المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الامام علي نموذج العدل والتسامح


Dr.Zahra
04-10-2007, 06:36 PM
اللهم صل على صاحب الدعوه المحمديه والشجاعه الحيدريه والعصمه الفاطميه والصلابه الحسنيه والأستقامه الحسينيه والعباده السجاديه والماثر الباقريه والاثار الجعفريه والعلوم الكاظميه والحجج الرضويه والفضائل الجواديه والانوار الهاديه والهيبه العسكريه والحجه الالهيه

السلم والالعنف بين النظرية والتطبيقفي نهج الامام علي (ع)

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الكريم ( يا أيها الذين أمنوا






ادخلوا في السلم كافة ًولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين ) .البقرة 208

ماذا يمكننا أن نفهم من هذه الآية الكريمة ؟

أعتقد أن ابسط ما يمكن أن نفهمه من هذه الآية المباركة هو أن السلم عمل الرحمن في حين أن الحرب و العنف هو عمل الشيطان ، فكل حرب لسبب غير معقول ومع وجود الخيار السلمي هي حرب تسير بلا شكٍ على نهج شيطاني لا على نهج قرآني أو إنساني بل كيف لا تكون حرب كتلك الحرب حرباً شيطانية و الله يدعونا دائماً للسلم والسلام حتى أنه عز وجل قد أسمى نفسه (السلام) ووصف نفسه أيضاً في مبدأ كل سورةٍ من سور كتابه الكريم بـ(الرحمن ) و (الرحيم). وبالتالي هل يكون السلام غير الرحمة و المحبة ؟!!

فمسألة العلاقة بين السلم واللاعنف في الفكر الإسلامي الأصيل عموماً ، وفي فكر الإمام علي (ع) خصوصاً هي علاقةٌ واضحة ُالمعالم إذ أنها تستمد وجودها من عمق الآداب الإلهية والأخلاق الرسالية.

فأمير المؤمنين علي (ع) وعلى الرغم من قصر فترة خلافته وعلى الرغم من الإضطرابات الخطيرة التي شهدتها الأمة الإسلامية وقتئذٍ كان خير معلم في رسم الخطوط العريضة لمذهب اللاعنف في الإسلام .

وبإمكان الدارس لسيرة أمير المؤمنين علي(ع) أن يلحظ أن هناك خطين أساسيين لمبدأ السلم واللاعنف في منظومتيه الفكرية العامة .

فالخط الأول يتمثل في كيفية التعامل مع العدو الخارجي وموقع ذلك العدو من مبدأ السلم واللاعنف .

أما الخط الثاني وهو برأينا الشخصي الأكثر أهمية والأشد حساسية، فهو ذلك الخط الذي يحدد مكانة ما يمكن أن يسمى بالعدو الداخلي، ولو كان مسلماً، وكيفية التعامل مع ذلك العدو من منطلق السلم المتمثل بالكلمة الطيبة وبالحوار المبني على الدفع بالتي هي أحسن .

ولو أردنا أن نقف قليلاً مع الخط الأول لنتعرف عن قرب على وجهة نظر الإمام علي (ع) من السلم ونقيضه مع العدو الخارجي، فما علينا إلا أن نقرأ تلك المقاطع الهامة من عهده الخالد لمالك بن الأشتر النخعي حين ولاه أمر مصر .

وغني عن الإستفاضة في القول أن الكثير من الدراسات والأبحاث قد قامت بدراسة وتحليل ذلك العهد من قبل العديد من المفكرين المسلمين والمسيحيين على حد سواء.

وكل من يقرأ ذلك العهد لابد وأنه سيدرك في نهاية المطاف أنه دستور كامل متكامل لكل حاكم أو رجل دولة يريد أن تكون السياسة مبدأً لا لعبة على مسرح الحياة .

وعلى كل حال ، فإن الإمام علياً(ع) يحدد في ذلك العهد الخطوط التي يجب أن يسير عليها الحاكم أو الوالي في عملية التعامل مع العدو الخارجي المجاهر بعدائه للمسلمين.

وهاهو (ع) يقول في عهده مخاطباً الأشتر:

(ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله في رضىً، فإن الصلح دعةً لجنودك، وراحةً من همومك وأمنا ً لبلادك ، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحة، فإن العدو ربما قارب ليتغفل ... وإن عقدت بينك و بين عدوك عقدةً أو ألبسته منك ذمةً فحط عهدك بالوفاء ، وارع ذمتك بالأمانة).(1)

إذن السلم مطلب أساسي ومبدئي في سياسة الإمام علي (ع) مع الأعداء طالما أن فيه رضى لله وحفظاً للأمة وصونا ًلكرامتها، وكما أن السلم مطلبٌ أساسي فكذلك الحال بالنسبة لاحترام العهود والمواثيق المبرمة مع العدو أيضاً، بالتالي فالحرب في هذه الحالة هي حرب على من اعتدى وبغى، وفي هذا ترجمة واضحة لقوله تعالى: ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولتعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) البقرة /190 .

ولذلك علينا أيها الأخوة الحضور ألا نستغرب من تمسك الإمام علي (عليه السلام) بالسلم ونبذه الواضح لكل مظهر من مظاهر العنف اللا مبرر.

فالإمام علي (عليه السلام) هو القرآن الناطق مثلما أن القران هو الإمام الصامت. وعلى هذا الأثر فإن آيات الذكر الحكيم جاءت لتؤكد بشكل جلي على مسألة السلم والسلام، فقد خاطب الله عباده المؤمنين قائلاً: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) البقرة 208. وقد دعا الرسول الأعظم صلى الله عليه واله نفسه إلى الجنح للسلم إذا جنح إليه المشركون، فقال عز وجل ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) الأنفال/ 61.

ومن هنا، من هذه الانطلاقة القرآنية والتعاليم السماوية، نستطيع أن نستكشف رؤية الإمام علي (ع) لمبدأ اللاعنف في تعامله مع الآخر، فمن المعروف عنه (ع) أنه كان دائم الاهتمام بموضوع الإعذار، والإعذار هو إيضاح الأمر لدى الخصم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة.

وهذه الحقيقة المؤكدة في البعد الاجتماعي نجده جلية مشرقة في قاموس الإمام علي (ع) الإنساني على مدى امتداد فترة خلافته وما قبلها.

فرغم كونه القائد الحق، ورغم كونه المبدوء دائماً بالحرب، رغم ذلك فإنه لا يواجه عدواناً بالسيف حتى يبدأ بالوعظ والإرشاد والنصح والهداية يحاجج من جيّش الجيوش عليه وأقبل بالعدوان إليه.

ولو أردنا أن نأخذ أمثلة حيّة على ذلك، لوقع اختيارنا على الوقائع التالية:

ففي حرب الجمل المشهورة، نرى الإمام علي (ع) وقد نزل بالموضع المعروف بالزاوية في البصرة، فصلى أربع ركعات ثم رفع يديه داعياً: (اللهم رب السموات وما أظلّت، والأرض وما أقلّت، ورب العرش العظيم..... اللهم إن هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي وبغوا علي، ونكثوا بيعتي، اللهم احقن دماء المسلمين).

وبعد ذلك أرسل إليهم من يناشدهم الله في الدماء، فأبوا إلا الحرب، ثم عاد فأرسل إليهم رجلاًًًًًًًًً من أصحابه يقال له مسلم يدعوهم إلى الله، فرموه بسهم حتى جاء عبد الله بن بديل ورقاء بأخ له مقتول من الميمنة وجاء قوم برجل آخر قد رمي فقتل، وبالرغم من كل ذلك لم تكن هذه آخر مساعيه في طلب السلم وحقن الدماء، فبعث إليهم عبد الله بن عباس فأبلغ في الحجة لكنهم رفضوا إلا الحرب، فلم يستسلم الإمام علي (ع) لما كان، فعاد وأرسل إليهم أيضاًًَ عمار بن ياسر (رض) سبيلاً إلى السلام لعلهم يتذكرون قول الرسول (ص) له: (تقتلك الفئة الباغية)، غير أنه لم يفلح في مهمته، فما كان منه إلا أن عاد إلى الإمام علي (ع) ليقول له: (ليس لك عند القوم إلا الحرب).

وبعد أن كان ما كان من تلك الحرب الطاحنة وانتصاره فيها، نراه يعامل السيدة عائشة ربّة الجمل بكل احترام ووقار ويعيدها على الرغم من كل ما كان منها إلى المدينة عزيزة كريمة وكأنها لم تكن بالنسبة إليه عدوّاً ابداً، بل وفوق ذلك أيضاً فقد عفا عن كل المحاربين الأسرى وعن رؤوس التحريض كابن الزبير ومروان بن الحكم.

فهذا المشهد الأول من سياسة اللاعنف عند علي (ع)، والذي روته كتب التاريخ عموماً على مختلف مشارب مؤلفيها، هو أحد الأدلة القوية على أنّ نهج علي (ع) العام كان نهجاً إسلامياً حقيقاً رافضاً للتعصب نابذاً للعنف طالباً للسلم.

وهذا المشهد العملي أيضاً هو التطبيق الواقعي لنظرية الإمام علي (ع) في ضرورة طلب السلم ورفض العنف الذي تأباه النفس البشرية السوية، ومن أقواله المأثورة عنه (ع) في هذا المجال، قوله: (من عامل بالعنف ندم)، (ومن ركب العنف ندم)، وهو القائل أيضاً عن العنف (كن ليّناً من غير ضعف، شديداً من غير عنف).

وربما هذه الأقوال النظرية وما رافقها من تطبيقات عملية هي أحد الجوانب التي حببت به الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين المعاصرين سواء في الشرق أم في الغرب، حتى أنّ العديد منهم قد شبهه بالنبي سليمان الحكيم (ع) نظراً لما يملك من علم وحكمة في التعامل مع الناس والأحداث، وقد أكد ذلك المفكر والمؤرخ المشهور( فيليب حتي) في كتابه المعروف.

في حين أنّ البعض الآخر قد رأى أنّ الإمام علي (ع) قد لاقى نهايته المحتومة نتيجة الإفراط في تعامله الإنساني مع الآخرين الذين استغلوا نزعته الإنسانية للقضاء عليه وعلى تلك النزعة التي لا تروق لهم ولا لمخططاتهم وهذا ما أكده المستشرق الاسكتلندي (وليم موير) {1819- 1905} في كتاباته المتعددة عن تاريخ الإسلام والمسلمين.

أما المشهد الثاني من التطبيقات العملية لكراهة مبدأ العنف والميل إلى السلم في نهج الإمام علي (ع)، فيمكننا أن نراه في موقعة صفين الغنية عن التعريف.

فعلى الرغم من كل ما فعله معاوية وصاحبه عمرو بن العاص بالإمام علي (ع) من شقّ عصا الطاعة وتأليب الناس عليه وتجييش جيش إعلامي لتشويه سمعته وسمعة أهل بيت رسول الله (ص) عموماً واضطهاد أتباعه وملاحقتهم في كل مكان، نرى الإمام علياً (ع) يخاطب أتباعه الذين استبطؤوه في الخروج إلى صفين قائلاًً:

(فوالله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فيهتدي بي وتعسو إلى ضوئي، وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها).

وبذلك، فإن الحرب عند الإمام علي (ع) هي بمثابة الخيار الأخير وبشرٍ لابدّ منه، أو بمثابة العمل الجراحي الذي لا مفر من القيام به بعد استنفاذ كل النصائح والإرشادات وكل الطرق الوقائية.

ولذلك، فعندما استبد الطرف الآخر برأيه وطمع بكرسيه وأبى بعد مراسلات عديدة إلا الخروج والقتال، لم يكن أمام أمير المؤمنين علي (ع) إلا أن وصل إلى حالة التعبئة العامة للجيش وملاقاة العدو، وقد أوصى جيشه قبل اللقاء قائلاًً:

(لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإن كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم).

ولم يتوقف الإمام علي (ع) عند حدود هذه النصيحة المتعلقة بآداب القتال كخيار أخير أمام السلم، بل إنه سمع في بعض أيام صفين قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام، فقال: (إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرفوا الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من نهج به).

إذن، حتى السباب والشتائم ضد العدو لا وجود له في قاموس الإمام علي (ع) الأخلاقي، فالميل إلى السلم ونبذ مبدأ العنف يبدأ عنده من مستوى الكلمة والحروف وينتهي عند لغة النزال والسيوف.

ومن الشواهد الجلية أيضاً على كراهة الإمام علي (ع) لمبدأ الحرب وحل المشاكل بلغة العنف والدماء، أنه سئل مرة: لم لا تحب الحرب إلا بعد فترة زوال الشمس؟

فكان جوابه (ع)http://www.alrufaiah.net/forum/images/smilies/rufaiah2.gifهو أقرب إلى الليل وأجدر أن يقل القتل ويرجع الطالب ويفلت المهزوم).

وهكذا نرى أن الحرب المفروضة على الإمام علي (ع) بدلاً من السلم الذي يريده هو، كان الإمام يظللها بالرحمة والعدل في الآخرين، فلا يجوز عنده قتل غير المحاربين ولا يجوز لحاق الفارين ولا يجوز عنده منع الأعداء من الماء حتى في وقت الحرب معه، كما حدث معه في صفين، ولا يجوز عنده منعهم من إقامة الصلاة أو الإغارة عليهم في وقت إقامتها، وتجوز عنده التوبة والرجوع عن الخطأ، ولا يجوز عنده تحقير الأسرى ولا إذلالهم، ويكفي أن نذكر مثالاً واحداً على ذلك هنا، وهو أن الإمام علي (ع) بعد وقعة صفين قام بإطلاق جميع الأسرى من جيش معاوية في حين أنّ عمرو بن العاص هو الذي أشار على معاوية بقتل جميع أسرى جيش علي (ع).

ومن التعليقات الهامة على مبدأ السلم عند علي (ع)، هو قول الأديب والمفكر العربي الكبير (جورج جرداق) صاحب كتاب (الإمام علي (ع) صوت العدالة الإنسانية)، ففي ذلك يقول: (ونحن لا نغالي إذا قلنا إنّ دعوة ابن أبي طالب للسلم كمبدأ عام، كانت منعطفاً إلى الخير في تاريخ العرب الذين كان حب القتال شريعة لهم في الجاهلية).

وبالطبع، فإن هذا الكلام من الأستاذ (جرداق) يمثل كلام الشريحة الأوسع من رجال الدين والأدباء والمفكرين المسيحيين الذين فتحوا نوافذ عقولهم المستنيرة على ثقافات وقيم الغير، فتفاعلوا مع تلك الثقافات والقيم، فاستفادوا وأفادوا، وتأثروا وأثروا، وها هو الزعيم المصري القبطي (مكرم عبيد) يقول صراحة: ( نحن مسلمون وطناً، ونصارى ديناً، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصاراً، واللهم اجعلنا نصارى لك، وللوطن مسلمين).

وآخر مشهد من مشاهد حب السلم ورفض العنف في سفر علي (ع) الإنساني، هو ذلك المشهد التراجيدي المهيب الذي يمثل آخر ساعة من ساعات الإمام علي (ع) بيننا قبيل انطلاقته ورحيله إلى الملأ الأعلى.

فحينما ضرب الخارجي عبد الرحمن بن ملجم، وإني أترفع عن سبه إمتثالاً لأوامر الإمام بعدم السب، أمير المؤمنين علياً (ع) في المحراب عند صلاة الفجر، نقل إلى داره، وقال له بعض ممن كانوا حوله: هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكننا الله منه وقد حضر بين يديك، فما أنت آمر به؟

ففتح أمير المؤمنين (ع) عينيه الحزينتين ونظر إلى ابن ملجم، وقال له بصوت منكسر حزين: يا هذا لقد ارتكبت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني هذا الجزاء؟

ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة؟ ولكن رجوت بذلك الإستظهار من الله تعالى عليك علّ أن ترجع عن غيك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء.

فبكى ابن ملجم بين يدي الإمام (ع)، فالتفت الإمام علي (ع) إلى ولده الحسن (ع) وقال له: (أرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد صارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً).

ولما دهش كل من كان حاضراً من رد فعل الإمام البالغ في الإنسانية، أكمل الإمام (ع) كلامه طالباً من ابنه الحسن (ع) ألا يغل له يداً وألا يقيد له قدماً، بل أضاف قائلاًً: (نعم يا بني! نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا كرما وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقي عليك أطعمه يا بني مما تأكل وأسقه مما تشرب، فإن أنا مت فاقتص منه.. وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به).

وقد جاء في بعض المراجع والمصادر الإسلامية، وحتى المسيحية أيضاً، كما في ملحمة الإمام علي (ع) لعبد المسيح الإنطاكي، تلك الملحمة التي يبلغ عدد أبياتها الشعرية/ 5595/ بيتاً من الشعر، أنّ آخر ما قاله الإمام علي بشأن قاتله:

(إن أبق فأنا وليّ دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة فاعفو، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟).

هذا هو الإمام علي (ع)، وهذه هي عقيدته في السلم واللاعنف، هذا هو الإمام علي (ع) الذي علّم معلّمي البشرية أن الكلمة أمضى من السيف وأن السلام خير من السلاح، ثم ألم يعلم الإمام علي (ع) المهاتما غاندي داعية اللاعنف في العصر الحديث أن الذي يريد أن ينتصر على عدوه بالفضيلة والحق ونبذ العنف عليه أن يقتدي بابن الإمام علي (ع) وتلميذه الإمام الحسين (ع)؟

ألم يقل غانديhttp://www.alrufaiah.net/forum/images/smilies/rufaiah2.gif تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).

هذا هو إمامنا ووصي رسولنا الذي علينا أن نقتدي به دائماً في الميل إلى السلم ونبذ العنف اللامبرر بكل أشكاله وصيغه، والذي يعلمنا دائماً وأبداً أن العنف لا يقود إلا إلى العنف، وأن السلم بيننا في الأرض هو المعراج إلى السلام في السماء.

وقد صدق الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) عندما أوجز الكلام في إنسانية الإمام علي (ع) بعد أن رأى أن السلم عنده منهاج متكامل في الحياة وليس على مستوى الحرب فقط، فقال: (سدرة المنتهى في الكمال الإنساني علي بن أبي طالب (ع).

ولذلك نرى دائماً وأبداً أنه إذا كانت إرادة السماء قد شاءت أن يكون نداؤها الأخير للإنسان قد تمثل نغماً قدسياً في رسالة الإسلام، فقد شاءت إرادة الحق أن يكون الإمام علي (ع) ضمير الرسالة وإمام الفضيلة وسيد السلام.

المراجع والمصادر المستخدمة:

1- الإمام علي (ع) نهج البلاغة شرح محمد عبده الدار الإسلامية – بيروت 1992 ج3 ص490

2- عبد الرضا الزبيدي في الفكر الاجتماعي عند الإمام علي (ع) مكتبة فدك- قم 2005م ص122

3- المسعودي مروج الذهب دار الهجرة قم ج2 ص261

4-5-6- الشيخ محمد تقي باقر لا عنف عنوان المؤمن المسلم الحر- واشنطن 2001 ص7

p.Hitti History of the Arabs Macmillan London \1959\ P. 183 7-

8- عباس محمود العقاد عبقرية الإمام علي (ع) المكتبة العصرية- بيروت 1967 ص202

9-الإمام علي (ع) نهج البلاغة مصدر سابق ج1 ص100

10- عبد الرضا الزبيدي في الفكر الاجتماعي عند علي (ع) مصدر سابق ص124

11- الإمام علي (ع) نهج البلاغة مصدر سابق ج3 ص360

12- قاسم عباس خضير الإمام علي (ع) رائد العدالة الاجتماعية والسياسية دار الأضواء- بيروت 2004م ص188

13- عباس محمود العقاد عمرو بن العاص دار الكتاب العربي- بيروت 1969 ص234

14- جورج جرداق الإمام علي صوت العدالة الإنسانية دار مكتبة الحياة- بيروت1970 ج5 ص94

15- قاسم عباس خضير الإمام علي رائد العدالة الاجتماعية والسياسية مصدر سابق ص209

16- آية الله محمد الحسيني الشيرازي اللاعنف في الإسلام مؤسسة المجتبى- بيروت 2002 ص72

17- راجع:

أ- الإمام علي (ع) نهج البلاغة شرح صبحي الصالح دار الكتاب اللبناني 1982 ص378

ب- عبد المسيح الإنطاكي ملحمة الإمام علي (ع) مؤسسة الأعلمي- بيروت 1991 ص694

18- رضي منصور العسيف سفر النجاة دار المحجّة البيضاء- بيروت 2003 ص86

19- روكس بن زائد العزيزي الإمام علي أسد الإسلام وقدّيسه دار الكتاب اللبناني 1979 ص12

* ورقة مقدمة الى مهرجان الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) العالمي السابع في دمشق الذي عقد تحت شعار السلام واللاعنف في فكر الإمام علي بن أبي طالب (ع)

Dr.Zahra
04-10-2007, 06:41 PM
الإمام داعية السلام


سلام الله على ذاتك وبركاته على صفاتك وصلواته على سِرك يا روح أرواحِ الأولياء، وحقَّ حقيقة الأصفياء، ويا بهجةَ وفاء الأوفياء، وعلي العلا في عالم الأمانة والطهر والنقاء.

السلام في اللغة:

إن معنى السلام في الأصل هو السلامة والبراءة من كل سوء وعيب، سواء في الظاهر أم في الباطن، إلا أنه يأتي السلام غالباً في مقابل الحرب، وبمعنى المعايشة القائمة على التعاون والمحبة.

يقول صاحب (موسوعة لسان العرب): وكان العرب في الجاهلية يحيّون بعضهم ويقولون (سلام عليكم)، فكأنه علامة المسالمة، وأنه لا حرب هناك.

الإسلام دين العدل والسلام:

كان الناس في الجاهلية يعيشون على القتل والغزو والسلب، فجاء الإسلام بمفاهيمه وتعاليمه يدعو إلى السلام، حتى نعمت به الجزيرة العربية، ثم امتد إلى بقية أقطار الأرض وأصقاعها، إلى أن عمّت الحضارة الإسلامية أكثر من نصف الكرة الأرضية لقرون، ولا زالت آثارها باقية حتى الآن.

أسباب الحروب:

إن للحرب والعدوان والإرهاب دوافع وأسباب، ومن أهمها ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فإذا انتفى الظلم وحلّ محلّه العدل، عمّ السلام وخيّم الوئام.

وهذا هو السبيل الذي سلكه الإسلام لينقل العرب من العداء إلى الإخاء، ومن الصراع إلى الولاء.

معالم السلام في الإسلام:

أجل ... الإسلام دين السلام، لأنه يعني التسليم لمبادئ الإسلام، القائمة كلها على السلام.

في الإسلام الرب هو رب السلام.

في الإسلام النبي هو رسول السلام.

في الإسلام الدين هو دين السلام.

في الإسلام التحية هي السلام.

الله هو السلام ومنبع السلام:

في الإسلام الرب هو السلام، يقول تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن). سورة الحشر 23.

ولأنه السلام فهو يفيض السلام على كل أجزاء الكون، فحيثما جلت ببصرك ترى معالم السلام، كل ما في الكون يسير في نظام ثابت مستقر محكم يشيع بين النجوم والكواكب السلام، ليس نجم يتعدى على نجم، وليس كوكب يتعدى مداره الذي رسم له، كل جرم يعرف حقه وواجبه فيضفي على الكون السلام.

لقد صوّرت بعض الديانات أن الإله شرير يتحكم بالكون ويبطش بالأشياء ويغضب على مخلوقاته، ثم لا يرضى عنهم حتى يقدّموا له الذبائح والقرابين، وأن كل جزء من الطبيعة يسير على هذا المنوال، فهو في تصارع مستمر مع غيره ومع الإنسان.

أما في نظرة الإسلام فليس هناك صراع وقتال وعداء، بل هناك محبة وتفاهم وإخاء، فكل ما في الكون متوافق متكامل مسخّر لخدمة الإنسان.

المسلم يشعر أنه يحب كل ما في الكون، وأن كل ما في الكون يحبه، كل المخلوقات مطيعة لله تسير بأمره، تربطها المحبة والتفاهم لانتمائها إلى خالق ومهيمن واحد.

وحتى بعض الظواهر التي يبدو في ظاهرها الاضطراب والتدمير وعدم السلام، فهي تنطوي في نتيجتها على السلام وتؤدي في حقيقتها إلى خدمة الإنسان، إنها مسخّرة لخدمته لأنها تضم في وظيفتها الخير والسلام.

أنظر يا أخي مثلاً إلى (الرياح) التي تقدّم أكبر الفوائد للإنسان، رغم أنها قد تظهر في بعض الأحيان، بشكل عواصف وأعاصير وسيكلونات، تدمّر المدن والبلدان، فهي التي تسيّر السفن في البحر، وهي التي تشكّل السحب في الجو، وتحمل الغيوم إلى عنان السماء ثم تسيّرها إلى الجبال والسهول، لتنزل الأمطار العذبة في الشتاء، التي تشيع في اليابسة الخصب والسلام، وهي التي تهبّ في الربيع على الأشجار فتلقّح الزهور التي تعطي الثماؤ والنماء والسلام، ولو أمكن استخدام طاقة هذه الرياح لأغنت عن كثير من منابع الطاقة والقدرة.

ثم انظر إلى (الأنهار) التي تنقل المياه من الينابيع في أعالي الجبال لتصبّها في البحر، كيف أنها تسقي كل ما حولها أثناء مسيرها، مشيعة الحياة والحضارة والسلام، تصوّروا لو أنّ نهر النيل لم يكن موجوداً في مصر، إذن لكانت مصر صحراء جدباء لا يدوسها إنسان ولا يزورها حيوان.

ثم انظر إلى (البرق) الذي يخطف بالأبصار، وهو يحوي الدمار والإحراق لبعض الناس، إذا ما انفرغت شراراته النارية بالأرض، كيف أنه يعمل على إنزال المطر الشديد المصحوب بالسماد الآزوتي المتشكل، فيروي الأرض العطشى، ويغذي النباتات الظمآى، فينبت الأرض بعد موتها، ويبث فيها الأشجار والأزهار، والفواكه والثمار.

فالبرق والرعد هما في حقيقتهما آيتان من آيات الله، هدفهما الخير والخصب وإشاعة الرفاهية والسلام.

ثم انظر إلى (الشمس) التي هي بؤرة انفجارات نووية مرعبة مروّعة، من نوع القنابل الهيدروجينية الإندماجية، التي لو وصل صوت إنفجاراتها فقط إلينا لأصيب كل من على الكرة الأرضية بالصمم، كيف أنها استوت في السماء أعظم منبع لنا للخير، فهي التي تمدنا بالنور الساطع والحرارة والدفء، ولولاها لجمد كل من في الأرض من الأنام، وهلك في أيام لا أعوام.

ثم انظر إلى (القنبلة الذرية) الإنشطارية، التي تستجمع في طيّاتها أسباب الممات وأسباب الحياة، فهي بإشعاعاتها إذا انتشرت على الأرض فإنها لا تبقي ولا تذر، ثم هي اليوم من أعظم مصادر الطاقة الحرارية والكهربائية في العالم.

نستشف من كل هذه الأمثلة، أن كل ما خلق سبحانه في الطبيعة والكون، فهو مسخّر لخدمة الإنسان وسعادته وراحته، يقول تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض، أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم، وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخّر لكم الأنهار، وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخّر لكم الليل والنهار). إبراهيم 33و34.

ولا ينفي ذلك أنه سبحانه قد أوجد أيضاً بعض المصادر المدمرة كالبراكين والزلازل، التي جعلها سلاحاً لمعاقبة الناس إذا ما طغوا وبغوا وحادوا عن تعاليمه، فتحمل في ظاهرها الدمار والخصام، إلا أنها تحمل في حقيقتها السلام، لأن التخلص من الظالمين والباغين هو من الضرورات الملحة لإشاعة السلام على الأرض.

إذن فالله هو السلام، ويهدي إلى السلام، ويدعو إلى جنة السلام، وكما قال سبحانه: (والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) يونس 25.

النبي محمد (ص) رسول السلام:

من أجل ذلك بعث الله للبشرية نبياً يدعو إلى السلام، بعثه بدين السلام والإسلام.

وفي حين كان بعض الأنبياء يدعون على قومهم بالهلاك بعد أن دعوهم إلى الهدى فلم يستجيبوا، كما فعل نوح وعاد وصالح وغيرهم، فإن نبينا محمداً (ص) لم يرض أن يدعو على قومه، رغم كل ما فعلوه به، بل اكتفى بالقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، وقد تحمّل صنوف الأذى من قومه الذين أذاقوه ألوان العذاب، حتى هجروه، ثم هجّروه من بلده، وذلك لطمعه في أن يهتدوا يوماً ما، أو أن يأتي من نسلهم من يوّحد الله وينصر دينه، كما حصل فعلاً، وحتى المنافقين لم يقتلهم طالما أنهم لم يشهروا عليه سيفاً، بل ظلوا يتظاهرون بالإسلام، وحين ظفر ببعض الأسرى في بدر، فداهم بالمال والتعليم، وحين ظفر بأهل مكة يوم الفتح، أطلق سراحهم ولم يقتص منهم، لماذا كل هذا؟ لأنه رسول الخير والرحمة والهداية والسلام.

الإمام علي (ع) إمام الهداية والسلام:

وعلى هذا الهدي المبارك سار صنوه وحبيبه الإمام علي (ع) فكان يعفو عند المقدرة حتى عن أكبر أعدائه، صفح عن مروان بن الحكم يوم الجمل، ولما ظفر بعائشة أرجعها إلى بيتها في المدينة معززة مكرمة، وحين ملك مشرعة الفرات في صفين لم يعامل معاوية بالمثل فيمنع عنه الماء، وكان دينه وديدنه أن يهدي كل الناس، لأنه إمام الهداية والمحبة والسلام.

والذي يتمعّن في سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل صلاة، نجد أن غاية الإنسان الأساسية الهداية (اهدنا الصراط المستقيم)، فهو يطلبها من ربه دائماً ويطلب منه الدوام عليها، أما المؤمن فبعد أن ينعم بنور الهداية، فإن غايته في الحياة أن يهدي غيره، كشكر لهداية الله له .. وهداية الغير هدف عظيم نبيل، لذلك كان أجره وثوابه كبير جزيل.

وهكذا كان هدف علي الكبير هداية الناس أجمعين، وهو الذي قال له النبي (ص): (يا علي، لأن يهدي الله بك رجلاً، أحب إليك من حُمر النعم)

الإسلام دين السلام:

حقاً إن الإسلام هو دين السلام، لأنه جاء ليشيع بين الناس مبادئ الحق والعدل والسلام، ولم يكن في مبدأ محمد (ص) الحرب والاعتداء والخصومة، فهو لم يلجأ إلى القتال إلى بعد أن استنفد كل الوسائل الأخرى، فبعد أن دعا قومه إلى الحق وإلى دين السلام فأبوا إلا المكابرة والمعاندة والقتال، اضطر إلى حربهم، وكان دائماً يتحاشى القتال ولا يبدأ به.

وعلى هذا النهج سار الإمام علي (ع)، فكان قبل أن يبدأ القتال مع أعدائه، يرشدهم ويهديهم ويدعوهم إلى القرآن والإسلام، فإن أبوا لا يبدأهم بالقتال حتى يبدؤوا به، وإذا دعوه إلى الصلح كان هو الأسبق إليه.

لقد كان علي (ع) داعية هداية وسلام، ولم يكن داعية حرب وخصام.

انظروا إلى معركة صفين، لقد كانت أطول حرب عرفها التاريخ، لقد استمرت مائة يوم قبل الوقعة الفاصلة، لماذا؟ لقد ظل الإمام (ع) مائة يوم يحاول هداية خصومه ويرسل إليهم الرسل والرسائل، عساهم يرجعوا إلى الحق وينكفئوا عن الباطل، ولما يئس من هدايتهم ولم يجد بداً من السيف، قرر الحرب الفاصلة، وكانت ليلة الهرير.

وبالنسبة للخوارج لم يقاتلهم حتى جهّزوا جيشاً لحربه في النهروان، وبعد إنخذالهم في المعركة بلغه اجتماع بعضهم في (حروراء) فلم يتعرّض لهم طالما أنهم لم يشهروا عليه سلاحاً، وكان من جملة وصاياه فيهم قوله: (لا تقاتلوا أولاد الخوارج من بعدي) أي لا تقاتلوهم بجريرة آبائهم.

وحتى الإمام الحسين (ع) حين أحاط به الأعداء في كربلاء يريدون قتله، لم يبدأهم بالقتال، بل بدأهم بالنصيحة وتقديم الحجة، بعد أن عرّفهم بنفسه وموقعه من الإسلام، وبيّن لهم أهداف نهضته، حتى يكونوا على بيّنة من أمرهم.

الاستقامة سبيل السلام:

وهكذا إذا نظرنا إلى ديننا الإسلامي وبنائه القويم، نجد أنه كله سلام ... فالله هو السلام (والله يدعو إلى دار السلام)، وتحية المسلم هي السلام، وتبتدئ الصلاة باسم الله وتنتهي بالسلام: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.. ).

والله حين يدعونا إلى السلام، يبيّن لنا الطريق الموصلة إلى السلام، يقول تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).

فالآخرة هي دار السلام، ومن يلتزم بالاستقامة على الصراط المستقيم يجعل حياته الدنيا كدار الآخرة في سلام، وإذا حاد عن الاستقامة جعل الحياة الدنيا جحيماً، فيستحق في الآخرة الجحيم.

والاستقامة التي هي الطريق إلى السلام، تعني السير على الطريق القويم الذي ميزانه العدل، ونفي البغي والطغيان، لذلك قال سبحانه في سورة هود: (واستقم كما امرت ومن تاب معك، ولا تطغوا، إنه بما تعملون بصير) 112.

وما الصلاة في فاتحتها إلا دعوة للتمسك بأحكام الدين والصراط المستقيم: (اهدنا الصراط المستقيم).

المحبة عماد السلام:

أقام الإسلام المجتمع على مبادئ الإخاء والمحبة والمودة، التي هي في نظره طابع الكون كله.

فالمسلم المستقيم الفطرة يحب كل إنسان وكل شيء في الوجود، ولذلك يحسن إلى كل شيء، إلى أخيه الإنسان فيرحمه ويساعده، وإلى الحيوان يرأف به ويريحه، وإلى النبات يتعهده ويعتني به، وهو لذلك لا يؤذي حتى النملة التي لا قيمة لها، ولذلك اعتبر الإمام علي (ع) من الذنوب الكبيرة أن يخلّص الإنسان النملة من قشرة شعيرة تحملها في فمها وتسير بها إلى بيتها لتدخّرها قوتاً لأولادها.

والمسلم الصحيح من سلم المسلمون من لسانه ويده، وإن السلام مع الذات ومع الآخرين ومع الكون كله، هدف أصيل من أهداف هذا الدين.

السلام تحية الإسلام:

ولتثبيت ذلك جعل الإسلام التحية بين أتباعه، السلام والرحمة والبركة: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، قال رسول الله (ص): (إن أولى الناس بالله من يبدأ بالسلام) رواه الترمذي.

وعندما تلقي هذا السلام على كل من تلقاه من الناس، فكأنك تعزف لحناً جميلاً على أوتار قلبك، فيلتقي مع قلوب الآخرين في إطار الحب العميق الذي يجعل الجميع إخوة على دين واحد، وعلى صعيد واحد.

إن إفشاء السلام هو علامة الحب، والحب دليل الإيمان، والإيمان مفتاح الجنة، يقول النبي (ص): (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).

وإذا كان إلقاء السلام سنّة مباركة، فردّ السلام فريضة واجبة، قال تعالى: ( وإذا حييتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها) النساء 86.

وهكذا تجد أن غاية الإسلام العليا هي السلام بين جميع الأنام، وأن هذا الشعار الذي نلقيه على بعضنا كلما التقينا (السلام عليكم) يريده الإسلام أن لا يكون مجرد لفظ باللسان، بل أن يتحقق قولاً وعملاً، فيحبّ المسلم لأخيه السلام، فلا يظلمه ولا يحقره ولا يعتدي عليه.

إن التحية في الإسلام بالسلام تشير إلى المضمون السلمي في علاقة المسلم في المجتمع بالآخرين، وتطبع علاقات المسلمين بعضهم ببعض في المجتمع بطابعه المميز الخاص، الذي يحمل معاني المسالمة والتحابب والتحسيس بالأمن والسلام من كل طرف تجاه الآخر، وإشعار الطرف الآخر بالسلام في العلاقة وانتفاء الظلم والعدوان.

سيرة الإمام علي (ع) في صون الدماء والرأفة بالضعفاء:

وعلى هذا النهج العلي والهدي المحمدي سار الإمام علي بن أبي طالب (ع) وهدفه الأساسي في الحياة هو هداية الناس.

لنتصفح نهج البلاغة وخاصة في وصايا الإمام (ع) لعماله على الأمصار، فنجده يؤكد لهم على أهمية صون الدماء وعدم إراقة محجمة دم بغير حق، ثم أن لا يعاملوا الرعية بالقسوة والعنف، بل باللين والرحمة.

ففي المحور الأول يقول الإمام (ع) في عهده لمالك الأشتر حين ولاّه مصر:

(إياك والدماء، وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها) نهج، كتاب 53.

وفي المحور الثاني يقول (ع) في عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر:

(فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآس بينهم (أي عاملهم بالمساواة) في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذّب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم...) نهج، كتاب27.

ويقول (ع) في عهده لمالك الأشتر:

)وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم).

وحتى لا يظن أحد أن هذه التعاليم خاصة بأبناء المسلمين، بل هي في منظور الإسلام مطبقة على كل الناس أجمعين، من أي عرق أو دين، قال (ع):

(ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) إلى أن يقول: ( فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر (يقصد الإمام) عليك فوقك، والله فوق من ولاّك)!.

وهكذا فإنّ الإنسان المسلم يشعر بالسكينة والسلام في قلبه، لأنه يضمر المحبة والسلام لغيره، ثم يريد هذا السلام أن يتحقق للآخرين، فيشيع في الأرض السلام، وتتحقق بذلك تعاليم الإسلام.

*

Dr.Zahra
04-10-2007, 06:42 PM
وجه الله


العشق عشقك وجه الله يؤنسني لما تجلى ولولا الحب أحرقني


والعشق عشقك نور القدس تشغله بوحا بروحي فكاد العشق يصعقني



والعشق عشقك لا حجم يقاس به فأعجبْ لقلب حواك كيف يسكنني



وأنت قلب يضم الكون من سعة كم يملأ الكون وجه منك يلزمني



ملأت كل جهاتي والزمان فلا أرسو بوجهته إلا تشاغلني



فأغتدي خفقة في كل عاشقة ترعى مع الشوق ما تهوى من البدن



كم أسكب النجم كالأزهار حيث أنا في كل رطب أراك الحب يشعلني



تضمنُ العشق همس الروح ممتزجا جسمي بجوهرة ترقى على الثمن



فليس تخطر في الأذهان صورتها حتى تجلت جمالا منك يأسرني



كأنها والولاء الخصب تورقنا نبتا جنيا بروض الذكر يطربني



كم عاد ينسجني ذاتا أذوب بها كما يذوب ندي الماء في الغصن



أراك في كل طهر أنت خالقه كما خلقت لحون الله بالزمن



فكل درب يريني الفجر أنت به كما عهدتك صبحا ُمشتهى وغني



نكاد نرشفه ثغرا لقبلتنا كي نرتوي ولها من أعذب المزن



ها قد ملأت جهاتي منك أغنية بها الأماني بهام السحب تغسلني



فليس لي جهة إلا أراك بها كأنك الله فوق العرش يرحمني



يا قبلة الله في محراب صفوته خذني كما الشمس أنوارا تباركني



فليس من زمن إلاك تنعشه وجه تشاطره أنشودة السنن



بداهة أنت دنيا المجد تحملها خمائلا بالجني الغض تلهمني



ما غاب وحيك عن قلبي يرتله وأنت أنت يقين الله يحملني



فليس من جهة إلا وأنت بها وليس من زمن لله لم تكن



أبا تراب وذاك الاسم معجزه كأن كل سمو منه يوجدني



أحن قلبا حنين الصادحات له إن جئت في فزع نخيا أبا حسن



الله أكبر كم يسمو النداء به أبا الحسين وهل إلاك ينقذني



آمنت أنك قطر ما تمنع إذ يستاف غيثا إذا ما الضر أرقني



وأنت أنت مداد الله أعرفها دنياك أنك وجه الله تمنحني



لم يخدع الوهم آفاقي بزخرفة وكيف يخدع قلب من علي غُني



يممت شهدك أستجلي روائعه فكل رائعة كالشمس بالزمن



فأنت أنت بساق العرش نور هدى يهدي لعالي جنان الله منك سني



فأنت أنت إلى حوا و آدمها سر من العفو يغشي قلبه الوسن



وأنت أنت سفين الحق يركبها نوح وطوفانه في محنة المحن



وأنت أنت سلام الله برده على الخليل لنار الحزن والشجن



وأنت أنت إلى موسى مكلمه وأنت أنت مزيل الشك والوهن



وأنت أنت إلى هارون نافلة على المصائب بسم الله لم تخن



وأنت أنت إلى عيسى مقلده روحا من القدس منانا بلا منن



وأنت أنت وليد البيت منقبة حباك رب السما فيها على العلن



وأنت أنت إلى المختار ناصره والدين لولاك هذا الدين لم يكن



وأنت أنت إلى القرآن ترجمة ثارت بأبعادها تنهي صدى الوثن



وأنت أنت إلى الإسلام سيف وغى في كل معضلة تطفي لظى الفتن



وأنت أنت إلى الزهراء كوثرها أبا الحسين وتاج المجد للحسن



وأنت أنت وصي المصطفى خبرا للحق حيث فروض الله بالسنن



اذ أنت نفس رسول الله دون مراء وأثمن الخلق مبريا عن الثمن



يا قالع الكفر من أحضان سطوته وقامع الشرك في عساله اللدن



يكفيك من خيبر فتحا أتيت به والوجه منك طليق والعطاء هني



وذي المكارم كم تقضي لواردها حقا يليق بذات العرش حيث بني



ما جن لليل من داج تواصله حتى كأنك والمحراب في شجن



تخر في هدءة التهليل منكسرا مجرد القلب نحو الله والبدن



وقلبك الثر نبع منك مؤتلق بالنيرات وبالأمجاد ذو سكن



هذا علي فلا تحصى مناقبه ما إن بدت خصلة منها تهيجني



وإنني اعذر الغالين فيك هوى اذ فيك ما فيك من كنه لمفتتن



حتى إذا ما غدا التأليه يسرقهم أصممت وقت الهوى عن بوحهم أذني



وقلت يا عاذلي ما كنت تعذلني في حب حيدرة لو كنت تعرفني



لولا حرارة أنفاسي موحدة لكنت أعبده شركا ليحرقني



فيا رعى الله من أوفى له ذمما ويا رعى الله من أوفي ولم يخن



عوذت عشقك عن قالٍ يقول به يراك أنت وباقي الخلق بالجنن



من لم يكن حيدرا إنسان صحوته هيهات تنفعه أنشودة الوطن



أبا تراب وفي عشقي حياة غدي وأنت أنت حياة الروح والبدن

Dr.Zahra
04-10-2007, 06:42 PM
الإمام علي(عليه السلام) رائد السلم واللاعنف


قال الباري تعالى في محكم كتابه الكريم(يا أيها الذين آمنوا اُدخلوا في السلم كافة) صدق الله العلي العظيم.

مع تصاعد حملات العنف في كثير من بلاد العالم خاصة في العراق الجريح بلد الإمام علي وأبنائه الأطهار(عليهم السلام) وجدنا من الجدير أن نعنون مقالنا تحت عنوان( الإمام علي عليه السلام رائد السلم واللاعنف)

فإن أكثر من تعرضوا لسيرة مولى الموحدين الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) أسهبوا في الحديث عن شجاعته وفروسيته وبطولاته المشهورة وملأوا بها المصنفات ودووا بها في كل مكان، ولكن وللأسف الشديد قلّما تجد من تعرّض لمواقفه وأحاديثه العظيمة في بعد السلم واللاعنف وكأن سيرة هذا العملاق الفواحة خلت من هاتين المفردتين، والحال أنه عليه أفضل الصلاة والسلام إلى جانب شجاعته وبأسه الشديدين كان رائدا في جانب السلم واللاعنف، حتى قال في حقه الشاعر:

جُمعت في صفاتك الأضداد فلهذا عزّت لك الأنداد

زاهد حاكم حليم شجاع ناسك فاتك فقير جواد

شيم ما جُمعت في بشر قط ولا حاز مثلهن العباد

من هنا ولكي تدفع مثل هذه الشبهة وليتعلّم العالم بأسرة من سيرة هذا الإمام الهمام الذي قدم للبشرية جمعاء خير مصاديق في جانب السلم واللاعنف وجدنا من الضروري أن نشير إلى بعض الشواهد البسيطة الدالة على التزام الإمام علي(عليه السلام) الشديد بهذين المبدئيين حتى مع أعدائه وألد خصومه ومدى حرصه البالغ على أن يعم السلم واللاعنف في العالم.

