيت الأحزان وسدرة البقيع، اختصت شهرتهما بالشيعة، وناقش في أصل قصتهما مخالفوهم، فإن شجرة الرضوان عم خبرها ورواه حتى رواة الحكومة! واعترفوا بأن حكم الإعدام صدر في حق الشجرة ومن يصلي تحتها!
قال السيد شرف الدين رحمه الله في النص والاجتهاد ص 368:
(المورد 65 قطعة شجر الحديبية: شجرة الحديبية هذه بويع رسول الله صلى الله عليه وآله بيعة الرضوان تحتها، فكان من عواقب تلك البيعة أن فتح الله لعبده ورسوله فتحا مبينا ونصره نصرا عزيزا، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبركا بها، وشكرا لله تعالى على ما بلغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة. فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها فأمر بقطعها! وقال (1): ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف، كما يقتل المرتد! (519).
سبحان الله وبحمده والله أكبر! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصرة وهو رأس المارقة، فيمتنع عن قتله احتراما لصلاته ثم يستل اليوم سيفه لقتل من يصلي من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان؟!
وي، وي! ما الذي أرخص له دماء المصلين من المخلصين لله تعالى في صلاتهم؟ إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد (حيث يطلع قرن الشيطان)!
وقال في هامشه: (1) كما في السطر الأخير من ص 59 من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي (منه قدس). (519) الغدير للأميني: 6 / 146، شرح النهج الحديدي: 3 / 122، سيرة عمر لابن الجوزي ص 107، الطبقات الكبرى لابن سعد، السيرة الحلبية ج 3 / 29، فتح الباري: 7 / 361 وقد صححه، إرشاد الساري: 6 / 337، شرح المواهب للزرقاني: 2 / 207، الدر المنثور: 6 / 73، عمدة القاري: 8 / 284 وقال: إسناد صحيح.. إلى آخر ما ذكره من مصادر.
ورحم الله الشاعر الحلي الكواز حيث قال، كما في بيت الأحزان للقمي ص 128:
الواثبين لظلم آل ومحمد * ومحمد ملقى بلا تكفين والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائم وحنين والقاطعين أراكة كيما تقيل * بظل أوراق لها وغصون ومجمعي حطب على البيت الذي * لم يجتمع لولاه شمل الدين والهاجمين على البتولة ببيتها * والمسقطين لها أعز جنين والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفه برنين خلوا ابن عمي أو لأكشف في الدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني ورنت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلب مكمد محزون قالت وأظفار المصاب بقلبها * غوثاه قل على العداة معيني أبتاه هذا السامري وعجله * تبعا ومال الناس عن هارون أي الرزايا أتقي بتجلدي * هو في النوائب مذ حييت قريني فقدي أبي أم غصب بعلي حقه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني أم أخذهم إرثي وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقي وقد عرفوني قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسألتهم حقي وقد نهروني مواظبة فاطمة عليها السلام على زيارة قبر عمها حمزة رحمه الله كان برنامج الصديقة الزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها خاصا، أبرز ما فيه التوديع والتأكيد! توديعها لعلي والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وأبرار الأمة، وتأكيدها قولا وعملا على ثوابت الإسلام أن تغير وتبدل! خاصة الترتيب الرباني لنظام الحكم الذي نقضته قريش، وإجراءاتهم التحريفية حول قبر النبي صلى الله عليه وآله!
لقد أصرت على مجالسها في النوح والندب على أبيها صلى الله عليه وآله، في مسجده عند قبره، وفي بيتها، وفي والبقيع، وفي أحد! فآتت المجالس ثمارها.
وكانت تزور قبر أبيها الحبيب صلى الله عليه وآله باستمرار وتبكي عنده، ثم تقيم مجلس عزائه وندبه في البقيع، وتزور عمها حمزة رحمه الله والشهداء في أحد كل اثنين وخميس، فهذان اليومان عزيزان عليها، كان يصومهما أبوها صلى الله عليه وآله وتصومهما معه، وفيهما تعرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وآله، وفيهما تفتح أبواب الجنة. (منتهى المطلب للعلامة الحلي: 2 / 614، ومجموع النووي: 6 / 386 عن الترمذي وحسنه).
قال الإمام الصادق عليه السلام: (عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوما لم تر كاشرة ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس فتقول: هاهنا كان رسول الله صلى الله عليه وآله هاهنا كان المشركون. وفي رواية: كانت تصلي هناك وتدعو حتى ماتت عليها السلام). انتهى. (الكافي: 3 / 228).
تقول بذلك صلوات الله عليها: من هاهنا وبهذه الدماء الطاهرة، وأغلاها دماء بني هاشم، وبهذه الجهود المتواصلة وأغلاها جهود بني هاشم، جاء هذا الفتح، وبني هذا المجد، الذي صادرته قريش، واستحلت حرق بيوتنا علينا، طمعا فيه!
فهذا هو أبي رسول الله صلى الله عليه وآله المؤسس لهذه الأمة، والشاهد على أعمالها.
وهذا هو حمزة عمي رحمه الله، وزير النبي وناصره، يثوي هنا شاهدا.
وذاك هو علي زوجي عليه السلام وزير النبي ووصيه، الذي قام الإسلام على أكتافه، يتجرع الغصص من قريش إلى اليوم، يقولون له بايع وإلا قتلناك!
وذاك أخوه ابن عمي جعفر رحمه الله يثوي شهيدا وشاهدا في مؤتة، على مشارف القدس، داخل مملكة الروم! فأين كانت قريش وطلقاؤها؟!