مفهوم اللاعنف والسلم عند الإمام علي(عليه السلام)

وقبل أن نستعرض الشواهد العظيمة الدالة على تأكيد أمير المؤمنين(عليه السلام) على السلم واللاعنف ينبغي أن نقف هنيئة ونلاحظ كيف فسر هذا العبقري الخالد هذين المعنيين.

ففي بعض الأخبار الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام) نجد أنه كان يدعو إلى السلم واللاعنف حينما يكون الإنسان له القدرة على رد الإساءة بمثلها والبطش بالآخرين، ففي الخبر أنه(عليه السلام) قال: عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو.

وقال لمولاه قنبر لما سمع أن رجلا يشتمه وقد رام قنبر أن يرد عليه، فناده( عليه السلام) قائلا: مهلا يا قنبر، دع شاتمك مهانا ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك،فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.

وقال(عليه السلام): إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه.

منهجية الإمام علي(عليه السلام) في السلم واللاعنف

وبعد معرفة مفهوم السلم واللاعنف عند أمير المؤمنين(عليه السلام) لننظر كيف قدم هذا الإمام الهمام للبشرية جمعاء خير منهج في السلم واللاعنف، وما هي استراتيجيته في الوصول إلى هاذين المبدئين.

فمن جانب نجد أنه(عليه السلام) حارب وبشدة العنف بشتى مفرداته حتى صارت كلماته ومواقفه تجاه كل ما يرتبط بالعنف مضربا للأمثال عبر العصور المختلفة.

فقد روى الأمدي (في كتاب الغرر) عنه (ع) انه قال: لا ترج ما تعنّف برجائك.

وقال (ع): رأس السخف العنف.

وقال (ع): راكب العنف يتعذر مطلبه.

وقال (ع): من ركب العنف ندم.

وقال (ع): من عامل بالعنف ندم.

وقال (ع): كن ليناً من غير ضعف، شديداً من غير عنف.

وقال (ع): ينبغي للعاقل اذا علّم ان لا يعنف.

وقال (ع): من رفق بمصاحبه وافقه ومن اعنف به اخرجه وفارقه.

أما مواقف أمير المؤمنين(عليه السلام) تجاه العنف فيكفي أن نتصفح بعض الجوانب من سيرته العطرة لنرى كيف أنه(صلوات الله عليه) حارب وبشدة العنف بشتى أنواعة وبمختلف الطرق، ومن ذلك:

ما روي أن سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية بعد موت علي، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين،وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك؟ قالت: إن الله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا ولا يزال يتقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بقوة سلطانك، فيحصدنا حصيد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل ، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف ، هذا بشر بن أرطاة قدم علينا فقتل رجالنا ، وأخذ أموالنا ، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك، فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:

صلى الاله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا فصار بالحق والايمان مقرونا

فقال معاوية: من هذا يا سودة ؟ قالت : هو والله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والله لقد جئته في رجل كان قد ولاه صدقاتنا فجار علينا ، فصادفته قائما يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف ، وقال : ألك حاجة ؟ قلت : نعم ، فأخبرته الخبر ، فبكى ثم قال : اللهم أنت الشاهد علي و عليهم ، وأني لم آمرهم بظلم خلقك، ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها : بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ، فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك ، والسلام " . ثم دفع الرقعة إلي ، فوالله ما ختمها بطين ولا خزنها ، فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولا ، فقال معاوية : اكتبوا لها كما تريد ، واصرفوها إلى بلدها غير شاكية.

ولما أغار جند معاوية على الأنبار وروّع النساء وسلبوا إحدى نساء أهل الذمة خلخالها خرج بنفسه غضبان حتى انتهى إلى النخيلة، فمضى الناس فأدركوه، فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين فنحن نكفيك المؤنة، فقال: والله ما تكفوني ولا تكفون أنفسكم، ثم قام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه .. حتى قال( عليه السلام):وهذا عامل معاوية أغار على الأنبار فقتل عاملي عليها ابن حسان وانتهك أصحابه حرمات المسلمين ، لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع قرطها وخلخالها لا يمتنع منها ثم انصرفوا لم يكلم أحد منهم ، فوالله لو أن امرء مسلما مات من هذا أسفا ، ما كان عندي ملوما بل كان عندي جديرا.

نعم هكذا وقف مولى الموحدين(عليه السلام) وبهذه الصرامة أمام العنف قولا وعملا حتى حال دونه انتشاره وتفشيه في العالم الإسلامي.

أما الجانب الآخر من منهجيته المباركة في بسط السلم واللاعنف فيتجلى أيضا كالشمس في رابعة النهار من خلاله كلماته الخالده ووصاياه القيمة ومواقفه العظيمة التي بيّن من خلالها الصورة الحقيقة للإسلام الخالد الذي جاء لينعم البشرية بنعمة السلم واللين.

ويكفي أن نلقي نظرة عابرة على وصاياه(عليه السلام) لعماله لنرى كيف أنه(صلوات الله عليه) كان يؤكد عليهم وبشدة أن يتخذوا السلم واللين شعارا في تعاملهم مع الرعية، ومن ذلك كتابه لحذيفة بن اليمان لما استخلفه على المدائن جاء فيه: وكتب إليه:بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى حذيفة بن اليمان، سلام عليكم، فإنّي ولّيتك ما كنت تليه لمن كان قبل حرف المدائن.. إلى أن قال(عليه السلام): وإنّي آمرك بتقوى الله وطاعته في السرّ والعلانية فاحذر عقابه في المغيب والمشهد، وأتقدّم إليك بالإحسان إلى المحسن والشدّة على المعاند، وآمرك بالرفق في اُمورك واللين والعدل في رعيتك فإنّك مسؤول عن ذلك، وانصاف المظلوم والعفو عن الناس وحسن السيرة ما استطعت فالله يجزي المحسنين.

كما بعث(عليه السلام) إلى بعض عمّاله كتاباً يأمره فيه بالتزام اللين واللاعنف في التعامل مع الرعية فقال(عليه السلام): فاستعن بالله على ما أهمّك، وأخلط الشدّة بضغث من اللين، وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدّة حين لا تغني عنك إلاّ الشدّة، واخفض للرعية جناحك، وابسط لهم وجهك، وألن لهم جانبك، وآس بينهم في اللحظة والنظرة، والإرشاد والتحيّة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك، ولا ييأس الضعفاء من عدلك، والسلام.

وفي عهده(عليه السلام) إلى مالك الأشتر لمّا ولاّه مصر قال:وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فانّهم صنفان، إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنّه لا يد لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمنّ على عفو، ولا تبجحنّ بعقوبة، ولا تسرعنّ إلى بادرة وجدت عنها مندوحة ولا تقولنّ إنّي مؤمّر أمر فأطاع، فإنّ ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرّب من الغير.

أما مواقفه العظيمة في السلم واللاعنف فهي لا تنكر وقد شهد بها المؤالف والمخالف ويكفينا أن التعرض إلى مواقفه مع من كانوا يعارضونه لنرى كيف أنه(عليه السلام)تعامل معهم باللين والرفق والسلم ومن ذلك:

قوله لطلحة والزبير حينما استأذناه في الخروج إلى العمرة فقال: لا والله ما تريدان العمرة وإنّما تريدان البصرة، فكان الأمر كما قال.

وقال (عليه السلام) لابن عبّاس وهو يخبره عن استئذانهما له في العمرة: إنّني أذنت لهما مع علمي بما قد انطويا عليه من الغدر واستظهرت بالله عليهما، وإنّ الله تعالى سيردّ كيدهما ويظفرني بهما.

وقال(عليه السلام) في خطبة له في ذي القار مصرّحاً عن سماحة الإسلام وعظمة سياسته اللاعنفية الداعية إلى إتاحة الحرّيات للآخرين حتّى للمعارضة:وبايعني طلحة والزبير وأنا أعرف الغدر في وجهيهما والنكث في عينيهما، ثمّ استأذنا في العمرة فأعلمتهما أنّ ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكّة واستخفا عائشة وخدعاها وشخص معها أبناء الطلقاء فقدموا البصرة وقتلوا بها المسلمين وفعلوا المنكر، ويا عجباً لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما عليَّ وهما يعلمان أنّي لست دون أحدهما ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتاباً يخدعهما فيه فكتما عنّي وخرجا يوهمان الطغام أنّهما يطلبان بدم عثمان.

و بعد واقعة الجمل قالت صفيّة بنت الحارث زوجة عبد الله بن خلف الخزاعي له: يا قاتل الأحبّة، يا مفرّق الجماعة!، فقال الإمام (عليه السلام): إنّي لا ألومك أن تبغضيني .. ولو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من في هذه البيوت، ففتّشت البيوت فكان فيها مروان وعبد الله بن الزبير.

وروي أنه (عليه السلام) كان جالسا في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم ) فقال عليه السلام : إن أبصار هذه الفحول طوامح، وإن ذلك سبب هبابها ، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة كامرأة، فقال رجل من الخوارج : قاتله الله كافرا ما أفقهه ! فوثب القوم ليقتلوه ) فقال : رويدا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب.

الطريق إلى الحد من العنف

واليوم والعالم يعاني من مشكلة العنف في كثير من البلاد يحق لنا أن نتسائل قائلين: لماذا هذا العنف عند بعض المسلمين؟

وكيف نعالج مشكلة العنف في العالم؟

أما منشأ العنف فهو عدم الفهم الصحيح للإسلام الأصيل الذي دعا إلى السلم واللاعنف، والجهل الكبير برؤيته إزاء العنف، بل والجهل الكبير بسيرة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام).

فلو اطلع رواد العنف على السيرة الصحيحة للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار(عليهم السلام) خاصة أمير المؤمنين(عليه السلام) لعرفوا شدة مبغوضية العنف في الإسلام ومدى حرص الإسلام وتأكيده على السلم واللاعنف.

ومع الأسف الشديد فإن جانبا كبيرا من ذلك تقع مسؤوليته على كواهلنا إذ أننا لم نعرّف العالم بأهل البيت(عليهم السلام) خاصة أمير المؤمنين، ولم نبّين للناس الجوانب الحضارية الأصيلة الموجودة في سيرة هذا العملاق العظيم ليقتدوا بها،ولذا فإن بعض المسلمين ولجهلهم عمدوا إلى العنف في التعامل مع الآخرين.

وحتى اليوم لم نسمع أن أحد المتصدين لهذه المعضلة سلط الأضواء وعالج هذه المشكلة وفق الموازين الأصيلة التي طرحها مولى الموحدين(عليه السلام)، ويكفي في ذلك ظلامة له(عليه السلام).

فلكي تحل هذه المعضلة لا بد من الرجوع إلى العترة الطاهرة التي جعلها رسول الله(صلى الله عليه وآله) مرجعا إلى جنب القرآن الكريم خاصة الإمام علي ونأخذ منهم المنهجية السليمة لحل هذه المعضلة.

من جانب آخر ينبغي أن نقتدي بنهج أمير المؤمنين(عليه السلام) النيرة وكيفية محاربته للإرهاب والعنف ونسير على خطاه المباركة، فنوضح للعالم بأسره رأي الإسلام وشدة بغضه ومحاربته للإرهاب والعنف عبر شتى وسائل الإعلام المؤثرة وبتركيز.

بل ينبغي لنا أن نربي الأجيال على نهج أمير المؤمنين(عليه السلام) في كل مكان ونخصص لهم المناهج التربوية المدروسة التي تعرفهم بسيرة الإمام علي(عليه السلام) الصحيحة خاصة في المدارس ونوضح لهم منذ الصغر كيف كان(عليه السلام) يحث وبشدة على حفظ معالم الإسلام وإيصاله للأجيال المختلفة سليما لينشأوا ويترعرعوا على النهج الأصيل الذي دعا إليه القرآن والرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله).

علاوة على ذلك ينبغي لنا أن نوصل للمنظمات الإنسانية التي تتبنى حقوق الإنسان نهج أمير المؤمنين(عليه السلام) في السلم واللاعنف وندعوها إلى طرحه كمنهج عام يلتزم به رسميا في العالم.

وأخيرا ندعو الكتّاب والخطباء وكل من يهمه الأمر في قضية العنف في العالم أن يدرسوا هذا النهج العلوي ويبينوه للعالم ويوضحوا للشعوب أهلية هذا النهج لإيصال الشعوب إلى شاطئ الأمان والسعادة.

فسلام الله عليك يا أبا الحسن يا رائد السلم واللاعنف يوم ولدت مظلوما ويوم عشت مظلوما ويوم قتلت شهيدا مظلوما. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Dr.Zahra
04-10-2007, 06:43 PM
مولد ولي الله

بقلم الشاعر صادق درباش الخميس

ايُّ عيدٍ يجعل الأيام عيْدا

أيُّ يوم ٍ أعتلى التاريخ مجْدا

ايُّ ميلاد ٍ يفوق الفجر مدّا

أيُّ بيت ٍ صار للمولود مهْدا



ولد اليعسوب في جوف الحطيم

ابن عم المصطفى وبن الكريم

قاتل الكفار بالسيف العظيم

ذو فقار ٍ بات للأشرار ندّا



أيُّ نور ٍ أسبغ الأكوان نورا

أفعم الأرجاء كالشمسين سبْرا

قد أحيل الترب من حوليه تبْرا

بعد طه صار خير الخلق عبْدا



قبلة الكون تناغي الهاشميّا

ختم القرآن تنصيب الوليّا

أمّة الاسلام تشدوا يا عليّا

انت ليث الله هدّ الشرك هدّا



يا وليا يا وصيا يا اماما

انت في العلياء قد نلت المقاما

صرت للأيمان ميزانا لزاما

وملاذا ان اسيق العبد فردا



كان في الصغر وزيرا وامينا

نصّب اليوم امير المؤمنينا

بورك الكرار هاد الحائرينا

نفس طه للنصارى كان ردّا



علـّت الأفراح في يوم الوصايهْ

أعلن الرحمن قانون الهدايهْ

أنـّما الأيمان في سرّ الولايهْ

صار للجنـّات مفتاحا وسدّا



حبّ طه وعليٍّ صلب ديني

وكذا الزهراء ثم الحسنين

هم ْ صراط الله بالحق المبين

فهنيئا من لهم ادْخر ودّا

Dr.Zahra
04-10-2007, 06:44 PM
وليد الكعبة.. قبلة التوحيد


التوحيد في الاسلام من يؤمن بالله الواحد الاحد ربا واحدا لاشريك له، ويجسد ايمانه هذا فعلا صادقا في السر والعلانية، ويسلم ذاته تسليم العبد الى خالقه المالك المطلق. ولقد تمثلت شخصية امام الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام رمزا من الرموز الالهية التي اصطفاها رب العزة كدليل بشري في التوحيد. أي يكون للناس علما ونبراسا لمن أراد التحدث عن النماذج الانسية في عبادتها للخالق سبحانه وتعالى.

كذلك فيما نفهمه عن هذه الشخصية العظيمة هي العلاقة الملازمة بينه عليه السلام وبين شيعته الذين عانوا اشد المعاناة ومحص ايمانهم بالله تبارك وتعالى من خلال موالاتهم لامير المؤمنين على طول التاريخ منذ وفاة النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

هذه المسألة تحتاج الى فهم يستوعب جيدا المعاني والفلسفة الالهية التي من ورائها عرف الامام بامام الموحدين وأمير المؤمنين وجعلت ولادته في داخل بيت الله الحرام الذي يطوف حوله ملايين الناس ملبين نداء التوحيد لبيك اللهم لبيك.

عن حذيفة بن اليمان أن أناسا تذاكروا فقالوا: مانزلت آية في القرآن فيها (( ياأيها الذين آمنوا)) الا في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال حذيفة: مانزلت في القرآن ((ياأيها الذن آمنوا)) الا وعلي لبها ولبابها.

وعن سعيد بن الجبير عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب أنت الطريق الواضح وأنت الصراط المستقيم وأنت يعسوب الدين. بهذا المنطق يكون التأمل في القرآن الكريم (( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الظالين)) ومفهوم الصراط لابد أن تكون له مصاديق من النموذج الانساني بالاقتداء والموالاة ومتابعة الاعمال الحسنة منهم كل هذا المنطق نراه في شخصية الامام امير المؤمنين عليه السلام وهي ليست مسألة مزاجية في الطرح أوليس علي بن أبي طالب هو الميزان لايمان الانسان وصدقه والتمييز بين المنافق من الصحابة وباعترافهم هم يكون من خلال المحبة للامام فكانوا يقولون اذا اردنا ان نعرف المنافق من المؤمن نعرفه من خلال حبه لعلي. هذا هو الابتلاء بعينه حينما تبتلى بايمانك بالله سبحانه وتعالى وباهم أصل من أصول الدين وهو التوحيد تختبر بحبك لعلي.

بل الاكثر من ذلك نحن عندما نقف في محراب الامامة وقيادتها السياسية والدينية لانجد من يمثل أمل البشرية جمعاء بالخروج من المستنقع المظلم الذي هو اليوم عالم الظلمات كما كان ظهور النبي الاكرم وبعثته المباركة حسب الطرح القرآني ليخرج الناس من الظلمات الى النور باذن ربهم كذلك امامة أهل البيت وقيادتهم للعالم وليس المسلمين فقط انما هي انقاذ للبشرية من التهلكة واخراجهم من جديد من الظلمات الى النور باذن ربهم لان الانحراف سيكون مشتركا في العالم اجمع وبذلك تبرز الحاجة الى نظرية الامام الحجة المنتظر عجل الله ظهوره الشريف.

من هنا يكون الحديث عن قبلة التوحيد الامام علي عليه السلام حديث الواقع الانساني المؤلم الذي يتطلع الى اصلاح المجتمع وتنقية الدين من الاختراق المنحرف في حركة المجتمع الاسلامي الذي لم تنفذ وصايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ بعثته المباركة والى رحيله من الحياة الدنيا، فكم أشار بمقام أهل بيته ومكانة الامام عليه السلام من الدين والامة وفق الوحي القرآني الذي بعلي نزلت سبعون آية لم يشركه الله تبارك وتعالى أحد.

ان من أهم الامور التي أود الاشارة اليها في هذا المقام هي مأساة الطريق المظلم الذي تسير عليه الامة الاسلامية بلا نور ولاية علي عليه السلام وأهل بيته الاطهار فهذه من الامور التي يفترض ان ينتبه اليها المعنيون من أتباع أهل البيت وقد نبههم الامام منذ ان تصدى لقيادة الامة بقوله:

فأين تذهبون ؟ وأنى تؤفكون والأعلام قائمة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم ! وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم ؟ ! وهم أزمة الحق، وأعلام الدين، وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن. وردوهم ورود الهيم العطاش. أيها الناس، خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم : إنه يموت من مات منا، وليس بميت، ويبلى من بلي منا وليس ببال. فلا تقولوا بما لاتعرفون فإن أكثر الحق في ما تنكرون.. واعذروا من لا حجة لكم عليه، وهو أنا.. ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ؟

. أمة رضيت بشر الخلق لقيادتها فمن الطبيعي يخلف الشر الذي هو امتداد للكفر وأعني به معاوية ويزيد وما أكثرهم اليوم. فمن الطبيعي تصل بهم الامور الى استباحة دماء المستضعفين كما في العراق ويتصورون انهم يحسنون صنعا بذلك.

(( قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )).

ابوحسن علي
04-10-2007, 06:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
مشكورين على الطرح الرائع عن الامام علي عليه السلام
الامام علي بن أبي طالب- عليه السلام- و ثقافة اللاعنف والتعايش من هنا (http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/035.htm)

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:47 PM
الإمام علي(ع) جامع إنساني ومثال عسير

http://www.annabaa.org/nbanews/65/imeges/134.jpg
شبكة النبأ: الامام علي عليه السلام كتاب كبير وجامع انساني، اغترف منه الادباء والمصلحين والمفكرين والفلاسفة حكمة الحياة وحكمة السلوك، كما اغترف منه اهل الدنيا ما للدنيا، فقد كان ينبوعا في الجريان الروحي، والاتصال بالروح العليا، والتجلي كروح هفهافة رقيقة بلغت شأوا من النور لتكون ملائمة بدرجة كبيرة في مستوى الانسجام مع الكون الروحاني الذي خلقه الله سبحانه وتعالى ليحيا فيه الانسان الابدي.
لقد كان الامام مثالا عسيرا لكل من حاول اقتفاء سيرته او سلوكه حتى ان الامام السجاد عليه السلام وهو العابد الزاهد قال بقنوط واضح: لن اكون ممن يلحقون بعبادة او سلوك علي بن ابي طالب.
كما كان مثالا عسيرا للحكام، فلم يجرأ احد ان يتوازى مع سيرته، فيما استطاع التاريخ الذي كتبه الحكام فقط ان يدعي بان الحكام في الزمن الفلاني والعهد الفلاني ساروا على ذلك المسار العسير، بفصول زائفة موضوعة من قبل المتملقين والماجورين وعبيد القصور.
وجانبه الانساني العميق وعدالته التي يطبقها على نفسه اولا، ولا يجعل لها مهربا من مواجهة الواقع، وهو لايزيد عن عدالته التي طبقها على نفسه عندما تكون في مواجهة الآخرين، فان احتمال التساهل والمعاذير والمسوغات تشمل غيره ولا تشمله بقيراط.
حافظ على كونه انموذج الامة وقرآنها السلوكي، وزبورها الحكيم وضوئها الانساني الوهاج في زوايا الجهل والتخلف والهوى وحب الاستحواذ والتسلط.
كان الانموذج العالي في الحكمة والعلم والكلام، وله من الاسرار الكونية والعلوم المخبوئة والنظرة المستشرفة للمستقبل البعيد والقريب، وذاكرة متفاعلة للامتداد الزمني الذي قبله واخبار التاريخ وعادات الناس.
كان نسيجا اندمج بالقرآن فصار من ضمن الفكر والحكمة التي تدور في انفتاقات حكمته وتجليات عقله المبدع.
وايضا كان رسالة كبيرة وواضحة لكل من ياتي بعده، او في غير زمانه ليرى كيف يكون انسانا بحق؟ وكيف يريد الله سبحانه وتعالى ان يكون الانسان في الحياة الدنيا كعامل وكآفل.
كيف يمكن ان تبنى الحياة والتجديد كيف تتم الاخوة الانسانية مع بنو البشر كافة دون ان يفرقهم امر او ادلجة او مصالح ضيقة فقوله لايزال يتفكر به المتفكرون هذا الرجل الذي نشا في تلك الصحراء ان يقول اما اخاك في الدين او نظيرك في الخلق!!.
فما هو مقدار البعد الانساني الشامل لهذه الفكرة الاسلامية التي اعطاها دفعا كبيرا في سماء انسانية واسعة؟.
الامة الاسلامية اليوم وبالنسبة الواقعية التي قرات بصورة عقلانية تاريخ السلطات المدعية للاسلام، تحلم بحاكم يحتكم ولو على عشر معشار السيرة التي سارها الامام في الشعب وهي تنقب عن ذلك الحاكم تنقيب العبد عن التمرات.
وتمرات العبد او ( خلالات العبد ) كما يلفظها العراقيون، ان العبد وجد تمرات في التراب راى ان كلبا قد بال عليها قبل ان يصل اليها لكنه كان جائعا فاحتار في بادئ الامر كيف ياكلها لكنه فكر اذ ربما تكون بعضها لم تتنجس بالبول فاخذ يتناول ما يظنه غير متنجس الى ان اتى عليها كلها.
فالعقلاء اليوم يرضون ان يكون الحاكم متوسط في الرشوة ومتوسط في الفساد ومتوسط في الظلم شرط ان لايغالي بها وان يعطي نسبة معقولة من الحقوق لاصحابها وان لاينشغل الى درجة العمى بنفسه واستحواذاته وسرقاته المفضوحة.
فلا وجود لمن -يطفئ السراج- مخافة ان يهدر اموال الامة فالامة واموالها اشياء شخصية للحاكم، منقسمة الى ما يضعه في الخزائن البعيدة في المدن الاجنبية، وناس هم في حكم العبيد اجسادا وارواحا.
ان شخصية الامام التي قد يحلم بها الحالمون لن تتكرر ابدا في الزمن الردئ الذي نعيشه، فلا يتكرر الامام ولا يتكرر القرآن ولا يتكرر النبي ولا يتكرر الائمة المعصومين فهم لحمة واحدة من الانوار التي برقت في سماء الانسانية، وظلت بما خلفته من مفاهيم وسير نبراسا يهدي بضوءه البشرية السائرة على الطريق وهي تبحث عن كمالها وشأوها الذي يريده الله سبحانه وتعالى.
وظلت تلك الانوار مقياسا لن تبلغه النفوس الضعيفة المنحطة النفوس المستعبدة من ذاتها وضيق افق تفكيرها وتفاهة آمالها وصغر اهدافها ودونيتها.
فماذا يسعنا ان نقرا من هذا الكتاب الكبير الذي هو الامام علي بن ابي طالب؟.
ان من يريد الكتابة عن الامام انما يضع نفسه في احراج كبير، فاي من اوجه الذكر طويل الشرح، في العدالة ام في الحكمة ام في السياسة ام في الزهد والعبادة ام في المسلك الاجتماعي ام في علم القرآن والدين ام في الاخلاق او الادارة او في النضال والصبر وتحمل الاذى في سبيل الله؟.
لكنه كتاب منشور يتحدث به الجميع، شانه شان القرآن والسيرة النبوية الشريفة،حتى اصبح كما الهواء في سماء الاسلام تحفظ الآيات القرأنية على ظهر القلب وتستذكر السيرة النبوية بمختلف النقل على الالسن، وتحفظ حكم وارشادات الامام علي عليه السلام وسيرته العملية، لكنها مجرد اصوات مجرد اقوال مجرد زخرفات مجرد ادعاءات مجرد لافتات مجرد اقنعة يتقنع بها سراق الامة وتجارها السياسيون والمتسلطون فلا يرد تطبيقها على نهر الحياة الجاري بالماء الرائب بالنفايات والرشاوي والظلم.
وعلى ذكرى مولده فلنستذكر تلك السيرة العطرة للشخصية التي جسدت الانسانية العريضة بكل مالها وعليها، ولنمتثل ولو بجزئيات ملامحها الممكنة ونحن في طريق ان نضاعف من مسيرتنا بما يتشابه معها صعودا منذ درجة الصفر.
فسلاما عليك ياابا الحسن يوم ولدت ويوم رحلت عن دنيانا ويوم ان تبعث حيا فانك فينا حلما مؤجلا شانك شان القرآن والسنة التي وضعت ظهريا رغم ان اطفالنا وصحفنا وكتاباتنا والسننا تذكر لك السيرة وتتناقل الكلام والحكمة من جيل الى جيل.
ورغم ان الحكام صعدوا سدات الحكم بادعائهم فيك وتواعدوا بسيرتك ورفعوا شعارك على جدران المدن البائسة دون ان يحترموا الاسم والسيرة والموعظة الحسنة.

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:49 PM
العقل والحرية في رؤية الامام علي(ع)

http://www.annabaa.org/nbanews/65/imeges/119.jpg
شبكة النبأ: اكد القرآن بصورة متواترة على وجوب ان يستخدم الانسان العقل والتفكر حيث عد ساعة من التفكر بما يوازي عبادة مضاعفة وذلك لأن العقل هو جزء من حكمة الله سبحانه وتعالى أي ان العقل هو ربيب الله في دار الدنيا وهو الذي انشأه وعلمه الحكمة اذ علمه الاسماء كلها وامتحن الملائكة فعجزوا ان يؤدوا ما لدى الانسان من تلك الروح المتفكرة التي زجها فيه.
وصار العقل بمثابة الهادي الى نور الله وتوحيده والاعتراف بالربوبية له.
ان الله لما خلق آدم عليه السلام مسح على ظهره فاخرج ذريته من صلبه نسما في هيئة الذر فالزمهم العقل وقررهم انه الرب وانهم العبيد فاقروا له بالربوبية وشهدوا على انفسهم بالعبودية لله عز وجل.
فالعبادة بحسب تصنيف الامام على على ثلاث اقسام هي عبادة العبيد وعبادة التجار وعبادة الاحرار.
** فعبادة العبيد تحكمها البيئة والتقليد فانهم ان وجدوا في مجتمع نصراني تنصروا وفي اليهود تهودوا وفي الاسلام كانوا مسلمين يقودهم الخوف من العقاب.
اضافة الى ذلك فان عبادة من هذا النوع وهو السائد تجري هذه العبادة تحت مقياس هكذا وجدنا آباءنا سالكون فسلكنا مسلكهم، وهي عبادة غير عقلية أي انها لم تات من تفكير عميق اودى في نهاية المطاف الى اليقين والحقيقة الكبرى.
** واما التجار فانهم يحسبون الحساب التجاري فلا تفوتهم الربحية الآخروية بما انها مكسب ومرغب لتشكيل الصورة المناسبة ازاء المجتمع الذي يعيشون فيه ولو كانت البيئة نصرانية فانهم سيحسنون الصورة الاجتماعية فيتنصرون لدفع تجارتهم تحت الرضا الاجتماعي العام.
** واما عبادة الاحرار فان هذه لا تتم الا من خلال القناعة العقلية ويكون المحرض لها هو الشك.
فقد سئل الامام جعفر الصادق عليه السلام عن الشك فقال هو بداية الايمان او هو مدخل الايمان. ولعلنا نقف كثيرا امام الآية الكريمة التي تقول:
إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما.
فما هي تلك السيئات التي يبدلها الله سبحانه وتعالى بل أي من السيئات يمكن ان تبدل لو استخدمنا المنطق والعقل.
هل يمكن ان نتصور ان الربا او الزنا او السرقة او اكل مال اليتيم او غير ذلك من توافه الافعال يمكن ان يبدلها الله الى حسنات؟.
ان امورا مثل ما ذكرنا قد يمحوها الله برحمته او انه يستر عليها وهو خير الساترين ولكن ليس من منظار العقل البشري ان يرى انه يبدلها بقدر التجاهل رحمة وسترا للعبد المقترف.
في حين ان التفكر واعادة النظر بالكون والشك فيه وفي القرآن كفكر وكمنهج وكفلسفة وكدين من منطلق التوصل الى القناعة الباتة أي من اجل الوصول الى الحقيقة فان هذه سيئات وتعديات قد تكون سيئات كثيرة وارتكابات خلال فترة الشك والتفكير التي قد تطول لسنين وفيها اهمال واسع لتادية العبادات واخطاء في المعاملات والسير الخاطئ في الدروب الوعرة لكنها ليست اشياء تافهة وغير مخلة بالعقل والتفكر والتقصي وبذل الوسع لإيجاد القناعة اليقينية والوصول اخيرا الى مرفأ الحق الاكبر في نهاية المطاف هذه ليست امور تافهة ان تكون نتائجها ان يعبد الله عن قناعة فذلك هو الايمان الذي لايتزعزع ولا يحيد.
ومن هذا فهي تستحق ان تبدل برحمة الله الواسعة وتتحول الى حسنات، كونها استندت الى التوبة أي البراءة من الاعمال السيئة السابقة وايضا كانت التوبة عن ايمان مطلق وبما ان الايمان الذاتي دافع كبير وقوي باتجاه العمل الصالح فان جميع اسباب العمل الصالح حاضرة ومنتهزة لكل فرصة سانحة فانها حركة ديناميكية وماكنة خيرة صالحة وحاضرة في الجسد الاسلامي وهذا هو العمل الصالح.
** في قول للامام علي(ع): اللهم اني ما عبدتك طمعا ولا خوفا ولكن رايتك اهلا لذلك فعبدتك!.
فكيف راى الإمام الاهلية للعبادة هل رأى سعي الآباء والاجداد والعشيرة والبيئة فشب عليها
وانسحب تحتها دون ان يسال ويتقصى؟.
ام انه اعاد النظر وتفكر مليا وبذل الوسع والاستقصاء ثم اقتنع بايمان واعتنق الحقيقة العظمى للربوبية والتوحيد؟.
** واذن ليست هناك خطوطا حمراء لايتصل بها الفكر والتفكر طالما انها جسور تؤدي الى المآل والمبتغى الكبير من خلال الحرية الحقيقية والاختيار الذي وهبه الله سبحانه وتعالى للانسان.
** وفي قول قاله الامام علي عليه السلام عند انتهاء حرب الخوارج بما معناه.، لا تحاربوا الخوارج من بعدي فانهم طلبوا الحق فأخطأوه، وليس من طلب الحق كمن طلب الباطل، واي كانت الصيغة في النقل فانها في ذات المحور العقلي فالخوارج ارادوا طلب الحق لكنهم اخطاوه أي انهم استخدموا العقل أي بمعنى استخدام الجدلية للوصول الى الحقيقة الكبرى وبما انه تفكر فان احتمال افضاءه الى الحقيقة في نهاية المطاف والوصول الى اليقين في نهاية الامر.
ولذا فان الامام راى ببصيرته ان هؤلاء يتوصلون اليها طالما استعملوا الوسيلة الموصلة التي كان القرآن يؤكد عليها على طول الخط، فاوصى ان لا يقاتلهم احد من بعده ما بقوا على صيغة العقل والتفكر.
يقول الامام(ع) وقوله خير تعبير عن الايمان بالقناعة وليست بالميراث المتداول بين جيل وآخر:
لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا، واذن فان اليقين ليس له حاجة بعد الاستدلال العقلي
بقدر الاطمئنان النفسي الذي هو ليس بشك وانما هي نازعة الشك المواربة في اللاشعور التي يدخرها الفكر في العقل الباطن وهي الممحصة بتحفز لدى الانسان.
ولذ فقد قيل(كي يطمئن قلبي)، على لسان احد الانبياء، نتيجة انه قد خلق مفكرا يستدل بالجوهرة التي باهى بها الله الملائكة، حتى قالوا ربنا لا نعلم إلا ما علمتنا..
.................................................. ...
المصادر/
امير المؤمنين-يوم الدين/الجزء الاول

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:50 PM
الأمام علي بن أبي طالب ((ع)) رجل الحرية والديمقراطية الأول
لايمكن لأي مسلم أو غير مسلم في مغارب الأرض ومشارقها ينكر شخصية الأمام علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين ومن الذين تربو في حجر الرسول الأكرم محمد (( ص )) واشرف خلق الله ونبيه المختار. وقد استطاع الأمام من أن يجعل فترة حكمه التي شابها الكثير من المعارضة والفتن الداخلية من قبل من كانوا متنفذين ومساهمين في عرقلة المسيرة العادلة لفترة حكم الإمام, وهو الذي لم يجبر احد على مبايعته لا من العامة ولا من السادة. وقد وضح علي الوردي في ذلك ((ولعلنا لا نغالي إذا قلنا أن ديمقراطية هذا الرجل وصلت إلى درجة يعجز عن الوصول إليها كثير من حكام القرن العشرين))(( الديمقراطية في الإسلام)). وبذلك استطاع أن يصحح الكثير من الأخطاء التي ترتبت على سياسات عقيمة مورست قبله لذلك استشاط هؤلاء المتنفذين غضبا وأكالو كل التهم لهذا الأمام وشرعو في جعل المؤامرات تأخذ كل حيز تفكير الأمام في أدارته للدولة ولولا هذه المؤامرات لوصل الأمر إلى أن يصنع دولة تتمتع من حقوق الإنسان جانبا مهما وكبيرا. فقد كان سلام الله عليه لا يفرق بين من هو من صلبه وعامة الشعب كما جاء في أحدى رسالاته إلى احد ولاته ويقول فيها((فَوَالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلتَ ما كانت لهما عندي هوادة، ولما تركتهما حتى آخذ الحق منهما )) وهذا الدليل الأكبر على أن الأمام كان ينظر إلى الناس سواسية كأسنان المشط وقد كان حديثة مع ابن عباس قمة في الارتقاء نحو دولة الحرية والديمقراطية واحترام الإنسان قبل كل شئ ((دخل عليه تلميذه عبد الله بن عباس يوماً فوجده يخصف نعله ، فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نعله بنفسه, وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم القديم ، فقال ( عليه السلام ) لابن عباس : ما قيمة هذه - مشيراً إلى نعله - ؟
قال ابن عباس: لا قيمة لها.
فقال ( عليه السلام ): والله لَهِيَ أحبُّ إلي من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.
فالحكم عند الأمام هو الفرق بين الحق والباطل وبين ما تعتمر به قلوب العامة هو نفسه الذي يجب أن يعتمر في قلب كل حاكم ووالي لذلك كان لايتواني في أرشاد وتوجيه ومعاقبة من يخطئ من ولان ولاياته ولا يجامل احد منهم على حساب العامة من الشعب واستعمل منهم في كل البقاع الاسلاميه من خيار المسلمين الثقاة حفاظا على حقوق العامة ((أمثال مالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر، وسهل بن حنيف، وحبر الأمة عبد الله بن عباس، ونظرائهم من الذين توفّرت فيهم الخبرة التامة في شؤون الحكم والإدارة )) وقد كان الأمام علية السلام يزودهم قبل توليهم برسالة يحدد لهم مسار الحكم ورؤيته حول العدل بين الرعية وهو العدل في وقته وزمانه وكان دائم التفكير في حقوق الناس وكان غزير الدمعة إزاء أحوال المسلمين وكثير الخوف من الله سبحانه وتعالى وكان يحمل من الأخلاق الحميدة ما تزود منه من المدرسة المحمدية التي قال فيها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابة (( انك لعلى خلق عظيم )).
وكان في المجتمع الإسلامي في الكوفة من الذين استفادوا في العهود السابقة مثل كالأشعث، وعمرو بن حريث، وشبت بن ربعي مما كانوا يحاولون أن يدسوا الدسائس والمكائد مع اللعين معاوية فلذلك كان الأمام علية السلام يحاول أن يصلح الناس بالطرق السلمية فكان يحاول أن يصلحهم بالحوار والجدال متخذا من مبداء حرية ألراءي وكان بامكانه أن يطيح برؤؤسهم وان يزجهم في السجن وهو الحاكم المطلق لأربع قارات بدون منازع ولكن كانت أخلاقه ومبدئيته تمنع من أن يتخذ هذا القرار الصعب على الصالحين فيقول ( عليه السلام ): (( لولا أن المكر والخداع في النار لكنتُ أمكر الناس)) فقد كان الأمام يتمتع بالأخلاق المحمدية الشريفة فقد كان مصداقا بارزا للآية الكريمة التي تقول (( كونو قوامين بالقسط)) وقد كان اقسط الناس بعد الرسول الكريم وكان إذا يساوي نفسة مع عامة الناس وكان يخيط ملابسة بنفسة ويخصف نعله وكان اصبر الناس على الظيم والظلم وقد كان ( عليه السلام ) يسد جوعته بكسرة خبز يابسة، ويأتدم الملح ليكون مستوى معيشته كأضعف الناس ، ويقول : ( إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفه الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره , فقد كان الأمام يصور لنا نظرته إلى العمق التاريخي للبشرية ويحتكم إلى الإنسان في كل الأمور ولم يكن يطرح في كلامه وحياته البعد الإسلامي فقط بل كان إنسانيا بكل معنى الكلمة فقد كان يقول سلام الله علية(( أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق )) مما يدلل بصورة جلية على أن هذا الأمام كانت كلماته وعظاته وحياته التي كان فيها خارج الخلافة وفي الخلافة (( لان إمامته على امتداد حياته الشريفة موجودة ومن بعدة ابناءة المعصومين )) تمثل البعد التاريخي للإنسانية اليوم وغدا وحتى قيام الساعة وقد كانت نظرته البعيدة سلام الله علية من قوله ((نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ )) وقد استقى هذا من اشرف ما موجود على وجة الخليقة الأول من كلام الله سبحانه وتعالى ومن المدرسة المحمدية الشريفة المستقاة علومها من الله سبحانه وتعالى كما قال الإمام عليه السلام : عَلَّمَني رَسُولُ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ألْفَ بَابِ مِنَ العِلِم ، كُلُّ بابِ يَفتَحُ ألفَ بابٍ .
كان الأمام علية السلام ثائرا من الطراز الأول ضد الترف والانحراف الذي يضر الإنسان بغض النظر عن دينه وجنسة لذلك كان مريديه قلة لان الأفكار التي كان ينادي بها تسابق العصر الذي كان يعيش بة وقد كان سلام اللة علية مثال للتجديد الديمقراطي في حكم الدولة الإسلامية الناشئة ولم يكن ألا رجل استطاع أن ياسر قلوب المؤمنين ويعيش في دولة أرادها الله سبحانه وتعالى ضوء ونبراس لكل الأحرار وليثبت للعالم اجمع أن الإسلام هو الأب الشرعي للديمقراطية وحرية ألراءي حيث يقول علي الوردي ((وهو في الواقع آخر حاكم في تاريخ الإسلام انثالت العامة على بيعته طوعا واختياراً. وقد أشار هو إلى ذلك حيث قال: "أن العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر". أما الخاصة فقد بايعه معظمهم. وحين رفض بعضهم بيعته تركهم أحرارا، فلم يجبر أحد منهم عليها، وإنما خلى بينهم وبين ما أرادوا من الاعتزال، وقبل منهم ما قدموا من عذر، وقام دونهم يمنع الثائرين من أن يصلوا أليهم))((الإسلام والديمقراطية)) وهذا إذا دل فإنما يدل على عمق الحرية والديمقراطية التي كان يتمتع بها الإمام والتي غابت على الإسلام والمسلمين منذ استشهاده ولحد ألان التي غابت ونسيها المسلمين وما كانت فلسفته في الحرية والديمقراطية لا يمكن ان تصاغ في الوقت الحاضر وممارستها حتى إلى اقرب الناس إلية ألا وهم أبناءه ومنهم الإمامين المفترضين الطاعة الحسن المجتبى وأبا عبد الله الحسين سلام الله عليهم أجمعين.
وقد قيل الكثير في الإمام من الأعداء قبل الأصدقاء ويدلل ذلك على تأثيره في الرسالة المحمدية العظيمة وسنتذكر منها أكراما له باستذكارنا له في يوم استشهاده.
قال الدكتور طه حسين: ( كان الفرق بين علي ( عليه السلام ) ومعاوية عظيماً في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمناً بالخلافة ويرى أن من الحق عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، أما معاوية فإنه لا يجد في ذلك بأساً ولا جناحاً، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يحبون ) علي وبنوه: ص59
قال جبران خليل جبران: ( إن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كلام الله الناطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى من عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدة الاقتراب ممسوس في ذات الله ) حاشية الشفاء ص 566 / باب الخليفة والإمام.
أن الأمام سلام الله علية كان منارا في الحق والحرية والعدالة واحترام الإنسان وقد بقي أبا الحسن منارا للكثير من المظلومين لأنة بحق كان مجسدا لما امتلكه من حس أنساني وتمثيلا صادقا للرسالة الإسلامية وجسد تقاليد استلهم منها الكثير من الناس حضاريتهم وعمقهم لفهم الرسالة التي ابتغاها الشرفاء من هذا العالم فقد كان بحق ثورة على الظلم والاستكبار لصنع حياة زاهرة ومطمئنه للانسانية والتثقيف لدولة الممهدين لدولة الأمام المهدي (( عج )) ولترتقي الإنسانية إلى ما تصبو أليه بعد ما صارت بين جنباتنا ثمار ما جادت بة قريحة هذا الأمام المفترض الطاعة.
أليك يا سيدي مني سلام يوم ولدت في جوف الكعبة المشرفة ويوم استشهدت في جوف محرابك بين يدي الله سبحانه وتعالى في مسجد الكوفة.

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:52 PM
الإمام علي (ع) وروح المبادرة


من صفات العظماء والقادة والزعماء امتلاكهم لروح المبادرة في فعل الخير، والمسارعة لاغتنام الفرص، والمسابقة إلى الخيرات والأعمال الصالحة.

فالمبادرة سر من أسرار النجاح والتفوق، وعنوان للتقدم والرقي في مدارج الكمال، وخطوة نحو تحقيق الإنجاز على مختلف الصُعُد والمستويات. وكما أن المبادرة ضرورية في صناعة النجاح للأفراد؛ كذلك هي مهمة لصناعة النجاح للمجتمعات الإنسانية.

ولأهمية صفة المبادرة في تقدم الأفراد والمجتمعات أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى هذه الصفة، بألفاظ مختلفة كالمسارعة والمسابقة، قال تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}(1) ويقول تعالى: { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ }(2) فعلى الإنسان ـ كما المجتمع ـ أن يبادر إلى فعل الخير، واغتنام الفرص، والمسارعة في إتيان الأعمال الصالحة.

والمبادرة صفة من الصفات البارزة في شخصية الإمام علي (ع)، فقد كان المبادر إلى كل خير.

فهو أول من أسلم ...

وأول من أعلن نصرته لرسول الله (ص)...

وأول من ضرب بالسيف في سبيل الله تعالى ...

وأول من كان يعلن استعداده للتضحية عندما يطلب الرسول الأعظم (ص)، ذلك من أصحابه...

وأول من جاهد وهاجر بعد رسول الله ...

وكان الإمام علي (ع) كثيراً ما يوصي أصحابه بالمبادرة في فعل الخير، إذ يقول (( بادروا بالأعمال عُمُراً ناكساً، ومرضاً حابساً، أو موتاً خالساً ))(3) وقال (ع) أيضاُ: (( بادروا آجالكم بأعمالكم، فإنكم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما قدمتم )) (4) وقال (ع) أيضاً: (( بادروا بعمل الخير قبل أن تشتغلوا عنه بغيره )) (5) فعلى الإنسان أن يكون مبادراً قبل أن يفقد القدرة على فعل المبادرة بفعل الأمراض أو الشيخوخة أو الأشغال المختلفة أو العوائق التي تعيق قدرته على القيام بمبادرات في طريق الخير والصلاح.

وكي يتحلى الفرد يروح المبادرة عليه أن يثق بنفسه، ويكون شجاعاً في اتخاذ القرار، ويغتنم الوقت من دون أي تأخير، وإلا فإن ( التواني إضاعة ) (6) كما قال الإمام علي (ع)، كما أن التأخير قد يمنع الإنسان من الإقدام على فعل الخير، ولذلك قال الإمام الباقر(ع): ((من هَمَّ بشيء من الخير فليعجله، فإن كل شيء فيه تأخير، فإن للشيطان فيه نظرة)) (7) فمن أراد النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، فعليه بالمبادرة والمسارعة في فعل الخيرات.

وكما أن المبادرة مهمة في حياة الفرد ومستقبله، كذلك هي ضرورية جداً في حياة المجتمعات ومستقبلها، وكما يتفاوت الأفراد في مدى الاستعداد للمبادرة كذلك هي المجتمعات البشرية، فنجد أن مجتمعاً ما تكثر فيه المبادرات الخيرية في مختلف المجالات، في حين تفتقر بعض المجتمعات إلى روح المبادرة.

وكلما تحلى المجتمع بصفة المبادرة كلما كان أكثر تقدماً وتطوراً، أما المجتمع الذي يفتقد روح المبادرة فتراه متخلفاً وفي القائمة الأخيرة في قياس التقدم والتطور.

إن مجتمعنا اليوم أحوج ما يكون إلى تعميق صفة المبادرة فيه، وتشجيع الناس على امتلاك روح المبادرة، فكل مجتمع يعاني من نواقص ونقاط ضعف في بنيته الاجتماعية، ولا يمكن معالجة ذلك إلا بقيام المجتمع بمبادرات إيجابية لمعالجة ذلك؛ بل ولصنع التقدم الاجتماعي، وتنمية المجتمع في مختلف أبعاده ومفاصله الرئيسة.

أما الاكتفاء بالكلام دون العمل، وبالنقد دون الفعل، وباجترار المشاكل دور السعي إلى حلها، فهذا ما يوبخ عليه القرآن الكريم من يتحلى بهذه الصفات، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (8)

والإمام علي في أكثر من موقع يوبخ أصحابه الذين يكثرون من الكلام في المجالس ولكنهم لا يفعلون شيئاً لتغيير الواقع، يقول (ع): (( كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كًيْت وكًيْت، فإذا جاء القتال قلتم حٍيْدٍيْ حَيَاد !! )) (9)

وفي موضع آخر بوبخ الإمام علي (ع) أصحابه الذين لا يبادرون إلى الجهاد، ويتسلحون بالأعذار لتبرير تقاعسهم عن روح المبادرة، يقول (ع): ((فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارَّةُ القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القُر أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً ًمن الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون؛ فإذا أنتم والله من السيف أفر )) (10) .

وهكذا ما ترك مجتمع من المجتمعات روح المبادرة في أي شيء من شؤون الحياة إلا كان متأخراً ومهزوماً ومتخلفاً. واليوم إذا ما أردنا أن نتقدم بمجتمعنا، وأن ننهض بأمتنا، فعلينا كأفراد وكمجتمع أن نبادر إلى فعل الخيرات؛ وإلا فإن الكلام وحده لا يصنع التقدم، والتضجر والتذمر من الواقع لا يغير فيه شيئاً، بينما المسارعة والمبادرة إلى فعل الخيرات هو طريق التقدم، وعنوان النجاح.

فلنقتدِ بإمامنا الإمام علي (ع) في التحلي بصفة المبادرة في فعل الخير، وعندها سنتقدم كأفراد، وسيتقدم المجتمع أيضاً.


ــــــــــــــ

الهوامش:

1 ـ سورة آل عمران: الآية 114.

2 ـ سورة البقرة: الآية 148.

3 ـ نهج البلاغة، ص 56، خطبة رقم 230.

4 ـ نهج البلاغة، ص 419، خطبة رقم 190

5 ـ بحار الأنوار، ج68، ص 215، رقم 15.

6 ـ ميزان الحكمة، ج6، ص2705، رقم 17676.

7 ـ الوسائل، ج1، ص113، رقم282.

8 ـ سورة الصف: الآيتان 2 و3.

9 - نهج البلاغة، ص128، رقم الخطبة 29.

10 ـ نهج البلاغة، ص 124، رقم الخطبة 27.

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:53 PM
الإمام علي كما عرفه المفكرون


تنشأ الحضارات وتبني الأمجاد، لتدور دورتها الكاملة وفقا لقانون البدايات والنهايات، فلكل شيء بداية ونهاية تبدأ فتية وتستمر إلى ان تصل لشيخوخة الحضارة، ومن ثما موت الحضارة ولا يبقى منها إلا أطلال بالية، هنا وهناك تذكر بالماضي العريق المضمحل، فهي بدأت لتنتهي لأنها مادية شأنها شأن المادة تتكون من جزيئات وذرات ثم تنتهي ،هل يعني ذلك ان قانون البدايات والنهايات مهيمن على كل الحضارات، وما هو الموروث الحضاري الذي لا ينتهي ؟؟

لم تأت حضارة شاملة في التاريخ ككل كالحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي لها بداية وليس لها نهاية (( فالدين عند الله الإسلام )) وما عند الله باق لا ينتهي، فبدايته منذ ان خلق الله الأرض ومن عليها ومنذ ان أراد ان يجعل فيها خليفة، واستمرت البدايات مع ركب الأنبياء عليهم السلام ،لتصل لخاتم الأنبياء الذي أكمل الله الإسلام به وبعلي عليه السلام، فهما من شجرة واحدة (( ياعلي أنا وأنت من شجرة واحدة أنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الله تعالى الجنة )1

ولقد سبر المفكرون أغوار التاريخ الإسلامي، بحثا عن النموذج الأسمى الذي يمثل الإسلام بكل أبعاده، فلم يجدوا إلا علي ولو بحثوا وبحثوا ليطول بهم الزمن، فلن يجدوا غير علي الذي يمثل الإسلام بكل صوره، فالحضارة الإسلامية تجسدت فيه فهو أمة وحضارة في رجل، وكيف لا وهو الوصي والولي بأمر من الله (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ))2 أنستكثر على أمير المؤمنين هذه المنزلة وقد شهدت بفضله الأمم بكل انتماءاتها وطوائفها، فالإمام عليه السلام يعتبر مدرسة فكرية وعلمية وأخلاقية كان لها الفضل فيما أضفته بظلالها الورافه على الحضارات الإنسانية .

لندع العقاد ليحدثنا عما يجول بفكره عن الإمام علي عليه السلام قائلا (( في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما إتجه إليه الخطاب البليغ في سير الأبطال والعظماء ، وتثير في أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل ))3

نعم ففي كل ناحية من النفوس هناك علي عليه السلام وفي كل علم تجد علي ولم يشأ العقاد ان يفارق فكره علياً عليه السلام ليعاود التحليق في سماء علي وآنا له الإحاطة بكل أبعادها قائلا (( وخلاصة ذلك كله ، أن ثقافة الإمام هي ثقافة العلم المفرد ، والقمة العالية بين الجماهير ، في كل مقام وإنها هي ثقافة الفارس المجاهد في سبيل الله ، يداول بين القلم والسيف ، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه ، لأنه بالبأس زاهد في الدنيا ، مقبل على الله ، وبالتقوى زاهد في الدنيا ، مقبل على الله ، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه ، وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا ، بحثه ونجواه ))4

ولم يتفرد العقاد في التحليق في سماء علي فالإمام سماء يحلق فيها المفكرون بكل طوائفهم فالإمام ليس حكرا على المسلمين فقط فالمفكرون المسيحيون كان لهم نصيب من فكر علي عليه السلام فها هو المفكر والأديب الكبير ميخائيل نعيمة يحدثنا عن الإمام علي عليه السلام قائلاً ((ورأيي أنه من بعد النبي سيد العرب على الإطلاق ( يقصد بذلك أمير المؤمنين عليه السلام ) بلاغة وحكمة وتفهما للدين وتحمسا للحق ، وتساميا عن الدنايا فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلا دانت له اللغة مثلما دانت لأبن أبي طالب ، سواء في عظاته الدينية ، وخطبه الحماسية ، ورسائله التوجيهية أو تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين لحين ، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية ، متوهجة ببوارق الأيمان الحي ، ومدركة من الجمال في البيان حد الأعجاز إن عليا لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان ))5

وللأديب الكبير جبران خليل جبران حديثا عن كنه روح الإمام علي يقول (( في عقيدتي إن إبن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل ، فتاهوا بين مناهج بلاغته ، وظلمات ماضيهم )) 6

هذا على المستوى العربي الإسلامي والمسيحي ، أما على المستوى غير العربي فسيرة الإمام علي عليه السلام شغلت المفكرون بسحرها فحتى العلماء الغربيين ابو إلا المشاركة في التحليق في سماء علي عليه السلام فهذا الفيلسوف الانجليزي كارليل يقول في علي عليه السلام مقولته الرائعة (( أما علي ، فلا يسعنا إلا ان نحبه ونتعشقه ، فإنه فتى شريف القدر ، عالي النفس ، يفيض وجدانه رحمة وبرا ، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة ، وكان أشجع من ليث ، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان ))6 وكيف من عرفك لا يحبك يا أمير المؤمنين فهذا العالم عشق الإمام وعبر عن حبه الداخلي له بمجرد ان غاص في فكره الوقاد ، وقد شارك كارليل الباحث الفرنسي البارون كاراديفو بقوله في فروسية وجهادية علي عليه السلام قائلا (( وحارب علي بطلا مغوارا إلى جانب النبي وقام بمآثر معجزات ، ففي موقعة بدر كان علي وهو في العشرين من عمره ، يشطر الفارس القريشي ، شطرين بضربة واحدة من سيفه وفي أحد تسلح بسيف النبي ذي الفقار ، فكان يشق المغافر بضربات سيفه ، ويخرق الدروع ))7

لم يغفل الفلاسفة والمفكرون عن الأجزاء الدقيقة من حياة علي عليه السلام فقد درسوه من عدة أبعاد ولكن في اعتقادي أنهم لن يصلوا لكل الأبعاد فمعرفتهم بعلي عليه السلام معرفة يقصر مداها عن إدراك علم علي وما قالوه هو قطرة في محيط علي عليه السلام فلا يعرف علي إلا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .


--------------------------------------------------------------------------------

(1) المناقب لابن المغازلي

(2) المائدة 55

(3) العقاد

(4) نفس المصدر

(5) جرداق

(6) العقاد

(7) مفكرو الإسلام للبارون كاراديفو

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:55 PM
الإمام علي والنصارى: وحدة العدل وسعة الأفق... لبناء المجتمعات الإنسانية


*- كيف تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع معارضية والطوائف الأخرى..؟؟

*- كيف كان الإمام ينظر إلى خصومه في سوح الحرب؟؟

هل لابد من ضرورة إلى ديباجة أو مدخل؟؟

إذا كانت فلتكن إلى عليّ…ولتكن ركعتان …واحدة:ـ لليد التي امتدت لترعى ذلك الرجل النصراني الكبير بعد ان أنهكنهُ الأيام وسلبته أجمل لحظات الشباب ورونقها ليٌسجل في ديوان بيت المال ويمنح مايسد به رمق العيش..فما دام علي وأبناء علي في الوجود فالعدل والقسط موجود

والثانية:ـ لابتسامة الاحتجاج التي ارتسمت على شفتيّ علي المطعمتين بالصلاة وقداسة الزهد وجوهر التقوى …ابتسامة ارهقتها أماني العراقيين وشغب العرب وعناد المسلمين.

علي بن ابي طالب(عليه السلام)…رجل لم يعرفهُ العرب والمسلمين سوى مولدهِ..وكيف يعاشر السيف،ويعقد مابين حقل ورمح…رجل كان بريئاً من شهوة السلطة الاان يقيم حقاً او يدفع باطلاً..رجل كانت الظروف اكبر من امانيه..كان حريصاً على عدم سفك الدماء..كان ملجماً بالورع والتقوى..ولذلك انتصر خصمهُ في حلبة السياسة التي لاتعرف الرحمة وتعتبر ان الغاية تبرر الوسيلة.

علي بن ابي طالب(عليه السلام)…رجلٌ جمع الكون بكُلْيماتٍ..لإنهُ موقن بان عظمة الله تعالى في معرفتهِ…رجلٌ لم يحاسب أي إنسان بسبب تفكيرهِ أو عقيدتهِ…رجلٌ كان يبكي على أعداءهِ وهو يراهم صرعى مجندلين على الرمضاء وهو يقول:ـ انهم مسلمون؟

رجلٌ تستلم زمام الحكم (وكانت دولتهِ تشمل أكثر من خمسين دولة بجغرافية اليوم، ثلثي الكرة الأرضية كانا تحت سلطته..حيث لم تكن هناك منظمات حقوق الإنسان حتى يتخوف الحاكم من هجوم كاسح لمنظمات حقوق الإنسان عليه. لم تكن توجد دولة أخرى تخيف وتنافس ويلجأ إليها المعارضون لو ضغط عليهم، في هذا الجو وبتلك المقدرة والقوة أصدر الإمام مجموعة من القرارات في خلال فترة زمنية معينة

وبعد أن أصدر أمير المؤمنين (ع) هذه القرارات وبينما كان جالساً في المسجد وإذا به يسمع ضوضاء خارج المسجد، فسأل ما الخبر فقيل له: إن هنالك جمعاً خارجون في يتظاهرون ضد الإمام علي بن أبي طالب (ع). يحتجّون ويعترضون على منعك صلاة التراويح ما الموقف الآن؟

حاكم مطلق، ثلثا الكرة الأرضية تحت سلطته، في أوج قوته ولا توجد منظمات حقوق الإنسان أو أبواق إعلامية أو أي شيء من هذا القبيل هل يعتقل؟ هل يضرب؟ هل يفرق المظاهرة بالقوة؟ الإمام أجاب بكل بساطة: حسناً فليفعلوا ما يحلو لهم.

إذا كان الواجب أن أنهاهم عن المنكر - إلى هذا الحد - من الواجب على الإنسان أن ينهى عن المنكر لكن ما وراء ذلك؟ هل يعجبهم؟ فليفعلوا ما يريدون.

إذاً هذه القيمة من القيم، محرم من المحرمات من جهة ومن جهة ثانية أصالة الحرية الموجودة في الإسلام وقانون الأهم والمهم وملاحظة سائر تبعات القضية، إن الإمام (ع) فسح لهم المجال. إنه كواجب شرعي يجب إبلاغهم بأن ذلك ممنوع ومحرم، لكن لو رفضوا الامثال فلا سجن ولا تعذيب لا تفريق للمظاهرة لا ملاحقة لا قطع للعطاء من بيت المال، بل العكس اتركهم على حريتهم.النماذج على ذلك ليست بقليلة في حياة الرسول الأعظم (ص) وفي حياة أمير المؤمنين (ع).

نموذج آخر: الأشعث بن قيس هذا الرجل الذي ساهم في التخطيط لاغتيال الإمام علي (ع) وبنته جعدة هي التي سمّت الإمام الحسن (ع) وابنه محمد هو الذي شارك في قتل الإمام الحسين (ع) فأية عائلة هذه؟

الأشعث بن قيس - بنى في داره مأذنة، والإمام علي (ع) كان شخصياً يرتقي مأذنة مسجد الكوفة ويؤذن، وهذا مستحب - لأن الأذان هو رمز ارتباط الخلق بالخالق، فالأفضل أن يكون القمة في الكمالات البشرية والروحانية هو ذلك الذي يحمل هذه الرسالة - نحن نتصور أن المؤذن ذو مرتبة دانية، ولكن الأمر بالعكس، فالأمير شخصياً كان يؤذن والأشعث بن قيس بنى في بيته مأذنة وكان يرتقي هذه المأذنة بمجرد أن يعتلي الأمير المأذنة ويبدأ بالهجوم اللاذع والسباب البذيء لأمير المؤمنين، فكيف كان تعامل أمير المؤمنين وهو الحاكم لبلاد المسلمين؟ حيث كان الأشعث يقول في إحدى عباراته: أيها الرجل إنك لكاذب فاجر، وفي مواطن أخرى كان يقول له: إنك لكاذب كافر وهذه تعد أسوأ مسبة في عرف المسلمين خاصة بالنسبة لحاكم المسلمين الأعلى.

والمأذنة في ذلك الوقت بمنزلة الإعلام المسموع في هذا اليوم. وهي تعني الأداة التي توصل صوتك إلى أكبر عدد ممكن من الناس، فكيف تعامل معه أمير المؤمنين (ع)؟ هنا نجد شيئين قيمة الحرية وقيمة ثانية، لا للتعدي.. إذ لا يحق لك أن تجرح شعور الآخرين، مع قطع النظر عن كونه حاكماً بل عن كونه أمير المؤمنين، أنت حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. بالنتيجة فكما أن لهذا حق، فذلك له الحق أيضاً، وأنا لا يحق لي أن أهاجم كل واحد أو أسب كل واحد، هذه قيمة من القيم لكن كيف تعامل الأمير مع هذا الأمر؟

رجح جانب الحرية على هذا الجانب، الأصحاب يضغطون عليه إذ أنهم لا يتحملون ذلك إنه حاكمهم المحبوب أميرهم وإمامهم، وذلك عبّر عنه الرسول (ص): (يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وغيرها من العبارات المختلفة. قيل له هذا يسب جهاراً وفي وضح النهار ولأيام طويلة، فضغطوا على الأمير لكي يعتقله فرفض الأمير، ضغطوا لكي يمنعه رفض، ضغطوا لكي يهدم مأذنته رفض الإمام وقال: أو ليس قد بناها في داره؟

إذن الحرية قيمة من القيم، الأكثرية قيمة من القيم، العدل والإحسان قيمة من القيم، المحرمات والواجبات كلها قيم مختلفة، هذه القيم ينبغي أن تلاحظ بشكل مجموعي ثم نفرز المحصلة النهائية.

قد تكون القضية في بعض المواطن لصالح الأكثرية أو لصالح الحرية كالأمثلة التي ذكرتها لكم عندما يحدث التعارض حسب قانون الأهم والمهم. وقد يكون أحياناً الأمر لصالح ذلك الجانب الآخر مثل قيمة العدل كنموذج).

عليّ بن ابي طالب(عليه السلام)…رجلٌ مر على خرِبة فقيل لهُ:ـ هذه كنيسة؟..قال:ـ بلى هي كنيسة فقيل لهُ:ـ لكم أُشركَ بالله هاهنا؟فانبرى بأفقه الواسع قائلاً:ـ ولكم عُبدَ الله هاهنا…انتم تنظرون من منظاركم انتم،لا بمنظار اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل لاجل هذه النظرة تعشقت النصارى بِحُبِ عليّ وابناءُ عليّ وتغزلت بهم وصدحت حناجرُ شعراؤها هاتفة:ـ

يقولون:ـما بال النصارى تُحِبُّهم

واهل النُهى مِن أعرُبٍ وأعاجمِ

فقلت لهم:ـ إني لأحسبُ حبهمُ

سرى في قلوب الخلق حتى البهائمِ



بقراط بن أشوط(الوامق الارميني)

بقراط بن أشوط،الوامق الارميني،النصراني،كبير بطارقة أرمينية في القرن الثالث الهجري،كان عالما بفنون الحرب وشؤونها،وقائداً فذاً في ميادينها،عاش في زمن طاغية بني العباس(المتوكل)الذي منفك يطارد شيعة ومحبيّ أهل البيت(عليهم السلام) يُسمل عيونهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويلصبهم على جذوع النخل،حتى وصل بهِ الأمر إلى هدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام)ويضيق الخناق على الإمام علي الهادي(عليه السلام)في أمور يفصلها أصحاب السير والمقاتل فليراجع من احب الاطلاع والزيادة تعشق بقراط بن أشوط بسيرة مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)وانشد فيه الأشعار ضاع منها الكثير سوى ما نقلهُ شيخنا(عبد الحسين الأميني النجفي)في موسوعتهِ الرائعة(الغدير) يصف ابن شهرآشوب بقراط بن أشوط في كتابه(معالم العلماء)بأنهُ:ـ(من مقتصدي المادحين لأهل البيت)واعتقد كما يعتقد الكثيرين من الباحثين ان أحداث أرمينية والاضطرابات التي حصلت كانت نتيجة اعتقال بقراط بن أشوط سنة 237هـ وتسيرهِ مع ولده نعمة إلى المتوكل العباسي كما يذكر ابن الأثير في كامله واليعقوبي في تاريخه يقول بقراط بن أشوط في قصيدته:ـ

أليس بخُمًّ قد أقام محمَّد عليّاً

بإحضار الملا في المواسمِ

فقال لهم:ـمن كنتُ مولاهُ منكُم

فمولاكُمُ بعدي عليّ بنُ فاطمِ

قال:ـإلهي كنْ وليّ وليّهِ وعادِ

أعاديه على رغـــــــــم راغمِ



زينبا بن أسحق الرسعني الموصلي النصراني

بعض المؤرخين يذكر أسمهُ كذا(زبيتا)و(زينبا)وزينب بنت اسحاق..يذكرهُ شيخنا المرحوم(عبد الحسين الاميني النجفي)(طيب الله ثراه الطاهر)في غديره:ـ(ذكر له البيهقي في المحاسن والمساوئ،والزمخشري في ربيع الابرار،وابو حيّان في تفسيره البحر المحيط،وابو العباس القسطلاني في المواهب اللدنية،وأبو عبد الله الزرقاني المالكي في شرح المواهب،والمقري المالكي في نفح الطيب،والشيخ محمد الصبّان في أسعاف الراغبين(ص117) نقلاُ عن إمامهم أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي قولهُ:ـ

عديٌّ وتيمٌ لا أحاول ذِكرَها

بسوءٍ ولكنّي مُحِبٌّ لهاشمِ

وما تعتريني في عليٌّ ورهطِهِ

إذا ذكروا في الله لومة لائمِ

يقولون:ـما بال النصارى تُحِبُّهم

واهل النُهى مِن أعرُبٍ وأعاجمِ

فقلت لهم:ـ إني لأحسبُ حبهمُ

سرى في قلوب الخلق حتى البهائمِ



أبي يعقوب النصراني

ومن النصارى أيضاً أبي يعقوب النصراني الذي يذكره الشيخ عماد الدين الطبري في الجزء الثاني من كتابه(بشارة المصطفى)ويذكر مقطع من قصيدته نقتطف منها هذا البيت:ـ

إني بحبهم أرجو النجاة غدا

والفوزَ معْ زمرةٍ من احسنِ الزُمَرِ



عبد المسيح الإنطاكي المصري

وهو من متأخري النصارى الذين مدحوا الإمام عليّ(عليه السلام)فقد نظم قصيدته العصماء التي بلغت حسبما ذكرهُ شيخنا المرحوم عبد الحسين الاميني النجفي(طيب الله ثراه(5595) نذكر منها قولهُ:

كذا النصارى بحبّ المرتضى شُغِفَت

ألبابُها وشَدت فيهِ أغانيها

فلست تسمع منها غير مدحته الــ

ـغرّاءِ ماذَكَرتهُ في نواديها

فارجع لقُسّانها بين الكنائس مع

رُهبانِها وهي في الاديار تأويِها

إلى آخر القصيدة الجميلة الرائعة واخيرا وليس آخر فقد تحركت قريحة الأستاذ(بولس سلامة)لينظم حبهُ للإمام علي(عليه السلام) شعرا وملحمة اسماها(عيد الغدير)وهي مؤلفة من(3085)بيتاً.ولولا التطول لذكرنا المزيد من شعراء النصارى الذين مدحوا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وتغزلوا بمولانا الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:56 PM
http://www.annabaa.org/nba63/images/title12.gif

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:56 PM
http://www.annabaa.org/nba63/images/imamali1.gifلعلّ أبرز ما يميّز عظماء الخلق الحقيقيين ويجعل منهم منارات في معابر التاريخ المظلمة، على اختلاف الموضوعات التي يخوضون عبابها والأحوال التي تسم مجتمعاتهم، هو التماسك في شخصية كل منهم تماسكاً يشبه ما بين عناصر الكون من تماسك، والتكامل في سيرته بين الروح الكلية التي يلازمها وما حوله من واقع الناس وأحوال الزمان والمكان، مما يكسب هذه الشخصية صفة الشمول، والتنّوع في الوحدة، موازية بذلك ما في الكون من شمولية، وما فيه من وحدة لا تنقضها التنوعات الجزئية، وكأن صاحب هذه الشخصية يرى الكون كله في جملة كيانه، ويعمل تلقائياً على أن يعكس ذاته على مجتمع الناس.
نظرة واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله، تكفيه لأن يثق بأن للكون نواميس ثابتة بها قام وبها يستمر.
ألقى ابن أبى طالب هذه النظرة على الكون، فوعى وعياً عميقاً ما في أجزائه من تكافؤ وتكامل، وأدرك أن الموجودات المجزّأة في ظاهرها، متفاعلة متكاملة مُوحدة في جوهرها، وأن ما تباعد منها في الزمن الآني مضموم في وحدة طرفاها الأزل والأبد، وأن عناصر الكون جميعاً مترابطة متساندة، وأن حقوقاً افترضت لبعضها على بعض؛ فهزّه ما رأى وما وعى، ومشى في كيانه، فتحركت شفتاه بما جاش في أعماقه وقال: (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض!).
أما وجوه الحق الذي يشير إليه، فهي ما رآه في نواميس الكون من صدق وعدل وثبات.
وأدرك ابن أبي طالب في أعماق ذاته أن المقايسة تصح بين السماء والأرض اللتين قامتا بالحق، والمجتمع الآدمي الذي لا بد له من أن يكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة وثابتة، وأن البشر لا بد لهم من أن يكونوا متعاونين متكافئين، وأن التعاون والتكافؤ فُرضا عليهم لكي يبقوا ويستمروا، فإذا به يطلق هذا الدستور الاجتماعي الذي ينبثق من دستور الكون الكبير، يقول: (... ثم جعل حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يُستوجب بعضها إلا ببعض).
هذا القول منبثق من إحساس عليّ بالتعادلية التي تكشف عنها حركة الكون الكبير بعناصره جميعاً، والتي لا بدّ من أن تكون في حركة المجتمع الآدمي ليبقى ويستمر، فحقوق العباد في منطق عليّ يكافئ بعضها بعضاً، أو تكون الفوضى ويكون الفساد فالزوال.
عناصر الكون لا تأخذ إلا بمقدار ما تعطي؛ فالزهرة إذا أخذت من أمها الأرض ما يحييها وينميها ويعطيها عبيراً ولوناً، فلسوف تأخذ الأرض من لونها وعطرها بمقدار ما أعطتها، حتى إذا تكامل انعقادها وبلغت نهاية عمرها أسلمت للأرض ساقها وأوراقها فاستعادت الأرض ما كانت قد منحتها إياه.
والبحر لا يستعيد إلى غمره إلا ما سبق له أن نشره في الفضاء من غيوم، وأسقطه على البرّ من أمطار.
وكذلك الإنسان في حياته الخاصة، فهو لا يحظى بنعمة إلا مقابل نعمة يخسرها. وعن هذا التوازن بين أحوال الإنسان الخاصة والناموس الكوني، يقول الإمام علي قولاً أشبه بالقانون الرياضي الذي لا يقبل تعديلاً أو تأويلاً: (لا تُنال نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل المرء يوماً من عمره إلا بفراق آخر ونَفَسُ المرء خطاه إلى أجله).
أما في الحياة العامة، أو الحياة الاجتماعية، فليس في شؤون الإنسان شأن واحد يشذ عن هذا القانون الذي انتزعه الإمام علي من قانون الكون السرمدي؛ فحقك على مجتمعك أن يقوِّم هذا المجتمع ما تعطيه إياه، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيته، أما إذا حصلت من المكافأة على أقل مما أعطيت، فإن نصيبك عند ذاك ذاهب إلى سواك، وأما إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيت، فإن نصيب غيرك ذاهب إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلت، وإنك بذلك غاصب ظالم، ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مفسدة له ومنقصة في موازين العدالة الاجتماعية.
من هذا المنطلق عالج الإمام الأعظم علي بن أبي طالب أحوال الجماعة في مكانه وزمانه، فعالج منه أحوال كل الجماعات في كل زمان ومكان.
أدرك علي أن اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم، اللبنة التي إن لم تكن هي الأساس فلن يكون هنالك بناء، هي توفير أسباب العيش للجماعة موزعة توزيعاً عادلاً لا غبن فيه. ومن مبادئه التي تكشف عن هذا الجانب الأهم في معنى العدالة الاجتماعية، المبدأ - الأساس نفسه الذي رآه أحد آباء الإنسانية الكبار الشاعر الفيلسوف جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، أي بعد عصر الإمام بحوالي ألف ومائتي سنة، ليكون المرتكز في بناء المجتمع العادل، والمبدأ - الأساس نفسه الذي اكتشفه فلاسفة الاجتماع بأوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، عندما أعلنوا أن كل ما يصيبه المرء من نعمة فائضة عن حاجته، لا يكون إلا مما اقتطع من حق أهل العوز، وأخذه منهم اغتصاباً.
هذا المبدأ – الأساس، حدّده الإمام علي ورسمه بأقوال تنبثق من نظر واحد، وتتلاقى في مفهوم واحد لمعنى (اللبنة الأولى) التي يُبنى عليها المجتمع العادل، ومنها:
(ما رأيت نعمة موفورة - أي زائدة عن الحاجة - إلا وإلى جانبها حق مضّيع).
(ما مُتّع غني إلا بما جاع به فقير).
(امنع من الاحتكار).
(إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة).
(الفقر في الوطن غربة).
على هذا الأساس يرى الإمام أن يُبدأ بناء المجتمع العادل السليم، وعلى أساس الرعاية الصادقة – الأمينة لهذا المبدأ، تعمل السلطة في نهج علي.
وصاحب السلطان في هذا النهج، هو ذاك الذي انتزع له الإمام علي صورة عن نفسه هو؛ إذ قال: (لو فُقِدتْ شاةٌ في الحجاز أو اليمامة، لشعرت بأنني مسؤول عنها إلى يوم القيامة).
لقد كان إحساس علي بمسؤولية السلطان، وبمعناه، إحساس الأنبياء والفلاسفة وكبار الشعراء الذين يحيون مثلاً سامية وأحلاماً وأشواقاً لا يعرفها سواهم. ومن وحي هذا الإحساس العميق تمثل جهد السلطان الذي عليه أن يعمل كل شيء لخير الجماعة، حتى إذا فعل، قال له هذا القول الذي ينزع به عن أسمى المشاعر وأنبل المسالك: (إذا فعلت كل شيء، فكن كمن لم يفعل شيئاً).
ومما أثبته الإمام في سيرته وأقواله جميعاً، أن الولاية لا تكون إلاّ من الجماعة وفي سبيل الجماعة، وأن من ولي أمر الناس محكوم بمبدأ عام هو العمل لصالح الذين ولّوه أمرهم، والمسلك الذي يؤكد لهم أنه أحدهم، وأنه منهم ولهم لا عليهم. قال الإمام يخاطب الناس بعدما اسُتخلف:
(إنما أنا واحد منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم، والحق لا يبطله شيء. إني، والله، ما أحثكم على طاعة إلا أسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا أتناهى قبلكم عنها).
وفي نهجه أن الشورى أولى؛ يقول (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)، وأن للجماعة ملء الحق في أن يطالبوا الوالي بـ(ألا يحتجز دونهم سراً ولا يطوي دونهم أمراً) كما يقول. ومما توجه به إلى الولاة، حيث هم من المكان والزمان، قوله الصريح هذا: (إلزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة).
وفي هذا النهج الذي يجعل الجماعة وحدها مصدر السلطة، ويجعل العمل لخير الجماعة غاية هذه السلطة، إرساء لما نسميه اليوم حكم الشعب، أو الديموقراطية.
إذاً، فالمنع من الاحتكار والاستئثار والاستغلال، والحؤول دون حصول النعمة الفائضة عن الحاجة هنا والحرمان هناك، والمساواة المطلقة في ************الحقوق والواجبات، وإباحة الحرية في التعبير والاختيار في كل ميدان، وترسيخ العلاقة السليمة بين الحاكم والمحكوم على أساس هذه المبادئ، ثم تحصين ذلك كله بالخلقية السليمة وبالمحبة والرحمة، هي أبرز النقاط التي يتألف منها نهج الإمام علي، في بناء المجتمع العادل الفاضل.
الإمام علي، عملاق العقل والقلب والضمير، الذي اخترق بعبقريته حدود كل مكان، وكل زمان، والذي وصفه الفيلسوف اللبناني شبلي الشميّل بقوله: (الإمام علي، عظيم العظماء، نسخة مفردة لم ير الشرق لها ولا الغرب صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً.. ).
ليكن فخرنا في غدنا كما هو فخرنا في ماضينا، والنظر إلى الماضي شيء من النظر إلى المستقبل.
ما أجدر أبناء هذا الزمان، في كل أقاليم الأرض، هؤلاء الذين يمعنون في التعبد لصنم – وحش هو المال، وينحرون كل القيم تمجيداً له وتعظيماً، ويقدّمون له الضحايا من بؤساء الأرض أفراداً وشعوباً... ما أجدر هؤلاء بأن يَعشوا إلى النهج السليم العظيم المتمثل بسيرة عملاق العقل والضمير وملجأ المحبة والرحمة والحنان، الإمام الأعظم علي بن أبي طالب، وبكل ما فعله وقاله ودوَّنه، وأن يعوه ويطأطئوا رؤوسهم لصاحبه العظيم.
لقد كان علي بخصائصه جميعاً، وسوف يبقى، في كل عقل قويم، وقلب كريم، ووجدان سليم، ففي كل إنسان حقيقي وسويّ شيء من علي***** لا لقوم ولا لدين هو للناس أجمعين..
الهوامش:
(*)الكلمة التي ألقاها الأديب الكاتب جورج جرداق في (مهرجان الإمام علي بن أبي طالب(ع))، والذي أقيم برعاية (مركز الفردوس للثقافة والإعلام) في السيدة زينب(ع).

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:58 PM
الإمام علي (ع) وميكافيللي
تشدّد هذه الدراسة على المقارنة بين عملين شهيرين لكل من الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عهده لمالك الأشتر، وميكافيللي في كتابه الأمير.

وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة بين العملين، فإنهما يتوفران على نقاط مشتركة جمّة تتيح ترشيحها، بشكل لائق، لمقارنة شاملة. لقد كان الغرض الذي حدا بالإمام علي (ع) إلى كتابة عهده هو الغرض نفسه الذي دعا ميكافيللي لكتابة الأمير: والغرض هو إبداع دليل سياسي لأمير جديد، دليل لعله يكون ذا نفع للقارئ الواعي (1).

وعلى أية حال، فإن الاختلاف الأساسي في المقترب جعل المقارنة أكثر فائدة، لا سيما حين أنتج المقتربان المختلفان، في بعض الأحيان، مواقف متشابهة تجاه قضية معينة، مثل قضية الجيش والمستشارين.

يمكن أن يعزى الاختلاف بين مقترب الإمام علي (ع) الأخلاقي وتعاليم ميكافيللي المتجردة عن الأخلاق إلى الحقبة والظروف اللتين عاش فيهما الإمام علي (ع) وميكافيللي، زيادة على اختلاف طبيعة وشخصية كل منهما، كان الإمام علي(ع) حاكم دولة دينية حيث كان الأمير فيها مجرد ممثل (خليفة) لله، ولا يستطيع أن يعارض حدود إرادته، وقد أُنتخب الإمام علي (ع) لهذا المركز لا لشيء سوى إمكاناته في المحافظة على هذا الدور، ومن جهة أخرى، كان ميكافيللي نتاج نظام اجتماعي وسياسي أفضى به إلى الاقتناع بأن الدين هو العقبة الكأداء التي تحول دون الازدهار السياسي في إيطاليا، وأن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة سيكون بعودة تامة إلى السياسة الوثنية (2).

عن القسوة

* (ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم) الإمام علي (ع) عهد لمالك الأِشتر

** (يجب على الأمير ألا يأبه بتهمة القسوة ما دام يبقي رعيته متحدة وموالية) ميكافيللي، الأمير

عندما يشار إلى الحكام أن يكونوا حازمين كيما يوفّوا واجبات الحكومة، فإنهم يكونون عرضة لتجاوز حدود العزم والسقوط في القسوة، حيث تترك الإصلاحات وتساق التسويغات لذلك، وبناء على ذلك، يصبح الظلم ناتجا ثانويا للعبة السلطة، ويصل الحال بالمشاركين إلى أن يشددوا على كيفية قيام هذا الظلم بما يفي بالحاجة، وأي ظلم يستحسن كعزم، أو يستنكر كقسوة، كان مقترب ميكافيللي لهذا المأزق مقتربا عمليا بدلا من كونه أخلاقيا، لأن ميكافيللي لم يكترث بالانتهاكات الأخلاقية إذا ما كانت النتيجة نجاحا على المستوى العملي.

فالرغبة في الرحمة غالبا ما تعترضها ضرورة القسوة، ومن هنا يجب على الأمير، طبقا لميكافيللي، أن يتبع الضرورة وليس الرغبة، إذا أراد أن يتجنب دماره، وفي الحقيقة أنه من خلال فعل حالات قليلة جدا، يمكنه أن يكون أكثر رحمة بحق.. لأنه بذلك، يمنع حدوث اضطرابات متى ما أرتكب القتل والسلب، ذلك أن هذه الاضطرابات تسيء إلى مجتمع كامل، في حين تؤثر الإعدامات القليلة في بضعة أفراد فقط (3). تبدو هذه الصياغة مقنعة تماما ما دام المرء ليس من بين البضعة أفراد!

ومن جهة أخرى، ينظر الإمام علي (ع) إلى القضية من زاوية مقابلة، فالأفراد يحظون بالأهمية نفسها بما أنهم أمة مشتركة، وهو لا يعذر مالك الأشتر في الإخلال بحقوقهم، يقول: ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق (4). بهذه العبارة يعيد الإمام علي (ع) تأسيس مبدأ في الفكر السياسي الإسلامي، وهو مسؤولية الحاكم تجاه غير المسلمين (5). يعتقد ميكافيللي بأن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد أو سيئ (6)، وهو يؤكد أن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد عندما تنجز أفعال القسوة على نحو فوري وبوقت قصير، ولذا فإن الناس يشعرون بحدتها وسرعان ما يتغلبون على مرارتها بفضل المنافع الثانوية، ويجادل ميكافيللي في أنه هو الذي طبّق مثل هذه الأنواع من القسوة، يمكنه أن يسلم من عواقبها وحتى أن يجد بعض الشفاعة، في عيون الله والإنسان (7)! ومن جهة أخرى، تستخدم القسوة بشكل سيئ عندما تصبح عادة، ومن ثم ينمو شعور لدى الناس بعدم الثقة، وذلك لأنهم لم يتحصلوا على أي شيء آخر غير المزيد من القسوة، ومن اللافت للنظر، أن ميكافيللي لا يذكر أبدا ما إذا كان استخدام القسوة- سواء أكان بشكل جيد أم بشكل سيئ - يعتمد على استخدامها ضد أولئك الذين يستحقونها أم لا، ويدعّم ميكافيللي القسوة العملية التي تحقق النتائج المرغوب فيها، فضلا عن قضية تسويغ هذا النوع من القسوة.

يتبنى الإمام علي (ع) استخدام القسوة بشكل مناقض- فهو لا يجد ذريعة لأفعال القسوة - وفي رأيه، يقوم الظلم بـ(تعجيل نقمته (8) نقمة الله، وجر الدولة إلى دمارها)، وطبقا للإمام علي (ع)، ليس من المهم سواء أأعادت جريمة مكانة الدولة أم لا، وأي شخص يرتكب جريمة (وبضمنهم الحكام) يجب أن يعاقب، وحتى في حالة الموت الخطأ، لابد للأمير من أن يعوّض عائلة المتوفى، وبخلاف ميكافيللي، يؤمن الإمام علي (ع) بأنه لن تكون هناك شفاعة مجدية أمام الله لسفك الدماء من دون سبب مشروع، فقد كتب الإمام علي: والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة (9). ولقد كانت أوامر الإمام علي لمالك الأشتر في غاية الوضوح يقول: (إياك والدماء وسفكها بغير حِلِّها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى لزوال نعمةٍ وانقطاع مدةٍ، من سفك الدماء بغير حقها، فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة (10)، فأن في الوكزة فما فوقها مقتلة، ولا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم).

إن سمة الجانب العملي التي حفزت ميكافيللي على عقلنة القسوة استقامت على بضعة أسس: أولا، هيمنة أخلاقية الدولة على جميع أشكال الاعتبارات الأخلاقية الأخرى، وفي نظام تكون فيه الدولة هي السلطة الأساسية، تنسحق أخلاقية الفرد تحت وطأة مجال جبار، وفي مثل هذه الحالة، لا تعنى أخلاقية الدولة بمصالح الفرد الخاصة عندما تكون مصالح المجموع رهن الخطر، ثانيا، إن دور ميكافيللي في الاستشارة جعله عاجزا عن فرض القوانين، ولقد كان قادرا، فقط، على أن يقول: ذلك ما يجب فعله بدلا من القول: أفعل هذا! ثالثا، إن المصادر التاريخية التي بنى ميكافيللي عليها نتائجه كانت مجهزة لمثل هذه الخلاصة، تبدو هذه النتيجة محتومة بالنسبة لأولئك الذين يعوّلون على تحليل التاريخ لينسجم مع خطة المستقبل، ذلك لأن الحوادث التاريخية تميل إلى الوضوح بذاتها، وتتعلق المسألة بما إذا كان بإمكان المرء أن يكرر هذه الحوادث أم لا، وإذا استطاع ذلك، ستدور المسألة حول إمكانية المرء الإفضاء إلى الخلاصة نفسها، وقد انصرف ميكافيللي نفسه إلى هذه القضية في كتابه الأمير، وخلص إلى ما يلي: وكما قلت يحدث هنا، أن يستخدم اثنان مناهج مختلفة ربما تفضي بهما إلى النتيجة نفسها، وقد يتبع اثنان المنهج نفسه فينجح أحدهما ويفشل الآخر، ويعزو ميكافيللي التنوع إلى تكيف الأفعال للحقب والظروف أو عدم تكيفها.

وعلى العكس، دشّن الإمام علي شيئا جديدا، فالتاريخ يستشف ولا يحاكى، باستثناء تاريخ إرادة السلام والخير، لقد ابتدع الإمام علي حكومته الخاصة لتكون حكومة عادلة وديمقراطية بحق، فالسلطة منوطة بالناس، بينما الحاكم مجرد وسيط، يقول: إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وأنني اليوم لأشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة (11). وبهذا القول لا يشير الإمام علي إلى حكم دهماوي من طرف الناس، بل يشير إلى مأزق طبيعي يواجهه قائد جديد يتبنى الديمقراطية بعد عقود من الاستبداد، إن رعايا الإمام علي لم يعرفوا كيفية ممارسة الديمقراطية، لذلك غالبا ما أساؤوا استخدام علاقة القائد- المقود، ولقد تكلم الإمام علي أيضا بسلطة القائد، ولذلك كان أول من قال: على تلك الطريقة أريد منك أن تصرف الأمور، فلتفعل ذلك! كان ذلك العلاج المرّ الذي كان مالك الأشتر وأقرانه يرغبون من خلال القبول بالمنصب، في تناوله كوصفة من دون أن يتناولوا معه شيئا يجعله أقل وطأة من الإيمان المطلق ببراعة الوصف.

إن عاملا في حكومة الإمام علي لابد أن يخوض غمار حرب مستمرة ضد طبيعته الشخصية، فمن المأمول من العامل أن يبدي تسامحا عندما يكون الانتقام مطلبا معتادا، وأن يبتسم عندما يمتلئ غضبا، وليس مسموحا له ارتكاب الأخطاء، مع أنه يقبل بحقيقة أن الآخرين يرتكبون الأخطاء (12)، يجب على العامل، بوصفه موظفا رسميا، القبول بموقعه ضمن التراتبية، حيث يكون الله في قمة الهرم، ويجب عليه محاكاة الله في أفعال الرحمة والتسامح، ومع ذلك فإن الإمام علي يحذره: إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته (13). ومن جهة أخرى، يُنصح الموظف الرسمي- بحسب ميكافيللي - أن يظهر وأن يُظهر فقط، أنه يتمتع بخصائص فاضلة، فما يتعين فعله، في الواقع، كان أمرا آخر، كان عليه أن يتصرف طبقا لمبادئ البيئة السياسية، وأن يتعلم أن يكون خيّرا فقط عندما يكون ذلك مجمّلا لسلطته السياسية، تماما مثل تبرعات التجار كما سيدعو الإمام علي ذلك.