* * أرادت فاطمة عليها السلام أن تفهم الأمة أن ارتباطها برسول الله وعترته صلى الله عليه وآله، والعيش في أجوائهم، ضرورة لإيمانها، وإلا انحرفت بعيدا!
وأن حقهم عليها أمواتا كحقهم أحياء، وأن الانتقاص من حقهم والمنع من زيارة قبورهم للرجال والنساء، بداية طريق قرشية، لإبعاد الأمة عنهم!
في كشف الإرتياب للسيد الأمين ص 339: (كانت تزور قبر عمها حمزة في كل جمعة فتصلي وتبكي عنده... وابن تيمية يقول لم يذكر أحد من أئمة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة)!!
وفي كشف الإرتياب ص 379: (ويظهر أن الوهابية بعدما أباحوا للنساء زيارة القبور في العام الماضي منعوهن منها في هذا العام! فقد أخبرنا الحجاج أن النساء منعت من الدخول إلى البقيع في هذا العام بدون استثناء، وكأنهم بنوا على هذا الاحتمال الضعيف الذي ذكره السندي وقال به صاحب المهذب والبيان من بقائهن تحت النهي، فظهرت لهم صحته هذا العام بعدما خفيت عنهم في العام الأول " يمحو الوهابية ما يشاؤن ويثبتون وعندهم أم الكتاب ".
لسنا نعارضهم في اجتهادهم أخطأوا فيه أم أصابوا، ولكننا نسألهم ما الذي سوغ لهم حمل المسلمين على اتباع اجتهادهم المحتمل الخطأ والصواب، بل هو إلى الخطأ أقرب لمخالفته لما قطع به الجمهور ولم يقل به إلا الشاذ كما سمعت! والأمور الاجتهادية لا يجوز المعارضة فيها كما بيناه في المقدمات!
وما بالهم يسلبون المسلمين حرية مذاهبهم في الأمور الاجتهادية، ويحملونهم على اتباع معتقداتهم فيها بالسوط والسيف.
كما زادوا في طنبور تعنتهم هذه السنة نغمات، فعاقبوا الناس على البكاء عند زيارة قبر البني صلى الله عليه وآله أو أحد القبور ومنعوهم منه! والبكاء أمر قهري اضطراري لا يعاقب الله عليه، ولا يتعلق به تكليف لاشتراط التكليف بالقدرة عقلا ونقلا ومنعوا من القراءة في كتاب حال الزيارة، ومن إطالة الوقوف! فمن رأوا في يده كتاب زيارة أخذوه منه ومزقوه أو أحرقوه وضربوا صاحبه وأهانوه! ومن أطال الوقوف طردوه وضربوه!
حدثني بعض الحجاج الثقات أنه تحيل لقراءة الزيارة من الكتاب بأن فصل أوراقا منه وجعلها في القرآن وجلس يظهر قراءة القرآن ويزور، فاتفق أنه أشار غفلة بالسلام نحو قبر النبي صلى الله عليه وآله فدفعوه حتى أخرجوه من المسجد، وأخذوا تلك الأوراق ومزقوها! وأمثال هذا مما صدر منهم في حق الحجاج في مسجدي مكة والمدينة ومسجد الخيف والبقيع وغيرها، مما سمعناه متواترا من الحجاج، كثير يطول الكلام بنقله)!! انتهى.
وقد أورد السيد مهدي الروحاني في كتابه في أحاديث أهل البيت عليهم السلام: 1 / 548، تحت عنوان: باب زيارة فاطمة عليها السلام قبر عمها حمزة رحمه الله مجموعة مصادر سنية روت ذلك، منها مصنف عبد الرزاق: 3 / 572 وص 574، وفيه: (كانت تأتي قبر حمزة وكانت قد وضعت عليه علما) وطبقات ابن سعد: 3 / 19، وتاريخ المدينة: 1 / 132، وفيهما: (ترمه وتصلحه). ونوادر الترمذي ص 24، وفيه (في كل عام فترمه وتصلحه) (وفي نسختنا: 1 / 126)، والحاكم: 3 / 28، وفيه (في الأيام فتصلي وتبكي عنده. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وإحياء الغزالي: 4 / 474 (وفي نسختنا: 4 / 490)، وسنن البيهقي: 4 / 78، وفيه: (كل جمعة فتصلي وتبكي عنده). انتهى.
راجع أيضا: التمهيد لابن عبد البر: 3 / 234: وفيه: (كل جمعة وعلمته بصخرة). وشرح الزرقاني: 3 / 101، ودراري الشوكاني ص 197، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 412، وأنساب الأشراف للبلاذري ص 1080. ومن مصادرنا: دعائم الإسلام: 1 / 239، وكفاية الأثر ص 198). سبحة الزهراء عليها السلام من تربة حمزة رحمه الله ابتكرت الزهراء المهدية من ربها، المعصومة بلطفه عليها السلام، عملا بسيطا، لكنه بليغ لربط الأمة بالنبي وآله صلى الله عليه وآله، فاتخذت من تربة قبر حمزة سبحة من أربع وثلاثين حبة، لكي تعد بها تسبيحها لربها بعد كل صلاة!