عن الاستشارة

* (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر) الإمام علي، عهد لمالك الأشتر

** (وهكذا عندما لا يكون بوسع الأمير أن يتخذ من الكرم فضيلة له من دون أن يحفَّ نفسه بالخطر، يجب عليه إذا كان حكيما أن لا يحفل بقلب بخيل) ميكافيللي، الأمير

إذا كان اتخاذ القرارات السياسية من دون التماس نصيحة يعني الدكتاتورية، فإن ارتكاز هذه القرارات على نصيحة خاطئة أو مضلّلة يؤدي إلى عواقب وخيمة، وعلى ذلك، فإن مهمة اختيار مستشارين هي المهمة الأصعب والأكثر ثقلا من بين المهمات الأخرى، وليس بكاف نشدان الرجل الأكثر حكمة من دون الاهتمام بما ستفضي إليه حكمته، وكلاهما، الإمام علي وميكافيللي، أوليا عناية خاصة بهذه المجموعة، مجموعة المستشارين، كل بحسب أغراضه.

لقد نبّه الإمام علي (ع) مالكا على أنه هو، وحده، المسؤول عن مآل القرارات، على الرغم من أنه يشارك في اتخاذ القرار مع مستشاريه، ولذلك عليه أن يكون بالغ الحيطة مع الذين يكونون موضع ثقته، يقول: (والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله).

يبدو أن خطر الإطراء متفق عليه من طرف الإمام علي وميكافيللي، فحوى الرسالة هو أن الإطراء يسبب الفساد الذي يسبب، تبعا لذلك، سقوط الإنسان: (لا أود أن أغفل مسألة بالغة الأهمية تتعلق بخطر داهم على الأمراء تجنبه، ما لم يكونوا حصيفين وحكماء في اختيار وزرائهم، وأعني بذلك المتملقين الذين تعج بهم البلاطات، فهناك طريقة واحدة فقط للاحتراس من الإطراء، وهذه الطريقة هي أن تشيع انك لن تغتاض من الكلام الصريح (14).

وعلى أية حال، يبدو مقترح ميكافيللي في كيفية معالجة إطراء محتمل، يبدو مقترحا سلطويا إلى حد ما بخلاف مقترح الإمام علي، ففي حين يحث ميكافيللي الأمير على الإصغاء إلى الناصحين، يقترح أن على الأمير أن لا يسمح لناصحيه بالكلام ما لم يُطلب إليهم ذلك، لأنه إذا ما تكلم أي شخص بجرأة أمام الأمير، فأنه يفقد احترامه (15)، وبدلا من ذلك، يجادل ميكافيللي في أنه يجب أن يُسمح، فقط، لأولئك الذين عرفوا بالحكمة والتعقّل أن يصرحوا بآرائهم، لأن الرجال مختلفون تماما من حيث قدرتهم على تحليل المواقف النقدية، فثمة رجال يفهمون الأشياء بحسب فهمهم الخاص، وثمة رجال يحتاجون إلى توضيح كيما يفهموا، وثمة رجال لن يفهموا الأشياء على الإطلاق (16)! وينصح ميكافيللي الأمير بأن ينتخب النمط الأول من الوزراء، مع أنه يحذر ويتنبّه إلى التهديدات المحتملة من مثل هؤلاء الرجال، وذلك لأن لهم مطامحهم المختلفة لذلك، ورغم ذلك، فإن المرمى الوحيد للأمير هو أن يحافظ على حكمه، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يضع هذه المطامح قيد المراقبة دائما.

ومن جهة أخرى، يعالج الإمام علي المشورة السيئة في عملية الترشيح، فهو يقول: إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام (17)، ينصح الإمام علي بحكومة جديدة كليا، حكومة متنزّهة عن خطايا الماضي وعاداته، حالما ينتخب الأمير المستشارين الملائمين، يمكنه أن يعتمد عليهم في تحقيق ما يرغب فيه، لأنهم لن يخدعوه أو يسيئوا استعمال الثقة التي حباهم إياها، كان ذلك ما فعله في بداية حكومته، فقد عزل كل أولئك الذين ولّوا لأي سبب غير الجدارة والمآثر، وولّى الآخرين الذين سيكونون - بحسب رأيه - مؤهلين لمناصبهم، وأبقاهم، مع ذلك، قيد مراقبته الدقيقة.

قدم ميكافيللي منهجا لن يخفق (18) - بحسب تعبيره - في تقييم المستشارين، أي في إلقاء نظرة دقيقة على أولويات الوزير، فإذا ما كان يفكر بنفسه أكثر من تفكيره بسيده، فلابد من تجنبه وعدم الثقة به، ذلك أنه بتفكيره بمنفعته الخاصة، سوف ينتهك أساس واجبه، وحالما يضمن الأمير أن مستشاره يتمتع بعناصر الولاء والثقة، عندئذ عليه أن يعزز هذا الولاء، ويحصن العلاقة بتحقيق جميع رغبات المستشار، يجب عليه أن يمنحه كل الأوسمة والثروة التي يحتاجها، ولذلك ومن جهة، لا يمكن لأحد أن يستميله بأية وعود، وإنه من جهة أخرى، سيخسر خسارة بالغة إذا ما قهر سيده منافس ما.

للإمام علي الرأي نفسه في تأسيس العلاقة بين الأمير ومستشاريه، وعلى أية حال، فإن منهجه يختلف قليلا، فبعد التأكد من أن المستشار ليس بخيلا، أو جبانا أو جشعا، وأنه لم يقم بمهام الظالم في الماضي، عندئذ يتحول إلى خصيصتين بالغتي الأهمية تؤهلان، من وجهة نظره، الرجل للمنصب، وهاتان الخصيصتان هما مخافة الله وقول الحق(19)، فمخافة الله تضمن الولاء، وقول الحقيقة تولد النصيحة الصادقة، لذلك، على الأمير أن يظهر انشغاله بشأن الطريقة التي يتصرف بها أولئك الرجال، ويجب أن لا يعامل المحسن والمسيء سواء بسواء، لأن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة (20). أخيرا، اعتقد كلٌ من الإمام علي وميكافيللي بأن المستشارين لا يمكن أن يكونوا خيّرين بالنسبة لأمير أحمق، أو كما يعبر ميكافيللي، على نحو فظ، إن أميرا بلا حكمة يتوفر عليها بنفسه، لا يمكن أن ينصح بشكل حسن (21)، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يتوفر على الخصائص الجيدة التي تمكنه من أن يميز بين النصيحة الخيرة والنصيحة السيئة، وأن يتبع النصيحة الخيرة وينبذ النصيحة الضارة، ويخلص ميكافيللي إلى أنه إذا ما وضع نفسه بيدي وزيره، فسيكون عرضة لأن يجرد من دولته.

عن الجيش

* (فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك) الإمام علي، عهده لمالك الأشتر

** (حتى أنهم سيكونون أفضل حينما يرون أنفسهم منقادين لأمير منهم، أمير يشرفهم ويرعاهم) ميكافيللي، الأمير

زعم ميكافيللي أن الحرب لا يمكن تجنبها أبدا، وإنما يمكن فقط، تأجيلها لأغراضه (الأمير) الخاصة ، وبناء على ذلك، تشكلت الجيوش، واكتسبت شرعيتها بوحي من هذا الزعم الذي مفاده أن لا دولة يمكنها أن تكون محصنة ضد خطر العدوان، أو تهديده، ومن هنا، كانت الأولوية الرئيسة للحكومات هي أن تتكفل بأمن وجودها، وأن تستعد للدخول الحتمي في الحرب في الوقت المناسب، لقد وصف الإمام علي الجنود بأنهم حصون الرعية التي يجب أن تلقى عناية كافية من الأمير، ويواصل الإمام علي الكلام على الجنود (وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج)(23).

لا تعرف الجيوش، فقط، بكونها عبأ، وبكونها تعتمد على الدولة كليا، وإنما هي، أيضا، ذات خطورة محتملة، وعلى ذلك، من المهم بالنسبة للأمير أن يضعها قيد المراقبة، وأن يضمن ولاءها، وبحسب رأي الإمام علي، يمكن أن يتحقق هذا عبر تعيين الرجال المناسبين لهذه المسؤولية، الرجال العطوفين والشفوقين والقويمين.

(وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو) (24).

ومرة أخرى، يلفت انتباهنا إلى أن الترشيح الناجح هو الخطوة الأولى لضمان ولاء الرجال، في حين إن الرعاية الدائمة لهم يمكنها، وحدها، أن تصون وحدتهم وولاءهم، وفي هذا القسم من العهد، أدى الإمام علي دور عالم نفساني عسكري حديث، فهو يجادل بحق، في أن الجنود الذين يزحفون إلى الحرب يجب أن لا يركزوا على أي شيء آخر غير إيقاع الهزيمة بالعدو، ولذلك، فمن واجب الأمير أن يعين القادة البارعين الذين يرعون المحاربين، يقول الإمام علي: (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما) (25)، ومن المهم جدا التأكد من أن أسرهم يحظون بالرعاية، وعلاوة على ذلك، يحث الإمام علي مالكا الأشتر على إن يطري جنوده وضباطه مرارا وتكرارا لكل ما يقدمونه من خدمات، يقول الإمام علي: (فأفسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر الحسن لأفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله) (26)، وأخيرا، يحذر الإمام علي مالكا الأشتر من المعاملة المتحيزة بإزاء رجاله اعتمادا على موقع أحدهم في المجتمع: (ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما) (27).

وبالنسبة لميكافيللي، فإن القوات المسلحة هي أحد أساسين رئيسين للدول كلها، جديدها أو قديمها، أو التي تمزج بين الأثنين، هذان الأساسان هما: القوانين الجيدة good والأسلحة الجيدة (28)، وإذا أخذنا مقترب ميكافيللي بعين الاعتبار، فإن كلمة جيدة good تستخدم بأية حال، بمعنى عملي practical، أو إجرائي functioning بمعنى أخلاقي moral أو عادل just، وهكذا تساعد الأسلحة القوية القوانين (سواء أكانت عادلة أم ظالمة) على أن تصبح مطاعة وسارية المفعول، يحدد ميكافيللي الأنواع المختلفة من الجيوش التي وجدت في عصره، ويفكر فيها بوضوح: (المرتزقة والحلفاء خطرون ولا جدوى منهم، والقائد الذي يبني دولته على جيوش المرتزقة لن يكون مطمئنا أبدا، وجند من هذا النوع مفككون، وطموحون وغير منضبطين وخونة، وهم لا يخافون الله، وليس لهم ولاء للرجال) (29).

لقد حدد ميكافيللي السبب الذي جعله يعتقد بخطورة المرتزقة، إنه يتعلق بالظروف التي جندوا واستخدموا في ظلها، فهم أرسلوا ليقاتلوا أعداء أناس آخرين من دون سبب يخصهم، وفائدة يغامرون من أجلها، وعلاوة على ذلك، فهم غالبا ما يكونون مدفوعين بفعل العوز، وهكذا ليس لديهم حافز يجعلهم يرغبون في الموت من أجل من أستأجرهم، والخطر أسوأ بالنسبة لقادتهم:

(إن قادة المرتزقة أما أن يكونوا رجالا ممتازين أولا، فإن كانوا ممتازين، فلا يمكنك عندئذ أن تمحضهم ثقتك، ذلك لأن لهم دائما مطامحهم الخاصة بالسلطة، ولذلك أما أن يهاجموك، يهاجموا سيدهم، أو أن يضطهدوا الآخرين إلى ما وراء أغراضك، وإذا ما كان القائد رجلا عاجزا، فلتتيقن، على العموم من أنك ستتحطم على يديه) (30).

يواصل ميكافيللي، بعد ذلك، القول عبر تقديم نماذج تاريخية ليبرهن على صحة رأيه، فعلى وجه التقريب، خسر القرطاجيون دولتهم لصالح المرتزقة، والميلانيون الذين استأجروا فرانسسكو سيفورزا الذي- بعد أن تغلب على العدو - انقلب ضد أسياده، غالبا ما يثبت ميكافيللي نتيجة المحاجة لصالحه حتى إذا كان التاريخ- وسيلته في الإقناع - ينقلب ضده، وفيما لو رد شخص ما وقال إن الفينسيين والفلورنسيين كان لهم نجاح مع هذه الأنواع من الجيوش، فإن ميكافيللي يجيب: (فيما يتعلق بالفلورنسيين، فإنهم كانوا محظوظين جدا) (31)، وعلى نحو مشابه، لا يمكن تزكية جيوش الحلفاء، لأنهم كما أوحى ميكافيللي، قد يكونون جيدين أو سيئين بحد ذاتهم، لكنهم دائما مضرين بالنسبة لمن يستخدمهم، فلأن خسرت معهم تكون محطما، ولأن ربحت، تصبح أسيرهم (32)، ومرة أخرى، لا يدع ميكافيللي خيارا أو احتمالا لنتيجة جيدة، فهو يحصر، بحذق، المحاجة في احتمالين فقط، وكلا الاحتمالين ينذر بالكارثة، وبخلاف المرتزقة، فإن زمر الحلفاء، كما يحذر ميكافيللي، خطرة إلى أقصى حد (33)، فهم متحدين وموالون لسيدهم الأصلي وليس لمن يستخدمهم، والتجربة المحزنة لليونانيين مع الأتراك تبين بشكل جيد، ما كان يعنيه ميكافيللي.

وعندما يواصل ميكافيللي حديثه الموسع عن جميع أنواع الجيوش، يبدو أنه يستنفد جميع أنواع الاحتمالات مبينا خطورتها، ومستثنيا نوعا واحدا من هذه الاحتمالات يفضله لتحقيق غايته، وكيما يبين أهمية أن يمتلك المرء جيشا خاصا به، يذكر بحذق بالغ، بهذه الحكاية المؤثرة، بقوة من الكتاب المقدس:

عندما تطوع داوود في حضرة شاوول للانطلاق إلى قتال جوليات، فإن المتحدي الفلسطيني، شاوول، ومن أجل أن يشجع داوود، زوده بأسلحته الخاصة، ولكن عندما حاول داوود أن يختبر هذه الأسلحة رفض ارتدائها... وفضّل مواجهة العدو بسكينه ومقلاعه (34)، يخلص ميكافيللي إلى أن لا جيوش يمكن أن تكون مأمونة ومؤثرة وموالية مثل جيوش المرء الخاصة، وإذا ما ارتبت في ذلك، تأمّل التاريخ، وإذا ما بقيت في شك من ذلك، فهذه كلمات الله! وفي هذا السياق، فإن رسالة ميكافيللي والإمام علي هي إن إخلاص الجيش وولاءه- اللذين يجب أن يكونا مكفولين قبل القوة - أمر ذو أهمية قصوى، وذلك لأن الإخلاص والولاء إنما هما سمتا الأمان للجيش، في حين أن القوة وحدها إنما هي سمة خطرة، وكما أن جيشا ضعيفا يؤدي بالأمير إلى فقدان دولته لصالح الأعداء، فإن جيشا قويا، ولكن غير موالِ، قد ينقلب ضده حالما تسنح الفرصة.

عن المعاهدات

* (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم وتشتت أرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود) الإمام علي، عهده لمالك اللأشتر

** (ومن هنا، ليس فإمكان أمير حكيم، ولا يجب أن يحفظ عهده عندما لا يكون حفظ العهد لصالحه، أو عندما لا تعود الأسباب التي دفعته إلى ذلك نافذة المفعول) ميكافيللي، الأمير

إن الفصل الثامن عشر من كتاب الأمير هو فصل سيء الصيت إلى أبعد حد، إذ يعالج فيه ميكافيللي الطريقة التي يجب أن يعامل فيها الأمراء عهودهم، وفي هذا الفصل أيضا، يمكن العثور، في خلاصة الفصل، على العبارة التي تخطر أولا على كل ذهن حالما يذكر اسم ميكافيللي، وهي (الغاية تسوّغ الوسيلة) وأخيرا وفي هذا الفصل أيضا، يتحدث ميكافيللي عن الثعلب والأسد، حيث ألقى مسؤولية الخدعة على الضحية التي تتيح للمخادع تنفيذ ما يرمي إليه، وفي الفقرة الثانية من هذا الفصل، يشير ميكافيللي إلى (طريقتين في القتال، الأولى بالقوانين، والثانية بالأسلحة)، وهو يشير إلى الأولى على أنها (طريقة الرجال)، وإلى الثانية إلى أنها (أسلوب الحيوانات) ومن ثم، ينصح ميكافيللي بأن (على الأمير أن يعرف كيف يمثل دور الحيوان إضافة إلى دور الرجل)، ويواصل القول في تصنيف أفعال الحيوانات بوصفها (أفعال الثعلب والأسد) فقد كتب يقول: (إن الأسد لا يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام الشراك، والثعلب عاجز أمام الذئاب، ولذلك على المرء أن يكون ثعلبا في تجنب المكائد، وأسدا في قتال الذئاب).

إن موقف ميكافيللي بإزاء المعاهدات واضح تماما، ففي رأيه، إن الأمير يحث على حفظ وعوده ما دام يستفيد من حفظ تلك الوعود، وحالما تكون تلك الوعود عبأ عليه، (فلا يمكنه أو لا يجب أن يحفظ عهده) (35).

وطبقا لميكافيللي، لا يجب على الأمير حفظ عهده عندما تصبح الأسباب التي تجبره على الإيفاء به غير نافذة المفعول، يطبق ميكافيللي هنا، (القاعدة الذهبية)، بطريقة معكوسة.

(إذا كان الرجال جيدين، فلن يكون هذا مبدأ جيدا، ولكن ما داموا شريرين ولن يحتفظوا بإخلاصهم لك، فلست ملزما بالاحتفاظ بالإخلاص لهم) (36). بهذه النظرة الكلبية للطبيعة البشرية يسوغ ميكافيللي الخيانة والغدر مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل من يرغب في تبني نصيحته يجب أن يتعلم صنعة أخرى، وهي (أن يعرف كيف يخفي هذه الطبيعة جيدا، وكيف يدّعي ويرائي) (37)، ويجادل ميكافيللي، أن تكون هناك خيانة، فهذا شيء، وأن تبدو كذلك شيء آخر.

كانت نظرة الإمام علي إلى المعاهدات مستمدة من التعاليم الإسلامية، فالقرآن يقول: (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، والتزاما بهذا الناموس، يأمر الإمام علي مالكا الأشتر بأن لا يطرح اقتراح السلم الذي قد يبديه العدو نفسه، لقد دار في حسبان الإمام علي- وكذلك الأمير بالنسبة لميكافيللي فيما بعد - أن العدو قد يبدي السلم بقصد انتهاكه، ومع ذلك، لم يجعل الإمام علي من هذا الأمر ذريعة لعامله قصد نقض وعوده، وبدلا من ذلك، فهو يقترح أن على مالك الأشتر أن يتحسس علامات نقض الوعد من طرف عدوه الذي سوف يجعله في حل من التزامه بمعاهدة محترمة.

عندما تعقد هدنة، يجب على المرء، دائما أن يقبل بالتسوية، وأن يقبل ببعض الشروط المريرة من جراء ضغط اللحظة الراهنة، وعندما يتلاشى الضغط، فإن مرارة مثل هذه تشتد، ويشعر كل طرف من طرفي الهدنة بالحافز للتخلص من هذه الالتزامات، ويرى الإمام علي أن ذلك هو السبب نفسه الذي يجعل من إنجاز الوعد فعلا نبيلا: (حط عهدك بالوفاء، وأرعَ ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي) (38).

على الرغم من أمثلة المطابقة أو الاختلاف التي كشفتها هذه الدراسة بين الإمام علي وميكافيللي، فإن كلا الرجلين متسقان إذا ما تناولناهما منفصلين، وأخضعناهما للفحص ضمن شروطهما السياسية والاجتماعية الخاصة، لقد كان الإمام علي وفيا لمقتربه الأخلاقي في الحياة والسياسة، ولم يحد ميكافيللي أبدا عن إيمانه الراسخ بأن على الأمير أن يطيع الضرورة قبل أي اعتبار آخر، فهما متفقان فقط عندما تكون الضرورة أخلاقية في ذاتها، ولكن عندما يكف ما هو ضروري عن أن يكون أخلاقيا، فإن الإمام علي يواصل مسلكه الأخلاقي، أما ميكافيللي فينحرف عنه.

وطبقا لتصنيف ميكافيللي للرجال، فإن الإمام علي ينضم إلى الفئة التي تضم موسى وسايروس وروميولوس وثيسيوس، كان الإمام علي محييا لدين، ومؤسسا لدولة، وقد نجح في تحقيق غايات الحكومة: أي العدالة وتدبير الخير العام، وعلى أية حال، يقف الإمام علي كتحد لنظرية ميكافيللي التي تقضي بأن من الضروري للأمير، إذا رغب في البقاء في السلطة، أن يتعلم كيف لا يكون خيّرا، وكيف يستخدم معرفته أو يحجم من استخدامها، عندما يحتاجها (39)، فالإمام علي لم يخسر حربا أبدا، ولم يخسر دولته رغم كونه خيّرا في مواقفها بأسرها.

ورث الإمام علي أمة كانت مزعزة، ومليئة بالعنف والنزاع، وتفتقر إلى الإيمان بالحكومة، فالأعمال الوحشية للحكومات السابقة قسمت الناس على طبقات، فكان هناك الظالمون والمظلومون، والنبلاء والدهماء، والموسرون والمحرومون، وقد بلغ هذا الوضع مبلغا دفع الإمام علي، بمرور الوقت، إلى أن يتولى القيادة، إذ كانت هناك حاجة لمعجزة من أجل إحياء الدولة وتفعيل الدين، إن حصافة الإمام علي، وطبيعته الفذة هما اللتان كملتا قطع الحطام، وأحيتا إيمان الناس بالدولة، وعلى الرغم من دهاء خصوم الأمام علي، والطبيعة العنيدة لشيعته، فقد احتفظ بدولة قوية وظافرة، حققت العدالة، وأسست الديمقراطية من دون أن يعرّض أخلاقيته للشبهة، أو أن ينتهك مبادئ الأخلاق.




--------------------------------------------------------------------------------

* باحث عراقي مقيم في جامعة سان فرانسيسكو الأمريكية والبحث جزء من أطروحة للماجستير (سياسة الأمل وسياسة الواقع) 1997، مقدمة لإحدى الجامعات الأمريكية.

** المترجم أكاديمي وناقد ومترجم عراقي مقيم في استراليا له تآليف وتراجم عديدة.

المصادر:

1- ميكافيليي- الأمير- الفصل 15.

2- ومع ذلك، كتب ميكافيللي في كتابه: The Discourses- عن أهمية الدين في إبقاء الناس متحدين وموالين للدولة، أنظر الخطابات، 1-21 : لذلك، فعلى حكّام الجمهورية أو المملكة أن يتمسكوا بالمبادئ الأساسية للدين التي يزاولونها، وإذا ما تم ذلك، سيكون من اليسير لهم أن يحافظوا على عقائدهم الدينية المشتركة، وبالنتيجة على خيرهم ووحدتهم، ويتعين عليهم أيضا أن يعززوا ويشجعوا أيّ شيء من المحتمل أن يساعد على تحقيق هذه الغاية، حتى لو كانوا مقتنعين بأن ذلك الشيء منطو على مغالطة تماما.

3- المصدر نفسه، ص 48.

4- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

5- كان النبي محمد (ص) قد قدم في المدينة، مثل هذا المبدأ من خلال معاهدته مع يهود المدينة، حيث سمح لهم بمزاولة دينهم وموروثهم شريطة ألا يستخدموا سلطتهم وثروتهم في إعاقة الدين الجديد (الإسلام)، وسرعان ما هُجر هذا المبدأ بُعيد وفاته حينما اتخذ انتشار الإسلام شكل فتوحات، ولم ترق مثل هذه المحاولة للأقاليم المفتوحة حديثا حتى بزوغ عهد الإمام علي بعدما يقارب أربعة وعشرين عاما.

6- ميكافيللي - الأمير- الفصل 15، لم يفحص ميكافيللي المفارقة التي تكونها هذه العبارة، ومفهوم استخدام شيء ما استخداما حسنا، شيء هو في ذاته سيئ.

7- المصدر نفسه، الفصل 51.

8- الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

9- المصدر نفسه.

10- المصدر نفسه، وطبقا لقوانين الإسلام، تُنزل الدولة عقوبة جسدية بأولئك الذين يقترفون الجرائم، والعقوبة الشائعة التي من هذا النوع كانت جلد المذنب وهو عار أمام العامة.

11- صدر، رضا - شعار الإمام علي في الحياة - ص 19.

12- الإمام علي - عهده لمالك الأشتر.

13- المصدر نفسه.

14- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

15- المصدر نفسه.

16- المصدر نفسه، الفصل 22.

17- الأمام علي- عهده لمالك الأشتر.

18- ميكافيللي- الأمير - الفصل 22.

19- أنظر: الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

20- المصدر نفسه.

21- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

22- المصدر نفسه، الفصل 3.

23- الإمام علي، عهد لمالك الأشتر.

24- المصدر نفسه. 25- المصدر نفسه.

26- المصدر نفسه. 27- المصدر نفسه.

28- ميكافيللي، الأمير، الفصل 12.

29- المصدر نفسه، الفصل 12، يبدو استخدام كلمة الله هنا- إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سياق مجادلة ميكافيللي - استخداما مثيرا للسخرية.

30- المصدر نفسه. 31- المصدر نفسه.

32- المصدر نفسه، الفصل 23.

33- المصدر نفسه. 34- المصدر نفسه.

35- المصدر نفسه، الفصل 18.

36- المصدر نفسه. 37- المصدر نفسه.

38- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

39- ميكافيللي، الأمير، الفصل 15.

Dr.Zahra
05-10-2007, 03:59 PM
الإمام علي (ع) وميكافيللي
تشدّد هذه الدراسة على المقارنة بين عملين شهيرين لكل من الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عهده لمالك الأشتر، وميكافيللي في كتابه الأمير.

وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة بين العملين، فإنهما يتوفران على نقاط مشتركة جمّة تتيح ترشيحها، بشكل لائق، لمقارنة شاملة. لقد كان الغرض الذي حدا بالإمام علي (ع) إلى كتابة عهده هو الغرض نفسه الذي دعا ميكافيللي لكتابة الأمير: والغرض هو إبداع دليل سياسي لأمير جديد، دليل لعله يكون ذا نفع للقارئ الواعي (1).

وعلى أية حال، فإن الاختلاف الأساسي في المقترب جعل المقارنة أكثر فائدة، لا سيما حين أنتج المقتربان المختلفان، في بعض الأحيان، مواقف متشابهة تجاه قضية معينة، مثل قضية الجيش والمستشارين.

يمكن أن يعزى الاختلاف بين مقترب الإمام علي (ع) الأخلاقي وتعاليم ميكافيللي المتجردة عن الأخلاق إلى الحقبة والظروف اللتين عاش فيهما الإمام علي (ع) وميكافيللي، زيادة على اختلاف طبيعة وشخصية كل منهما، كان الإمام علي(ع) حاكم دولة دينية حيث كان الأمير فيها مجرد ممثل (خليفة) لله، ولا يستطيع أن يعارض حدود إرادته، وقد أُنتخب الإمام علي (ع) لهذا المركز لا لشيء سوى إمكاناته في المحافظة على هذا الدور، ومن جهة أخرى، كان ميكافيللي نتاج نظام اجتماعي وسياسي أفضى به إلى الاقتناع بأن الدين هو العقبة الكأداء التي تحول دون الازدهار السياسي في إيطاليا، وأن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة سيكون بعودة تامة إلى السياسة الوثنية (2).

عن القسوة

* (ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم) الإمام علي (ع) عهد لمالك الأِشتر

** (يجب على الأمير ألا يأبه بتهمة القسوة ما دام يبقي رعيته متحدة وموالية) ميكافيللي، الأمير

عندما يشار إلى الحكام أن يكونوا حازمين كيما يوفّوا واجبات الحكومة، فإنهم يكونون عرضة لتجاوز حدود العزم والسقوط في القسوة، حيث تترك الإصلاحات وتساق التسويغات لذلك، وبناء على ذلك، يصبح الظلم ناتجا ثانويا للعبة السلطة، ويصل الحال بالمشاركين إلى أن يشددوا على كيفية قيام هذا الظلم بما يفي بالحاجة، وأي ظلم يستحسن كعزم، أو يستنكر كقسوة، كان مقترب ميكافيللي لهذا المأزق مقتربا عمليا بدلا من كونه أخلاقيا، لأن ميكافيللي لم يكترث بالانتهاكات الأخلاقية إذا ما كانت النتيجة نجاحا على المستوى العملي.

فالرغبة في الرحمة غالبا ما تعترضها ضرورة القسوة، ومن هنا يجب على الأمير، طبقا لميكافيللي، أن يتبع الضرورة وليس الرغبة، إذا أراد أن يتجنب دماره، وفي الحقيقة أنه من خلال فعل حالات قليلة جدا، يمكنه أن يكون أكثر رحمة بحق.. لأنه بذلك، يمنع حدوث اضطرابات متى ما أرتكب القتل والسلب، ذلك أن هذه الاضطرابات تسيء إلى مجتمع كامل، في حين تؤثر الإعدامات القليلة في بضعة أفراد فقط (3). تبدو هذه الصياغة مقنعة تماما ما دام المرء ليس من بين البضعة أفراد!

ومن جهة أخرى، ينظر الإمام علي (ع) إلى القضية من زاوية مقابلة، فالأفراد يحظون بالأهمية نفسها بما أنهم أمة مشتركة، وهو لا يعذر مالك الأشتر في الإخلال بحقوقهم، يقول: ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق (4). بهذه العبارة يعيد الإمام علي (ع) تأسيس مبدأ في الفكر السياسي الإسلامي، وهو مسؤولية الحاكم تجاه غير المسلمين (5). يعتقد ميكافيللي بأن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد أو سيئ (6)، وهو يؤكد أن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد عندما تنجز أفعال القسوة على نحو فوري وبوقت قصير، ولذا فإن الناس يشعرون بحدتها وسرعان ما يتغلبون على مرارتها بفضل المنافع الثانوية، ويجادل ميكافيللي في أنه هو الذي طبّق مثل هذه الأنواع من القسوة، يمكنه أن يسلم من عواقبها وحتى أن يجد بعض الشفاعة، في عيون الله والإنسان (7)! ومن جهة أخرى، تستخدم القسوة بشكل سيئ عندما تصبح عادة، ومن ثم ينمو شعور لدى الناس بعدم الثقة، وذلك لأنهم لم يتحصلوا على أي شيء آخر غير المزيد من القسوة، ومن اللافت للنظر، أن ميكافيللي لا يذكر أبدا ما إذا كان استخدام القسوة- سواء أكان بشكل جيد أم بشكل سيئ - يعتمد على استخدامها ضد أولئك الذين يستحقونها أم لا، ويدعّم ميكافيللي القسوة العملية التي تحقق النتائج المرغوب فيها، فضلا عن قضية تسويغ هذا النوع من القسوة.

يتبنى الإمام علي (ع) استخدام القسوة بشكل مناقض- فهو لا يجد ذريعة لأفعال القسوة - وفي رأيه، يقوم الظلم بـ(تعجيل نقمته (8) نقمة الله، وجر الدولة إلى دمارها)، وطبقا للإمام علي (ع)، ليس من المهم سواء أأعادت جريمة مكانة الدولة أم لا، وأي شخص يرتكب جريمة (وبضمنهم الحكام) يجب أن يعاقب، وحتى في حالة الموت الخطأ، لابد للأمير من أن يعوّض عائلة المتوفى، وبخلاف ميكافيللي، يؤمن الإمام علي (ع) بأنه لن تكون هناك شفاعة مجدية أمام الله لسفك الدماء من دون سبب مشروع، فقد كتب الإمام علي: والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة (9). ولقد كانت أوامر الإمام علي لمالك الأشتر في غاية الوضوح يقول: (إياك والدماء وسفكها بغير حِلِّها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى لزوال نعمةٍ وانقطاع مدةٍ، من سفك الدماء بغير حقها، فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة (10)، فأن في الوكزة فما فوقها مقتلة، ولا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم).

إن سمة الجانب العملي التي حفزت ميكافيللي على عقلنة القسوة استقامت على بضعة أسس: أولا، هيمنة أخلاقية الدولة على جميع أشكال الاعتبارات الأخلاقية الأخرى، وفي نظام تكون فيه الدولة هي السلطة الأساسية، تنسحق أخلاقية الفرد تحت وطأة مجال جبار، وفي مثل هذه الحالة، لا تعنى أخلاقية الدولة بمصالح الفرد الخاصة عندما تكون مصالح المجموع رهن الخطر، ثانيا، إن دور ميكافيللي في الاستشارة جعله عاجزا عن فرض القوانين، ولقد كان قادرا، فقط، على أن يقول: ذلك ما يجب فعله بدلا من القول: أفعل هذا! ثالثا، إن المصادر التاريخية التي بنى ميكافيللي عليها نتائجه كانت مجهزة لمثل هذه الخلاصة، تبدو هذه النتيجة محتومة بالنسبة لأولئك الذين يعوّلون على تحليل التاريخ لينسجم مع خطة المستقبل، ذلك لأن الحوادث التاريخية تميل إلى الوضوح بذاتها، وتتعلق المسألة بما إذا كان بإمكان المرء أن يكرر هذه الحوادث أم لا، وإذا استطاع ذلك، ستدور المسألة حول إمكانية المرء الإفضاء إلى الخلاصة نفسها، وقد انصرف ميكافيللي نفسه إلى هذه القضية في كتابه الأمير، وخلص إلى ما يلي: وكما قلت يحدث هنا، أن يستخدم اثنان مناهج مختلفة ربما تفضي بهما إلى النتيجة نفسها، وقد يتبع اثنان المنهج نفسه فينجح أحدهما ويفشل الآخر، ويعزو ميكافيللي التنوع إلى تكيف الأفعال للحقب والظروف أو عدم تكيفها.

وعلى العكس، دشّن الإمام علي شيئا جديدا، فالتاريخ يستشف ولا يحاكى، باستثناء تاريخ إرادة السلام والخير، لقد ابتدع الإمام علي حكومته الخاصة لتكون حكومة عادلة وديمقراطية بحق، فالسلطة منوطة بالناس، بينما الحاكم مجرد وسيط، يقول: إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وأنني اليوم لأشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة (11). وبهذا القول لا يشير الإمام علي إلى حكم دهماوي من طرف الناس، بل يشير إلى مأزق طبيعي يواجهه قائد جديد يتبنى الديمقراطية بعد عقود من الاستبداد، إن رعايا الإمام علي لم يعرفوا كيفية ممارسة الديمقراطية، لذلك غالبا ما أساؤوا استخدام علاقة القائد- المقود، ولقد تكلم الإمام علي أيضا بسلطة القائد، ولذلك كان أول من قال: على تلك الطريقة أريد منك أن تصرف الأمور، فلتفعل ذلك! كان ذلك العلاج المرّ الذي كان مالك الأشتر وأقرانه يرغبون من خلال القبول بالمنصب، في تناوله كوصفة من دون أن يتناولوا معه شيئا يجعله أقل وطأة من الإيمان المطلق ببراعة الوصف.

إن عاملا في حكومة الإمام علي لابد أن يخوض غمار حرب مستمرة ضد طبيعته الشخصية، فمن المأمول من العامل أن يبدي تسامحا عندما يكون الانتقام مطلبا معتادا، وأن يبتسم عندما يمتلئ غضبا، وليس مسموحا له ارتكاب الأخطاء، مع أنه يقبل بحقيقة أن الآخرين يرتكبون الأخطاء (12)، يجب على العامل، بوصفه موظفا رسميا، القبول بموقعه ضمن التراتبية، حيث يكون الله في قمة الهرم، ويجب عليه محاكاة الله في أفعال الرحمة والتسامح، ومع ذلك فإن الإمام علي يحذره: إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته (13). ومن جهة أخرى، يُنصح الموظف الرسمي- بحسب ميكافيللي - أن يظهر وأن يُظهر فقط، أنه يتمتع بخصائص فاضلة، فما يتعين فعله، في الواقع، كان أمرا آخر، كان عليه أن يتصرف طبقا لمبادئ البيئة السياسية، وأن يتعلم أن يكون خيّرا فقط عندما يكون ذلك مجمّلا لسلطته السياسية، تماما مثل تبرعات التجار كما سيدعو الإمام علي ذلك.

عن الاستشارة

* (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر) الإمام علي، عهد لمالك الأشتر

** (وهكذا عندما لا يكون بوسع الأمير أن يتخذ من الكرم فضيلة له من دون أن يحفَّ نفسه بالخطر، يجب عليه إذا كان حكيما أن لا يحفل بقلب بخيل) ميكافيللي، الأمير

إذا كان اتخاذ القرارات السياسية من دون التماس نصيحة يعني الدكتاتورية، فإن ارتكاز هذه القرارات على نصيحة خاطئة أو مضلّلة يؤدي إلى عواقب وخيمة، وعلى ذلك، فإن مهمة اختيار مستشارين هي المهمة الأصعب والأكثر ثقلا من بين المهمات الأخرى، وليس بكاف نشدان الرجل الأكثر حكمة من دون الاهتمام بما ستفضي إليه حكمته، وكلاهما، الإمام علي وميكافيللي، أوليا عناية خاصة بهذه المجموعة، مجموعة المستشارين، كل بحسب أغراضه.

لقد نبّه الإمام علي (ع) مالكا على أنه هو، وحده، المسؤول عن مآل القرارات، على الرغم من أنه يشارك في اتخاذ القرار مع مستشاريه، ولذلك عليه أن يكون بالغ الحيطة مع الذين يكونون موضع ثقته، يقول: (والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله).

يبدو أن خطر الإطراء متفق عليه من طرف الإمام علي وميكافيللي، فحوى الرسالة هو أن الإطراء يسبب الفساد الذي يسبب، تبعا لذلك، سقوط الإنسان: (لا أود أن أغفل مسألة بالغة الأهمية تتعلق بخطر داهم على الأمراء تجنبه، ما لم يكونوا حصيفين وحكماء في اختيار وزرائهم، وأعني بذلك المتملقين الذين تعج بهم البلاطات، فهناك طريقة واحدة فقط للاحتراس من الإطراء، وهذه الطريقة هي أن تشيع انك لن تغتاض من الكلام الصريح (14).

وعلى أية حال، يبدو مقترح ميكافيللي في كيفية معالجة إطراء محتمل، يبدو مقترحا سلطويا إلى حد ما بخلاف مقترح الإمام علي، ففي حين يحث ميكافيللي الأمير على الإصغاء إلى الناصحين، يقترح أن على الأمير أن لا يسمح لناصحيه بالكلام ما لم يُطلب إليهم ذلك، لأنه إذا ما تكلم أي شخص بجرأة أمام الأمير، فأنه يفقد احترامه (15)، وبدلا من ذلك، يجادل ميكافيللي في أنه يجب أن يُسمح، فقط، لأولئك الذين عرفوا بالحكمة والتعقّل أن يصرحوا بآرائهم، لأن الرجال مختلفون تماما من حيث قدرتهم على تحليل المواقف النقدية، فثمة رجال يفهمون الأشياء بحسب فهمهم الخاص، وثمة رجال يحتاجون إلى توضيح كيما يفهموا، وثمة رجال لن يفهموا الأشياء على الإطلاق (16)! وينصح ميكافيللي الأمير بأن ينتخب النمط الأول من الوزراء، مع أنه يحذر ويتنبّه إلى التهديدات المحتملة من مثل هؤلاء الرجال، وذلك لأن لهم مطامحهم المختلفة لذلك، ورغم ذلك، فإن المرمى الوحيد للأمير هو أن يحافظ على حكمه، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يضع هذه المطامح قيد المراقبة دائما.

ومن جهة أخرى، يعالج الإمام علي المشورة السيئة في عملية الترشيح، فهو يقول: إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام (17)، ينصح الإمام علي بحكومة جديدة كليا، حكومة متنزّهة عن خطايا الماضي وعاداته، حالما ينتخب الأمير المستشارين الملائمين، يمكنه أن يعتمد عليهم في تحقيق ما يرغب فيه، لأنهم لن يخدعوه أو يسيئوا استعمال الثقة التي حباهم إياها، كان ذلك ما فعله في بداية حكومته، فقد عزل كل أولئك الذين ولّوا لأي سبب غير الجدارة والمآثر، وولّى الآخرين الذين سيكونون - بحسب رأيه - مؤهلين لمناصبهم، وأبقاهم، مع ذلك، قيد مراقبته الدقيقة.

قدم ميكافيللي منهجا لن يخفق (18) - بحسب تعبيره - في تقييم المستشارين، أي في إلقاء نظرة دقيقة على أولويات الوزير، فإذا ما كان يفكر بنفسه أكثر من تفكيره بسيده، فلابد من تجنبه وعدم الثقة به، ذلك أنه بتفكيره بمنفعته الخاصة، سوف ينتهك أساس واجبه، وحالما يضمن الأمير أن مستشاره يتمتع بعناصر الولاء والثقة، عندئذ عليه أن يعزز هذا الولاء، ويحصن العلاقة بتحقيق جميع رغبات المستشار، يجب عليه أن يمنحه كل الأوسمة والثروة التي يحتاجها، ولذلك ومن جهة، لا يمكن لأحد أن يستميله بأية وعود، وإنه من جهة أخرى، سيخسر خسارة بالغة إذا ما قهر سيده منافس ما.

للإمام علي الرأي نفسه في تأسيس العلاقة بين الأمير ومستشاريه، وعلى أية حال، فإن منهجه يختلف قليلا، فبعد التأكد من أن المستشار ليس بخيلا، أو جبانا أو جشعا، وأنه لم يقم بمهام الظالم في الماضي، عندئذ يتحول إلى خصيصتين بالغتي الأهمية تؤهلان، من وجهة نظره، الرجل للمنصب، وهاتان الخصيصتان هما مخافة الله وقول الحق(19)، فمخافة الله تضمن الولاء، وقول الحقيقة تولد النصيحة الصادقة، لذلك، على الأمير أن يظهر انشغاله بشأن الطريقة التي يتصرف بها أولئك الرجال، ويجب أن لا يعامل المحسن والمسيء سواء بسواء، لأن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة (20). أخيرا، اعتقد كلٌ من الإمام علي وميكافيللي بأن المستشارين لا يمكن أن يكونوا خيّرين بالنسبة لأمير أحمق، أو كما يعبر ميكافيللي، على نحو فظ، إن أميرا بلا حكمة يتوفر عليها بنفسه، لا يمكن أن ينصح بشكل حسن (21)، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يتوفر على الخصائص الجيدة التي تمكنه من أن يميز بين النصيحة الخيرة والنصيحة السيئة، وأن يتبع النصيحة الخيرة وينبذ النصيحة الضارة، ويخلص ميكافيللي إلى أنه إذا ما وضع نفسه بيدي وزيره، فسيكون عرضة لأن يجرد من دولته.

عن الجيش

* (فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك) الإمام علي، عهده لمالك الأشتر

** (حتى أنهم سيكونون أفضل حينما يرون أنفسهم منقادين لأمير منهم، أمير يشرفهم ويرعاهم) ميكافيللي، الأمير

زعم ميكافيللي أن الحرب لا يمكن تجنبها أبدا، وإنما يمكن فقط، تأجيلها لأغراضه (الأمير) الخاصة ، وبناء على ذلك، تشكلت الجيوش، واكتسبت شرعيتها بوحي من هذا الزعم الذي مفاده أن لا دولة يمكنها أن تكون محصنة ضد خطر العدوان، أو تهديده، ومن هنا، كانت الأولوية الرئيسة للحكومات هي أن تتكفل بأمن وجودها، وأن تستعد للدخول الحتمي في الحرب في الوقت المناسب، لقد وصف الإمام علي الجنود بأنهم حصون الرعية التي يجب أن تلقى عناية كافية من الأمير، ويواصل الإمام علي الكلام على الجنود (وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج)(23).

لا تعرف الجيوش، فقط، بكونها عبأ، وبكونها تعتمد على الدولة كليا، وإنما هي، أيضا، ذات خطورة محتملة، وعلى ذلك، من المهم بالنسبة للأمير أن يضعها قيد المراقبة، وأن يضمن ولاءها، وبحسب رأي الإمام علي، يمكن أن يتحقق هذا عبر تعيين الرجال المناسبين لهذه المسؤولية، الرجال العطوفين والشفوقين والقويمين.

(وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو) (24).

ومرة أخرى، يلفت انتباهنا إلى أن الترشيح الناجح هو الخطوة الأولى لضمان ولاء الرجال، في حين إن الرعاية الدائمة لهم يمكنها، وحدها، أن تصون وحدتهم وولاءهم، وفي هذا القسم من العهد، أدى الإمام علي دور عالم نفساني عسكري حديث، فهو يجادل بحق، في أن الجنود الذين يزحفون إلى الحرب يجب أن لا يركزوا على أي شيء آخر غير إيقاع الهزيمة بالعدو، ولذلك، فمن واجب الأمير أن يعين القادة البارعين الذين يرعون المحاربين، يقول الإمام علي: (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما) (25)، ومن المهم جدا التأكد من أن أسرهم يحظون بالرعاية، وعلاوة على ذلك، يحث الإمام علي مالكا الأشتر على إن يطري جنوده وضباطه مرارا وتكرارا لكل ما يقدمونه من خدمات، يقول الإمام علي: (فأفسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر الحسن لأفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله) (26)، وأخيرا، يحذر الإمام علي مالكا الأشتر من المعاملة المتحيزة بإزاء رجاله اعتمادا على موقع أحدهم في المجتمع: (ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما) (27).