تقول بذلك للأمة لقد علمكم رسول الله صلى الله عليه وآله كيف تذكرون الله تعالى ذكرا كثيرا بعد صلواتكم، فتكبروا الله أربعا وثلاثين مرة، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، ويسبحوه ثلاثا وثلاثين، وسمى هذا التسبيح باسمي تسبيح فاطمة، لكي تذكروني ولا تنسوني، كما سمى صلاة جعفر باسمه لكي تذكروه ولا تنسوه، وها أنا أتخذ سبحة من تربة قبر عمي حمزة رحمه الله، لكي تذكروه فلا تنسوه، حتى يستشهد ولدي الحسين، فتتخذوا سبحة من تربته ولا تنسوه!
في مستدرك الوسائل: 5 / 56: عن الإمام الصادق عليه السلام قال (وتكون السبحة بخيوط زرق، أربعا وثلاثين خرزة، وهي سبحة مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام لما قتل حمزة عملت من طين قبره سبحة، تسبح بها بعد كل صلاة). انتهى.
وفي كتاب المزار للمفيد ص 150: (عن الصادق جعفر بن محمد صلى الله عليه وآله أن فاطمة عليها السلام كانت مسبحتها من خيط من صوف مفتل، معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت بيدها تديرها تكبر وتسبح، إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس. فلما قتل الحسين عليه السلام عدل بالأمر عليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية). (ورواه في جامع أحاديث الشيعة: 5 م 268، عن مكارم الأخلاق ص 147، والحدائق الناضرة: 7 / 261، ووسائل الشيعة (آل البيت): 6 / 455 وقصده بالمزية لتربة الحسين عليه السلام ما تواتر عند المسلمين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله في فضل تربة كربلاء، وأن جبرئيل أخبره بأن سبطه الحسين عليه السلام سيقتل فيها، وجاء له بقبضة من ترابها، فأودعها النبي صلى الله عليه وآله عند أم سلمة فوضعتها في زجاجة، وأخبرها أنه حين يقتل ستظهر لله فيها آية وتتحول إلى دم صاف!
(راجع: مسند أحمد: 6 / 294 روى عدة أحاديث بعضها رجاله رجال الصحيح، والحاكم: 3 / 177 و: 4 / 398، روى أحاديث على شرط الشيخين، ومجمع الزوائد: 9 / 185، باب مناقب الحسين بن علي).
اللهم صلي على مُحمد وآل مُحمد وعجل فرجهم واهلك عدوهم من الجن والإنس من الأولين والآخرين
إهداء: إلى روحك الطاهرة يا مولاتي الصديقة أهدي أنفاسي، وحركة روحي، ونبض قلبي، ونور بصري، وعشقي لأنوارك الإلهية، وصالح أعمالي، وعملي الحقير المتواضع هنا وفي كل مكان مكتوبٌ فيه فاطمة ع،
أن تشفعي لي، ولإخواني وأخواتي، وكل من قرأ سورة المباركة الفاتحة عن روحك الطاهرة المتجولة بين السماوات الدنيا والسماوات العلى في مواكبك النورانية المهيبة
يوم أقامت مجالس العزاء والبكاء على النبي صلى الله عليه وآله وأصرت عليها!!!
روت مصادر الجميع أن فاطمة عليها السلام كانت تندب أباها صلى الله عليه وآله وتبكيه، وروت فقرات مؤثرة من نوحها عليه، وأبيات شعر بليغة.
قال البخاري: 5 / 144: (عن أنس قال لما ثقل النبي (ص) جعل يتغشاه فقالت فاطمة: واكرب أباه! فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم! فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه. يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب!). انتهى.
وروت مصادر الحديث والسيرة أحاديث أخرى تهز قلب الإنسان، من ذلك (أنها أخذت قبضة من تراب النبي (ص) فوضعتها على عينيها ثم قالت:
ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام عدن لياليا (مسند أحمد: 2 / 489) أين كانت تقيم فاطمة عليها السلام مجالس عزائها على أبيها صلى الله عليه وآله؟
تدل الروايات على أنها كانت تقيمها عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وفي بيتها وفي البقيع، وكانت تذهب إلى قبر عمها حمزة رحمه الله كل يوم خميس واثنين. واستمر برنامجها هذا طوال مدتها بعد النبي صلى الله عليه وآله، وهي كما في رواياتنا نحو ثلاثة أشهر وفي رواية البخاري ستة أشهر، وفيما يلي بعض الضوء على هذه المجالس:
من الطبيعي أن تكون نساء الأنصار والمهاجرين قد أقمن مجالس ندب على النبي صلى الله عليه وآله في أحيائهن كما فعلن يوم شهادة حمزة رحمه الله وغيره وأن يحضر غالبهن مجلس فاطمة الزهراء عليها السلام فيعزينها ويندبن معها رسول الله صلى الله عليه وآله!
وطبيعي أن يكون لهذه المجالس دور اجتماعي وسياسي في ذلك الظرف الحساس، الذي حدثت فيه بيعة السقيفة، وخالفها بنو هاشم وغيرهم، وهاجم الطلقاء بيت فاطمة وعلي صلى الله عليه وآله لإجبار من فيه على البيعة.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما بال رواة السلطة لم يرووا أخبار هذه المجالس؟
والجواب: أن الوضع لم يكن طبيعيا لا في المسجد ولا في بيت علي وفاطمة! فالحزب القرشي بعد بيعة أبي بكر جعلوا السقيفة مركز نشاطهم، بعد أن أهانوا سعد بن عبادة المريض، فحمله أولاده إلى بيته، وتركوا لهم السقيفة!