وبالنسبة لميكافيللي، فإن القوات المسلحة هي أحد أساسين رئيسين للدول كلها، جديدها أو قديمها، أو التي تمزج بين الأثنين، هذان الأساسان هما: القوانين الجيدة good والأسلحة الجيدة (28)، وإذا أخذنا مقترب ميكافيللي بعين الاعتبار، فإن كلمة جيدة good تستخدم بأية حال، بمعنى عملي practical، أو إجرائي functioning بمعنى أخلاقي moral أو عادل just، وهكذا تساعد الأسلحة القوية القوانين (سواء أكانت عادلة أم ظالمة) على أن تصبح مطاعة وسارية المفعول، يحدد ميكافيللي الأنواع المختلفة من الجيوش التي وجدت في عصره، ويفكر فيها بوضوح: (المرتزقة والحلفاء خطرون ولا جدوى منهم، والقائد الذي يبني دولته على جيوش المرتزقة لن يكون مطمئنا أبدا، وجند من هذا النوع مفككون، وطموحون وغير منضبطين وخونة، وهم لا يخافون الله، وليس لهم ولاء للرجال) (29).

لقد حدد ميكافيللي السبب الذي جعله يعتقد بخطورة المرتزقة، إنه يتعلق بالظروف التي جندوا واستخدموا في ظلها، فهم أرسلوا ليقاتلوا أعداء أناس آخرين من دون سبب يخصهم، وفائدة يغامرون من أجلها، وعلاوة على ذلك، فهم غالبا ما يكونون مدفوعين بفعل العوز، وهكذا ليس لديهم حافز يجعلهم يرغبون في الموت من أجل من أستأجرهم، والخطر أسوأ بالنسبة لقادتهم:

(إن قادة المرتزقة أما أن يكونوا رجالا ممتازين أولا، فإن كانوا ممتازين، فلا يمكنك عندئذ أن تمحضهم ثقتك، ذلك لأن لهم دائما مطامحهم الخاصة بالسلطة، ولذلك أما أن يهاجموك، يهاجموا سيدهم، أو أن يضطهدوا الآخرين إلى ما وراء أغراضك، وإذا ما كان القائد رجلا عاجزا، فلتتيقن، على العموم من أنك ستتحطم على يديه) (30).

يواصل ميكافيللي، بعد ذلك، القول عبر تقديم نماذج تاريخية ليبرهن على صحة رأيه، فعلى وجه التقريب، خسر القرطاجيون دولتهم لصالح المرتزقة، والميلانيون الذين استأجروا فرانسسكو سيفورزا الذي- بعد أن تغلب على العدو - انقلب ضد أسياده، غالبا ما يثبت ميكافيللي نتيجة المحاجة لصالحه حتى إذا كان التاريخ- وسيلته في الإقناع - ينقلب ضده، وفيما لو رد شخص ما وقال إن الفينسيين والفلورنسيين كان لهم نجاح مع هذه الأنواع من الجيوش، فإن ميكافيللي يجيب: (فيما يتعلق بالفلورنسيين، فإنهم كانوا محظوظين جدا) (31)، وعلى نحو مشابه، لا يمكن تزكية جيوش الحلفاء، لأنهم كما أوحى ميكافيللي، قد يكونون جيدين أو سيئين بحد ذاتهم، لكنهم دائما مضرين بالنسبة لمن يستخدمهم، فلأن خسرت معهم تكون محطما، ولأن ربحت، تصبح أسيرهم (32)، ومرة أخرى، لا يدع ميكافيللي خيارا أو احتمالا لنتيجة جيدة، فهو يحصر، بحذق، المحاجة في احتمالين فقط، وكلا الاحتمالين ينذر بالكارثة، وبخلاف المرتزقة، فإن زمر الحلفاء، كما يحذر ميكافيللي، خطرة إلى أقصى حد (33)، فهم متحدين وموالون لسيدهم الأصلي وليس لمن يستخدمهم، والتجربة المحزنة لليونانيين مع الأتراك تبين بشكل جيد، ما كان يعنيه ميكافيللي.

وعندما يواصل ميكافيللي حديثه الموسع عن جميع أنواع الجيوش، يبدو أنه يستنفد جميع أنواع الاحتمالات مبينا خطورتها، ومستثنيا نوعا واحدا من هذه الاحتمالات يفضله لتحقيق غايته، وكيما يبين أهمية أن يمتلك المرء جيشا خاصا به، يذكر بحذق بالغ، بهذه الحكاية المؤثرة، بقوة من الكتاب المقدس:

عندما تطوع داوود في حضرة شاوول للانطلاق إلى قتال جوليات، فإن المتحدي الفلسطيني، شاوول، ومن أجل أن يشجع داوود، زوده بأسلحته الخاصة، ولكن عندما حاول داوود أن يختبر هذه الأسلحة رفض ارتدائها... وفضّل مواجهة العدو بسكينه ومقلاعه (34)، يخلص ميكافيللي إلى أن لا جيوش يمكن أن تكون مأمونة ومؤثرة وموالية مثل جيوش المرء الخاصة، وإذا ما ارتبت في ذلك، تأمّل التاريخ، وإذا ما بقيت في شك من ذلك، فهذه كلمات الله! وفي هذا السياق، فإن رسالة ميكافيللي والإمام علي هي إن إخلاص الجيش وولاءه- اللذين يجب أن يكونا مكفولين قبل القوة - أمر ذو أهمية قصوى، وذلك لأن الإخلاص والولاء إنما هما سمتا الأمان للجيش، في حين أن القوة وحدها إنما هي سمة خطرة، وكما أن جيشا ضعيفا يؤدي بالأمير إلى فقدان دولته لصالح الأعداء، فإن جيشا قويا، ولكن غير موالِ، قد ينقلب ضده حالما تسنح الفرصة.

عن المعاهدات

* (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم وتشتت أرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود) الإمام علي، عهده لمالك اللأشتر

** (ومن هنا، ليس فإمكان أمير حكيم، ولا يجب أن يحفظ عهده عندما لا يكون حفظ العهد لصالحه، أو عندما لا تعود الأسباب التي دفعته إلى ذلك نافذة المفعول) ميكافيللي، الأمير

إن الفصل الثامن عشر من كتاب الأمير هو فصل سيء الصيت إلى أبعد حد، إذ يعالج فيه ميكافيللي الطريقة التي يجب أن يعامل فيها الأمراء عهودهم، وفي هذا الفصل أيضا، يمكن العثور، في خلاصة الفصل، على العبارة التي تخطر أولا على كل ذهن حالما يذكر اسم ميكافيللي، وهي (الغاية تسوّغ الوسيلة) وأخيرا وفي هذا الفصل أيضا، يتحدث ميكافيللي عن الثعلب والأسد، حيث ألقى مسؤولية الخدعة على الضحية التي تتيح للمخادع تنفيذ ما يرمي إليه، وفي الفقرة الثانية من هذا الفصل، يشير ميكافيللي إلى (طريقتين في القتال، الأولى بالقوانين، والثانية بالأسلحة)، وهو يشير إلى الأولى على أنها (طريقة الرجال)، وإلى الثانية إلى أنها (أسلوب الحيوانات) ومن ثم، ينصح ميكافيللي بأن (على الأمير أن يعرف كيف يمثل دور الحيوان إضافة إلى دور الرجل)، ويواصل القول في تصنيف أفعال الحيوانات بوصفها (أفعال الثعلب والأسد) فقد كتب يقول: (إن الأسد لا يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام الشراك، والثعلب عاجز أمام الذئاب، ولذلك على المرء أن يكون ثعلبا في تجنب المكائد، وأسدا في قتال الذئاب).

إن موقف ميكافيللي بإزاء المعاهدات واضح تماما، ففي رأيه، إن الأمير يحث على حفظ وعوده ما دام يستفيد من حفظ تلك الوعود، وحالما تكون تلك الوعود عبأ عليه، (فلا يمكنه أو لا يجب أن يحفظ عهده) (35).

وطبقا لميكافيللي، لا يجب على الأمير حفظ عهده عندما تصبح الأسباب التي تجبره على الإيفاء به غير نافذة المفعول، يطبق ميكافيللي هنا، (القاعدة الذهبية)، بطريقة معكوسة.

(إذا كان الرجال جيدين، فلن يكون هذا مبدأ جيدا، ولكن ما داموا شريرين ولن يحتفظوا بإخلاصهم لك، فلست ملزما بالاحتفاظ بالإخلاص لهم) (36). بهذه النظرة الكلبية للطبيعة البشرية يسوغ ميكافيللي الخيانة والغدر مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل من يرغب في تبني نصيحته يجب أن يتعلم صنعة أخرى، وهي (أن يعرف كيف يخفي هذه الطبيعة جيدا، وكيف يدّعي ويرائي) (37)، ويجادل ميكافيللي، أن تكون هناك خيانة، فهذا شيء، وأن تبدو كذلك شيء آخر.

كانت نظرة الإمام علي إلى المعاهدات مستمدة من التعاليم الإسلامية، فالقرآن يقول: (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، والتزاما بهذا الناموس، يأمر الإمام علي مالكا الأشتر بأن لا يطرح اقتراح السلم الذي قد يبديه العدو نفسه، لقد دار في حسبان الإمام علي- وكذلك الأمير بالنسبة لميكافيللي فيما بعد - أن العدو قد يبدي السلم بقصد انتهاكه، ومع ذلك، لم يجعل الإمام علي من هذا الأمر ذريعة لعامله قصد نقض وعوده، وبدلا من ذلك، فهو يقترح أن على مالك الأشتر أن يتحسس علامات نقض الوعد من طرف عدوه الذي سوف يجعله في حل من التزامه بمعاهدة محترمة.

عندما تعقد هدنة، يجب على المرء، دائما أن يقبل بالتسوية، وأن يقبل ببعض الشروط المريرة من جراء ضغط اللحظة الراهنة، وعندما يتلاشى الضغط، فإن مرارة مثل هذه تشتد، ويشعر كل طرف من طرفي الهدنة بالحافز للتخلص من هذه الالتزامات، ويرى الإمام علي أن ذلك هو السبب نفسه الذي يجعل من إنجاز الوعد فعلا نبيلا: (حط عهدك بالوفاء، وأرعَ ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي) (38).

على الرغم من أمثلة المطابقة أو الاختلاف التي كشفتها هذه الدراسة بين الإمام علي وميكافيللي، فإن كلا الرجلين متسقان إذا ما تناولناهما منفصلين، وأخضعناهما للفحص ضمن شروطهما السياسية والاجتماعية الخاصة، لقد كان الإمام علي وفيا لمقتربه الأخلاقي في الحياة والسياسة، ولم يحد ميكافيللي أبدا عن إيمانه الراسخ بأن على الأمير أن يطيع الضرورة قبل أي اعتبار آخر، فهما متفقان فقط عندما تكون الضرورة أخلاقية في ذاتها، ولكن عندما يكف ما هو ضروري عن أن يكون أخلاقيا، فإن الإمام علي يواصل مسلكه الأخلاقي، أما ميكافيللي فينحرف عنه.

وطبقا لتصنيف ميكافيللي للرجال، فإن الإمام علي ينضم إلى الفئة التي تضم موسى وسايروس وروميولوس وثيسيوس، كان الإمام علي محييا لدين، ومؤسسا لدولة، وقد نجح في تحقيق غايات الحكومة: أي العدالة وتدبير الخير العام، وعلى أية حال، يقف الإمام علي كتحد لنظرية ميكافيللي التي تقضي بأن من الضروري للأمير، إذا رغب في البقاء في السلطة، أن يتعلم كيف لا يكون خيّرا، وكيف يستخدم معرفته أو يحجم من استخدامها، عندما يحتاجها (39)، فالإمام علي لم يخسر حربا أبدا، ولم يخسر دولته رغم كونه خيّرا في مواقفها بأسرها.

ورث الإمام علي أمة كانت مزعزة، ومليئة بالعنف والنزاع، وتفتقر إلى الإيمان بالحكومة، فالأعمال الوحشية للحكومات السابقة قسمت الناس على طبقات، فكان هناك الظالمون والمظلومون، والنبلاء والدهماء، والموسرون والمحرومون، وقد بلغ هذا الوضع مبلغا دفع الإمام علي، بمرور الوقت، إلى أن يتولى القيادة، إذ كانت هناك حاجة لمعجزة من أجل إحياء الدولة وتفعيل الدين، إن حصافة الإمام علي، وطبيعته الفذة هما اللتان كملتا قطع الحطام، وأحيتا إيمان الناس بالدولة، وعلى الرغم من دهاء خصوم الأمام علي، والطبيعة العنيدة لشيعته، فقد احتفظ بدولة قوية وظافرة، حققت العدالة، وأسست الديمقراطية من دون أن يعرّض أخلاقيته للشبهة، أو أن ينتهك مبادئ الأخلاق.




--------------------------------------------------------------------------------

* باحث عراقي مقيم في جامعة سان فرانسيسكو الأمريكية والبحث جزء من أطروحة للماجستير (سياسة الأمل وسياسة الواقع) 1997، مقدمة لإحدى الجامعات الأمريكية.

** المترجم أكاديمي وناقد ومترجم عراقي مقيم في استراليا له تآليف وتراجم عديدة.

المصادر:

1- ميكافيليي- الأمير- الفصل 15.

2- ومع ذلك، كتب ميكافيللي في كتابه: The Discourses- عن أهمية الدين في إبقاء الناس متحدين وموالين للدولة، أنظر الخطابات، 1-21 : لذلك، فعلى حكّام الجمهورية أو المملكة أن يتمسكوا بالمبادئ الأساسية للدين التي يزاولونها، وإذا ما تم ذلك، سيكون من اليسير لهم أن يحافظوا على عقائدهم الدينية المشتركة، وبالنتيجة على خيرهم ووحدتهم، ويتعين عليهم أيضا أن يعززوا ويشجعوا أيّ شيء من المحتمل أن يساعد على تحقيق هذه الغاية، حتى لو كانوا مقتنعين بأن ذلك الشيء منطو على مغالطة تماما.

3- المصدر نفسه، ص 48.

4- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

5- كان النبي محمد (ص) قد قدم في المدينة، مثل هذا المبدأ من خلال معاهدته مع يهود المدينة، حيث سمح لهم بمزاولة دينهم وموروثهم شريطة ألا يستخدموا سلطتهم وثروتهم في إعاقة الدين الجديد (الإسلام)، وسرعان ما هُجر هذا المبدأ بُعيد وفاته حينما اتخذ انتشار الإسلام شكل فتوحات، ولم ترق مثل هذه المحاولة للأقاليم المفتوحة حديثا حتى بزوغ عهد الإمام علي بعدما يقارب أربعة وعشرين عاما.

6- ميكافيللي - الأمير- الفصل 15، لم يفحص ميكافيللي المفارقة التي تكونها هذه العبارة، ومفهوم استخدام شيء ما استخداما حسنا، شيء هو في ذاته سيئ.

7- المصدر نفسه، الفصل 51.

8- الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

9- المصدر نفسه.

10- المصدر نفسه، وطبقا لقوانين الإسلام، تُنزل الدولة عقوبة جسدية بأولئك الذين يقترفون الجرائم، والعقوبة الشائعة التي من هذا النوع كانت جلد المذنب وهو عار أمام العامة.

11- صدر، رضا - شعار الإمام علي في الحياة - ص 19.

12- الإمام علي - عهده لمالك الأشتر.

13- المصدر نفسه.

14- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

15- المصدر نفسه.

16- المصدر نفسه، الفصل 22.

17- الأمام علي- عهده لمالك الأشتر.

18- ميكافيللي- الأمير - الفصل 22.

19- أنظر: الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

20- المصدر نفسه.

21- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

22- المصدر نفسه، الفصل 3.

23- الإمام علي، عهد لمالك الأشتر.

24- المصدر نفسه. 25- المصدر نفسه.

26- المصدر نفسه. 27- المصدر نفسه.

28- ميكافيللي، الأمير، الفصل 12.

29- المصدر نفسه، الفصل 12، يبدو استخدام كلمة الله هنا- إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سياق مجادلة ميكافيللي - استخداما مثيرا للسخرية.

30- المصدر نفسه. 31- المصدر نفسه.

32- المصدر نفسه، الفصل 23.

33- المصدر نفسه. 34- المصدر نفسه.

35- المصدر نفسه، الفصل 18.

36- المصدر نفسه. 37- المصدر نفسه.

38- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

39- ميكافيللي، الأمير، الفصل 15.

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:01 PM
سيادة الحق والعدل الاجتماعي في خطابات نهج البلاغة


فيه أوراقا لتكون مقدمة الاستدراك).

والقارئ المتمعن في فكر الإمام (ع) يدرك الأهمية البلاغية واللغوية التي بسببها سمى الشريف الرضي هذا الكتاب بنهج البلاغة فبالإضافة إلى الأهمية التاريخية والسياسية إذ من خلاله تتوضح الكثير من الصراعات السياسية في صدر الإسلام، فان هناك أيضا المسائل الفكرية التي طرحت في بعض الخطب كمسألة رؤية الله سبحانه وتعالى، ومسألة القضاء والقدر، وعلى سبيل المثال رده على (ثعلب اليماني) عندما سأله هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين، وكذلك جوابه لرجل سأله ( أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره)، والى جانب هذا أيضا هناك بعض القضايا الوصفية لغريب بعض الكائنات كالخفاش والطاووس وأصناف أخرى. إن هذا موجز عام ويسير عن الأثر الذي وجد من يأخذه من صدور الحفاظ سطور ذلك الأثر العظيم وليكون عينا من العيون التي وردها ويردها الباحثون والمهتمون بمجال التراث الفكري الإسلامي.

لقد تكلم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن الحق في أكثر من خطبة، وكذلك وصاياه وكتبه إلى عماله وفي أحاديثه لأصحابه وأعدائه، بمعنى (الحق المضاد للباطل، والحق والعدل والقانون).

والمعروف عن الإمام علي (ع) أنه كان خليفة للحكم في الإسلام للنخبة التي لا تأخذها في الحق لومة لائم، التي كان من أبرز رجالها: أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعدي بن حجر ومالك الاشتر وسلمان الفارسي وغيرهم، وعن هذه النخبة يقول الإمام علي (ع) في إحدى خطبه بعد معركة صفين، (أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق). وهو القائل لأبي ذر الغفاري عند صدور حكم عثمان بإقصائه إلي صحراء الربذة خارج المدينة بعدة أميال (يا أبا ذر إنك غضبت لله فارجع إلى من غضبت له، وإن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك لا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك) وفي آخر كلامه هذا إشارة إلى رفض أبي ذر لمال أعطاه عثمان ومعاوية مقابل سكوته وتأمين جانبه للباطل.

لقد جاء الإمام علي (ع) إلى السلطة والفتن على اشدها ونتيجة لتمسكه المتصلب بالحق، والاهتمام بالسياسة وتحقيق الممكن منها على إنها فن الممكن كما نفهم في عصرنا مما يريد أن يحقق، وهذا الأمر بحد ذاته لا يرجع كما هو شائع إلى عدم دراية وبلوغ فطنة، بل تذمر الناس الشديد من سياسة عمال الخليفة عثمان، على الأمصار إذ وصل الأمر إلى الثورة ضده وقتله، وبهذا لم يكن أمام الإمام علي (ع) إلا رفع الشعار الآتي: (وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته) والحق الذي يريد أن يقيمه كما سار عليه رسول الله (ص)، وما انتهك لا يمكن تحقيقه، والولاة يتربعون على إمارة الأمصار ويملكون خزائن أموال المسلمين، ولذلك فان أول ما نهض به الإمام علي (ع) هو أخذه قطائع الأرض التي منحت للصفوة من القوم في خلافة عثمان وعلى يد بعض ولاته، وبهذا يقول (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من بيت المال فهو مردود إلى بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء وإن وجدته قد تزوج).

وفي العبارة القديمة نجد الإصرار على استرجاع هذه القطائع إلى بيت المال، والإمام علي كما يتضح اتخذ سياسة الوضوح حيث لم يضع في حساباته أو في سياسته ما يعرف بالوسائل التي تبرز الغايات.

وعن سياسته هذه يقول (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس)، إن اعتبار القيم والأخلاق عند الإمام علي (ع) التي هي حقيقة من سجاياه الشخصية جعلته يلتزم بها في سياسته مع أعدائه وقد أتضح هذا في حادثة التحكيم التي غصبه عليها خوف سريان الفتنة بين أصحابه وبعد الحيلة التي تغلب بها (عمرو بن العاص) على أبي موسى الأشعري، ورغم إصرار بعض أصحابه على القتال، فانه ظل ملتزما بما ستؤول إليه نتيجة التحكيم، وهو العارف والقائل لابن عمه عبد الله بن عباس في استغلال بعض آيات القرآن الكريم، بسبب إمكانية تأويله وتفسيره (لا تخاصمهم بالقرآن الكريم، فهو حمّال أوجه وذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا).

لقد شغلت مسألة الحق والعدل سياسة الإمام علي بن أبي طالب كلها، وهو يصف استهانته بالإمارة والسلطة في حديث له مع عبد الله بن عباس بأن نعله الذي يخصفه بيده أحب له من هذه الإمارة (إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا) وكذلك يقول (لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحدا، أني أريدكم لله وانتم تريدوني لأنفسكم).

أيها الناس أعينوني على نفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها).

إن هذه السياسة التي كانت محوراً منفردا في سياسة الإمام علي (ع) لم يتحملها الكثرة من المستفيدين من أمراء ومسؤولي بيت مال المسلمين، لذلك أصبح الاصطفاف مع معاوية له ثقله في مواجهة هذه السياسة، إذ وصل الأمر بأخيه عقيل أن يشد رحاله إلى معاوية بعد أن منعه أخوه الخليفة من لقمة وكساء لأطفاله. وهذه الحادثة مذكورة بقوله ( والله لقد رأيت عقيلا، وقد احلق حتى استماضى من بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظام، صبغة النيله، وعاودني مؤكدا وكرر علي القول مرودا، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني، واتبع قياده مفارقا طريقي) ويقصد به طريق الحق.

إن تحقيق هذا الأمر عند الإمام (ع) هو السير الثابت لتحقيق أبرز سمات الدعوة الإسلامية وخصائصها كعدالة اجتماعية، وهاهو يراها تميز بين الناس وتصف الغني عن الفقير، حين يتكلم الإمام علي عن الحق بهذا الجهاد، فهو يعد الحق قانونا والتزاما على الناس بعد أن تم اختيارهم له غير مرغمين عليه، ويعد دفاع الناس عن هذه السياسة حقا بموجب العقد الذي عقدوه معه، والذي كان به يقبل مشورتهم، فهو يقول عندما طالبه قوم من أصحابه في عقاب القوم الذين استفادوا من سياسة عثمان والتعجيل بمحاسبتهم (أخوتاه إنه ليس ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم، وقد ثارت معهم عنانكم والتفتت إليهم عريانكم) واكثر ما كان علي (ع) يحدث الناس بهذا الحق كسيادة قانون في حربه ضد تكتل معاوية، الذي يعده المعرقل القوي لهذه السيادة وتعميمها، لذلك فكل جهوده الحربية متجهة بهذا الاتجاه إذ قال في رسالته إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف (وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس) يعني به معاوية ومن خطبة له بصفين عند مواجهة هذا الباطل وساسته يقول (فالحق أوسع الأشياء، في التواصف، وأضيفها في التناصف لا يجري على أحد إلا جرى عليه– إلى قوله– وأعظم ما افترضه الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي).

لم يبعد الإمام علي (ع) من عد هذا الحق السياسي عقدا بين السلطة والناس، ولكن بافتراض الهي حمله القران الكريم للناس والسنة النبوية الشريفة وليس مثلما افترض جان جاك روسو وأشار به إلى نظرية العقد الاجتماعي، لقد حاول الإمام علي (ع) في مواقف عديدة حقن دماء الناس بتأكيد هذا الحق، وذلك أن يبايع له معاوية كالعامة، وان يعزل من الشام ويأتي للحساب كرأس من رؤوس أصحاب القطائع أيام عثمان، وان يرد ما عنده من المال لبيت مال المسلمين،لان معاوية كان في الشام وان إمكانية تدبير مؤامراته في الإغراء أو الاغتيال للأقوياء من أصحاب الإمام علي (ع) كقتل (مالك الاشتر) وهو في طريقه إلى مصر واليا عليها بعد أن قتل (محمد بن أبي بكر) فيها، وكإغراء (زياد ابن أبيه) والي علي (ع) في البصرة نيابة عن واليها عبد الله بن عباس.

ومن خلال مطالعة رسائل الإمام (ع) إلى عماله تظهر الدعوة إلى سيادة الحق بين الناس، فهو لا يضع لسلطة الوالي أي معيار غير أن يكون محققا لهذه السيادة والبدء بنفسه فيها، وهو يقول لواليه على البصرة (اتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك، ليكن من النار خلاصك) وكان سبب هذه الرسالة أن الوالي عثمان بن حنيف قبل دعوة إلى وليمة، فسرها علي (ع)- وهو الصائب- بهذا التفسير، بأنها مراهنة لهذا المسؤول، وكذلك رسالته (لمقصلة بن هبيرة الشيباني) واليه على آرادشير– (مقاطعة من بلاد فارس):

(إنك تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك فهو الذي خلق الحبّة، وبرأ النسمة لأن كان ذلك حقا لتجدن بك علي هوانا، وتتحفن عندي ميزانا).

ورسالته إلى عامل آخر لم يذكر اسمه: (كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم انك تأكل حراما ؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء، مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فانك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لاعذرن إلى الله فيك، فوالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل).

وفي قوله إلى أحد اتباعه المخلصين، وهو عبد الله بن زمعة حين قدم عليه يطلب مالاً: (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم).

هذا ما اختلف به الإمام علي (ع) عن معاوية الذي كان يعطي بدون طلب ويغدق الأموال للحصول على تأييد.. كان الإمام (ع) يتصرف بهذه السياسة الحكيمة وهو في أمس الحاجة إلى المؤيدين والأنصار. وبهذا السلوك الشخصي ذي الالتزام الصارم بالحق كان يدفع عدداً من الناس إلى تأييده والبقاء على نصرته حتى الموت، وبهذا السلوك الذي لم يشك به حتى أعداؤه بل كان يقيم حجة على ولاته في الأمصار، وهو القائل فيما قاله لأبي حنيف: (فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرت من غثائها وفراً ولا أدت ليالي ثوبي طمراً).

وهو الذي ترفع عن مقابلة الأمويين بالسباب يوم جعلوا يرشقونه به، فليس من خلقه العظيم أن ينال من ناصبوه العداء بالسباب، ولو سبوه، بل إنه منع على أصحابه أن ينال من ناصبوه بالشتيمة المقذعة. فهو ما كاد يسمع قوما من أصحابه هؤلاء يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين، لأنهم سايروا الغدر وماشوا الخديعة حتى قال لهم: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، وكفاكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في الغدر وقلتم مكان سبكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).

وتراه يعيش بين فتنة الخوارج وفتنة بني أمية، يلتمس للأولى معاذيرها، ويدعو إلى قتال الفتنة الثانية لأنها هي فتنة الزيغ والطمع والضلال، لذلك نجده يوصي أصحابه، بعد ما فر من فر من بقايا الخوارج في النهروان قائلا: (لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) فالخوارج عند الإمام علي (ع) لم يتخطوا أن يكونوا طلاب حق، ولكنهم أخطأوا حين نصروا هذا الحق الذي تصوروه بجانبهم، فهؤلاء يجوز قتالهم من قبيل التأديب.

لهذا السبب مضى الإمام علي (ع) بثبات وجرأة في هذه السياسة وأراد أن يجري الناس على سنة الله ورسوله الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) وأراد أن يحاسبهم على الصغيرة والكبيرة فيما يعتقدون، وأن يحملهم على العدل والحق الذي يطرحه الإسلام،خاليا من العبث والهوى والمادة.

ومن هذا الاستعراض والسياحة في آفاق نهج البلاغة وفكره الإبداعي، كانت دعوة الإمام علي (ع) لتثبت أن الحق وإعلان العدالة أمران لا يتحققان إلا حين تنتصر فيه إرادة الله السامية على نوازع الشر المنحطة التي تصطنع سبلا كثيرة من الكذب والمكر واستهواء الناس بما يلائم مطامعهم مما يحسنه أهل المكر والرياء والنفاق، ولا يحسنه أهل الصدق والصفاء والإيمان … هذا هو الإنسان الكبير في حياته، الكبير في موته، الكبير في عبقريته….. تفتيك عن الكثير من التراجم وتعفيك من آفات الروايات.

وحسبنا من الإنسان أثره الذي ينطق عنه، وحين يجتمع الناس على حب رجل، سواء فيه الخصوم والمحبون، فاعلم بأنه رجل عظيم، لأن المحبين أسفوا على المأساة في حياته وموته، والمبغضين لم يسعهم إلا أن يعترفوا بعظمته ويخضعوا لسلطانه.

وهو الذي كان يتمنى أن يخلص حبه من محب غالٍ فيه، وأن يبرأ بغضه من نفاق وانحياز كما قال له المصطفى (ص): يا علي يهلك فيك اثنان.. محب غال ومبغض قال. لقد كان الإمام علي (ع) ولا يزال مثال الشجاعة والحكمة والعلم والأدب والصراحة والشخصية النبيلة، والمثل الأعلى للإنسان في كفاحه ضد الظلم والباطل والضلال منذ أن سطع نجمه وهو غلام في كنف النبوة إلى يوم الدين.


--------------------------------------------------------------------------------

* باحث وكاتب

المصادر:

1- النصوص التي وردت في المقال اعتمدت على نهج البلاغة للشيخ محمد عبده، والشيخ ابن أبي الحديد المعتزلي.

2- ترجمة سيرة الشريف الرضي مأخوذة من نتاج الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك في كتابه (عبقرية الشريف الرضي

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:02 PM
إعلان حالة الطوارئ في ظل حكومة الإمام علي







تواجه الحكومات والأنظمة بجميع أنواعها عادة حالات خاصة تضطر فيها إلى إعلان حالة الطوارئ، تلجأ إليها الدولة عندما تمر بأزمة حادة، وخاصة في فترات وقوع الكوارث الطبيعية كالسيول والزلازل، أو غير الطبيعية كالحروب والانقلابات العسكرية والثورات، وتصبح إدارة البلاد غير ممكنة بالطرق الاعتيادية، وبإعلان حالة الطوارئ تتجاوز الدولة الكثير من الحقوق المشروعة للمواطن والحريات التي أقرتها القوانين الموضوعة، لتتصرف وفق ما تقتضيه المصلحة العامة وما ترتئيه الدولة دون الرجوع إلى تلك القوانين.

ولعلّ أهم هذه الظروف الاستثنائية التي تشهدها أغلب البلاد هي ظروف الأزمات السياسية التي تعصف بها، والسبب في ذلك تصاعد الاختلافات والتناحرات السياسية بين الدول من جهة، وبينها وبين المعارضة من جهة أخرى، وتتمثل هذه الاختلافات تارة بالاغتيالات السياسية والانفجارات وممارسة شتى أنواع العنف الأخرى، وتارة أخرى بشن الحروب والهجوم المسلح العسكري من قبل دولة على أخرى، وفي بعض الأحيان تبرز بشكل مظاهرات واضطرابات داخلية أو القيام بانقلابات عسكرية داخل مؤسسات النظام القائم.

تعلن الدول حالة الطوارئ فوراً عندما تواجه مثل هذه الأزمات، وتعطي لنفسها الحق باستخدام شتى الوسائل المناسبة والممكنة لاحتواء الأزمة، بحجة إعادة النظام والاستقرار وتأمين المصالح العامة..

واللجوء إلى الأحكام العرفية وبسط يد العسكر في إدارة البلاد، واحد من الوسائل التي تتخذها السلطات للقضاء على الفوضى والاضطرابات وحينها تخضع البلاد لقوانين ومقررات عسكرية تسمح للعسكر في أن:

1- يفتشوا المنازل دون إذن مسبق.

2- يمنعوا المواطنين من السكن في المحلات التي يقطنونها ويرحلوهم عنها.

3- يمنعوا تجمع أكثر من ثلاثة أشخاص.

4- يقيموا المحاكمات الميدانية وعلى ضوئها يُحكم على المعتقلين وتنفذ فيهم الأحكام الصادرة.

5- يضعوا الحواجز على الطرقات وفي المحلات السكنية ليسيطروا بواسطتها على حركة الناس.

6- يعطلوا إصدار الجرائد والمجلات أو يخضعونها لرقابة مشددة.

7- يحلّوا المجالس الشعبية والنيابية والقوة التشريعية ويمنعوا أي نوع من أنواع الانتخابات.

لا تختلف الأنظمة بوضع هذه الإجراءات موضع التنفيذ، أياً كان نوعها دستورية برلمانية أو شمولية استبدادية، إلا بفارق بسيط هو أن الحكومات الديمقراطية تشرع تلك الإجراءات عن طريق آراء ممثلي الشعب في البرلمان؛ أي القوة التشريعية، بينما يتم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في الحكومات الاستبدادية من قبل الملك أو رئيس الجمهورية أو رئيس القوة التنفيذية.

ولذلك احتوت قوانين ودساتير جميع الدول على مواد قانونية تعالج الحالات الطارئة عليها وتعترف بها بصورة رسمية.

الدستور الدائم الألماني

عبّر الدستور الدائم الألماني عن الحالة غير الاعتيادية بـ(الوضع الاضطراري)، فأعطت المادة 81 من هذا الدستور للمستشار الألماني في الأوضاع الاضطرارية صلاحيات واسعة، ففي حالة عدم المصادقة على أطروحاته في المجلس النيابي وعدم حصوله على أكثرية الآراء للاستمرار في الحكومة، فإن القانون يعطيه الحق بحل المجلس، وليس عليه تقديم استقالته أو التفاهم مع بعض ممثلي الشعب لتحقيق الأكثرية اللازمة لديمومة الحكومة، وإذا امتنع المجلس النيابي عن المصادقة على اللوائح والقوانين اللازمة التي يطرحها رئيس الحكومة، فإن القانون يسمح له (إعلان حالة الطوارئ التشريعية) ويرجع في مصادقة القوانين إلى مجلس ممثلي المحافظات والولايات والمقاطعات للمصادقة عليها وتنفيذها.. تستمر هذه الحالة طبقاً للقانون المذكور مدة ستة أشهر قابلة للتمديد لفترة ستة أشهر أخرى.

الدستور الفرنسي:

تعطي المادة 16 من الدستور الدائم الفرنسي رئيس الجمهورية صلاحية الحاكم المطلق في حالة تعرض البلاد إلى الطوارئ، ويتمتع بموجب هذه المادة بصلاحيات القوى الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) فيمكنه أن يقرر ما يشاء، تشمل حالة الطوارئ الاستثنائية هذه الحوادث التي قد تهدد أركان الجمهورية الفرنسية وتعرض استقلال البلاد ووحدة أراضيها للخطر، فلا يمكن للدولة أن تتعهد بالتزاماتها الدولية إلا عن طريق إعلان حالة الطوارئ.

وفي هذه الحالة فإن على رئيس الدولة أن يسلك كافة السبل المؤدية إلى إنقاذ بلده وإخراجه من الأزمة بأمان وفقاً لتشخيصه الخاص، مدة حكومة الطوارئ أيضاً يحددها الرئيس، وله أن يمددها للفترة التي يشاء وإلى أمد غير محدود.

القوانين الأمريكية:

يتمتع رئيس الجمهورية الأمريكي في زمن الحرب بصلاحيات واسعة، وذلك طبقاً للقوانين المعمول بها في أمريكا، فيستطيع أن يصادر الأموال والممتلكات الخاصة من أي شخص كان لصالح العمليات العسكرية، وكذلك إصدار أوامر الاعتقال للمتهمين بصورة مباشرة، وهذا ما مارسه (روزفلت) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أبان الحرب العالمية الثانية، فلم يكتف بإصدار الأوامر باعتقال اليابانيين المقيمين في أمريكا، بل طالت أوامره حتى الأمريكيين الذين ينحدرون من أصل ياباني، وبعد ذلك بفترة قصيرة صادقت المحكمة العليا لصيانة الدستور والحريات على هذه الصلاحيات، وأعطتها الصفة القانونية والرسمية.

تسجل هذه الملاحظات والوقائع في دول ما فتئت ترفع شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، وتؤكد على ذلك منذ ما يناهز مائتي عام، وقد دفعت بعضها ثمناً باهضاً وتعرضت إلى ضربات ماحقة طالت كياناتها السياسية، واتهمت أمام العالم بخرقها لحقوق الإنسان.

النظم الإسلامية:

قبل أن نتطرق إلى طريقة التعامل مع الأوضاع الاضطرارية أو حالة الطوارئ، من قبل حكام الدول الإسلامية، لا بد من الإشارة إلى الفرق الشاسع بين النظم الإسلامية الحاكمة التي كانت سائدة فيها والموجودة حالياً، وبين النظام الذي يصبو الإسلام إليه، والتعرف على حدود وأبعاد كل منهما، ذلك لأنه لا يوجد أي تشابه بين النظام الإسلامي في زمن رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) وما آلت إليه الحكومات التي تدعى إسلامية وقد تختلف جذرياً ومن جميع الأبعاد معه.

فالحكومتان العباسية والأموية كانتا من أسوأ النظم التي شهدتها البشرية وعرفها التاريخ، لأن هدف الحكام في هذه الأنظمة يتلخص في التسلط والاستبداد، ولم يتوان هؤلاء الحكام، من أجل الوصول إلى هذا الهدف، عن ارتكاب شتى صنوف الجرائم ومختلف أشكال التعذيب والسجن والإعدامات التي طالت حتى الأبرياء، وكانت من ممارساتهم العادية.

ولذلك فالمقصود من النظام الإسلامي إنما هو النظام الذي أقامه رسول الله(ص) والإمام علي(ع) وليس المقصود كل نظام أطلق على نفسه مثل هذا العنوان.

ومع أن حدود دولة الرسول(ص) وحكومته كانت تنحصر في منطقة جغرافية صغيرة تدعى المدينة المنورة، فإن الرسول(ص) لم يسلب أو يتغاض قط عن أي حق من حقوق الإنسان، ولم يصادر حق أي شخص بحجة الحفاظ على المصلحة العامة أو المصالح القومية العليا، كما يفعل الكثير من الحكام، فلم يعلن رسول الله(ص) (حالة الطوارئ) طيلة فترة حكمه، حتى عندما كان يتعرض إلى هجوم الأعداء والضغوط من قبل قوى الشرك والضلالة، ولم يعط لنفسه صلاحيات واسعة واستثنائية في أحلك الظروف.

وكذلك كانت حكومة الإمام علي(ع) الذي انتخبه الناس وبايعوه للخلافة ليصبح خليفة على المسلمين بإرادتهم، فلم يلجأ إلى إعلان (حالة الطوارئ) قط رغم كل المشاكل والمتاعب التي واجهها في زمن خلافته، بل على العكس من ذلك كرس احترام الحقوق المدنية للشعب، وأطلق لهم حرية العمل والانتخاب، وحرية ممارسة حياتهم بالطريقة التي يرغبون، فهو لم يستخدم أساليب الأعداء الذين تألبوا عليه في أصعب وأشد الأزمات السياسية التي عصفت بواقع الدولة الإسلامية، ولم يتمثل سلوكهم الشاذ، لكنه أصر على أسلوبه الخاص في سياسة البلاد، والقائم على أساس الحفاظ على مصالح الناس - المؤالف منهم والمخالف - وصيانة حقوقهم.

الإمام علي (ع) والناكثون:

ليس لنكث البيعة في العرف السياسي السائد للحكومات والأنظمة بشتى صورها غير معنى واحد، وهو العصيان والتوسل بالفوضى والاضطرابات من أجل إسقاط الحكومة القائمة، وتتعامل الحكومات عادة مع مثل هؤلاء بأشد أنواع القسوة وبلا رأفة ورحمة، من أجل قمع حركتهم ووأدها في المهد، لكن الإمام علياً(ع) لم يتعامل مع الناكثين لبيعته بهذا الأسلوب، فعندما انتخب الإمام للخلافة بإجماع المسلمين وإرادتهم الحرة، رفض البعض - من أمثال عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن سلمة الأنصاري وغيرهم - مبايعة الإمام ورفعوا لواء المعارضة. كان يمكن للإمام(ع) آنذاك - خاصة والبلاد كانت تجتاز مرحلة عصيبة من الثورة والفوضى السياسية والاضطرابات الداخلية - أن يلجا لقانون الطوارئ، ويقضي عليهم بحجة إعادة الأمن والاستقرار وحفظ الصالح العام ويلغي أي دور لهم في المجتمع، ولكنه لم يفعل ذلك ولم يأخذ منهم البيعة بالإكراه.

يوضع أمثال هؤلاء الأشخاص في حكومات اليوم تحت الإقامة الجبرية والمراقبة التامة لجميع تحركاتهم وسكناتهم؛ بينما الإمام علي(ع) لم يكتف بأن لم يضيق على هؤلاء بل أعطاهم مطلق الحرية في الإقامة والتحرك والتنقل، وهذا يعني الاعتراف بالحرية السياسية للإنسان بأروع صورها، واحترام رأي الآخر وإن كان مخالفاً، وإعطاءه الحق في أن يعارض ويمارس حقه بحرية كاملة.

كيف تعامل الإمام علي(ع) مع طلحة والزبير:

بعد أن يئس طلحة والزبير من تجاوب الإمام(ع) مع مطالبهم المتمثلة بإشراكهم في الأمر كنوع من الرشوة وثمناً لسكوتهم، قررا الرحيل إلى مكة لتحريك الناس وإثارتهم على الإمام، ولذلك جاءا إلى الإمام وطلبا منه السماح لهما بأداء مناسك العمرة، لكن الإمام ببصيرته الثاقبة صارحهما بحقيقة أمرهما: (إنكما لا تريدان العمرة بل الغدرة)، وهذا بالضبط ما كان يدور في خلدهما، ومع ذلك لم يمنعهما من الذهاب إلى مكة ولم يصادر حريتهما في ذلك.

لا ينسجم هذا المنطق مع الموازين السياسية السائدة اليوم، لأن أقل ما يفعله الحكام والمسؤولون عن الحكومات في مثل هذه الحالة، هو فرض الإقامة الجبرية عليهما في المكان الذي تسهل فيه مراقبتهما والسيطرة على تحركاتهما.

ولكن قيمة الحرية في منطق الإمام علي(ع) والتي أعطاها الله للإنسان أسمى وأغلى من التسلط والحكومة، وأساساً فإن فلسفة الحكومة لدى الإمام علي(ع) لا تقوم إلا على صيانة حقوق الإنسان وحفظها من المصادرة والاستهتار، وإذا حصل ذلك فإن الحكومة ستفقد مصداقيتها وفلسفة وجودها.

لم تمض فترة وجيزة إلا وطلحة والزبير وعائشة يجتمعون في مكة لتأليب الناس على الإمام علي(ع)، وعندما وصلت التقارير والأخبار عن نشاطات هؤلاء المعارضين لخلافته لم يكن رد فعله (ع) إلا أن قال: (إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخط أمارتي، وأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا)(1).

وعندما استعد طلحة والزبير ومعهم عائشة وفئات من المعارضين والمخالفين من الأمويين وغيرهم للتحرك إلى البصرة، تحرك الإمام بدوره إلى البصرة ولكن ليس لمنازلتهم بل لإقناعهم بالرجوع عن الفتنة وعن خيار الحرب، ولكنهم كانوا قد وصلوها قبل الإمام علي(ع) وعاثوا فيها الفساد والخراب والدمار، ومع كل ذلك لم يبدأهم الإمام بالقتال إلا بعد أن أشعلوا هم أوارها فاستأصل فتنتهم.

كيف تعامل الإمام مع القاعدين عن حرب الجمل؟

لم يستجب البعض من أهل الكوفة إلى نداء التعبئة الذي أطلقه الإمام لحرب الجمل وبقوا في الكوفة، وبعد انتهاء حرب الجمل وانتصار الإمام فيها وعودته إلى الكوفة اكتفى الإمام(ع) بتوبيخ هؤلاء، وطلب من المسلمين أن يقاطعوهم، ولكنه لم يحاربهم في لقمة العيش فأبقى على رواتبهم جارية من بيت المال، لأنهم في النهاية يجب أن يكونوا ضمن جيش الإمام؛ يأتمرون بأمره عند الضرورة، ولكن بعض قيادات وأمراء جيش الإمام طالبت بالانتقام منهم ومعاقبتهم بأشد العقوبات، وكان من هؤلاء الأمراء مالك بن حبيب اليربوعي الذي جاء إلى الإمام وقال له: بالله عليك مرنا حتى نقتلهم، فأجابه الإمام: (سبحان الله يا مالك، جزت المدى وعدوت الحد وأغرقت في النزع)، فتمثل مالك بهذا البيت في جواب الإمام:

لبعض الغشم أبلغ في أمور تنوبك من مهادنة الأعادي(2)

ويقصد أن استعمال الشدة أفضل من مهادنة الأعداء، فقال له الإمام(ع): (ليس هكذا قضى الله يا مالك، قتل النفس بالنفس، فما بال الغشم؟).