لكنهم بعد الهجوم على بيت علي وفاطمة صلى الله عليه وآله جعلوا مسجد النبي صلى الله عليه وآله مركزهم! واتخذوا إجراءات مشددة في المسجد وحول القبر النبوي الشريف، شبيها بالأحكام العرفية، ومنعوا إقامة مجالس العزاء، ومطلق التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه وآله، فقد كان خوف السلطة القرشية الجديدة من أمرين:
الأول، مجالس الندب التي تقيمها فاطمة عليها السلام، أن توظفها لتأليب الأنصار وبعض المهاجرين ضد بيعة أبي بكر.
والثاني، أن تستجير فاطمة وعلي بقبر النبي صلى الله عليه وآله كما هي عادة العرب، معلنين أنهم أهل الوصية والخلافة، مطالبين بالوفاء لهم بالبيعة ورد بيعة أبي بكر!
فكان الحل عند القرشيين أن أطلقوا نصا دينيا يمنع التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه وآله حتى للصلاة! وقالوا إن ذلك آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وآله في آخر لحظات حياته، وأنه لعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، أي صلوا عندها! وفرضوا تنفيذ هذه (الوصية النبوية) بالقوة!
قالت عائشة: (لما نزل برسول الله (ص) طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. البخاري: 1 / 422، 6 / 386، 8 / 116، ومسلم: 2 / 67، والنسائي: 1 / 115، والدارمي: 1 / 326، والبيهقي: 4 / 80، وأحمد: 1 / 218، 6 / 34، 229، 275). (الألباني في أحكام الجنائز ص 216) وقالت عائشة: (قال رسول الله (ص) في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالت: فلولا ذاك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا). البخاري: 3 / 156، 198، 8 / 114، وأبو عوانة: 2 / 399، وأحمد: 6 / 80، 121، 255). (الألباني في أحكام الجنائز ص 216).
وقال السرخسي في المبسوط: 1 / 206: (ورأى عمر رجلا يصلي بالليل إلى قبر فناداه: القبر القبر، فظن الرجل أنه يقول القمر، فجعل ينظر إلى السماء، فما زال به حتى بينه). انتهى.
والى يومنا هذا لم يستطع عالم من أتباع الخلافة القرشية أن يثبت أن اليهود والنصارى اتخذوا قبرا لنبي من أنبيائهم مسجدا! اللهم إلا المؤمنون الذين مدحهم الله بأنهم اتخذوا مسجدا على قبور أهل الكهف فقال تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا). (الكهف: 21).
فقد غفل واضعوا الحديث فكذبوا على تاريخ اليهود والنصارى، كما غفلوا عن هذه الآية التي تكذب زعمهم! لأن همهم كان منع مجالس فاطمة عليها السلام!
الأحكام العرفية في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وعند قبره!
ثم اخترع القرشيون حديثا للتأكيد على تحريم التجمع عند قبر النبي صلى الله عليه وآله ومنع استجارة بني هاشم به فقالوا إن النبي نفسه نهى أن يجعل قبره صنما ومجمعا ولو للعبادة فقال: (لا تتخذوا قبري عيدا أو وثنا)! وفسروه بالنهي عن قصد قبره صلى الله عليه وآله في أوقات معينة، أو مطلقا للتعبد عنده أو لغير ذلك! (أحكام الجنائز للألباني ص 219)!
وبذلك ضمنوا (التبرير الشرعي) لمنع علي عليه السلام إن أراد أن يستجير بقبر النبي صلى الله عليه وآله ويطالب بالخلافة! لأن الاستجارة بالقبر عند العرب تفرض الاستجابة لمطلب المستجير، وإلا لحق العار بذوي صاحب القبر ومن يعز عليهم!
ولكنهم لم يكونوا يعرفون أن حرمة قبر رسول الله صلى الله عليه وآله عند علي وفاطمة عليهما السلام أعظم من الخلافة، وأنهما ليسا حاضرين لكسر حرمته صلى الله عليه وآله بأي ثمن!
قد يقال: إن عادة الاستجارة بالقبر قد نسخها الإسلام.
وجوابه: أن التاريخ يثبت أن العرب ما زالوا في الجاهلية والإسلام يستجيرون بقبور عظمائهم فينصبون خيمة ويقيمون عند القبر حتى يلبى طلبهم! وقد روت المصادر استجارة جماعة بقبر غالب جد الفرزذق، وهو بكاظمة قرب الكويت، قال في المستطرف: 217: (وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة فمن استجار بقبر أبيه أجاره، وإن امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها وينسبها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها إسما ولا نسبا، ولكن قال: فلا والذي عاذت به لا أضيرها... عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب (راجع أنساب الأشراف للبلاذري: 2 / 3037، الاشتقاق لابن دريد ص 147، والتذكرة الحمدونية ص 317، والأعلام: 5 / 114، وغيرها).
كما رووا استجارة الكميت بقبر معاوية بن هشام، بعد أن قبض عليه الأمويون وأرادوا قتله فأجاره عبد الملك بن مروان: (فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهل؟ إن أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك! قال أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني أحتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك
ويقولون: هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق بإجارته! فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر! فقال: يجار من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له. فقيل: فإنه الكميت. فقال: يحضر أعنف إحضار! فلما دعى به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات وما حظه من الدنيا، فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به! فبكى هشام حتى انتحب ثم أقبل على الكميت فقال له....) (الغدير: 2 / 207) وذكر عتابه للكميت على قصائده المدوية في ذم بني أمية، واعتذار الكميت، وعفوه عنه.
ورووا قصة استجارة عجرد الشاعر بقبر سليمان بن علي العباسي وعفو المنصور عنه، ذكر ذلك الصولي في (أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم ص 2). إلى آخر قصص الاستجارة بالقبر في الجاهلية والإسلام.