وتلا بعدها هذه الآية (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) (3)، وأضاف: والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه، وذلك هو الغشم(4).

الإمام علي(ع) في صفين:

لقد اتخذ الإمام علي(ع) في صفين كافة التدابير اللازمة وأصدر أوامره الصارمة إلى أمراء جنده أن لا يبدأوا معاوية القتال، إلا أن معاوية اعتبر ذلك ضعفاً فعندما سيطرت قواته على مياه نهر الفرات، صادرها لقواته وحرم جيش الإمام منها، عندها خطب الإمام(ع) في جيشه خطاباً قصيراً أثار فيه حماسهم وطالبهم بالسيطرة على منابع الفرات(5)، ولما سيطر جيشه على الفرات أراد بعض قادته حرمان جيش معاوية من الماء طبقاً لمبدأ المعاملة بالمثل، ولكن الإمام رفض ذلك بشدة، ولم يسمح لجيشه أن يمنع الماء عن الجيش الأموي بحجة حالة الحرب القائمة، وأن ينتصر عليهم بالعطش، ولو كان قد فعل فلن يلومه لائم، لكن الإمام كان يعطي للإنسان الحق في الاستفادة من الموارد الطبيعية التي وهبها الله لعباده وليس لأحد أن يمنعه ذلك، لذلك أعلنها الإمام للجميع: (لا إنا لا نكافيك، هلم إلى الماء، فنحن وأنتم فيه سواء) (6).

لم يشأ الإمام أن يمنع الإنسان - وإن كان من الأعداء - الماء المباح للكلاب والخنازير، ففي مبدأ الإمام علي(ع) يجب الفصل بين حق الإنسان كإنسان وبين ما يعتقده ذلك الإنسان وعدم الخلط والمزج بين الاثنين، وبذلك أثبت الإمام علي(ع) أن للإنسان الحق في الحياة، حتى وإن كان على شاكلة معاوية بن أبي سفيان فإنه ليس لأحد أن يحرمه منها، واختلاف الآراء لا يبرر حرمان الإنسان من حقوقه الأساسية.

الإمام علي(ع) والخوارج:

يشكل سلوك الإمام علي(ع) مع الخوارج نموذجاً آخر لأهمية حرمة الإنسان وحقوقه في الإسلام. لقد مارس الإمام هذا السلوك مع الخوارج في الوقت الذي كانت فيه حكومته تمر بظروف غير اعتيادية، أو ما يصطلح عليه اليوم حالة الطوارئ، فعلم الفتنة والاضطراب كان مرفوعاً في أغلب المناطق، ولكن الطريقة التي تعامل بها أمير المؤمنين(ع) مع الخوارج تبين ما في مبدأ الإمام من مناقبية ومثالية في ظل الظروف الطارئة.

1- الخوارج يكفرون الإمام(ع):

إحدى الحيل العسكرية التي لجأ إليها معاوية في معركة صفين كانت رفع المصاحف على الرماح والدعوة إلى الاحتكام لكتاب الله، هذه الحيلة انطلت على الكثير من عناصر جيش الإمام علي(ع) أجبرت الإمام على القبول بوقف القتال وبالتحكيم في وقت كانت بوادر النصر الساحق تلوح بالأفق.

وعلى أثر ذلك تشكلت لجنتان من الطرفين المتنازعين للحوار والرضوخ إلى نتائج المفاوضات بينهما، رشح الإمام علي(ع) مالك الأشتر لرئاسة اللجنة التي تمثله فلم يرتضوه فرشح عبد الله بن عباس فلم ينل القبول منهم أيضاً، وأصروا على تشريح أبي موسى الأشعري الذي لم يكن الإمام يراه مناسباً لتمثيله في المفاوضات، لعلمه بشخصيته المتزعزعة وعدم حماسته له(7)، لكنه اضطر للرضوخ لرغبتهم تحت الضغوط والإصرار الذي مارسوه عليه، فعين أبا موسى الأشعري رئيساً للجنة المفاوضة مع ممثلي جيش معاوية، وكانت النتيجة معروفة عند أمير المؤمنين(ع) مسبقاً، ولكن عندما آلت النتائج إلى ما آلت إليه كان أول رد فعل للخوارج هو أنهم كفروا الإمام علياً(ع) لقبوله التحكيم وطالبوه بالتوبة!!(8).

لم يأمر الإمام باعتقال ومحاكمة ومعاقبة الخوارج بل أعلن مبادئه العامة في الحياة، القائمة على صيانة الإنسان وحقوقه (لكم عندنا ثلاث خصال لا نمنعكم مساجد الله أن تصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدأونا) (9).

2- الخوارج في النهروان:

اجتمع الخوارج في منطقة المدائن خارج الكوفة، وقرروا الخروج مع أنصارهم من البصريين إلى النهروان، في الوقت الذي كان الإمام(ع) يستعد للخروج إلى الشام، فاقترح بعض أمراء وقادة الجيش العلوي، من أجل الحؤول دون هجوم الخوارج على الكوفة والاعتداء على الأطفال والنساء، أن يقمعوا حركة الخوارج أولاً ومن ثم يتوجهوا مطمئنين إلى الشام لقتال معاوية، لكن أمير المؤمنين(ع) رفض الانصياع لمثل هذا الاقتراح، معتبراً إياه نوعاً من القصاص قبل ارتكاب الجريمة؛ ففي مبدأ الإمام علي(ع) أنه لا يستحق أحد العقاب بمجرد التهمة أو نية الفتنة، وما دام لم يرتكب جريمة؛ قتل أو فساد في الأرض، بل يرفض الإمام حتى توبيخه.

بيد أنّ الخوارج قاموا بقتل عبد الله بن الخباب وزوجته الحامل بلا ذنب، وبذلك تحقق فيهم ارتكاب القتل والفساد في الأرض، وشكلت هذه الحادثة السبب الذي أجاز للإمام قتالهم، إلا أنه(ع) لم يفقد الأمل بالإصلاح وتجنب الحرب والقتال وسعى كثيراً في سبيل ذلك، فطلب إليهم تسليمه قتلة عبد الله بن الخباب لينالوا القصاص العادل، لكنهم رفضوا ذلك وأعلنوا أنهم جميعاً قتلته، حينئذٍ أكد الإمام لهم بأنه في هذه الحالة سيقتص منهم جميعاً، لكنهم أصروا على مقولتهم ورفضوا تسليم القتلة، فلم يبق هنا من سبيل أمام الإمام علي(ع) سوى مقاتلتهم، ومع ذلك وطبقاً لمبدئه في عدم البدء بالقتال، صبر الإمام حتى بدأوه الحرب فصار الدفاع واجباً عليه.

3- الخوارج.. مؤامرات متواصلة..!

لم يمنع الخوارج اندحارهم وكسر شوكتهم في النهروان من متابعة أهدافهم الخبيثة، فراحوا بما بقي عندهم يحوكون المؤامرات ضد الإمام(ع)، ومن تلك المؤامرات أن جاءه يوماً خريت بن راشد وقال: (يا أمير المؤمنين بين أصحابك من يريد أن يتركك ويلتحق بالأعداء فماذا أعددت لذلك؟! فقال الإمام علي(ع): إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن.

فقال خريت مصراً: إني أظن أن عبد الله بن وهب وزيد بن الحصين الطائي يتآمران عليك، إنهما يقولان قولاً فيك لو ارتقى إلى مسامعك فإني على يقين بأنك إما أن تقتلهما أو تودعهما السجن المؤبد، فأجابه الإمام: إني مستشيرك فيهما، فبماذا تشير؟. فقال خريت: أشير عليك أن تستدعيهما وتضرب أعناقهما.. رفض الإمام هذه المشورة وقال: لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة، كان ينبغي لك لو أنني أردت قتلهم أن تقول لي: اتق الله بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحداً ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك؟!).

وذات يوم جاء هذا الشخص إلى الإمام وقال بعصبية وغضب: سوف لن أطيعك بعد اليوم ولا أصلي معك أبداً وسوف أهجرك غداً، فحذره الإمام من مغبة أقواله وأفعاله وقال: ويحك، فهلمّ إليّ أدارسك وأناظرك السنن، وأفاتحك أموراً من الحق أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عَمٍ وبه جاهل، فقال خريت: سآتيك غداً، ومرة أخرى نصحه الإمام أن لا يقع في حبائل الشيطان(10)، لكنه خرج ولم يعد وأشعل تلك الفتنة المعروفة في التاريخ.

وصية الإمام إلى جارية بن قدامة:

كان معاوية قد أرسل بسر بن أرطاة على رأس قوة ضاربة إلى الحجاز واليمن، لتهديد أهالي تلك الأمصار وأخذ البيعة بالقوة منهم لمعاوية، فدفع الإمام علي(ع) بـ(جارية بن قدامة) على رأس قوة لصد بسر بن أرطاة وإفشال مهمته الخبيثة، وأوصاه بما يلي: (لا تسـتأثرن على أهل المياه بمياههم إلا بطيب أنفسهم... ولا تسخرن بعيراً ولا حماراً وإن ترجلت وحبست) (11).

علي(ع)على فراش الشهادة:

عندما اغتيل الإمام علي(ع) فجر التاسع عشر من رمضان بسيف ابن ملجم وكان ما زال به رمق، نادى: (لا يفوتنكم الرجل) (12)، وعندما استطاعوا الإمساك به أوصاهم أن يحسنوا إليه وقال: (إن أَبقَ فأنا وليُّ دمي وإن أُفن فالفناء ميعادي، وإن أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله ما فجأني من الموت واردٌ كرهته ولا طائع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد وطالب وجد، وما عند الله خيرٌ للأبرار) (13).

ويؤكد أمير المؤمنين(ع) نفس هذا المعنى في وصيته إلى الحسن والحسين(ع) حيث يقول: (يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور) (14).

فهل توجد مثل هذه المناقبية والمبادئ عند غير الإمام علي(ع)؟ وفي أية دولة في العالم تقع مثل هذه الحوادث ولا تعلن فيها حالة الطوارئ والأحكام العرفية؟! ولا يتعرض فيها الناس الأبرياء إلى الاعتقال العشوائي والأخذ بالظنة والتعذيب؟!.

فمن غير علي(ع) يقول لابنه: إن قاتلي أسيرك الآن فعامل أسيرك بالإحسان؟!.

مبادئ الإمام علي(ع):

مما تقدم يتضح لنا أن حالة الطوارئ وإعلان الأحكام العرفية ليس لها معنى في مبادئ الإمام علي(ع)، وليس في قاموسه السياسي قانونان: قانون للحالة العادية وقانون للظروف الاستثنائية، وبناءً على ذلك يمكننا أن ندعي وبقوة بأن الإمام علياً هو الحاكم الوحيد في العالم الذي واجه في حكومته الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية الداخلية والفتن المتنوعة الأشكال والضروب، فلم يلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ، ولم يتوسل بالأحكام العرفية، وذلك هو الإعجاز بعينه.

وبهذا الأسلوب أغلق الإمام علي(ع) الباب على جميع الحكام والرؤساء في التوسل بالأحكام العرفية وإعلان حالة الطوارئ لمصادرة حقوق الإنسان والحريات العامة، ولم يبق لهم عذراً في ذلك، وبإعلانه لهذه المبادئ الإنسانية أثبت أن للإنسان في الإسلام حقاً وكرامةً لا يمكن بأي شكل من الأشكال مصادرتهما وليس لأحد تحت أشد الظروف العذر بإلغائهما والقفز عليهما، والمتشيع للإمام علي(ع) يجب أن يَقْفو آثار إمامه، والفرق كبير اليوم بيننا نحن الشيعة وبين الإمام، ففي فكر الإمام(ع) ومبادئه أن الإنسان لا يعدو كونه واحداً من اثنين (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

الهـــوامــش:

(1) وقعة صفين: ابن مزاحم المنقري، ص4.

(2) ن.م: ص193.

(3) المصدر السابق.

(4) نهج البلاغة: خطبة 51.

(5) وقعة صفين: مصدر سابق، ص193.

(6) وقد ورد حديث للإمام أمير المؤمنين (ع) في هذا الشأن، هذا بعضه: (وقد كنت أمرتكم فيه هذه الحكومة بأمري، ونخلت لكم مخزون رأيي.. فأبيتم إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة)..

(7) نهج البلاغة: خطبة 35.

(8) ن.م: خطبة 58.

(9) نهج السعادة: محمد باقر محمود، 2/342.

(10) ن.م: ص485.

(11) ن.م: 5/370.

(12) طبقات ابن سعد: 3/36.

(13) نهج البلاغة: خطبة 23.

(14) ن.م: خطبة 47.

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:03 PM
دولة الإمام علي(ع)...

بعض الملامح



--------------------------------------------------------------------------------

إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من الأمر الذي تمّ على صعيد إقصاءهم عن مجال الحكم، كانوا يتحمّلون باستمرار مسئوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية المحمدية، وتحصينها ضد التردي إلى هاوية الانحراف والانسلاخ من مبادئها وقيمها، فكلما كان الانحراف يطغى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية، كان الأئمة يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقعت التجربة الإسلامية أو العقيدة في محنة أو مشكلة وعجزت الزعامات عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الأئمة إلى تقديم الحل ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددها.

وبكلمة مختصرة كان الأئمة يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي ، ويحرصون على أن لا يهبط إلى درجة تشكل خطراً ماحقاً، وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً إيجابياً فعالاً في حماية العقيدة وتبني مصالح الرسالة والأمة، وفي هذا فعل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) حين تولى مسؤولية الخلافة الإسلامية وتسلّم رسمياً مهمة قيادة الدولة والأمة الإسلامية في فترة سنوات 35-40 هجرية.


--------------------------------------------------------------------------------

الإيجابيات التي جسدها الإمام علي(ع) قبل خلافته

لقد تمثّل الدور الإيجابي الذي جسّده الإمام(ع) في تجربته العظيمة وسياسته الحكيمة في صور عدة أبرزها:

1- إيقاف الحاكم عن المزيد من اللامسئولية والانحراف، وهو ما تجسد كما عبر عنه(ع) حين صعد عمر بن الخطاب على المنبر وتساءل عن ردّ الفعل لو صرف الناس عما يعرفون إلى ما ينكرون، فرد الإمام(ع) عليه بكل وضوح وصراحة «إذن لقومناك بسيوفنا».

2- تعريفة الزعامة المنحرفة إذ أصبحت تشكل خطراً ماحقاً ولو عن طريق الاصطدام المسلّح والشهادة.

3- مجابهة المشاكل التي تهدّد كرامة الدولة الإسلامية، وعجز الزعامات القائمة عن حلها.

4- إنقاذ الدولة الإسلامية من تحد يهدد أمنها وسيادتها.

5- اتخاذ مظهر السلبية والمقاطعة في أكثر الأحايين، بدلاً عن مظهر الاصطدام المباشر والمقابلة المسلحة صيانة لدماء المسلمين، إذ أن المعارضة حتى بصيغتها السلبية كانت بمثابة عملاً إيجابياً عظيماً في حماية الإسلام والحفاظ على مثله وقيمه السامية.

6- تموين الأمة العقائدية بشخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية، ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكوينها من ناحية أخرى.

وفي الواقع فإن تلك الآثار الإيجابية وغيرها مثّلت العطاء والدور الإيجابي الذي مارسه الإمام(ع) في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم لسنوات طويلة، وهذا كان سبباً واضحاً وملموساً في إفراز الواقع المرير والصور السلبية التي رافقت حياة الأمة المسلمة على مختلف الأصعدة (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل وحتى معنوياً)، ولدرجة ما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف، وبما أدت إلى ثورة الأمة وقتل الخليفة (الثالث) عثمان بن عفان، وبالتالي قيام دولة الحكم الإسلامي بإمامة وقيادة علي(ع)، والتي كانت بحق فترة انتقالية وعودة إلى التجربة المحمدية الأصيلة.

صورة الوضع القائم في عهد الخليفة عثمان

انعكست مسيرة الحكم لعثمان بن عفان، وما آلت إليه من ممارسات خاطئة وتطورات سلبية طالت مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب مباشر من عدد كبير من الولاة والصحابة والعمال، أمثال سعيد بن العاص وعبد الله بن عوف الزهري، وقادة بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وغيرهم ممن قربهم عثمان إليه ومكّنهم في الوصول إلى دائرة الحكم.

ويمكن إجمال مظاهر ومساوئ الحالة العامة التي سادت مجتمع الأمة المسلمة وقتذاك بالآتي:

1- سوء الإدارة وفساد جهاز الحكم.

2- سوء السياسة المالية، وشيوع السرقة في بيت مال المسلمين والرشوة.

3- نشوء التعددية الطبقية، وبروز طبقة (الأرستقراطية) التي ضمت المقربين من الخليفة والحاشية الحاكمة.

4- معاداة واضطهاد كبار صحابة الرسول محمد(ص) والإمام علي(ع)، أمثال عمار بن ياسر ومالك الأشتر النخعي وأبو ذر الغفاري ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وسلمان الفارسي (المحمدي).

5- سياسة القسوة والبطش، المتبعة في إسكات وقمع حركات الاحتجاج الشعبي لدى مختلف أوساط الأمة.

كل تلك المظاهر أدت إلى تفاقم حدّة النقمة والمعارضة الشعبية الواسعة، وفقدان الأمة الثقة بحكامها، وبالتالي بروز حركات التمرد والثورة ضد الخليفة عثمان وسلطته، فيما كانت الكوفة (العراق) ساحة لأقوى تلك الحركات المعارضة والثائرة طلباً للإصلاح ومحاسبة ومعاقبة المقصرين والمتآمرين على الإسلام والأمة، ولما لم يكن هناك من يصغي للمطاليب المشروعة للأمة، فإنها آلت في نهاية المطاف إلى مقتل الخليفة عثمان وسقوط نظام سلطته الحاكمة.

علي (ع) يتصدّى لتغيير هذا الواقع

لقد كان صوت علي بن أبي طالب(ع) في مقدمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي في العهود التي سبقت خلافته، ومن ثم فإن حركة المعارضة والنقد، ثم الثورة، ضد هذه الأوضاع الشاذّة المستجدة قد اتخذت من علي(ع) رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع الطارئة على المجتمع. حدث ذلك حتى قبل مقتل عثمان ومبايعة علي بالخلافة.

ومن هنا كانت الوقائع والأحداث التي سجّلتها مصادر التاريخ تحكي علاقة الإمام بحركة التغيير، وموقفه (ع) من التطبيقات الخاطئة ففي لقاء من بين لقاءات عدة بين علي وعثمان، ينتقد فيه علي عثمان لميله لبني أمية، وإطلاقه العنان لهم كي يستأثروا بخيرات الناس ويحتازوا حقوقهم، وينبهه إلى خروجه عن نهج الأمة الذي سار عليه من سبقه، وينكر أن يكون عثمان في نهجه مساوياً لأبي بكر وعمر بن الخطاب على أقل تقدير.

والاعتقاد الراسخ هو أن موقف علي(ع) ضد الفرع الأموي من قريش، إنما هو جزء في موقفه العام ضد قادة قريش وأغنيائها، أولئك الذين ناصبوا الفرع الهاشمي المحمدي، العداء منذ ظهر الإسلام، وخاضوا ضده الحروب، ثم تربصوا به -حينما هُزموا- حتى انقضوا على دولة الدين الجديد تحت راياته وأعلامه.

ولو كانت القيادة الإسلامية قد آلت إلى الإمام(ع) قبل حادثة السقيفة أو بعدها لما حدث هذا الاختلال الملحوظ وكان مصداق ذلك ما تحقق عندما بايعه الناس بالخلافة حيث أعلن الثورة الشاملة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت محل نقده ومعارضته.

الإمام علي(ع) بعد تولي الخلافة

أصبح علي(ع) الخليفة الفعلي للمسلمين، واجتمعت بيديه مقاليد الأمور، فثاب إلى المجتمع هدوء مشفوع بالأمل وارتقاب فجر جديد، وبدأ علي(ع) أول ما بدأ بإعطاء الحق إلى الشعب، فقد وجد أن مشاكلهم المعلقة أضحت مزمنة، لم يبت فيها بشيء، فعطف على آلام هذا الجمهور وواساه بنفسه وقلبه ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

وذهب مع تقريره بأن المجتمع الذي يقوم النظام فيه على برنامج غير مكتوب، يظلّ عرضة للعبث والتلاعب والتصرفات التي من شأنها أن تضيره، إذا لم يقصد أولاً وقبل كل شيء إلى الاختيار وانتقاء الشخصيات التي تضم إلى الكفاءة، الإخلاص والضمير. بل من رأي علي(ع) الإصلاح حتى في المجتمعات التي يستوي النظام فيها على برامج مكتوبة، لا يتم على وجه مضمون إلاّ بالشخصية المنتقاة، ولمس إلى ذلك إن أكبر عناصر الشكوى وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة، فبادر قدماً إلى تغيير التعيينات، متوخياً في ذلك مجاراة الحق والعدل والمصلحة العليا للإسلام والأمة، دون أن تأخذه لومة لائم، أو يمنعه سطوة جاه أحد أو تأثير حزب أو فئة ما أو أية ضغوطات أو مؤثرات.

صور وإنجازات الحركة الإصلاحية في دولة الإمام(ع)

1- في السياسة: أعلن عن عزل العمال والولاة السابقين على الأقاليم، ولم يتراجع عن ذلك عندما حاول البعض الحؤول دون ذلك، وهذا موقف شهير في كل كتب التاريخ.

2- في ميدان القطائع: كانت هناك الأرض التي جعلها الخليفة عمر ملكا خاصاً لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته، وبصددها كان موقف علي(ع) حازماً وحاسماً.. فلقد ألغى هذه العقود، وقرر ردّ هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال، ورفض أن يعترف أو يقر التغييرات «التصرفات العقارية» التي حدثت في هذه الأرض.

3- في ميدان العطاء: أحدث علي(ع) تغييراً ثورياً لعله كان أخطر التغييرات الثورية التي قررها، والتي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثورية الإسلامية الأولى على عهد الرسول الكريم(ص) ذلك أن النظام الذي كان معمولاً به من عهد النبي(ص) فيما يتعلق بالعطاء -والعطاء هو نظام قسمة الأموال العامة بين الناس- بالمساواة، وهذا كان قد ألغاه الخليفة الثاني واستبد له بنظام التفضيل.

وبشكل عام يمكن إجمال صور الحركة الإصلاحية الشاملة التي قادها الإمام بالآتي:

أولاً- الإصلاح الإداري: حيث قام بعزل معظم الولاة عن الأمصار ومسئولي الجهاز التنفيذي الإداري من الدولة، وإقصاء أولئك النفعيين الذين لم يكن لهم هم في الحياة سوى السلب والنهب وكنز الذهب والفضة والتسلّط المرير على رقاب المسلمين، وقال(ع) في ذلك: «والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري»(1).

ثانياً- الإصلاح الاقتصادي: وتمثل بإرجاع قطائع العهد السابق وأقطاب الحاشية الحاكمة لأصحابها الشرعيين، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وإلغاء التصنيف الطبقي للناس، ومصادرة الأموال التي نهبها المدللون من خزانة (صندوق) الدولة، ليتمتعوا بها على حساب الجماهير الجائعة المحرومة، وإعادة تنظيم بيت المال (الميزانية) على أسلوب جديد سليم ومستقيم.

ثالثاً- الإصلاح الاجتماعي: وهذا تجلى في أولى خطواته (ع) بإلغاء القيم العشائرية والقضاء على النزعة القبلية السائدة في المجتمع، والعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة القائمة على أساس المساواة العامة الشاملة، فلا تفاضل بين قوم وقوم وجنس وجنس، ولا شأن أبداً للعرق أو اللون أو العمر أو أي امتياز آخر من الامتيازات العرقية التي كان يتمايز بها الناس، ولا تصنيف للطبقات والفئات الاجتماعية، ولا تنابز بالألقاب، ولا تفاخر بالزينة والأموال والأولاد.

أسس السياسة عند الإمام علي(ع)

تتمثل أسس السياسة الشرعية التي انتهجها الإمام علي(ع) وطريقة الحكم التي جسدها خلال فترة السنوات الخمس (35-40هجرية) التي تولى فيها مسؤولية الخلافة وقيادة الدولة الإسلامية، تتمثل بمجموعة مبادئ وجوانب؛ أبرزها يتحدد بـ:

أخلاق الحاكم أو القائد السياسي وواجباته:

1- العمل الصالح أعظم ذخيرة.

2- امتلاك الهوى، والشح بالنفس عما لا يحل له، والشح يعني «الإنصاف فيما أحببت وكرهت».

3- العدل بين الناس جميعاً، فإنهم صنفان:«إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

4- التحذير من سفك الدماء بغير حق، وهو مما أكّد عليه الدين الإسلامي.

5- النهي عن الإعجاب بالنفس، وحب الإطراء.

6- النهي عن المن على الرعية بالإحسان، أو التزيد في إظهار ما وقع منه بالفعل.

7- النهي عن الإخلاف في الوعد، بعد الوعد.

8- النهي عن الاستئثار بما فيه الناس متساوون.

9- الحلم وتأخير السطوة حتى سكون الغضب ليمتلك الحاكم عندها الاختيار، وقوام ذلك «ذكر المعاد إلى ربك».

10- أَمرُ الحرس والشرطة والأعوان بعدم التعرّض لذوي الحاجات، حتى يعرض واحدهم حاجته للحاكم، دون تردد.

11- ألا يطيل احتجابه عن رعيته.

12- تنحية الضيق والاستكبار عن الرعية.

13- إجابة من يستعملهم (السلطة التنفيذية بعده) عما يعجز عنه الإداريون وتعقيداتهم.

14- منع خاصته (ع) من التدخّل في شؤون الحكم.

15- إلزام الحق من لزمه، قريباً كان أو بعيداً.

16- إظهار العذر للرعية، حال ظنها وقوع الظلم عليها من قبل الحاكم.

خصائص المستشارون وصفاتهم

لا غنى للحاكم عن المستشارين، وأهم صفات المستشار هي:

1- ألا يكون بخيلاً يعدل بالحاكم عن الفضل، ويعده الفقر.

2- ألا يكون جباناً يضعفه عن الأمور.

3- ألا يكون حريصاً يزين الشره بالجور.

4- تعويد المقربين والإعلاميين على عدم المدح، أو كسب رضا الحاكم وفرحه بباطل لم يفعله.

5- عدم المساواة بين المحسن والمسيء، فإن ذلك تشجيعاً لأهل الإساءة على إساءتهم، وتزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم، وإلزام كل منهم ما ألزم به نفسه، من شكر أو عقاب.

6- حسن الظن بالرعية، دليله إحسانه إليهم، وعدم استكراههم على ما ليس عندهم، وتخفيف الأثقال (المؤونات) عنهم.

سياسته (ع) في مجال القضاء ومواصفات القضاة

حدد(ع) صفات القاضي بما يلي:

1- أن يكون ممن لا تضيق به الأمور، ولا تغضبه الخصوم.

2- أن لا يتمادى في الزلّة.

3- أن لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا أخطأ.

4- أن لا تشرف نفسه على طمع.

5- أن يكون عميق النظر، لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه.

6- أن يكون حازماً عند اتضاح الحكم.

7- أن يكون طويل الأناة، لا يضيق بمراجعة الخصم، وصبوراً حتى تتكشف الأمور له.

8- أن لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، ولا يستميله إغراء.

العلاقة الاجتماعية - السياسية بين الحاكم والرعية

وهذه تقوم على المبادئ التالية:

1- إطلاق عقدة كل حقدٍ بين الناس، وتعهد قطع دابر أية عداوة بينهم.

2- التغابي عن كل ما لا يصح له.

3- عدم تصديق الساعي بالوقيعة والنميمة، فهو غاشٌّ وإن بدا متشبهاً بالناصحين.

الطبقة السفلى من المجتمع

وتضم المساكين والمحتاجون وشديدو الفقر، وذوي العاهات أو الأمراض التي تمنعهم من الكسب، ويوصي الإمام(ع) بهذه الطبقة، ففيهم السائل، والمتعرض للعطاء بلا سؤال، وطريقة التعامل العملية معهم هي:

1- تخصيصهم بنصيب مقسوم لهم من بيت المال، كما أن لهم نصيب من ثمرات أرض الغنيمة.

2- المساواة فيما بينهم من هذا التخصيص، فللقاصي منهم كالداني.

3- تعهدهم بشكل دائم من قبل الحاكم، فلا يصرفنّ همة عنهم، ولا يتكبرنَّ عليهم.

4- تفقد أمور من لا يطالب بحقه منهم، وذلك بتخصيص رجال ثقاة للبحث عنهم، والتعرّف على أحوالهم عن كثب، ممن هم من أهل خشية الله والتواضع لعباده.

علي(ع) والنظام الإداري

أقام الإمام(ع) نظاماً إدارياً محكماً، حدّد فيه الوظائف وأوضح طرق تعيين الموظفين، وبيَّن واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتيشاً دقيقاً، ووضع أسس الثواب والعقاب، والمسؤولية الإدارية بشكل عام.

إن العامل يقوم مقام الخليفة إذا كان معيناً من قبله، أو يقوم مقام أعلى إذا كان هذا العامل هو الذي عينه. ويشترط الإمام في العامل شروطاً مشددة، لخطورة مركزه والسلطة التي يتمتع بها، يقول الإمام(ع) في عهده لمالك الأشتر:«ثم أنظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختياراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ فيهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة».

- الإمام (ع) حدد سياسة التعامل مع الولاة بالشروط الآتية:

1- تولية الواحد منهم بالامتحان، وليس اختصاصاً، وميلاً لمعاونتهم، ولا استبداداً بلا مشورة.

2- أن يكون من أهل التجربة والإحياء من أهل البيوتات الصالحة، والخطوة السابقة في الإسلام.

3- التحفّظ من الأعوان، وعقوبة من اجتمعت عليه أخبار المراقبين بما فعل.

4- تفقد أمر الخراج (الضرائب) مما يصلح أهله، لأنه مهم لحياة الناس.

5- تفضيل عمارة الأرض على جباية الضرائب وفرض المكوس.

- أما ما يتعلق بالكتّاب، وهم في عصر الإمام(ع) أفراد الجهاز الإداري للدولة، فالطريقة التي اعتمدها تمثّلت بالشروط الآتية:

1- عدم اجتماع سلطات إدارية واسعة في يد واحدة.

2- اختبارهم بما وُلوا للصالحين قبل.

3- أن يكون واحدهم حسن الأثر في العامة.

4- أن يكون أعرف الناس بالأمانة والقيام بها.

5- سوء إدارة الكتّاب، مسؤول عنه من وضعهم في مناصبهم تلك.

الناحية الدستورية:

جعل الإمام (ع) في عهده رضا الأغلبية واحترامها أساساً في الحكم مادام هذا الرضا ينسجم مع العدل في منظوره الإسلامي، «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة (أي يذهب به)، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة.

وإنما عماد الدين وجماع (جمع المسلمين)، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم».

سياسته المالية:

لقد كان الإمام علي(ع) ثورة في هذا المجال، قد لا تكون البشرية حققتها حتى اليوم، إذ أنه لم يخلط قط بين مال أحد ومال الدولة أو مال الله، ولم يتعامل مع الأشياء العامة على أنها أشياؤه الخاصة.

كانت الدولة في نظره مختلفة عنه شخصياً، على أساس أنها سلطة من الله تعالى، وشعب من البشر الذين هم إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، وأن أموالها هي أموال الله وأموال المسلمين، وليست أموال الخاصة.

يقول (ع) عندما اقترحوا عليه أن يعطي الكبار بشكل مميّز:«لو كان المال مالي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله»(2)، ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب المساعدة، وكان موقفه عندما أبلغ أهل الكوفة إنه لن يأخذ حصته من العطاء، حيث قال:«يا أهل الكوفة، إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي، فأنا خائن»(3)، وكذلك عندما أتاه عبد الله بن زمعة يطلب مالاً، إذ قال له:«إن هذا المال ليس لي ولا لك، إنما هو فيء المسلمين»(4).

ولما كان المال كذلك، فهو أمانة للأمة عند متسلّمه وهو مؤتمن عليه، ولهذا فإن العامل أو (الولاة) ليسوا أحراراً في التصرف بالأموال، وهم مقيدون بالشرع فيما يخص الحقوق والحريات، فتكون حريته في التصرّف على الصعيد الشخصي، غير قائمة فيما يخصّ وظيفته تجاه المواطنين، وفي ذلك تمييز أساسي.

(1) تاريخ الطبري: ج4 ص440.

(2) نهج البلاغة: م2 ج2 ص182.

(3) الوسائل: م6 ص83.

(4) نهج البلاغة: م3 ج13 ص183

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:04 PM
مجالات الشورى في فكر الإمام أمير المؤمنين(ع)

يمكن، أن نقسم ما ورد في الشورى عن لسان أمير المؤمنين(ع) إلى ثمانية أبعاد هي:

أولاً: أهمية الشورى:

جاء في كلام أمير المؤمنين(ع) في أهمية الشورى

1) نعم المظاهرة المشاورة(1).

2) الاستشارة عين الهداية(2).

3) أفضل الناس راياً من لا يستغني عن رأي مشير(3).

4) ولا ظهير كالمشاورة(4).

5) ولا مظاهرة أوثق من المشاورة(5).

6) ما ضلّ من استشار(6).

7) لا يستغني العاقل عن المشاورة(7).

فالشورى هي من ابرز علامات الهداية والقوة والحكمة والعقل. فالإنسان الذي يعتمد المشورة في حياته هو المتميز بين الناس بالنجاح والأفضلية، فهو يتخذ من الشورى سبيلاً إلى الهداية، وهو بالتالي محصّن ضد الضلال والانحراف. هذه هي ابعاد الشورى كما يتضح من أقوال أمير المؤمنين(ع).

ثانياً: فوائد الشورى:

للشورى فوائد واضحة وإلا لما دعى إليها الإسلام، ومن فوائدها على لسان أمير المؤمنين(ع):

1) من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول(8).

2) من شاور الرجال شاركها في عقولها(9).

3) باكروا فالبركة في المباكرة، وشاوروا فالنجح في المشاورة(10).

4) من استشار العاقل ملك(11).

5) المشورة تجلب لك صواب غيرك(12).

6) المشاورة راحة لك وتعبٌ لغيرك(13).

7) من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحاً(14).

8) ما استنبط الصواب بمثل المشاورة(15).

9) خوافي الآراء تكشفها المشاورة(16).

نستطيع أن نستخلص من النصوص المتقدمة هذه الفوائد:

1) الاستفادة من آراء وتجارب الآخرين.

2) تحقيق النجاح في العمل.

3) الوصول إلى الرأي الأصوب.

4) زيادة البركة في العمل القائم على المشورة.

5) الاطمئنان والراحة إلى نتائج العمل القائم على المشورة.

6) عدم تكرار تجارب الآخرين والاكتفاء بآرائهم.

ثالثاً: مستلزمات المستشير:

ماذا يحتاج من يريد الاستشارة؟ ما هي مستلزمات المستشير؟

يجيب أمير المؤمنين(ع) قائلاً؟

1) شاور قبل أن تعزم وفكّر قبل أن تقدم(17).

2) إذا عزمت فاستشر(18).

3) عليك بالمشاورة فإنها نتيجة الحزم(19).

4) طول التفكير يعدل رأي المشير(20).

فمن مستلزمات المستشير: أولاً وقبل كل شيء أن يفكر في أمره وأن لا يغلق على نفسه أبواب التفكير اعتماداً على المشورة فقط. لأن التفكير المستقيم قد ينفعه عند المشورة، وبعد المشورة عليه أن يتحلّى بالحزم فبدونه لا فائدة من الشورى، والحزم هو الإصرار على العمل وترك التردد والتذبذب في الرأي.

إذن قبل أن يستشير الفرد عليه أن يضع الأمور أمامه ويفكّر فيها عسى أن يصل إلى الرأي الصائب، وبعد التفكير يطرح الأمر على الآخرين، وبعد المشورة عليه أن يعمل بالرأي الذي خلص إليه بعزم وقوة.

فالتفكير =====> فالمشورة =====> فالحزم.

وهذه هي المعادلة المهمة التي يضعها أمير المؤمنين(ع) بين أيدينا.

رابعاً: شروط المشير (المشاور):

وضع الإسلام للمشير شروطاً، فليس من الصحيح أن تشاور كل إنسان وجدته في قارعة الطريق.

فشروط المشير هي:

1) من شاور ذوي النهى والألباب فاز بالنجح والصواب(21).

2) افضل من شاورت ذوي التجارب(22).

3) خير من شاورت ذوي النهى والعلم وأولوا التجارب والحزم(23).

4) لا تشاور في أمرك من يجهل(24).

5) شاور ذوي العقول تأمن الزلل والندم(25).

6) شاور في أمورك الذين يخشون الله ترشد(26).

7) من استشار ذوي النهى والألباب فاز بالحزم والسداد(27).

8) استشر عدوك العاقل واحذر رأي صديقك الجاهل(28).

9) مشاورة الجاهل المشفق خطر(29).

10) مشاورة الحازم المشفق ظفر(30).

نستخلص من النصوص المتقدمة هذه الشروط التي يجب توفرها في المشاور.

1) أن يكون متقياً يخشى الله.

2) أن يكون عاقلاً من ذوي النهى والألباب.

3) أن يكون من ذوي التجارب في الحياة.

4) أن يكون عالماً وليس جاهلاً حتى لو كان صديقاً أو قريباً.

5) أن يكون موصوفاً بالحزم.

خامساً: من لا نشاوره:

ليس كل إنسان قابل للمشورة، فهناك صفات فيمن نشاوره ذكرناها في البند(4) وهناك أفراد يحرم علينا مشورتهم لحالات خاصة فيهم تؤدي بالمشورة إلى عكس المطلوب، وهؤلاء هم.

1) لا تشاور عدوك واستره خبرك(31).

2) لا تستشير الكذّاب(32).

3) ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلاً(33).

4) لا تشركن في رأيك جباناً(34).

5) وإياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن(35).

فهؤلاء لا ينبغي مشاورتهم لأسباب لا مجال للتفصيل فيها وهم: العدو الذي يخفي عداوته، والكذاب، والبخيل، والحريص على الدنيا، والجبان والنساء وهناك تفصيل في مشورة النساء لا مجال لذكره.

سادساً: العلاقة بين المشير والمستشير(المشاور):

هناك علاقة عضوية بين هذين الركنين المشير والمستشير يجب أن نحافظ عليها. وهذه العلاقة هي:

1) جهل المشير هلاك المستشير(36).

2) على المشير الاجتهاد في الرأي وليس عليه ضمان النجح(37).

3) لا تردنّ على النصيح ولا تستغشنّ المشير(38).

4) من ضلّ مشيره بطل تدبيره(39).

5) من غش مستشيره سلب تدبيره(40).

6) من نصح مستشيره صلح تدبيره(41).

إذن تقوم العلاقة بين المشير والمستشير على قاعدة المحبة والود، وعندما تكون هذه العلاقة متينة ومبنية على قاعدة الحب تكون المشورة نابعة عن اخلاص ورغبة في المساعدة، ويحاول المشير أن يكون ناصحاً صادقاً في الرأي، جاهداً نفسه لمساعدة المستشير فمعادلة المشير والمستشير تستند على هذه الركائز.

1) يستفرغ المشير جهده،ويعطي رأيه عن علم وتجربة.

2) يكون ناصحاً للمستشير، وليس غاشاً ولا سبباً لضلاله وتيهه.

3) لا يرد المستشير على نصيحة المشير، بل يكون متواضعاً له، عاملاً بالاستشارة.

4) حصيلة هذه العلاقة التدبير عندما يكون المشاور ناصحاً، وبالعكس يسلب منه التدبير عندما يغشه.

سابعاً: عواقب ترك الشورى أو مخالفتها:

الأمة التي تترك الشورى يستبد فيها الطغاة. والإنسان الذي لا يعوّد نفسه على المشورة هو الإنسان الفاشل في الحياة.

لنستمع إلى كلام أمير المؤمنين(ع) في عواقب ترك المشورة والشورى.

1) من خالف المشورة ارتبك(42).

2) من قنع برأيه زلّ(43).

3) قد خاطر من استغنى برأيه(44).

4) من أعجب برأيه ذلّ(45).

5) من أعجب برأيه ملكه العجز(46).

6) من استبدّ برأيه خفّت وطأته على أعدائه(47).

7) من استبد برأيه خاطر وغرّر(48).

8) ما أعجب برأيه إلا جاهل(49).

9) لا تستبد برأيك فمن استبد برأيه هلك(50).

10) الاستبداد برأيك يزلك ويهوّرك في المهاوي(51).

فهذه النصوص تبين لنا خطورة اعتماد الفرد على رأيه واستغنائه عن المشورة فهو عرضة للزلل، وهو يخاطر بنفسه عندما يعتمد على رأيه وبالتالي فنتيجة الاستبداد بالرأي هو الهلاك، وعندما يكون مورد المشورة في مجال الحرب يصبح الهلاك بين العدو، أما من شاور ثمّ خالف المشورة فهو عرضة للارتباك والاضطراب.

ثامناً: ما يعترض الشورى من نواحي الضعف:

ليس كل شورى صحيحة، فهناك اقسام من الشورى مضرّة ولها تبعات ونتائج وخيمة على المستشير، فما هي الموارد التي لا تحبذ فيها الشورى؟

يجيب أمير المؤمنين(ع):

1) شر الآراء ما خالف الشريعة(52).

2) آفة المشاورة انتقاض الآراء(53).

3) خيرُ الآراء أبعدها من الهوى(54).

ثلاث قضايا تحبط الشورى وتمنع وصول الفرد أو الجماعة إلى الرأي الصائب، هذه الأمور هي: 1- مخالفة الشريعة.

2- نقض الشورى برأي مخالف والعمل خلاف ذلك.

3- اتباع الهوى، لأن الهوى والشهوات تدفع بالإنسان إلى اختيار الرأي المنسجم ورغباته.

مجالات الشورى في السيرة العملية للإمام أميرالمؤمنين(ع)

اتصف عهد الإمام أمير المؤمنين(ع) بكثرة القلاقل والاضطرابات الداخلية، فقد عاش الإمام فترة استثنائية لم يستطع فيها من تحقيق كل ما كان يطمح إليه بسبب القلاقل والاضطرابات التي نشأت في عهده.

والشورى هي إحدى الأسس لحكم البلاد التي لا تجد طريقها إلى التطبيق إلا في ظروف طبيعية، أما في الظروف الاستثنائية فإن البلاد بحاجة إلى مركزية في القرار وحزم كبيرين، وقد لاحظ بعض الكتّاب هذا الأمر، وحاولوا أن يعطوه تفاسير واهية قائلين بانصراف الإمام علي(ع) عن الشورى.

شبهة اهمال الإمام أمير المؤمنين للشورى

هناك شبهة ترى أن الإمام أمير المؤمنين(ع) أهمل الشورى في عهده بسبب وجود الاضطرابات. من الداعين إلى هذا الرأي اسماعيل البدوي في كتابه معالم الشورى في الإسلام.

وذهب فريقٌ من الباحثين إلى أن علياً كان يعوزه حزم الحاكم دهاؤه وتنقصه الحنكة السياسية مع أنه كان يمتاز بفضائل كثيرة، فقد كان ذكياً فقيهاً، فصيحاً شجاعاً نشيطاً، فلم يعتمد علي في مشورته على أولي الأمر، وأهل الحل والعقد، وذوي الآراء الراجحة وإنما اعتمد على الشيعة، وجماهير المسلمين ورؤساء القبائل والعشائر في العراق(55) وبعد التدقيق والتحقيق وجدنا أن مصدر هذه الشبهة التي كتب عنها العديد من الكتّاب هو أحد المستشرقين الذين كتبوا بحقد عن أمير المؤمنين(ع) وهو (نيكلسون) وقد تأثر به بعض الكتّاب والسياسيين الذين رددوا عبارته بأساليب مختلفة إلا أنها تحمل المعنى نفسه.

وأصل عبارة نيكلسون هي (ولم يكن له موهبة (أي أمير المؤمنين) للحقائق الصارمة لفن السياسة(56).

وعلى النقيض من هذا الرأي هناك رأيٌ معاكس يقول به جمعٌ من الكتاب منهم الاستاذ يعقوب المليجي..

يقول في هذا المضمار (وقد شهد عثمان عصر هذا النظام (نظام الشورى) وابتداء التحول إلى حكم العامة بدلاً من حكم الخاصة... ثم يستنتج قائلاً: ولذلك لم يكن غريباً أن ينهج علي في الحكم نهجاً آخر، تمثّل في طريقة الشورى على وجه الخصوص فبينما اعتمد أبو بكر وعمر على خاصة أهل الرأي في المدينة، وبينما ارتكز عثمان على حزب بني أمية من ذوي قرباه، إذا بعلي ينصرف عن هذا وذاك ويعتمد على جمهور الأمة الإسلامية كما لم يفعل خليفة ممن سبقه، وإذا به يجعل أهل المشورة في أخطر أمور الدولة هم آلاف الأفراد لا آحادهم وجنود الجيش لا قواده)(57).