إجراء جديد لمنع مجلس فاطمة عليها السلام رغم كل هذه الإجراءات، بقي مجلس فاطمة الزهراء عليها السلام مصدر قلق للحكومة الجديدة، فعملت لمنعه بحديث روته عن النبي صلى الله عليه وآله ينهى عن أصل البكاء على الميت، لأن الله يعذبه ببكاء أهله عليه! قال البخاري: 2 / 85: (وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي بالتراب)!
لكن حديث عمر وتشدده في تطبيقه لم ينفع في إيقاف مجالس فاطمة الزهراء عليها السلام! خاصة أن نساء الأنصار كن ينحن في عهد النبي صلى الله عليه وآله فلم ينههن بل أقمن مجلس نياحة على حمزة عند باب المسجد يعزين بذلك النبي صلى الله عليه وآله في عمه حمزة رحمه الله! فقد روى أحمد في مسنده: 2 / 40، عن ابن عمر أن رسول الله لما رجع من أحد فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن، قال فقال رسول الله (ص): ولكن حمزة لا بواكي له! قال ثم نام فاستنبه وهن يبكين، قال: فهن اليوم إذا يبكين يندبن بحمزة). انتهى.
وفي مسند ابن راهويه: 2 / 599: (فقال رسول الله (ص): لكن حمزة لا بواكي له! قال فأمر سعد بن معاذ نساء بني ساعدة أن يبكين عند باب المسجد على حمزة، فجعلت عائشة تبكي معهن، فنام رسول الله (ص) فاستيقظ عند المغرب، فصلى المغرب ثم نام ونحن نبكي، فاستيقظ رسول الله (ص) العشاء الآخرة فصلى العشاء، ثم نام ونحن نبكي، فاستيقظ رسول الله ونحن نبكي، فقال: ألا أراهن يبكين حتى الآن؟ مروهن فليرجعن، ثم دعا لهن ولأزواجهن ولأولادهن). انتهى.
لكن رواة السلطة حرفوا هذا الحديث ووضعوا فيه أن النبي صلى الله عليه وآله عامل نساء الأنصار بفظاظة وسوء خلق! مع أنهن جئن من أجله، وأقمن مجلس النياحة على عمه أمام باب داره ومسجده! ففي مسند أحمد: 2 / 84، عن عبد الله بن عمر أيضا! (أن رسول الله (ص) لما رجع من أحد سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهن فقال: لكن حمزة لا بواكي له، فبلغ ذلك نساء الأنصار فجئن يبكين على حمزة، قال فانتبه رسول الله (ص) من الليل فسمعهن وهن يبكين فقال: ويحهن لم يزلن يبكين بعد منذ الليلة؟! مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم)! انتهى.
ولا يمكن لعاقل أن يقبل أنه صلى الله عليه وآله خرب مجلسهن أو أنهاه بهذه الفظاظة، فوبخهن على تطويل النياحة، ثم نهاهن عن البكاء على أي ميت!!
والخلاصة، أن هذا الحديث العمري لم ينفع في منع مجلس فاطمة عليها السلام، لكن يبدو أنها نقلته بعد المسجد إلى دارها!
وربما كان مجلسها في الفترة الأولى لوفاة النبي صلى الله عليه وآله صباحا ومساءا، وبعد انتهاء المجالس في أحياء الأنصار، كان هو المجلس الوحيد الذي تقصده نساء
الأنصار وبعض نساء المهاجرين، وربما بعض نساء الطلقاء!
هنا يأتي دور ما ذكرته مصادرنا من أن (بعض أهل المدينة) شكوا من استمرار مجالس فاطمة عليها السلام ليلا ونهارا! قال الإمام الصادق عليه السلام: (البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد، وعلي بن الحسين عليهم السلام.
فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية!
وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين.
وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما.
وأما فاطمة فبكت على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك! فكانت تخرج إلى المقابر فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف.
وأما علي بن الحسين فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة). انتهى. (الخصال للصدوق ص 272 ورواه أيضا في الأمالي ص 204، والنيسابوري في روضة الواعظين ص 451، وابن شهرآشوب في المناقب: 3 / 104).
وقال المجلسي في بحار الأنوار: 43 / 177: (واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين فقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلا أو نهارا، فقال: حبا وكرامة، فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام حتى دخل على فاطمة وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع فيها العزاء ، فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلا وإما نهارا. فقالت: يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فوالله لا أسكت ليلا ولا نهارا، أو ألحق بأبي رسول الله! فقال لها علي: إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك. ثم إنه بني لها بيتا في البقيع نازحا عن المدينة يسمى بيت الأحزان، وكانت إذا أصبحت عليها السلام قدمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية، فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها)!
أقول: ينبغي الإلفات إلى أن تأذي بعض أهل المدينة أو جماعة السلطة، لا يمكن أن يكون من مجرد بكاء فاطمة عليها السلام وذويها في بيتها أو في البقيع، بل من مجلسها الذي كان يحضره نساء الأنصار فيأخذ قسما من النهار وجزءا من الليل، وتندب فيه النادبات، ويقرأن فيه القرآن والشعر، وربما تحدثت فيه فاطمة! ثم تنعكس أخباره وأجواؤه على مدينة النبي صلى الله عليه وآله وحكومتها الجديدة!
أراكة الأحزان.. وبيت الأحزان!
يقع مشهد الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في أعلى نقطة في البقيع على يمين الداخل، وقد هدمه الوهابيون في سنة 1348 هجرية، وما زال قسم من جداره الشرقي موجودا. وموضع بيت الأحزان في البقيع خلف هذا المشهد الشريف من جهة الشرق، وقد شمله الهدم، ففي الذريعة: 7 / 52: (ولكن انهدم بيت الأحزان في بقيع الغرقد لمجاورته مراقد أئمة الشيعة عليهم السلام، وذلك لأجل أنه قد يؤخذ الجار بجرم الجار).
وقال السيد شرف الدين في النص والاجتهاد ص 301: (وهنا نلفت أولي الألباب إلى البحث عن السبب في تنحي الزهراء عليها السلام عن البلد في نياحتها على أبيها صلى الله عليه وآله وخروجها بولديها في لمة من نسائها إلى البقيع يندبن رسول الله صلى الله عليه وآله، في ظل أراكة كانت هناك، فلما قطعت بني لها علي عليه السلام بيتا في البقيع كانت تأوى إليه للنياحة يدعى بيت الأحزان، وكان هذا البيت يزار في كل خلف من هذه الأمة، كما تزار المشاهد المقدسة، حتى هدم في هذه الأيام بأمر الملك عبد العزيز بن سعود النجدي، لما استولى على الحجاز وهدم المقدسات في البقيع، عملا بما يقتضيه مذهبه الوهابي، وذلك سنة 1344 للهجرة. وكنا سنة 1339 تشرفنا بزيارة هذا البيت بيت الأحزان، إذ من الله علينا في تلك السنة بحج بيته وزيارة نبيه، ومشاهد أهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام في البقيع).
وقال صاحب الذريعة: 7 / 52: (أقول: إن دار تميم الداري معروفة بالمدينة وهو مشهد يزار حتى اليوم، وكذا دار أبي بكر وعثمان، ولكن انهدم بيت الأحزان في بقيع الغرقد لمجاورته مراقد أئمة الشيعة عليهم السلام، وذلك لأجل أنه: قد يؤخذ الجار بجرم الجار)! انتهى.
ورحم الله صاحب الذريعة على حسن ظنه، فقد تصور أن غرضهم هدم المشهد فقط، وأن بيت الأحزان لم يكن مقصودهم بالأصل بل بالعرض!
لكن الذي يعرف تفكيرهم أكثر يجزم بأن بيت الأحزان كان مقصودا لهم بالأصل كالمشهد وضريحه وقبته، إن لم يكن مقصودا بالكره أكثر منه!
لقد أصدر عمر الحكم بإعدام أراكة البقيع أو سدرته فقطعوها، ولم يكن ذنبها إلا أن الزهراء عليها السلام ونساء الأنصار استظللن بها وندبن النبي صلى الله عليه وآله تحتها. أما بيت الأحزان الذي بناه علي عليه السلام لهذا الغرض فيظهر أنهم لم يستطيعوا هدمه يومذاك، ثم توارث المسلمون تجديده، معلما وشاهدا ولئن كان بيت الأحزان وسدرة البقيع، اختصت شهرتهما بالشيعة، وناقش في أصل قصتهما مخالفوهم، فإن شجرة الرضوان عم خبرها ورواه حتى رواة الحكومة! واعترفوا بأن حكم الإعدام صدر في حق الشجرة ومن يصلي تحتها!
قال السيد شرف الدين رحمه الله في النص والاجتهاد ص 368:
(المورد 65 قطعة شجر الحديبية: شجرة الحديبية هذه بويع رسول الله صلى الله عليه وآله بيعة الرضوان تحتها، فكان من عواقب تلك البيعة أن فتح الله لعبده ورسوله فتحا مبينا ونصره نصرا عزيزا، وكان بعض المسلمين يصلون تحتها تبركا بها، وشكرا لله تعالى على ما بلغهم من أمانيهم في تلك البيعة المباركة. فبلغ عمر ما كان من صلاتهم تحتها فأمر بقطعها! وقال (1): ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد إلى الصلاة عندها إلا قتلته بالسيف، كما يقتل المرتد! (519).
سبحان الله وبحمده والله أكبر! يأمره بالأمس رسول الله بقتل ذي الخويصرة وهو رأس المارقة، فيمتنع عن قتله احتراما لصلاته ثم يستل اليوم سيفه لقتل من يصلي من أهل الإيمان تحت الشجرة شجرة الرضوان؟!
وي، وي! ما الذي أرخص له دماء المصلين من المخلصين لله تعالى في صلاتهم؟ إن هذه لبذرة أجذرت وآتت أكلها في نجد (حيث يطلع قرن الشيطان)!
وقال في هامشه: (1) كما في السطر الأخير من ص 59 من المجلد الأول من شرح النهج الحميدي (منه قدس). (519) الغدير للأميني: 6 / 146، شرح النهج الحديدي: 3 / 122، سيرة عمر لابن الجوزي ص 107، الطبقات الكبرى لابن سعد، السيرة الحلبية ج 3 / 29، فتح الباري: 7 / 361 وقد صححه، إرشاد الساري: 6 / 337، شرح المواهب للزرقاني: 2 / 207، الدر المنثور: 6 / 73، عمدة القاري: 8 / 284 وقال: إسناد صحيح.. إلى آخر ما ذكره من مصادر.