وعلى رغم هذا الرأي الايجابي إلا انه ظلّ يردد عبارة ينكلسون التي قالها عن أمير المؤمنين (تنقصه الحنكة السياسية)(58) ويظهر أن هذه المقولة قد ترسخت في أذهان الكثير من المؤلفين منهم حسن إبراهيم حسن في كتاب تاريخ الإسلام السياسي، فكان لابدّ من مناقشتها بشيء من التفصيل.

1) إن مقولة (ينكلسون) وغيره من المستشرقين سببها هو تجاهل الإمام أمير المؤمنين(ع) لرأي المغيرة بن شعبة عندما أشار عليه بالابقاء على معاوية وابن عامر وغيرهما من الولاة حتى تستقيم له الأمور، وبعده يكون له الخيار إما الإبقاء عليهم أو اعفاؤهم، فلم يبال الإمام برأيه.. وكان له دواعي واسباب في اتخاذه قرار الرفض ذكرها المؤرخون بالتفصيل.

2) صحيح إن الإمام كان قليل المشورة، لا لأنه لا يعطي اعتباراً للشورى، بل لأنه يرى النص مقدماً على الشورى. وهذا ما يقول به جميع العلماء بلا اختلاف في مذاهبهم الفقهية. فلا وجود للشورى في مقابل النص.

وكان الإمام يأخذ بالنص في الكثير من المواقف ويستشير فيما لا نصّ فيه، واستشارته كاستشارة النبي(ص) هي من باب ترطيب لنفوس أصحابه.

لنستمع إلى الإمام في إحدى خطبه كيف يحتج بالكتاب أمام طلحة والزبير عندما جاءا إليه وعاتباه لأنه لم يستشرهما، فقال لهما الإمام:

(نظرتُ إلى كتاب الله، وما وضع لنا، وأمرنا بالحكم به فأتبعته ونظرتُ إلى ما استنّ النبي(ص) فأقتديته، فلم احتج في ذلك إلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكمٌ جهلته فاستشيركما وإخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما)(59).

يؤكد الإمام من خلال هذا النص انه مع الشورى بشرط عدم وجود نص من القرآن الكريم، فإذا ورد النص فلا معنى للمشورة لأنه يجب أن يعمل بما يمليه عليه النص وكذلك كان يفعل رسول الله(ص) فكان يستغني عن المشورة في الأمور التي نزل فيها الوحي، أما اكثاره(ص) للمشورة فيعود إلى أسباب أخرى لا دخل لها بالمشورة من قبل تعويد المسلمين على المشورة، واشعارهم بأهميتهم وأهمية آرائهم.

ومن جواب أمير المؤمنين(ع) نفهم أنه لم يكن مستغنياً تماماً عن المشورة بل كان يلجأ إليها كما يقول صلاح عبد الفتاح الخالدي: (كان يلجأ إلى الشورى كلما أعضل عليه أمر)(60).

1) هناك تعليل (للماوردي) ذكره عن قلة مشاورة أمير المؤمنين(ع) لاصحابه يقول فيه: (لأنه لم يبق في عصره عديلٌ يشاوره، وقيل لأنه كان شاهد استشارة قريبة فاكتفى بها)(61).

2) أما ما يقال انه كان ينتهج نهجاً آخر في الشورى، وهو طرح الأمور على الناس بصورة عامة، فهذا صحيح، إذ أن من ابرز أهداف الشورى هو معرفة رأي العامة وجمع كلمتهم والحفاظ على الألفة، وهو ما كان يقوم به رسول الله(ص) وقد كانت الظروف السياسية في عهد الإمام تستدعي هذا النوع من الشورى حيث كانت القلاقل والاضطرابات تسود المجتمع الإسلامي فكان أحد أساليب جمع الكلمة هو طرح الأمور على عامة الناس لابداء رأيهم فيها، كما وأن نهج الإمام أمير المؤمنين(ع) هو الرجوع إلى رأي الأمة، وليس إلى رأي النخبة، وهذا هو الفارق الكبير بين شورى أمير المؤمنين(ع) وغيره.

موارد شاور فيها أمير المؤمنين(ع)

أورد المؤرخون صوراً عديدة عن مشاورات أمير المؤمنين(ع) فيما يأتي بعضها:

1) الإبقاء على ولاية أبي موسى الاشعري:

فكان ابقائه لأنه شاور مالك الاشتر حوله فكان رأي الاشتر الإبقاء عليه فأبقاه ولربما كان رأي الإمام هو عزله لما عرف عن ضعفه وتذبذبه .

جاء في تاريخ اليعقوبي (عزل عـــمال عثمان عن الـــبلدان خلا أبي موسى الاشعري، كلـــّمه فيـــه الاشتر، فأقـــرّه)(62).

2) عزل قيس بن سعد عن ولاية مصر:

بعد أن انتشر خبر قيس بن سعد وانه يكاتب معاوية، وأن معاوية يبعث إليه بالهدايا كادت تقع الفتنة في صفوف أصحاب أمير المؤمنين(ع) مطالبين إياه بعزله فجاءه عهد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب فطالبوا بعزله، فدعى أمير المؤمنين(ع) الحسنين، وتشاوروا حول هذا الأمر فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، إعزل قيساً عن مصر فقال أمير المؤمنين(ع) إني والله ما أصدق بهذا عنه فقال عبد الله: أعزله فإن كان هذا حقاً لا يعزلك)(63) أي لا يتركك فعزله تجاوباً مع رأي الأكثرية بينما كان رأيه عدم عزله كما يظهر من النص المذكور.:

3) المسير إلى الشام لحرب معاوية:

ذكر نصر بن مزاحم: (لما أراد علي السير إلى أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والانصار، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فانكم ميامين الرأي مراجيح الحكم مقاويلٌ بالحق، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلى عدوّنا وعدوكم فأشيروا علينا برأيكم)(64).

فقال الأصحاب واحداً بعد آخر وأبدوا رأيهم موافقين للمسير فاتخذ الإمام قرار الحرب ضد معاوية.

4) قتاله للخوارج:

لم يكن أمير المؤمنين(ع) يريد قتال الخوارج، بل كان يعدّ العدّة لمقابلة معاوية الذي كشف عن زيفه ومكره في قضية التحكيم، والذي كان يبعث بالجيوش للإغارة على المدن القريبة من الشام كالانبار، إلا أن تصاعد ارهاب الخوارج وقتلهم لعبد الله بن خباب أثار أصحاب أمير المؤمنين(ع) فجاؤوا إلى الإمام وقالوا له: علام ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سِرْ بنا إلى القوم فإذا فرغنا منهم سرنا إلى عدوّنا في أهل الشام. وقام إليه الاشعث بن قيس وكلمه بمثل ذلك، فأجمع علي على ذلك وخرج(65).

فكانت - معركة - النهروان التي قضى فيها على الخوارج عن بكرة أبيهم.

نلاحظ في هذه القضية كيف اختار أمير المؤمنين رأي الأكثرية من أصحابه الذين كانوا يريدون مقاتلة الخوارج ولو لم يفعل ذلك لكان قد ازداد الشقاق في جيشه.

5) مقاتلة الخريت بن راشد:

(الخريت بن راشد) من الذين خرجوا علىالامام أمير المؤمنين(ع) وتحصنوا في مدينة الأهواز فاجتمع حوله علوج من أهل الاهواز - كما يقول ابن الأثير في الكامل - (66).

فارسل إليه الإمام معقل بن قيس ووصاه: إتق الله ما استطعت ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبّر فإن الله لا يحب المتكبرين(67).

فانهزم الخريت أمام معقل ثم انه هرب إلى ادغال البحر، فكتب معقل إلى أمير المؤمنين يخبره بنصر الله له ويطلب منه ماذا يصنع بالخريت؟ (فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرىان تأمر معقلاً أن يـــتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه، فكتب إلى معقل يثنـــي عليه وعلـــى من معه ويأمر باتباعه وقتله أو نفيه)(68).

فأخذ الإمام رأي الشورى وأمر معقل بتعقيبه حتى تم قتله على يد النعمان بن صهبان الراسبي.

6) نصب زياد بن ابيه والياً على فارس:

يذكر ابن الأثير: لما قتل ابن الحضرمي واختلف الناس على علي طمع أهل فارس وكرمان في كسر الخراج، فطمع أهل كل ناحية وأخرجوا عاملهم، وأخرج أهل فارس سهل بن حنيف، فاستشار علي الناس فقال له جارية بن قدامة: ألا أدلك يا أمير المؤمنين على رجل صلب الرأي عام بالسياسة كافٍ لما ولي؟ قال: من هو: قال: زياد، فأمر علي بن عباس أن يولي زياداً(69).

وهذه مشورة من قبل الإمام تمت إنسان خبير مطلّع على الأمور، ومطلع على أحوال الأمراء والقادة العسكريين، فسارع الإمام إلى الأخذ برايه لأنه نابع عن خبرة وتجربة.

النتيجة

في النماذج التي تقدمت كان الإمام أمير المؤمنين(ع) يأخذ برأي الشورى حتى لو كانت مخالفة لرأيه، وفي بعض المرات كانت المشورة مطابقة لرأيه، لكنه عندما يجد النص لا يأخذ بالشورى كما ورد في حديثه مع طلحة والزبير.

إذن لابد عند الأخذ بالشورى ملاحظة الجو السياسي العام فلربما كان للشورى فوائد غير مسألة الاستفادة من الرأي. لأن الإمام(ع) هو غني عن آراء الآخرين، لكنه لا يستغني عن الشورى عندما تكون وسيلة لجمع الصف وتربية الأصحاب ونزع فتيل الفتنة.

1

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:05 PM
الخطوط العامة في حكومة الإمام علي(ع)

إن الوقوف على أرضية لفهم ابعاد حكومة الإمام علي(ع) ورصد ستراتيجيته وايديولوجيته وفق المعطيات التاريخية يوقفنا على حقيقة أن الحكومة في عهده كانت حكومة دينية متكاملة تعتمد على الرؤية الإلهية الشمولية لابعاد الكون والإنسان والحياة وانه لا مجال لحكم العقل النظري والعملي بدون الرجوع إلى النص القرآني والنص النبوي وهذا لا يعني بالضرورة عدم إعمال الاستشارة والخبروية البشرية من قبل المتخصصين في تلك الدولة وخصوصاً في المجال العسكري والاداري حـــيث تضمنت الوثيقة التي بعث بها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر (رض) والي مصر) أهم الأفكار والمفاهيم السياسية والاقتصادية وشؤون الحكم والإدارة بل من أهم الركائز الفكرية والسياسية والادارية التي بعث بها رئيس دولة إلى أحد ولاته(1) وقد تضمن هذا العهد رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب أن ينتهجها الحكام في كل عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيماً دقيقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة سواءاً كان تعامل الحاكم مع الشعب أو مع رجال السلطة وفق سياسة تكفل للجميع الاستقرار والتقدم، وكما يوضح أسس العلاقات الخارجية مع العدو والصديق بشكل يحفظ للأمة كرامتها وعزتها واستقلالها التام. والذي يمكن ملاحظته في الدولة التي تشكلت في عهد الإمام علي(ع) هي دولة قائمة على النظام المركزي وهو خضوع المرؤوس للرئيس وتلقي تعليماته وتنفيذها من جهة أخرى (2) لكن طبيعة الدولة في ذلك الوقت لم يكن يشبه الدولة كما هي عليه الآن نظراً لأن الإقليم الممتد عبر مئات أو آلاف الكيلومترات لم يكن من السهل إيجاد وحدة متماسكة في الدولة الكبيرة ولأن النظام الجديد والاتصالات وانعدام الوسائل المطلوبة كان أحد الأسباب الرئيسية مما لم يمكّن الحكومة من إعطاء تعليماتها في كل لحظة للمرؤوسين والولاة والموظفين الحكوميين، لذا فقد كانت الدولة الإسلامية تعتمد (نظام اللاحصرية) أو (عدم التمركز) بحيث يتمتعون العمال الموظفون بصلاحيات واسعة جداً تخولهم اتخاذ القرار السياسي ولكن الخليفة يستطيع أن يتدخل في كل وقت في هذه الصلاحيات ومن هنا فهي - الدولة - تختلف عن (نظام اللا حصرية الحديثة) (deconcentation) تكون صلاحيات السلطة المحلية أوسع بكثير مما هي عليه اليوم ثم هي غير ثابتة لأن الخليفة يستطيع التدخل فيها عندما يشاء(3) فالدولة كانت أشبه بالكونفدرالية لكنها وحدوية تخضع لنظام تشريعي مركزي من قبل الحكومة الموجودة في العاصمة التي يقيم فيها الإمام علي وهي الكوفة آنذاك وكذلك يوجد تراتب هرمي تسلسلي فالسلطة تتمثل في خليفة المسلمين وهو الإمام علي(ع) الذي يصدر القرارات التشريعية ثم تنزل إلى السلطة التنفيذية والقضائية ثم إلى بقية المؤسسات والأدنى فالأدنى.

وإن من أهم الصعوبات التي تواجه الحاكم بعد توليه زمام الأمور هي مسألة تشكيل الوزارة وتوزيع الحقائب الوزارية في الدولة وتطعيم مؤسسات الدولة بالعناصر الكفوءة المختلفة والقادرة على تصريف الأمور(4) لذلك كان على الإمام علي(ع) أن يغير البناء السياسي والتشكيلة الوزارية التي كانت من قبله. فاعتمد على عزل العناصر الفاسدة واستبدل مكانها العناصر المؤمنة واصحاب السمعة الجيدة في الوسط الاجتماعي والسياسي والذين كان لهم بعد ذلك دور كبير في دولته وحكومته أمثال مالك الاشتر وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الوجوه المعروفة بالورع والإيمان. ثم انه من الركائز الأخرى التي انتهجها هو عدم انحجابه عن الناس والمؤمنين والجلوس لسماع مشاكلهم مع السلطة والموظفين مما يكون ذلك سبباً للمتابعة فضلاً عن وضع شرطه سرية ترصد حركات الموظفين والعمال الحكوميين مما يساعد الإمام على سياسة العزل والتنصيب وأيضا التأمين الاجتماعي للعاطلين والعاجزين عن العمل بحيث يصرف لهم من بيت المال راتباً شهرياً وانعاش الاقتصاد عبر نظام اقتصادي يتيح للفرد التملك ضمن سياسة إحياء الأراضي فكان الإمام علي(ع) يشجع على التنمية الاقتصادية والزراعية فضلاً عن إلغاء المحسوبية والرشوة والطرق الملتوية في نظام الحكم الجديد واعتماده على المساواة وإلغاء الحواجز العنصرية في سبيل مجتمع متكامل.

الشريعة ونظام الحكم

إن جدل الدين والدولة كان قديماً قدم الإنسان بحيث لم تكن هناك فترة من الزمن خلت من هذا الصراع والجدل حول طبيعة الحكم في الدول هل الدين منفصل عن الدولة أو أن الدين والدولة مندمجان معاً يقول أحد الباحثين: فالاتجاهان الاساسيان هما الاتجاه البشري والاتجاه الإلهي، الأول يرى أن التشريع يضعه البشر بينما الثاني يرى أن التشريع يجب أن ينزل من عند الله عز وجل(5) ومن المعروف أن حكومة علي(ع) كان شكلها هو دمج الدين والدولة وعدم فصلهما فالدين هو المحرك للدولة وهو الذي يحدد سياستها الداخلية والخارجية، وكذلك النظام الاقتصادي والقضائي والعسكري والاجتماعي لأن طبيعة الدين الإسلامي هو دين ودولة وليس مجرد دين منعزل عن الممارسة السياسية لأن ذلك يبدو واضحاً من حاكمية الرسول(ص) على الناس وبناء الدولة الإسلامية التي كانت تنطلق من رؤية سياسية عالمية ويدلنا على ذلــك أن الصراع العسكري والحروب والغزوات والاسر، والعهود، والمواثيق، وجبي الاموال، وغير ذلك ما يدل على أن الفكر الديني هو فكر سياسي ديناميكي وليس مجرد طقوس ومراسيم فردية، وهذا يدل على أن الدين لا ينفصل عن الدولة والدولة لا تنفصل عن الدين وكل منهما يتحرك نحو الآخر كذلك في حكومة الإمام(ع) حيث أن كل أمر أو نهي صادر عن الخليفة (الشرعي) يمثل امراً أو نهياً مولوياً لانه يدور مدار الحكم الشرعي ويرى الإمام(ع) أن المشرّع الوحيد هو الله عز وجل وقد انزل دينه كاملاً إلى رسوله(ص) فجاء القرآن شاملاً لكل ما يلزم البشرية التي لم يتركها الله مهملة وقد بلغ الرسول(ص) عن ربه كل ما كلفه بتبليغه فلم يقصر(6) وقد جاء عنه(ع) في نهج البلاغة (إن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى ولم يدعكم في جهالة ولا عمى وانزل عليكم الكتاب تبياناً لكل شيء وعمر فيكم نبيه أزماناً حتى أكمل له ولكم فيما انزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه وأنهى إليكم على لسانه محابه من الأعمال ومكارهه ونواهيه وأوامره وألقى اليكم المعذرة واتخذ عليكم الحجة وقدم إليكم بالوعيد وأنذركم بين يدي عذاب شديد)(7) فمن هذا النص نستطيع أن نستنتج أن الحكم ينطلق من رؤية قرآنية إلهية معتمدٌ على النص القرآني والسنة النبوية التي وفرت للإنسان كل ما يحتاجه بعلاقته مع الله والإنســان والطبيعة فكانت رؤية الإمام هو أن الدولة الإسلامية تحقق للإنسان سعادته الدنيوية والأخروية لأنها منسجمة مع نظام الكون الكلي الذي ينساب من الأفق الأعلى لسد حاجة الإنسان فالشريعة توفر القواعد العامة والخطوط الرئيسية عن أصول الحكم مع القابلية على انسجامها مع الزمان والمكان. فقد جاء الإسلام كما يقولون بشريعة، أي بعدة أحكام قانونية تنظم شؤون الحياة الدنيا (من أحكام مدنية وجنائية وأحوال شخصية... الخ) لذلك كان طبيعياً أن يعنى باقامة دولة وحكومة تعنى بتنفيذ تلك الأحكام القانونية ولقد قال تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)(8) (9).

فالحكومة الإسلامية في عهد الإمام علي(ع) هي انعكاس عن الشريعة وهي (أي الشريعة) انعكاس عن الله فالله متمثل في حكم الدولة والدولة تمثل الله هكذا كانت رؤية الإمام في الحكم وانه لا يتخذ قراراً أو حكماً إلا ويقدم أمر الدين على كل حساب ولذلك ربما يوصف بأنه غير سياسي كما جاء قبل عن بعض الكتاب بقوله: كان الإمام علي بطلاً شجاعاً مظفراً في جميع المعارك التي قادها أو خاضها قبل خلافته أما في خلافته فقد فارقه الحظ في الحرب وكذلك لم يكن الإمام علي(ع) موفقاً في السياسة. إن السياسة أمر دنيوي مبني على الدهاء والمكر بعيداً عن المرؤة والصدق وكان من سوء حظ الإمام علي(ع) أن كان خصومه وخصوصاً معاوية وعمرو بن العاص رجالاً دنيويين لا يبالون امراً ولا نهياً من أوامر الدين ونواهيه ولقد كان الإمام علي يعرف ذلك من نفسه ومن خصومه ويعد ذلك سبباً لقلة نجاحه في السياسة والحكم(10). إذن فالسياسة التي تتعارض مع مفهوم من مفاهيم الدين لا يكون لها أي اعتبار في نظر الإمام لانه كان يريد أن يحقق ظل الله في الأرض واقامة العدل والحرية وهي تتنافى مع قيم الفساد والرذيلة والخبث والدهاء والمكر والوصولية على حساب الدين والإنسان، فمعاوية كان يصل إلى اهدافه وغاياته عبر منظومة سياسية جوهرها مفهوم الغاية تبرر الوسيلة مع عدم عنايته بقيم الدين لأنه رجل دنيوي بخلاف الإمام علي(ع) فانه كان يرى أن الحكومة الإسلامية لابد أن تصل إلى غايتها بوسيلة شرعية شريفة معتمدة على الأخلاق والقيم العليا وانه لا يعتمد في سياسته على المنطق البراغماتي (الذرائعي) الذي يبرر الوسائل من اجل الوصول إلى الغاية مثلما اعتمده خصمه معاوية بن أبي سفيان في حكومته ولذلك نرى أن الإمام ينتقد هذا المبدأ بشدة ويقول: (ليس معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر)(11). أي أن معاوية يتبع سياسة تبرير الوسائل وهو ما يتنافى ورؤية الإمام لأنها تختلف مع المفاهيم الإسلامية إذ يعتقد أن الدين هو غاية الغايات وأن السعادة الحقيقية للمجتمع البشري تكمن في التمسك بمبادئ الدين الحنيف.

علاقة الحاكم بالشعب

إن علاقة الحاكم بالشعب في حكومة الإمام علي(ع) كانت تنطلق من رؤية أن الحاكم هو أحد أفراد المجتمع واحد منتسبيه بل أحد اكثر المجتمع مسؤولية وواجبية لأنه مسؤول أمام الله وأمام المجتمع بأكمله وبذلك تلغى كل الحواجز والاعتبارات التي تحول دون الاتصال بالشعب وتفهم مشاكله ومسؤولياته ولم يكن منصبه في الدولة يمثل له شيئاً ما لم يحقق الهدف منه وهو العدالة بين المجتمع واقامة الحق بينهم وهو بذلك يمثل الطراز الأعلى والأمثل من الحكام الذي نادى الحكماء والفلاسفة به ويحدثنا ابن عباس عندما لقي الإمام علياً(ع) في الكوفة وهو يخصف نعله فقال له الإمام: يابن عباس ما قيمة هذا النعل فقال لا قيمة له فقال الإمام علي: إن هذا النعل أفضل من خلافتكم عندي إلا أن اقيم حقاً أو ادفع باطلاً(12) ورغم المصاعب التي لاقاها الإمام من شعبه وخذلانهم له إلا انه لم يكن سبباً في عدم الرأفة بهم والتودد إليهم، رغم دعائه بان يستبدله الله بغيرهم ويستبدلهم بغيره إلا انه كان مثالاً في كل الميادين سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل حتى مع المعارضة كما في معركة الجمل والخوارج أمثال الزبير وطلحة وعائشة زوج النبي(ص) حيث قادوا حملة عسكرية ضده متهمينه بقتل عثمان ورغم كل ذلك نجده يتعامل معهم بمنطق انساني بحت ولم يستخدم نفوذه السياسي عليهم فحاورهم والقى الحجج عليهم ولم يبدأ بقتالهم حتى بدأوا بقتاله وبعد انتصاره عليهم تجاوز عنهم وارجع عائشة مع اخيها في عدة من النساء(13). إن الإمام كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلقة فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغنى والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور حيث ما نراه اليوم في الحكومات من امتيازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام القانون في حالة تقصيره وعدم أدائه للحكم بصورة صحيحة بل يعتبر ذلك خيانة عظمى كما جاء في نهج البلاغة وعند اقتراح الناس عليه أن يميز في العطاء بين الكبير والصغير يقول (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله)(14) ويعقب أحد الكتاب على هذا المقطع فيقول: ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر المساعدة، وكان موقفه عند ما أبلغ أهل الكوفة انه لن يأخذ حصته من العطاء حيث قال: (يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن)(15) إنها كلمة عظيمة تستحق الوقوف عندها والتأمل في هذا الرجل العادل الذي لم يخرج من الدنيا إلا بمدرعته التي طالما كان يستحي من ترقيعها ويؤكد على انه غير مستبدٍ وليس مرتشيا ولا يرضى بالفساد والخيانة مطلقاً. ونراه مع (عبد بن زمعة) عندما أتاه يطلب مالاً إذ قال له: إن هذا المال ليس لي ولا لك إنما هو فيء للمسلمين(16).

فهو يرى انه موظف مسؤول أمام أموال المسلمين وأنها مسؤولية مقدسة لا يمكن التفريط بها وأن التقصير خيانة وجريمة كبرى والحفاظ على أموال المسلمين واجب مقدس. والوثيقة التي بعثها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر تشعرنا بأنه كان ناذراً نفسه لخدمة الشعب فيقول فيها (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فانه لا يَدَيْ لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته) في هذا المقطع من عهد الإمام(ع) لمالك الاشتر نجد معاني سامية وعظيمة قلما توجد في حاكم من الحكام. إن هذه الوثيقة هي اعلان عن حقوق الإنسان والمواطنة تجاه السلطة أو الحكومة بشكل عام واعطاء الحقوق للفرد تجاه الحاكم والحاكم تجاه الفرد وتحديد مسؤوليتهما تجاه الآخر وبهذا تحكي الوثيقة مدى العلاقة الإيجابية التي تربط الرعية بالحاكم والعكس وهذا عين ما نراه من الممارسة العملية التي كان الإمام علي(ع) يمارسها تجاه أفراد شعبه من الرأفة والحنو والتودد حتى مع الد اعداءه بل مع قاتله عبد الله بن ملجم. وكان يشارك الناس في طعامهم وشرابهم وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمعوزين ليلاً حاملاً كيس الدقيق على ظهره وطائفاً بين الازقة ليتفقد من لا عهد له بالقرص ولا طمع له بالشبع كان يعطف عليهم كالأب على أولاده بل أكثر، وهم ربما لا يعرفون انه الخليفة ولكن كل ذلك من أجل أن يكون واقعياً في خطابه وكلماته وإيمانه بالله ورغم كل سلبيات الرعية وتقصيرها تجاهه إلا انه لم يكن سبباً ليحول دون الرأفة والرحمة بهم وإن رجلاً مثل الإمام علي ينزل من علياء سلطته إلى بيوتات الناس ليسأل عنهم وعن أحوالهم ويتفقد صغيرهم وكبيرهم حريٌ أن يكون قدوة ومثالاً لباقي الحكام ولكل الإنسانية إذ أن قائد دولة عظمى بل أعظم دول الأرض في عهده الذي يتحمل مئات المسؤوليات الثقيلة في إدارة بلاده يشعر بمسؤوليته إلى هذه الدرجة بحيث يخرج إلى شيخ مقعد اعمى ويدير شؤونه بنفسه الشريفة ويضع ذلك جزءاً من برنامجه اليومي وبعيداً عن كل أنواع التكبر والاستنكاف يطهر وينظف ذلك الشيخ ويستبدل اثوابه كل يوم بغيرها ويطعمه حتى يشبع. نعم لا وجود لهكذا معاملة وسلوك في تاريخ كل القيادات إلا القيادات الإلهية فقط.(17)

الرؤية السياسية في الحكم

إن الرؤية السياسية التي تبناها الإمام(ع) في دولته كانت ذات آليات متطورة تبعاً للمنهج الإسلامي وتصوراته ولما يمتلك من خبرة دينية وعسكرية واجتماعية جعلته مؤهلاً لأن يكون صاحب منهج متميز في إدارة شؤون الدولة عسكرياً واجتماعياً لذا (يرى أمير المؤمنين أن بقاء القيادة السياسية الأولى للدولة في العاصمة وعدم خروجها للحرب اصلح فبقاؤها لإدارة شؤون الجنود والعسكر في الولايات وإدارة بيت المال واقتصاديات الدولة وبسط العدل والقضاء والعمل لاستقرار الدولة والمجتمع وتقدمهما بينما تذهب القيادات العسكرية لمحاربة العدو وقتاله)(18) لذا ربما عورض على هذه السياسة من قبل مجتمعه الذي يرى انه لابد من الخروج معهم لتعزيز موقفهم الميداني في الحرب لكنه كان يردهم ويوبخهم عن رفضهم لسياسته التي يراها الاصلح في تطور مجتمعهم خصوصاً والدولة عموماً فيقول (ما بالكم لا سددتم لرشد ولا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي لي أن اخرج وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ارضاه من شجعانكم وذوي باسكم ولا ينبغي لي أن ادع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين ثم اخرج في كتيبة اتبع أخرى اتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ وانما أنا قطب الرحا تدور علي وأنا بمكاني. إلى أن يقول: هذا لعمر الله الرأي السوء)(19) إن رئيس الدولة لابد أن يقيم في العاصمة لأنه يمثل هرم النضوج السياسي الذي إذا ما تعرضت الدولة لحادث لابد أن يجد حلاً سياسياً سريعاً للخروج منه. وهذا ما هو عليه الآن الدول المتقدمة والحديثة في أن الرئيس يعتبر الموظف الأعلى وتناط به مسؤولية الإدارة العامة للدولة. ويلخص أحد الكتاب أهم الركائز الأساسية لسياسة الدولة الإسلامية عند الإمام علي(ع):

أولاً: إدارة كل شؤون الدولة.

ثانياً: منع الاضطراب السياسي للدولة في حالة الهزيمة وانتقال السلطة عند موت رئيس الدولة.

ثالثاً: منع التمرد والعصيان والانقضاض على الدولة وحفظها على ذلك.(20) هذا ونجد أن الإمام كان موضع استشارة الخلفاء في الدولة الإسلامية حيث استعان عمر بن الخطاب إبان خلافته على المسلمين برؤية الإمام السياسية حينما أراد قتال الفرس فقال الإمام له: (فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب واصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من اطرافها واقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك) وكذلك مشاورة عمر بن الخطاب له في الخروج إلى غزو الروم فيقول (إنك قد تسر إلى هذا العدو بنفسك فتقلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفه - عاصمة - دون اقصى بلادهم ليس بعدك رجع يرجعون إليه فابعث لهم رجلاً محرباً واخفر معه أهل البلاء والنصيحة فان اظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت رداءً للناس ومثابة للمسلمين.(21) وهذا يدل على أن نظرة الإمام للدولة كانت تتحرك وفق معطيات سياسية دولية رشحته أن يكون قائداً للدولة رغم كثرة المعارضين على سياسته ومنهجه ورغم عدم وعي القاعدة الجماهيرية بالمشروع السياسي الذي رسمه الإمام للدولة الإسلامية الكبرى.

إن الإمام علي(ع) كان من الممكن أن يمارس الاوتوقراطية أو الحكم الواحد ضد الشعب كما مارسه بعده الحكام والملوك ضد شعوبهم حتى ينبسط له الحكم والإدارة بصورة اكثر لكنه كان يرى أن الحكم لابد أن ينطلق من رؤية انسانية بحتة اساسها العدل وأن لا يتجاوز الثوابت الإسلامية للحاكم مهما كانت العقبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فكان من اللازم أن تحصل اخفاقات سياسية أو عسكرية نتيجة عدم نضوج الوعي الجماهيري ولذلك نرى أن الإمام اعلن عن ذلك بصراحة بعد اتهامه بأنه عديم الخبرة بالحرب قائلاً: (وافسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش أن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب لله ابوهم وهل أحد منهم اشد لها مراساً واقدم فيها مقاماً مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع)(22). وهكذا نرى الإمام في اكثر من موقف أن رؤيته السياسية تنطلق من معرفة جيوسياسية تجعل رأيه لا يجانب الصواب، وأن أفقه المعرفي جعله قادراً على استيعاب مجمل القضايا التي كانت تمس الدولة على المستوى الخارجي والداخلي كما نرى ذلك في قضية غزواته وحروبه في صفين والبصرة والنهروان وكيف انه وصلت بشائر الانتصار عندما اقترب القتال إلى رواق معاوية ولكن الدهاء السياسي لمعاوية ورفع المصاحف جعل من المقاتلين ينقسمون فيما بينهم ويوقفون القتال ويؤثرون على قرار الإمام(ع) ومثل هذه الوقائع والهزائم كثير مما يؤكد قصور القاعدة الجماهيرية وعدم النضوج الفكري السياسي.

الحكومة ومشروع السلام

إن قضية السلام لم تكن غائبة عن حكومة الإمام علي(ع) بل كانت حاضرة في كلماته وخطبه وممارسته في الحكم نظراً لما يمثل السلام من أهمية عالمية في الإسلام السياسي وتأثيره على الشعوب وتقدمها فشغلت باله وهمه في تحقيق هذا المشروع ضمن متطلبات الدولة وأهدافها. فالامام لم يكن يرى من الحرب إلا وسيلة لتحقيق هذا المشروع لتسود قيم الإنسانية والعدل في المجتمع الإسلامي وليحقق اكبر قدر ممكن من عزة وكرامة الأمة الإسلامية واستخدم لغة الحوار السياسي الذي يخلق جواً من الود والرحمة مما يذيب حواجز الخلافات والتشنجات فعالج قضية التحكيم بين الدولة الإسلامية ومعاوية على أساس الرضا بميثاق السلام الذي عقده بالرغم من عدم قناعته الشخصية بالتحكيم بالرغم من قناعته كذلك من خديعة معاوية لهم فيجيب الإمام على الجبهة التي تعارض الموافقة على قبول التحكيم بأنه - التحكيم - وثيقة سياسية صدرت من القائد الأعلى للدولة مفادها الوفاء لهم بعدم قتالهم وتأجيل ذلك إلى اشعار آخر ومستدلاً بقوله تعالى (وافوا بالعقود) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم وكيلاً إن الله يعلم ما تفعلون). وأبى أن يرجع وخرجت عليه الخوارج بسبب خلافهم حول الصلح ورغبتهم في فسخ وثيقة التحكيم وعدم احترامها فلم يغير من مبدئيته ذرة(23) فلم يكن من الممكن أن يخالف القانون الذي يؤمن به وينطلق به في رؤيته السياسية ولأن تداعيات الأحداث السياسية والاجتماعية ومدى تأثيرهما على سيسيولوجيا المجتمع جعلت من الإمام يتعامل مع الأحداث بواقعية مع ما يمتلكه من صعوبات حقيقية تجاه مجتمعه الذي كان يراهن على فشله وعدم قدرته على استيعاب مشروعه الذي انفق عليه الغالي والنفيس ويلخص بعض الباحثين في هذا الصدد أهم الآراء التي تدور حول السلام عند الإمام(ع) استناداً إلى الوثيقة التي بعثها إلى مالك الاشتر:

اولاً: الموافقة على السلام والصلح وعدم رفضه بشرط أن يكون فيه رضا الله سبحانه وتعالى فهذا الشرط الرئيسي.

ثانياً: أهمية قبول السلام والصلح تزاد بالمنافع التي يوفرها هذا السلام من راحة للجيش والجنود والارتياح النفسي والاطمئنان للحاكم واستقرار الوضع الأمني للبلد.

ثالثاً: الحذر الشديد من العدو بعد الصلح.

رابعاً: الوفاء بالمعاهدات وبنود واتفاقيات السلام وعدم نكثها.

خامساً: عدم نكث ومكر وخداع وخيانة العدو وإنّ احترام المعاهدات والمواثيق والعمل بها مشترك بين كل الناس ولا يختص بها المسلمون.

سادساً: يجب أن تكون المعاهدات ومعاهدات السلام صريحة وواضحة ودقيقة وإحكام بنود الصلح حتى لا تؤوّل، والالفاظ يجب أن تكون معينة ومقطوع ما تعنيه.

سابعاً: عدم تأويل بنود والفاظ الصلح والمعاهدات بالتأويلات الخفية لصالحك من جانبك.

ثامناً: عدم فسخ العقد والمعاهدة بغير حق بسبب ازمات الدولة.(24)

وهذه المبادئ هي ما تضمنته الوثيقة المبعوثة إلى والي مصر مالك الاشتر مبتدئاً بقوله(ع) (لا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك لله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك ولكن الحذر الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن إلى آخره...).(25)

فصل الجهاز القضائي عن الأجهزة الأخرى

إن من يقرأ حكومة علي(ع) قراءة موضوعية يرى فيها من التطور والتحديث ما هو موجود في الدول الحديثة التي جاءت عبر تراكم خبرات بشرية على مدى مئات أو آلاف السنين ويقول أحد الكتاب: (درج القدماء في الشرق والغرب على تولية القضاء رجالاً ذوي صفات تعنيها مصالح هؤلاء الحكام بأوسع معانيها ومصالح الطبقات التي تتبادل مع حكام هذه المصالح حتى إذا ساوى القانون بين طبقات الناس عطل القاضي هذه المساواة وحكم بهوى الحكام وأصحاب الامتيازات وتاريخ أوربا في القرون الوسطى يفيض بأخبار هذا النوع من القضاة وكذلك تاريخ الشرق العربي أيام الأمويين والعباسيين والمماليك والأتراك وغيرهم وأن الجرائم التي ارتكبها القضاة والمنحرفون هنا وهناك باسم العدالة لَمِمَّا يخزي جبين الإنسانية وليستوجب اللعنة على رؤوس أولئك القضاة(26) إن ما فعله الإمام(ع) هو فصل الجهاز القضائي عن السلطة وتأمين الحصانة الكاملة للقاضي بحيث لا يتأثر بحكمه القضائي أي جهة أخرى وهذا بالضرورة يعطي للقانون صفة النزاهة والموضوعية في الأحكام الصادرة من ذلك الجهاز ويؤمن للمجتمع الحقوق المدنية الكاملة وكانت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية موحدة غير منفصلة في زمن علي فإذا به يخطو خطوة مبدئية إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة(27) وهذا ما نراه في الوثيقة المبعوثة لمالك الاشتر بقوله(ع) (واعطه - القاضي - من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من حاجتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً)(28) وبهذا يكون الإمام أحد المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة مع حماية القانون. وهذا ما نراه بالضبط في الدولة الحديثة عند (مونتسكيو) قبل الثورة الفرنسية التي دعا فيها إلى المناداة بمبدأ الفصل بين السلطات حتى لا تتأثر كل سلطة بالأخرى ولم يقصد (مونتسكيو) الفصل التام بين السلطات وانما الفصل المرن بمعنى أن يكون هناك توازن وتعاون بين السلطات الثلاث في تحقيق الصلاح العام(29) وبذلك دعا إلى أن القانون هو الوحيد القادر على حماية الأفراد من السلطة التي تمثل الجهاز التشريعي والتنفيذي وحماية من الأفراد أنفسهم وبذلك يكون المؤسس الأول لدولة القانون وهو ما نراه من سيادة المساواة والعدل في دولته التي لم يشهد التاريخ مثلها وهكذا يكون علي(ع) قد سبق إنسان العصور الحديثة.(30)

ولما كان الجهاز القضائي له من الأهمية بمكان كان علي(ع) يوليه عناية خاصة لأنه يعتقد أن العدل بين أفراد المجتمع هو المنطلق الأساسي في إيصال المجتمع إلى تحقيق الأمن والسعادة الحقيقيتين فترجم ذلك عبر وقوفه أمام المحكمة بوصفه متهماً من قبل بعض الرعية والذي زرع بذلك الثقة في نفوس الناس بالعدل وعدم المحسوبية في حكومته (سلام الله عليه) وعدم ممارسة سطوته ونفوذه بوصفه حاكماً ورئيساً ليدشن بذلك بعد الرسول(ص) سيادة القانون وفصله عن بقية الأجهزة في الدولة واعطاءه كياناً خاصاً مقدساً لا يجوز التعدي عليه، ولو كان الرئيس أو الخليفة وكذلك ممارسته العملية في المجتمع بوصفه قاضياً يساعد القوة القضائية على حل المشاكل القانونية والجنائية لأن عليا اشتهر على لسان الرسول(ص) والأصحاب في انه اقضاهم وبذلك كان القضاء قوة حقيقية لضبط المجتمع في عهده وفض النزاعات وحل المشكلات والتأزمات الاجتماعية ورغم ذلك كان متسامحاً هو بالذات عند التعرض لقضية الحكم القضاء فنراه لم يقض في أية حادثة مطلقاً دون تحقيق وحتى بعد التحقيق لم يظهر رأيه بصورة فورية بل كان يؤخر إظهار رأيه قدر المستطاع رأفةً ورحمةً بالمتهم(31).

المعارضة ونظام الحكم

كان الإمام علي يتعامل مع مفهوم المعارضة بوصفه حالةً طبيعية ضرورية في المجتمع الإسلامي من منطلق انساني بحت فحرص على محاورتهم وبحث أسباب معارضتهم له مع تأمين الحماية الكاملة لهم ولأسرهم فنحن نرى تعامله مع معارضيه في حرب الجمل وحرب الخوارج حيث كان يذهب مع وفد من الصحابة أمثال عبد الله بن عباس أو مع مالك الاشتر أو غيرهم لفض النزاع والوصول إلى حل يضمن لهم ممارسة حياتهم الطبيعية داخل مجتمعهم فنرى ذلك في حرب الجمل عندما أراد الإمام علي قتالهم قال لطلحة عندما كان يريد قتاله: أولم تبايعني يا أبا محمد طائعاً غير مكره قال طلحة بايعتك والسيف على عنقي قال ألم تعلم اني ما أكرهت أحداً على البيعة ولو كنت مكرهاً أحداً لأكرهت سعداً وابن عمر ومحمد بن مسلمة أبوا البيعة واعتزلوا فتركتهم(32). النص هنا يوضح لنا أن الإمام كان لا يسلب من أحد إرادته أو مواطنته أو عطاءه رغم معارضته له وعدم الرضا بحكومته وهذا يدل على أن حكومته كانت حكومة شعبية منطلقة من آراء الأغلبية بالحكومة وأنه يتعامل بما نسميه اليوم (بالديمقراطية) (democracy) وهي حكومة الشعب وليس حكومة (اوتوقراطية) كما كان يحكمها معاوية مثلاً فحكومة علي(ع) كانت على طرفي نقيض من الحكومات التي سبقته وكذا حكومة معاوية التي كانت تتعامل مع المعارضين بالقتل والسجن والتعذيب كما هو الحال مع حجر بن عدي وجماعة من شيعة علي(ع) عندما قتلهم معاوية. وهكذا نرى أن توفير الأمن والحماية والسلام لأفراد الدولة والمنتسبين إليها يعد ضرورة حتمية فمهما كان المواطن معارضاً أو كارهاً للحكم ليس للحكومة عليه من سبيل إلا اللهم بأن يقود حرباً مسلحة ضد الحكومة فحين ذلك يجب على الحكومة ردع المتمردين وحفظ كيان الدولة وسيادتها الذي هو حق طبيعي لكل حكومة وبذلك كان المعارضون يلجأون إلى معاوية أو يذهبون إلى أقطار أخرى كالمدينة واليمن إلا أن معاوية حاول اغراء الكثير منهم وضمهم إليه عن طريق المال مما سبب بعض الضعف في حكومة الإمام علي، وقد انضوى تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً على الإمام(33) ومن الذين التجأوا إلى معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب عندما خاف من إجراء القصاص والعقوبة بحقه من قبل الإمام لقتله الهرمزان غلام أبي لؤلؤة قاتل عمر وكذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني عامل علي في إحدى خطط فارس وسبب ذلك أن مصقلة كان قد اشترى اسرى الخوارج من جماعة بن راشد السامي ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم فلما طالبه بن عباس بأداء الدين قال لو طلبت اكثر من هذا المال إلى ابن عفان ما منعني إياه(34). وهكذا نرى صلافة المعارضين على الحكومة وتجرأها في القتل والسرقة والارتشاء وغير ذلك فحكومة الإمام كانت صريحة في رفض أمثال هؤلاء من الحقائب الوزارية وإقالتهم حتى وإن التجأوا إلى معاوية الخصم الأول. لأن المعارضة لم تنطلق من رؤية موضوعية في معارضتها بل كانت ميولاً واهواء ونزوات شخصية على حساب الشعب وهذا ما رفضه الإمام علي(ع) لأنه كان همه الأول والأخير هو سعادة الشعب وتوفير القسط الأكبر من العدل والحرية(35) بل اكثر من ذلك حيث نرى أمير المؤمنين(ع) يحترم حقوق الإنسان السياسية إلى درجة منقطعة النظير عن غيره من الحكام والرؤساء كعفوه عن الخونة أمثال (عبيد الله بن الحر الجعفي)(36) عندما التحق بجيش معاوية في جوف الليل ذلك حين كانت نيران حرب صفين مشتعلة. وفي قوانين الحروب يعاقب مثل هذا الخائن بالإعدام واستطاع أن يقدّم عبيد الله خدمات كبيرة لمعاوية أما زوجته فكانت في الكوفة وتناهى إلى أسماعها خبر هلاك عبيد الله في المعركة فاعتدت عدة الوفاة وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة في الوقت الذي كان عبيد الله حياً في الشام وحين اخبر بزواج زوجته خرج من الشام ليلاً ووصل إلى الكوفة ودخلها ليلاً وتوجه فوراً إلى بيت زوجته وبعد حوار قصير اخبرته بزواجها. والتقى عبيد الله بأمير المؤمنين منكسا رأسه وعبيد الله يعلم أن علياً رجل الحق والعدل فانتهز الفرصة وقال هل أن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين فأجابه الإمام واحضر زوجته وحل له مشكلته الشخصية إن هذا الموقف من حاكم الدولة تجاه أحد أفراد شعبه يعكس مدى عمق الوعي الحقوقي والإنساني تجاه الشعب من قبل علي(ع) بل تجاه الأعداء والمجرمين والخونة كل ذلك في سبيل تحقيق العدل والحرية والسلام.