ورحم الله الشاعر الحلي الكواز حيث قال، كما في بيت الأحزان للقمي ص 128:
الواثبين لظلم آل ومحمد * ومحمد ملقى بلا تكفين والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائم وحنين والقاطعين أراكة كيما تقيل * بظل أوراق لها وغصون ومجمعي حطب على البيت الذي * لم يجتمع لولاه شمل الدين والهاجمين على البتولة ببيتها * والمسقطين لها أعز جنين والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفه برنين خلوا ابن عمي أو لأكشف في الدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني ورنت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلب مكمد محزون قالت وأظفار المصاب بقلبها * غوثاه قل على العداة معيني أبتاه هذا السامري وعجله * تبعا ومال الناس عن هارون أي الرزايا أتقي بتجلدي * هو في النوائب مذ حييت قريني فقدي أبي أم غصب بعلي حقه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني أم أخذهم إرثي وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقي وقد عرفوني قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسألتهم حقي وقد نهروني مواظبة فاطمة عليها السلام على زيارة قبر عمها حمزة رحمه الله كان برنامج الصديقة الزهراء عليها السلام بعد وفاة أبيها خاصا، أبرز ما فيه التوديع والتأكيد! توديعها لعلي والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وأبرار الأمة، وتأكيدها قولا وعملا على ثوابت الإسلام أن تغير وتبدل! خاصة الترتيب الرباني لنظام الحكم الذي نقضته قريش، وإجراءاتهم التحريفية حول قبر النبي صلى الله عليه وآله!
لقد أصرت على مجالسها في النوح والندب على أبيها صلى الله عليه وآله، في مسجده عند قبره، وفي بيتها، وفي والبقيع، وفي أحد! فآتت المجالس ثمارها.
وكانت تزور قبر أبيها الحبيب صلى الله عليه وآله باستمرار وتبكي عنده، ثم تقيم مجلس عزائه وندبه في البقيع، وتزور عمها حمزة رحمه الله والشهداء في أحد كل اثنين وخميس، فهذان اليومان عزيزان عليها، كان يصومهما أبوها صلى الله عليه وآله وتصومهما معه، وفيهما تعرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وآله، وفيهما تفتح أبواب الجنة. (منتهى المطلب للعلامة الحلي: 2 / 614، ومجموع النووي: 6 / 386 عن الترمذي وحسنه).
قال الإمام الصادق عليه السلام: (عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوما لم تر كاشرة ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الاثنين والخميس فتقول: هاهنا كان رسول الله صلى الله عليه وآله هاهنا كان المشركون. وفي رواية: كانت تصلي هناك وتدعو حتى ماتت عليها السلام). انتهى. (الكافي: 3 / 228).
تقول بذلك صلوات الله عليها: من هاهنا وبهذه الدماء الطاهرة، وأغلاها دماء بني هاشم، وبهذه الجهود المتواصلة وأغلاها جهود بني هاشم، جاء هذا الفتح، وبني هذا المجد، الذي صادرته قريش، واستحلت حرق بيوتنا علينا، طمعا فيه!
فهذا هو أبي رسول الله صلى الله عليه وآله المؤسس لهذه الأمة، والشاهد على أعمالها.
وهذا هو حمزة عمي رحمه الله، وزير النبي وناصره، يثوي هنا شاهدا.
وذاك هو علي زوجي عليه السلام وزير النبي ووصيه، الذي قام الإسلام على أكتافه، يتجرع الغصص من قريش إلى اليوم، يقولون له بايع وإلا قتلناك!
وذاك أخوه ابن عمي جعفر رحمه الله يثوي شهيدا وشاهدا في مؤتة، على مشارف القدس، داخل مملكة الروم! فأين كانت قريش وطلقاؤها؟!
* * أرادت فاطمة عليها السلام أن تفهم الأمة أن ارتباطها برسول الله وعترته صلى الله عليه وآله، والعيش في أجوائهم، ضرورة لإيمانها، وإلا انحرفت بعيدا!
وأن حقهم عليها أمواتا كحقهم أحياء، وأن الانتقاص من حقهم والمنع من زيارة قبورهم للرجال والنساء، بداية طريق قرشية، لإبعاد الأمة عنهم!
في كشف الإرتياب للسيد الأمين ص 339: (كانت تزور قبر عمها حمزة في كل جمعة فتصلي وتبكي عنده... وابن تيمية يقول لم يذكر أحد من أئمة السلف أن الصلاة عند القبور وفي مشاهدها مستحبة)!!
وفي كشف الإرتياب ص 379: (ويظهر أن الوهابية بعدما أباحوا للنساء زيارة القبور في العام الماضي منعوهن منها في هذا العام! فقد أخبرنا الحجاج أن النساء منعت من الدخول إلى البقيع في هذا العام بدون استثناء، وكأنهم بنوا على هذا الاحتمال الضعيف الذي ذكره السندي وقال به صاحب المهذب والبيان من بقائهن تحت النهي، فظهرت لهم صحته هذا العام بعدما خفيت عنهم في العام الأول " يمحو الوهابية ما يشاؤن ويثبتون وعندهم أم الكتاب ".
لسنا نعارضهم في اجتهادهم أخطأوا فيه أم أصابوا، ولكننا نسألهم ما الذي سوغ لهم حمل المسلمين على اتباع اجتهادهم المحتمل الخطأ والصواب، بل هو إلى الخطأ أقرب لمخالفته لما قطع به الجمهور ولم يقل به إلا الشاذ كما سمعت! والأمور الاجتهادية لا يجوز المعارضة فيها كما بيناه في المقدمات!
وما بالهم يسلبون المسلمين حرية مذاهبهم في الأمور الاجتهادية، ويحملونهم على اتباع معتقداتهم فيها بالسوط والسيف.
كما زادوا في طنبور تعنتهم هذه السنة نغمات، فعاقبوا الناس على البكاء عند زيارة قبر البني صلى الله عليه وآله أو أحد القبور ومنعوهم منه! والبكاء أمر قهري اضطراري لا يعاقب الله عليه، ولا يتعلق به تكليف لاشتراط التكليف بالقدرة عقلا ونقلا ومنعوا من القراءة في كتاب حال الزيارة، ومن إطالة الوقوف! فمن رأوا في يده كتاب زيارة أخذوه منه ومزقوه أو أحرقوه وضربوا صاحبه وأهانوه! ومن أطال الوقوف طردوه وضربوه!
حدثني بعض الحجاج الثقات أنه تحيل لقراءة الزيارة من الكتاب بأن فصل أوراقا منه وجعلها في القرآن وجلس يظهر قراءة القرآن ويزور، فاتفق أنه أشار غفلة بالسلام نحو قبر النبي صلى الله عليه وآله فدفعوه حتى أخرجوه من المسجد، وأخذوا تلك الأوراق ومزقوها! وأمثال هذا مما صدر منهم في حق الحجاج في مسجدي مكة والمدينة ومسجد الخيف والبقيع وغيرها، مما سمعناه متواترا من الحجاج، كثير يطول الكلام بنقله)!! انتهى.
وقد أورد السيد مهدي الروحاني في كتابه في أحاديث أهل البيت عليهم السلام: 1 / 548، تحت عنوان: باب زيارة فاطمة عليها السلام قبر عمها حمزة رحمه الله مجموعة مصادر سنية روت ذلك، منها مصنف عبد الرزاق: 3 / 572 وص 574، وفيه: (كانت تأتي قبر حمزة وكانت قد وضعت عليه علما) وطبقات ابن سعد: 3 / 19، وتاريخ المدينة: 1 / 132، وفيهما: (ترمه وتصلحه). ونوادر الترمذي ص 24، وفيه (في كل عام فترمه وتصلحه) (وفي نسختنا: 1 / 126)، والحاكم: 3 / 28، وفيه (في الأيام فتصلي وتبكي عنده. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وإحياء الغزالي: 4 / 474 (وفي نسختنا: 4 / 490)، وسنن البيهقي: 4 / 78، وفيه: (كل جمعة فتصلي وتبكي عنده). انتهى.
راجع أيضا: التمهيد لابن عبد البر: 3 / 234: وفيه: (كل جمعة وعلمته بصخرة). وشرح الزرقاني: 3 / 101، ودراري الشوكاني ص 197، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 412، وأنساب الأشراف للبلاذري ص 1080. ومن مصادرنا: دعائم الإسلام: 1 / 239، وكفاية الأثر ص 198). سبحة الزهراء عليها السلام من تربة حمزة رحمه الله ابتكرت الزهراء المهدية من ربها، المعصومة بلطفه عليها السلام، عملا بسيطا، لكنه بليغ لربط الأمة بالنبي وآله صلى الله عليه وآله، فاتخذت من تربة قبر حمزة سبحة من أربع وثلاثين حبة، لكي تعد بها تسبيحها لربها بعد كل صلاة!
تقول بذلك للأمة لقد علمكم رسول الله صلى الله عليه وآله كيف تذكرون الله تعالى ذكرا كثيرا بعد صلواتكم، فتكبروا الله أربعا وثلاثين مرة، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، ويسبحوه ثلاثا وثلاثين، وسمى هذا التسبيح باسمي تسبيح فاطمة، لكي تذكروني ولا تنسوني، كما سمى صلاة جعفر باسمه لكي تذكروه ولا تنسوه، وها أنا أتخذ سبحة من تربة قبر عمي حمزة رحمه الله، لكي تذكروه فلا تنسوه، حتى يستشهد ولدي الحسين، فتتخذوا سبحة من تربته ولا تنسوه!
في مستدرك الوسائل: 5 / 56: عن الإمام الصادق عليه السلام قال (وتكون السبحة بخيوط زرق، أربعا وثلاثين خرزة، وهي سبحة مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام لما قتل حمزة عملت من طين قبره سبحة، تسبح بها بعد كل صلاة). انتهى.
وفي كتاب المزار للمفيد ص 150: (عن الصادق جعفر بن محمد صلى الله عليه وآله أن فاطمة عليها السلام كانت مسبحتها من خيط من صوف مفتل، معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت بيدها تديرها تكبر وتسبح، إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس. فلما قتل الحسين عليه السلام عدل بالأمر عليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية). (ورواه في جامع أحاديث الشيعة: 5 م 268، عن مكارم الأخلاق ص 147، والحدائق الناضرة: 7 / 261، ووسائل الشيعة (آل البيت): 6 / 455 وقصده بالمزية لتربة الحسين عليه السلام ما تواتر عند المسلمين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله في فضل تربة كربلاء، وأن جبرئيل أخبره بأن سبطه الحسين عليه السلام سيقتل فيها، وجاء له بقبضة من ترابها، فأودعها النبي صلى الله عليه وآله عند أم سلمة فوضعتها في زجاجة، وأخبرها أنه حين يقتل ستظهر لله فيها آية وتتحول إلى دم صاف!
(راجع: مسند أحمد: 6 / 294 روى عدة أحاديث بعضها رجاله رجال الصحيح، والحاكم: 3 / 177 و: 4 / 398، روى أحاديث على شرط الشيخين، ومجمع الزوائد: 9 / 185، باب مناقب الحسين بن علي).