إن ضمان الحريات في حكومة الإمام علي(ع) تعتبر من أهم الركائز التي بنيت عليها الدولة إذ أن المواطن يعيش في دولة تضمن للفرد الحرية التعبيرية والنقدية للسلطة والحكومة وقد جاء أن أحد الخوارج سب أمير المؤمنين بقوله (قاتله الله ما أفقهه) وهمّ أصحابه بقتله فردع أصحابه عن ذلك وأكد لهم القاعدة الشرعية التي تأمر بعقوبة متناسبة مع الجريمة حتى ولو كانت واقعة على رئيس الدولة مع عدم نسيان الحث على العفو فقال: رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(37) وفي كلام آخر له يقول (لا تتبع الذنب العقوبة واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) إن الارتقاء بهذه الحريات وضمانها للشعب لهو جديرٌ بان يكوّن شعباً يحرص على قائده وحاكمه ولكن لم يكن هذا الشيء بل على العكس كانت نتيجته السب والشتم والقتل من قبلهم له. إن الإمام كان واثقاً من أن إعطاء الحريات وضمانها للآخرين سوف يعزز الثقة المتبادلة بينه وبين الشعب عموماً والمعارضين خصوصاً وهو بذلك يؤكد على أحقية الإنسان في حرية حركته السياسية وتعبيره الشخصي ولا يقف حائلاً دون ابداء ما يختلج في ضمائرهم وصدورهم ورغبة في تحقيق مجتمع مثالي تسوده الأخلاق والعدل والقانون.

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:07 PM
http://www.annabaa.org/nba64/images/title6.gif



تعد حياة الإمام علي (ع) من أخصب موارد الفكر الإسلامي، وثروة عظيمة للعاملين الإسلاميين، وذلك لأهمية الفترة الاستراتيجية التي عاشها الإمام حيث عاصر عهد البعثة النبوية -مرحلة التأسيس- وبقي بعدها مدة ثلاثين سنة، وترك لنا تراثاً كبيراً من خطبه وكلماته ومواقفه الحكيمة وسيلاً من سلوكياته المناقبية. إلا أن الجانب السياسي في حياة الإمام علي بحاجة إلى المزيد من الدراسات الجادة والمتعمقة، واستخلاص القواعد الرئيسية التي ارتكز عليها الإمام في مواقفه وأطروحته السياسية.
إن نهج البلاغة يحتوي على مادة واسعة من خطب الإمام علي التي هي بحاجة إلى أن تسلط الأضواء عليها بنظرة بحثية ومن زاوية العلم السياسي.
كما أن المواقف الشهيرة التي وقفها الإمام علي في مجمل أدوار حياته تجاه الشخصيات المؤثرة في الساحة السياسية وكذا مواقفه تجاه الأحداث التي ألمت بالأمة، وبالأخص بعد وفاة الرسول الأعظم (ص) بحاجة هي الأخرى إلى إعمال الفكر والبحث لاستخراج الاستراتيجية التي سار عليها الإمام.
إن الإمام علياً (ع) هو الرجل الثاني بعد الرسول الأعظم (ص) في تأسيس وبناء النهضة الإسلامية، ويختلف عن كل ما عداه من الصحابة بصوابية مواقفه وارتسامها على الجادة الشرعية(1) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#1) مما يجعل من حياته السياسية مخزوناً يمد الحركة الإسلامية والعاملين فيها بدروس لا غنى عنها، بل يجب أن تكون معالم تحدد لهم مناهج العمل الصحيح.
وحيث أن المدرسة الإمامية تتعامل مع أهل بيت العصمة من خلال كون كل تحركاتهم الحياتية حجة وميزاناً يوضح الصواب من الخطأ، ومرجعاً لا يمكن الحياد عنه؛ لذا تكون حياة الإمام علي السياسية مرجعية أساسية لاستخلاص الدروس والقواعد في العمل السياسي.
إننا نستطيع أن نقسم حياة الإمام علي السياسية إلى أربعة أدوار رئيسية في أربع مراحل وهي:
- الدور الأول.. كونه ثائراً ومؤسساً مع الرسول الأعظم (ص) للحركة الإسلامية المباركة في المرحلة المكية - أي المرحلة الثورية ضد النظام الجاهلي المسيطر بفكره واستبداده على الناس.
- الدور الثاني.. كونه وزيراً للقائد الأعلى - الرسول الأكرم (ص)- في السلم والحرب -مرحلة المشاركة في السلطة السياسية في المدينة المنورة -.
- الدور الثالث.. كونه معارضاً في زمن الخلفاء الثلاثة -مرحلة المعارضة-.
- الدور الرابع.. كونه حاكماً بعد الخليفة الثالث -مرحلة الحكم.
والملاحظ أن التركيز في حياة الإمام بحثاً، وكتابة، وتحليلاً، وخطابة؛ إنما هو في إطار المرحلة الثورية، ومرحلة المشاركة، ومرحلة الحكم، أما مرحلة المعارضة - التي استغرقت أكثر من ثلث حياته الشريفة - فقلما يتم التركيز والبحث عنها.
ولأهمية هذه المرحلة، دعونا نتعرف على سمات ومعالم معارضة الإمام علي (ع)، ففي هذه المعارضة النموذجية السلمية دروس قيمة مهمة لكل من أراد أن يتخذ دور المعارضة في ظل المجتمع الإسلامي.
أولاً: هدفية المعارضة
لقد كانت معارضة أمير المؤمنين (ع) إصلاحية في هدفها وليست انقلابية، فهي لأجل مصلحة الأمة، لا بحثاً عن ملك ودنيا، فالإمام كان يبحث عن إصلاح الأوضاع، ولم يسع إلى استلام الحكم كهدف لمعارضته.
يقول الإمام علي (ع): (اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك) (2) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#2).
لقد حدد الإمام (ع) من خلال هذا الدعاء هدفين رساليين لمعارضته وحركته السياسية:
- الهدف الأول (لنرد المعالم من دينك): وهو إرجاع معالم الدين بشكله العام لتكون هي الحاكمة والملحوظة في المجتمع الإسلامي، مع ملاحظة أن صلوات الجمعة والعبادات العامة كالحج والجهاد وغيرها كانت مقامة من قبل الذين كان يعارضهم الإمام، مما يدلنا على أن معالم الدين التي يقصدها الإمام هي الشاملة لكل مقتضيات الدين سياسياً وتربوياً واجتماعياً وسلوكياً واقتصادياً وما إلى ذلك.
- الهدف الثاني (نظهر الإصلاح في بلادك): وهو إظهار الإصلاح العام الذي يتعلق بمجمل وضع بلاد المسلمين سواء في الجانب التربوي الأخلاقي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو العمراني.
ومن ثم يعقب الإمام بأن تحقيق هذين الهدفين سيؤدي إلى نتيجتين طبيعيتين هما: أولاً- إنصاف المظلومين، وهي القضية الكبرى في الحياة، حيث أن المظلومين عنوان عام لكل من هضمت حقوقه المادية أو المعنوية. ثانياً: إقامة ما تعطل من الحدود والتي تمثل السياج الذي يحمي المجتمع الإسلامي من كل حالات التعدي والعدوان.
إن أية معارضة ينبغي أن ترتسم أهدافها بما طرحه الإمام من شعار وعنوان واسع لحركته السياسية. إن بعض الحركات الإسلامية نراها تستهدف إصلاح الوضع السياسي السييء الذي تعيشه بعض البلاد الإسلامية، من دون أن تهتم بإرجاع معالم الدين المضيعة، وقد تعتبرها هدفاً ثانوياً أو لاحقاً للهدف الأول، بينما نرى أن الإمام علياً اعتبر إرجاع معالم الدين هو المقدم في أهدافه، وكذا اعتبر إقامة الحدود الإسلامية على قائمة الأهداف التي ترجى بعد قيام الدولة الإسلامية.
إن العنونة بـ (الإسلامية) لأية حركة معارضة لا يعطيها الصفة الإسلامية حقاً إلا إذا استهدفت إقامة معالم الدين على أرض الواقع.
ثانياً: مبدئية المعارضة
إن أمير المؤمنين لم ينطلق في معارضته من خلال اجتهاداته الشخصية، بل من مرجعية مبدئية هي القرآن والسنة النبوية. فمتى ما وجدت فجوة بين النظرية الإسلامية من جهة والواقع الذي يديره الحاكم من جهة أخرى، كانت هنالك معارضة بمقدار تلك الفجوة، وكلما اتسع مقدار الفجوة ازدادت نسبة المعارضة.
وهذا ما نلاحظه في شدة معارضة الإمام علي للخليفة عثمان بعد اتساع الفجوة في عهده عمن سبقه، واتساعها بمقدار أعظم في عهد الطاغية يزيد مما استوجب من الإمام الحسين (ع) اتخاذ منهج المعارضة الثورية التي لا مجال للمساومة فيها.
لقد استندت معارضة الإمام علي لمن عاصرهم من الخلفاء على أساسين هما:
أولاً: إن موقع الخلافة وإمامة المسلمين قد أنيط به شخصياً بناء على النص النبوي الصريح في حادثة الغدير وغيرها، وقد أعلن الإمام علي ذلك بصراحة في العديد من أقواله وخطبه، منها ما أوضحه في بداية الخطبة الشقشقية(3) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#3).
وثانياً: عدم قدرة الآخرين علمياً وفقهياً وعملياً على القيام بمهمة قيادة الأمة بالنحو الذي يكون مكملاً لقيادة الرسول الأعظم (ص) وبما يحافظ على حيوية الأمة إيمانياً وحضارياً.
فقد بلغ الإمام علي (ع) من المستوى العلمي والقدرة الفكرية والمؤهلات التربوية العالية والتضحيات الجسيمة ما يؤهله لأن يكون هو القائد المكمّل لمسيرة التأسيس التي ابتدأها الرسول الأعظم (ص). إن عدم وجود الكفاءة العلمية لدى غيره، أدى إلى عدم سيرهم على أسس علمية صحيحة في مجال الحكم، كما أدى إلى وجود ممارسات حكمية غير صحيحة برزت في هضم حقوق بعض الناس.
ففي ما يتعلق بالأسس الصحيحة للحكم، نرى أن الإمام علياً في خطبته الشقشقية يعبر عن الجو العام لحكم غيره بـ (طخية (ظلمة) عمياء يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير) (4) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#4) وهي كناية واضحة عن حالة التخبط في السير بعيداً عن المنهج الرباني النير الذي ينبغي أن يثير أجواء الرقي والسلامة. ويسم فترة حكم أحدهم بأنها (حوزة خشناء يغلظ كلمها ويخشن مسّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلون واعتراض) (5) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#5). فقد اعتبر تلك الحكومة بمثابة الأرض الوعرة الخشنة الصعبة التضاريس، ولوعورتها يكثر السقوط والعثار فيها مما يتطلب كثرة الاعتذار.
ثم أوضح سلام الله عليه أثر ذلك على الناس، وهو ابتلاؤهم بأوضاع اتسمت (بخليط من الاضطراب، وعنه عبر الإمام بالخبط، وخليط من الصرامة، واليها أشار بالشماس، ومن التبدل من حال إلى حال وهو المراد من التلون، أما الاعتراض فالقصد منه عدم الاستقامة على حال) (6) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#6).
أما في ما يتعلق بهضم حقوق بعض الناس، فقد هب الإمام مدافعاً عن أي مظلوم ظلم بحكم قضائي أو أمر إداري خاطئ، فيروي لنا التاريخ كيف أن الإمام دافع عن العديد ممن حكموا بحكم قضائي خاطئ، حتى أن الخليفة عمر كثيراً ما يعقب على اكتشافه للخطأ بالقول (لولا علي لهلك عمر)، كما في دفاع الإمام عن أبي محجن حين أراد عمر جلده بأكثر من الحد الشرعي الخاص بشرب الخمر، بعد أن قال بيتاً من الشعر أوضح فيه رغبته الأكيدة بشرب الخمر(7) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#7)، فرفض الإمام استحقاق أبي محجن للزيادة في الجلد ويدافع الإمام عن حقوق المسلمين، ويطالب بوقف ما يتعرضون له من تعديات من قبل ولاة عثمان الأمويين، فيخاطب عثمان بعد أن يذكره بأحاديث رسول الله ويقول له: (ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم، والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك، فارجع إلى الله، فحتى متى والى متى) (8) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#8).
هكذا انطلق الإمام علي (ع) في اتخاذ معارضة تقوم على أسس مبدئية، من أبرزها شرعية الحكم، وأهلية الحاكم وممارساته، إن المعارضة السليمة هي تلك التي تتخذ من المبدأ منطلقاً لها، تسترشد به في معارضتها، فالأوضاع التي تخرج عن المبادئ الحقة هي الدائرة التي تعارضها، وتتحرك من أجل تغييرها، كيما يرجع الحق إلى نصابه، ولا تندفع في معارضة السلطة رغبة في المعارضة أو لإحراجها وتأليب الأوضاع عليها، كما نراه في بعض أجنحة المعارضة السياسية في الأنظمة الديمقراطية التي تنافس السلطة على كرسي الحكم ليس إلا.
ثالثاً: علنية المعارضة
كانت معارضة الإمام للخلفاء علنية واضحة، فهو يرى نفسه أحق بالخلافة وأجدر على القيام بمهماتها؛ فكان يجهر بمعارضته ويقول: (أنا خليفة رسول الله ووزيره ووارثه) (9) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#9) وحين احتجت قريش على الأنصار بأنها من شجرة رسول الله، قال كلمته الشهيرة: (احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) (10) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#10). ويروى في ذلك أيضاً أنه سمع صارخاً ينادي (أنا مظلوم) فقال له (ع): (هلم فلنصرخ معاً، فإني ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله (ص) ) (11) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#11)، وقول الإمام (ع): (فلنصرخ معاً) دلالة على صدعه وعلنيته بالمعارضة.
وكذا كان موقفه مع الخليفة عثمان عندما ازدادت النقمة الشعبية عليه، فأبدى موقفه المعارض لسيطرة رجال بني أمية على أركان الحكم وأموال المسلمين، كما أوضحناه في المعلم الثاني.
إن المعارضة الصادقة تصدع بكلمة الحق سواء أمام الحكام أو وراءهم، ولا تتحرك بنفاق مع الحكام، كما هو ديدن المتملقين الذين إذا كانوا مع الحكام أبدوا لهم التأييد، وقالوا: انا معكم، وإذا كانوا مع الناس أبدوا امتعاضهم من سياسات الحكام.
أما ما نراه من لجوء المعارضة الصالحة إلى حالة السرية في بعض الأزمنة، فإنما تفرضه ظروف القهر، فإذا زالت تلك الظروف، فالعلنية هي الطريق الأنفع والأصوب، وهذا ما نسترشده من المرحلة السرية عند بدء الدعوة النبوية حيث كانت الأجواء تتسم بالقهر في مواجهة المؤمنين، ولكن عندما صلب عود النهضة المحمدية جهر الرسول (ص) والمؤمنون من حوله بالرسالة معلنين معارضتهم للواقع الشركي والحياتي المعاش بصورة واضحة.
رابعاً: سلمية المعارضة
كانت معارضة الإمام (ع) سلمية بعيدة عن البطش والتخريب والعنف، بل كان يتحرك في معارضته بالمنطق والكلمة الحقة؛ ذلك لأن الكلمة الحقة أقوى من أي سلاح فهي تخاطب العقل والضمير، أما التخريب والعنف وخلق الأجواء الضاغطة فهو إرهاب من أية جهة قامت به؛ لذا نرى أن أمير المؤمنين لم يرفع سيفه على أحد رغم قدرته على التحرك المسلح، وحين لجأ المعارضون للخليفة عثمان إلى استخدام وسائل القوة، لم ينضم إليهم بل دافع عن حياة الخليفة، لأنه يؤمن بالمعارضة السلمية، على الرغم من اختلافه الشديد مع الخليفة وتحذيره له من مغبة سياساته.
إن أية معارضة تلجأ إلى استخدام العنف غير المبرر والتهديد باستخدام القوة مع المنافسين لها وخلق أجواء الإكراه المعنوي أو المادي على الناس فإن مآلها إلى الفشل، ولذا نجحت معارضة الإمام علي القائمة على السلم وتوجهت الجماهير المسلمة نحو مبايعته ورفضت مبايعة طلحة رغم التأييد القوي له من بعض القوى، لأن معارضة الأخير كانت قائمة على العنف.
خامساً: إيجابية المعارضة
المعارضة في مدرسة أهل البيت(ع) على نوعين: معارضة تتسم بالثورة على النظام الحاكم بالجور والمعلن للفسق والقامع للحريات والناهب لأموال الناس، كتلك التي اختطها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) ضد يزيد؛ فالثورة -هنا- حالة استثنائية تأتي كردة فعل طبيعية في وقتها لمواجهة القهر والظلم الذي لا يطاق، وهناك معارضة إيجابية في تعاطيها وتعاملها مع الحاكم، كتلك التي اتخذها الإمام علي (ع) مع الخلفاء الثلاثة، الذين كان عهدهم يتسم بوجود مساحة لا بأس بها من الحرية والقدرة على إبداء الرأي، ففي عهودهم كان الإمام يختلط بهم وينصحهم، ولم يكن يتجنبهم ويتركهم، بل كان يتدخل لمصلحة الأمة، ولم يكن من أصحاب الرأي القائل: (دع الحاكم وشأنه لتزداد أخطاؤه فتكثر النقمة عليه)، فنراه (ع) يتدخل لنصح هذا الحاكم أو ذاك، ويشير عليه بالرأي الحسن كما أشار مراراً على الخليفة عمر في القضايا التي تتعلق بشؤون الأمة والناس، من ذلك ما أشار إليه الإمام (ع) في عهد عمر، حينما أراد عمر الخروج إلى قتال الروم وقيادة جيوش المسلمين، فنهاه الإمام عن ذلك وقال له: (إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب (تخسر المعركة) ولا تكن للمسلمين كانفة (كنف) دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلاً مِحْرَباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة) (12) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#12)، فولى عمر أبا عبيدة على الجيش) (13) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#13).
كما يحدثنا التاريخ أن الإمام كان يتدخل لنصرة أي مظلوم أو أي شخص حكم عليه عن طريق الخطأ أو لعدم تشخيص الحاكم للحكم الصحيح، والحوادث التي يذكرها التاريخ كثيرة في هذا المجال. جاء في كتاب المناقب: جيء بامرأة قد ولدت لستة شهور إلى الخليفة عثمان فهمّ برجمها، فقال الإمام علي مخاطباً عثمان: (إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك، إن الله تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ثم قال سبحانه: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فحولان مدة الرضاعة، ستة أشهر مدة الحمل، فقال عثمان: ردوها) (14) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#14).
هكذا تعمل المعارضة الصالحة في إبداء المشورة والتصحيح إن هي وجدت أجواء الحرية مكفولة من الحاكم؛ فليست المعارضة مقصورة على مواجهة الحاكم ومقاطعته والنيل منه فقط، بل تتخير ما هو الأفضل والأصلح وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة.
إن مما ينبغي الانتباه له، هو أن المعارضة الصالحة في الوقت الذي تبدي الرأي وتصحح مسيرة النظام وتقدم الحلول العملية، ينبغي أن لا تتحول إلى آلة يسخرها النظام لتمرير خططه أو بعض مشاريعه غير السليمة أو بوق ينفخ في مدح السلطة، إن من المهم أن تبقى المعارضة في وضعية يشخصها الجميع باستقلاليتها وتجردها عن السلطة، وعدم إسباغها الشرعية على النظام الذي لا يتمتع بها.
سادساً: أخلاقية المعارضة
المعارضة الصادقة هي التي تتسم بالأخلاق في تصرف قيادتها وأفرادها، فإذا كان مبرر المعارضة هو وجود حالة الظلم، فلا يجوز أن تمارس هي الأخرى الظلم بأي شكل من الأشكال وبحق أي فرد أو أية جهة أخرى منافسة لها، (إن الأخلاقية، هي التي تعطي للمعارضة مشروعيتها الحقيقية، وهي التي تميزها عن الأوضاع القائمة، وأي تجاهل لها يسلب المعارضة مشروعيتها، ومن ثم يبتعد الناس عنها، إن عليها أن تلتزم بالأخلاق، مهما كانت الظروف والأسباب التي قد تدعوها إلى خلاف ذلك، لكي تكون البديل الحضاري حقاً، ولا تكون معارضتها ضمن إطار الصراع على السلطة) (15) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#15).
يحدثنا التاريخ أن الإمام علياً كان يستخدم أعلى درجات الخلق الحسن مع معارضيه، وليست تلك الأخلاقية مقصورة على مرحلة المعارضة، بل حتى وهو في زمن الحكم والقوة الظاهرية؛ فهذا خارجي يقول أمام جمع من الناس قاصداً أمير المؤمنين بأنه (قاتله الله كافراً ما أفقهه) حتى أراد أصحاب الإمام قتله فنهاهم، وقال كلمته الحكيمة المتسامحة (رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب) (16) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#16). وحتى معاوية وأهل الشام الذين خرجوا لقتاله لم يكن الإمام ليرضى بسبهم، وقال مخاطباً أصحابه (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين) (17) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#17). يروى في البحار أن علياً لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكنه كان يقول: (هم إخواننا بغوا علينا)، فعلى الرغم من كونه الخليفة الشرعي والإمام المعصوم إلا أن ذلك لا يبرر له أن يخرج عن التعامل الأخلاقي الرفيع مع أعدائه.
هذه أخلاقيات أمير المؤمنين (ع) في التعامل مع معارضيه؛ لذا فليس من الصحيح لأية معارضة مسلمة تقتدي وتتوجه بمنهج الإمام علي، أن تحارب غيرها بمجرد الاختلاف في المنهج والأسلوب والشعائر، فتكيل لها التهم وتحاربها وتخرجها من الدين، على قضايا جزئية وفي كثير من الأحيان صغيرة وهامشية. إن ذلك خلاف الدين والمبادئ الخلقية، (فمن الضوابط الشرعية عدم جواز استخدام الغيبة والنميمة والكذب وقول الزور والبهتان ضد المخالف لك في المنهج أو الموقف السياسي، أو الرأي العلمي والفقهي) (18) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#18)، يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم). إن الخطاب موجه لعموم المؤمنين بأن لا يلجأوا لأسلوب السخرية من بعضهم البعض، فلعل الذين يسخرون منهم هم أفضل عند الله تعالى. وتتابع سورة الحجرات في إبراز الموقف الأخلاقي من بعضنا البعض، بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله، إن الله تواب رحيم) فالمؤمنون سواء كانوا في صف المعارضة أو الحكم، لا يسوغ لهم أن يظنوا ويفسروا مواقف إخوانهم المؤمنين بسوء، فلعل لهم عذراً مقبولاً عند الله، كما أن حالة التجسس والغيبة بين صفوف المؤمنين محرمة، ولا يجوز تبريرها بأي شكل من الأشكال. إن من يلجأ إلى تلك السبل الخاطئة بحاجة ماسة إلى توبة عما سبق وتقوى في تعامله، فختمت الآية بقوله تعالى: (واتقوا الله، إن الله تواب رحيم).
سابعاً: الإيمان بالتعددية
التعددية هي سنة الله في خلقه؛ فما من جنس واحد إلا وهو متعدد في أصنافه وأشكاله وصفاته، وكذلك البشر مختلفون في فكرهم وثقافاتهم ولغاتهم ونمط تفكيرهم، فليس من الصحيح أن يصطبغوا بصبغة واحدة باسم الوحدة، فهذا مفهوم خاطئ للوحدة. إنما الوحدة في الرجوع إلى القرآن وقيادة المعصومين، أما الأساليب والأشكال والتوجهات فمن المحال دمجها جميعاً في قالب واحد وتحت مظلة واحدة.
إن القبول بالرأي الآخر، والتنوع في الأساليب هو من سمات مدرسة أهل البيت(ع)، يحدثنا التاريخ أن أبا ذر، وهو من خواص مدرسة أمير المؤمنين، تتسم معارضته بالشدة في مواجهة الحكام، وبكشف التلاعب في أموال المسلمين، ومحاربة الترف المادي عند الولاة، وأن محمداً بن أبي بكر وجمعاً من الشباب المؤمن ممن يوالي أمير المؤمنين(ع)، تتسم معارضتهم بالتحرك الفعال والنشط في جمع الحشود وغير ذلك، وكانت هناك معارضة أخرى ضد عثمان تقودها عائشة وبعض الصحابة. وللإمام علي(ع) معارضته الخاصة ضد عثمان، تتسم بالحكمة والتعقل والإصلاح، إلا أنه لم يمنع غيره من صحابته ومريديه من اتخاذ أشكال أخرى في المعارضة، بل إن الإمام علياً (ع) في زمن حكمه آمن بوجود تعددية سياسية ولم يجبر أحداً على السير بطريقته أو على مبايعته؛ فكان هنالك فريق من الصحابة لم يبايع الإمام علياً(ع)، كعبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، فتركهم ولم يعترض لهم بسوء، وكان هنالك الخوارج الذين كانوا يوجهون أشد التهم والسباب لأمير المؤمنين(ع)، ويعملون ضده كحزب منظم، ويحرضون الناس عليه، إلا أنه لم يكن يواجههم ويصادر حريتهم في معارضته، وهو المعصوم، بل أعطاهم ثلاثة حقوق قبل أن يخرجوا لقتاله، فقال(ع):(19) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#19) (إن لكم علينا أن لا نبدأكم بقتال (أي لكم حق العمل المعارض ما دمتم لا تبدأون بالقتال) وأن لا نقطع عنكم الفيء (أي إن نصيبهم من المال العام كنصيب غيرهم) وأن لا نمنعكم مساجد الله (أي حق التجمع والاجتماع مع الناس) )، وإنما قاتل الإمام علي (ع) أولئك الذين خرجوا بالسيف وقتلوا العباد وأفسدوا في الأرض.
ثامناً: صبر المعارضة
مفهوم الصبر لدى أهل البيت(ع) هو عبر اتخاذ الموقف الرسالي السليم ومن ثم الصبر على تبعاته، فقد يكون الموقف هو التحرك والنهوض، ومن ثم تحمل تبعات ذلك النهوض، كما فعل سيد الشهداء (ع) حين ثار على الطاغية يزيد، وتجرع وأهله العظام رزايا الصبر والبلاء، وقد يكون الموقف هو التأني والحلم وعدم القيام بأي شيء، رغم أن الموقف النفسي قد يكون ضاغطاً باتجاه التحرك، إلا أن وجود مصلحة أهم يتطلب مراعاتها وتحققها بعدم وجود التحرك، وهذا ما كان من فعل الإمام علي (ع) حين سلب حقه في الخلافة، وتم إقصاؤه عن الموقع الشرعي المسنود له من لدن الله عز وجل ورسوله الكريم(ص).
يعبّر الإمام عن اتخاذه لهذا الموقف الصابر بالآتي (وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء (مقطوعة) أو أصبر على طخية عمياء.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجاً) ثم يقول في ذات (الخطبة الشقشقية) (20) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#20): (فصبرت على طول المدة وشدة المحنة).
لقد وازن الإمام علي (ع) بين أمرين، هما التحرك دون وجود الناصر الكافي، والصبر رغم الأزمات التي ستلحق بالأمة، فرجح جانب الصبر؛ لأن مصلحة الدين كانت تقتضي ذلك، حيث الإسلام لا زال طرياً، وأي تحرك لا يثمر رجوع الحق إلى نصابه لن يؤدي إلا إلى مزيد من تفتت الأمة وضعفها، وقدرة أعداء الإسلام المتربصين على الانقضاض على الدولة الفتية.
إن هذه المواقف الرسالية توضح لنا ضرورة الموازنة بين الخيارات المطروحة وعدم الاستعجال بتبني أي خيار إلا بعد معرفة الحكمة والمصلحة فيه. إن ضغط القاعدة أو التأثر بالأجواء النفسية والمحيطة ينبغي أن لا يخرج أي قيادة مؤمنة عن سبيل التروي والتشاور للخروج بالموقف السليم تجاه أية أزمة تحدث، فلا يجوز الخروج عن الرؤية الاستراتيجية والخيار السليم لوجود حادثة أو أزمات عابرة. إن الوصول إلى الأهداف يتطلب صبراً على السبيل السليم، وهذا ما يرشدنا إليه الإمام علي (ع) بقوله: (لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان) (21) (http://www.annabaa.org/nba64/maalim.htm#21).
الخلاصة:
لقد كانت معالم المعارضة عند الإمام علي (ع) تتسم: أولاً بالإصلاح كهدف، وثانياً بالمبدئية في المنهج، وثالثاً بالعلنية في التحرك، ورابعاً بالسلم كطريق، وخامساً بالإيجابية في التعاطي مع الحكام، وسادساً بالأخلاقية وحسن التعامل مع الأعداء والمنافسين، وسابعاً بالإيمان بالتعددية السياسية، وثامناً بالصبر الطويل لتحقيق الأهداف.
وبمثل هذه المعارضة الرسالية النقية الخالصة لوجه الله، والقائمة على العلم والمبادئ والتفكر والتضحية، والباحثة عن خلاص الناس، استطاع الإمام علي (ع) أن يستحوذ على قلوب الناس فنادوا به حاكماً وأميراً عليهم، فبرز سلام الله عليه كأعظم معارض وأعظم خليفة لرسول الله (ص). إن المعارضة الرسالية في أي زمن أو بلد ينبغي أن تستفيد من المعالم والدروس العالية التي اختطها الإمام علي (ع)، وتضعها نصب عينيها

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:08 PM
الامام علي في مرآة الفكر العربي والغربي

إذا كان بعض الذين عاصروا الإمام واستشعروا عظمته قد أحبوه وناصروه وبذلوا مهجهم دونه لأنهم رأوا فيه المثل الخالد المجسد للإسلام وقيمه، وغالى آخرون في حبه وتقديسه حتى عبدوه، فلا عجب في ذلك، إنما العجب أنه يأتي قوم في عصور تفصلها عن عصر الإمام عشرات القرون، ومنهم من يولد ويشب في بيئات أخرى لا تؤمن بدينه ولا تسير على منهجه، ومع ذلك تبهرهم عظمة شخصيته ويشدهم سمو مواقفه وتسحر أفئدتهم حكمته وبلاغة كلماته، فيعشقونه ويشهرون حبهم له على رؤوس الأشهاد من خلال أقوال منصفة ستظل تردد أصداءها ذاكرة التاريخ، وتهتف بها جنبات الكون، وإليك عزيزي القارئ طائفة من أقوال بعض الذين عشوا إلى ضوئه ونهلوا من معين حكمته وبلاغته:

يقول الفيلسوف الإنكليزي (كارليل) في كتابه (محمد المثل الأعلى) (ص34) تعريب محمد السباعي: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان) اهـ.

هذه عقيدة الفيلسوف الإنكليزي المسيحي في الإمام علي...

إنه يؤكد أن حب علي أخذ من قلبه كل مأخذ...

ولكن، لماذا؟؟..

لقد أكبره وأحبه لأنه وجد فيه الصفات الرفيعة المتألقة بأقداس الإنسانية...

فعلي قد استوى على قمة العظمة البشرية علماً... ومكارم... وأخلاقاً.. وفضائل.. وعلي يحتل الدرجات العُلى حسباً.. ونسباً..وشرفاً.. فهو هاشمي أباً وأماً..

والهاشميون ذؤابة المحامد في قريش خاصة والعرب عامة..

وعلي ينطوي على روح الإباء التي ترفض الدنايا رفضاً مطلقاً..

وعلي قد نضجت في نفسه المقدسة، وفي قواها الباطنة سنابل الرحمة، وحب الخير للناس أجمعين، وهو فوق هذه الصفات الباسقة شجاع لم تعرف ميادين الحروب بطلاً أثبت منه قلباً.. ولا أكثر جرأة وإقداماً.. ولا أشد منه قوة، فهو ما نازل بطلاً إلا صرعه.. وهو مع هذه الشجاعة الخارقة يمتاز: بالتواضع.. والحياء.. والحنان الرحيم.. بينما يصف لنا التاريخ أبطال العالم بالقسوة.. والأنانية.. والاستعلاء..

وتتجلى لنا رأفته.. وشعلة من حنانه المقرونة بحب إسعاد الناس.. في عهده للأشتر النخعي الذي بعث به والياً على مصر - ذلك العهد الفذ الرائع.. الذي قال له فيه من جملة ما قال: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم.. ولا تكونن سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق..

وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمقها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية... )، ولكي تستقيم له أمور الرعية على الوجه الذي يأمن معه العثار، يقول له: (وأكثر مدارسة العلماء، والحكماء.. في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك).

ثم يفقهه المسلك الذي فيه سعادته، وصلاح الشعب وهناؤه.. فيقول له: (إن أفضل قُرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم)1هـ.

هذه الكلمات القليلة في عددها.. الواسعة أرحب ما تكون السعة في مضامينها، ومراميها، والكثير غيرها مما عرفه الفيلسوف(كارليل) عن الإمام أثارت إعجابه، وجعلته يقول: (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه.. الخ..

ويتحدث الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي في كتابه (علي وبنوه) - وقد ذكر ما شمخ أمام علي من مصاعب - فيقول:

(وجد علي نفسه.. صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يُدهِن في أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى الله).

ويقول: (له فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين ويؤمن بها أهل السنة، كما يؤمن له بها شيعته)اهـ (1).

ويقول المؤرخ والمحقق الفرنسي (كاراديفو) في كتابه (مفكرو الإسلام) (ص10):

(وعلي هو ذلك البطل الموجَعُ، المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد، ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سرّ العذاب الإلهي)اهـ.

يرى البحاثة الفرنسي (كاراديفو) في علي فارساً غالباً، ولكنه فارس صوفي، أي إن فروسيته نهلت من معين المعارف الإلهية حتى الارتواء.. فهو لا يرفع سيفه النبيل، ويهوي به إلا ليقتل شيطاناً من طواغيت الاستكبار المشرك، والطبيعة الجاهلية، البطرة، ليعز كلمة الله، ويجعل الناس يعيشون تحت ظلالها جنات الإخاء.. والمحبة، وسلامة الصدور من: الأحقاد، والبغضاء، والمفاسد التي اتخذ منها إبليس جنوداً ليحجب الإنسان عن ربه وإنسانيته...

وعلي إمام رفعه إلى مقام الإمامة الأقدس كفاءاته العلمية.. والدينية.. والأخلاقية.. وسموه الروحاني..

ويرى (كاراديفو) أن علياً يحمل فكراً اجتماعياً ثورياً فاعلاً يرقى في تطوير المجتمع إلى تحقيق ما تحلم به الإنسانية من حياة فاضلة.. كريمة.. وأنه استشهد في سبيل ما كان يريد أن يجعله واقعاً حياً.. لذلك فهو إمام شهيد.. صاحب نفس وضيئة تختزن سراً إلهياً قدوسياً.. هو سر قبول تحمل العذاب حتى الموت لإنقاذ الإنسان من الظلمات إلى النور...

وعن تلك الفروسية التي تحدث عنها (كاراديفو) يقول المفكر الإسلامي الأستاذ عباس محمود العقاد تحت عنوان (مفتاح شخصية الإمام علي): (آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفض منها كل مغلق، ويفسر منها كل ما يحتاج إلى تفسير، وقد بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولا سيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء...

ولقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضى الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها..

ثم يقول: (والإمام علي فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه..).

ويتابع قائلاً: (وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: (علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك)اهـ.

ويجعل العقاد الحديث عن علي (البطل، الموجَع، المتألم) فيقول: إن ثقافة الإمام هي: ثقافة العَلَم، المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام...

وإنها هي ثقافة الفارس، المجاهد في سبيل الله،يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه.. لأنه بالبأس زاهد في الدنيا، مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه..

وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه).

ويقول: (كان علي المسلم حق المسلم في عبادته، وفي علمه، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال، إنه طبع على الإسلام... وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاماً منه، ولا أعمق نفاذاً فيه) (2).

أما جبران خليل جبران أنبه عباقرة الفكر العربي في هذا العصر فإنه يرى العظمة متألقة في ثلاثة من البشر يمثلون الكمال الإنساني، هم عيسى، محمد، علي..

يقول في علي: (في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية..

ثم يقول: مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته...

مات والصلاة بين شفتيه...

مات وفي قلبه شوق إلى ربه...

ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجوهر والحصى..

مات قبل أن يبلغ العالم رسالته كاملة وافيه، غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض..

مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وفي زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك، وهو أعلم)اهـ (3).

لقد رأى جبران الكمال الإنساني بكل معانيه وأبعاده متجلياً في ثلاث من شخصيات العالم هم: عيسى، محمد، علي..

وجبران يعتقد أن علياً هو أول عربي - بعد رسول الله(ص)- عرف الذات الأحدية.. ولم يفارقها في حبه، وإخلاصه، وصدق سريرته، وفي خطبه النورُ الساطع الدليل على ذلك، وفي سلوكه الديني، والاجتماعي.. والإنساني أيضاً..

وجبران يعتقد أن الذين أحبوا علياً قد لبوا دعوة فطرتهم السليمة التي لم تفسدها السياسة، وشهوات الدنيا الآثمة..

ويرى جبران أن علياً مات شهيداً؛ شهيد عظمته الإنسانية.. ورقيه الروحاني.. وعقيدته الإسلامية الصافية..

وأنه أغمض عينيه الكريمتين عن هذا العالم، وأنوار الصلاة الرحمانية تسطع على شفتيه بهاء ملكوتياً وأنه ترك هذا العالم قبل أداء رسالته القرآنية بسبب وجوده بين قوم أعشت قلوبهم الأحقاد الجاهلية.. وشهوة حب التسلط، فلم يقدروه حق قدره.. فحاربوه.. وحرموا البشرية من تحقيق أمانيه في: الحرية.. والمحبة.. والإخاء، والمساواة، والعدل الاجتماعي.. والاقتصادي، تلك الأماني التي كان يريد أن يصبها على الناس أجمعين نعيماً فياضاً بالخير.. والمرحمة.. والبركات.. والعيش البهيج الرغيد...

وعلي في عقيدة جبران (جوهرة بين الحصى)، أي أنه تفرد بمعان جعلت منه الإنسان الكامل...

وحقاً قال نابغة الشرق جبران، فإن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق..

وإنه ليعطينا عن ذلك صورة صافية الظلال، مشرقة الألوان الباحث الإسلامي المصري المعروف الاستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه النفيس (علي بن أبي طالب بقية النبوة).

يقول الخطيب في (ص87): (فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع.. لا يعرف المسلمون سيفاً كسيف علي في إطاحته رؤوس أئمة الكفر، وطواغيت الضلال من سادة قريش وقادتها.. وكان علي فقيه الإسلام.. وعالم الإسلام.. وحكيم الإسلام.. غير مدفوع عن هذا أو منازع فيه... )اهـ.

ثم يزيدنا أيضاً في أسباب عداوة قريش لعلي، تلك العداوة الحمراء التي ورثها الأبناء عن الآباء فيقول: (ما أردنا تقريره، من أن علياً كان أكثر المسلمين شدة على مشركي قريش، وأكثرهم تنكيلاً بهم، وإفجاعاً لهم في الآباء والأبناء، والأعمام والأخوال، والذي نريده من هذا هو أن نذكر تلك التِّرات، وهذه الإحن التي وقعت في القلوب، وغمرت النفوس في المعارك التي وقعت بين المسلمين ومشركي قريش، وما وقع فيها من صرعى، وأن نذكر أن تلك الإحن وهذه التِّرات قد صادفت من قريش قلباً خالياً من الإيمان بالله، فتمكن الحزن منها، واستمرت الحسرة فيها، على حين أن ما أصاب المسلمين في أنفسهم وفي أهليهم لم يكن ليجد له مقاماً في نفوس آمنت بالله، وآثرت الموت على الحياة، وطلبت الشهادة وتعجيلها في سبيل الله، هذه الإحن، وتلك التِّرات، التي وقعت في نفوس قريش المشركة، قد ظلت حية فيها، بعد أن دخلت في الإسلام، هذا الدخول العام الذي كان عن قهر، أكثر منه عن نظر واقتناع، وسنرى آثار ذلك وشواهده، حين يُمتحن المسلمون بتلك الفتن التي أطلت برؤوسها بعد وفاة النبي(ص)، وحين تقف قريش في وجه بني هاشم، وحين تذودهم عن الخلافة، ثم تنالهم بسيوفها..الخ)

ويجيئنا الأستاذ العقاد ليبرز لنا لوحة أخرى ترينا موقف قريش من علي قد تكون أدق وضوحاً وأرسخ وثاقة فيقول: (إن قريشاً كانت تحقد على الإمام، وتنحيه عن الخلافة).

ثم يكشف لنا عن سبب ذلك الحقد الدفين فيقول: (فقد بطش علي بنفر من جلة البيوت القرشية في حروب المسلمين والمشركين، وقتل من أعلام بني أمية وحدهم: عتبة بن أبي ربيعة جد معاوية، والوليد بن عتبة خاله، وحنظلة أخاه، وجميعهم من قتلاه يوم بدر.. عدا من قتلهم في الوقائع والغزوات الأخرى، فحفظ أقاربهم له هذه التِّرات بعد دخولهم في الإسلام، وزادهم حقداً أنهم لا يملكون الثأر منه لقتلاهم من الكفار.. أما وهي تحاربه بعصبيتها، وتحاربه بذحولها، فتلك هي العقبة التي لا يذللها إلا بحزب أقوى من حزب قريش بعد وفاة النبي(ص) ولم يكن حزب قط أقوى من قريش في أرجاء الدولة الإسلامية بأسرها)اهـ (4).

وعن بلاغة علي التي تكلم عنها جبران يحدثنا علم من أعلام الفكر الإسلامي هو الإمام الشيخ محمد عبده فقيه الديار المصرية سابقاً من خلال مطالعته نهج البلاغة الذي بهرته بلاغته، وحمله إعجابه به على شرحه، يحدثنا فيقول: (فتارة كنت أجدني في عالم يغمرني فيه من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها.

وأحياناً كنت أشهد أن عقلاً نورانياً، لا يشبه خلقاً جسدياً، فصل عن المركب الإلهي، واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى.. ) (5).

وهذا باحث ومفكر إسلامي هو الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي يقدم إلينا كتابه (علي إمام المتقين)، ويطلب أن نصغي إليه وهو يتحدث إلينا عن الشهيد الإمام علي بن أبي طالب تحت عنوان (جسد علي النبيل) هوذا يقول: (جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكماً ابتلي بمثل ما ابتلى به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل).

ثم يقول: (قبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن، أنه كلما قيلت كلمة (الإمام)، فهو الإمام علي، على كثرة الأئمة في الإسلام، وذلك، لأن ما أمتلكه من: علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة، لم يتوفر قط لفقيه أو عالم، قبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن.. ) أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب، فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، على الرغم من كثرة الخلفاء في كل عصور الإسلام، ذلك أن علياً اجتمع له من عناصر القدرة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة، ونبالتها، وشرفها، ما لم يجتمع قط لحاكم..

وهكذا كان، فريداً حقاً.. عالماً، وحاكماً.. فسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته: منارات إشعاع.. ومنابع حكمة.. ومثار عزائم.. وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال.. وتشرق به النفس.. ويزهو به العقل.. وكم من الكلمات المشرقة.. والمواقف المضيئة.. خلّفها الإمام ميراثاً للإنسانية كلها.. ودليلاً، ونبراساً..).

ويستمر قائلاً:

(عاش يناضل دفاعاً عن: الشريعة.. والعدل.. والحق.. والمودة.. والإخاء.. والمساواة بين الناس، سلام عليه.. سلام عليه يوم قال فيه رسول الله عليه(وآله) الصلاة والسلام: (رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار)اهـ.

ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته إلا البغاة، وفرسان الضلال، وعبيد الشهوات، وأهل البدع والأهواء)اهـ (6).

ويقول الشرقاوي في مقدمة الكتاب: (تجسدت في الإمام علي، أخلاق الإسلام، ومثله، فقد تعهده الرسول: طفلاً.. ورباه صبياً.. وثقفه فتى.. وقال عنه: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها) )اهـ(7).

وهذا الأستاذ جورج جرداق الأديب اللبناني المعروف، الرحب الاطلاع على ثقافات العالم القديم والحديث، يدرس الإمام علياً من المهد إلى اللحد، فتنتشي نفسه إعجاباً بعلي، لقد رأى في تراثه: علماً شاملاً.. ساحراً، وبلاغة آسرة، وخلقاً نقياً تصغر عنده إشراقة الصباح، وإنسانية تتدفق بحراً من الجمال والجلال...

رآه وكأنما هو: قرآن بعد القرآن...

وإنه ليراه ( أقرب الخلق إلى المسيح بوداعته، وزهده، وتواضعه، واستقامته، وصلابته مع الحق، وعظمة أخلاقه، وقوة إيمانه، وعمق إنسانيته، وجلال مأساته)اهـ (8).

وفي جلساته المتأملة المتأنية يجري مقارنات بين علي وأنبه عباقرة العالم أمثال: سقراط، أفلاطون، وفولتير.. وغيرهم.. فيراه سباقاً شامخاً في الطليعة، وتلك المقارنة أنبتت في نفسه رغبة جامحة أن يكتب دراسة عن علي، وتحلو له هذه الرغبة.. ويعرض له خاطر سرعان ما لباه، فأمسك بقلمه السيال وشرع يكتب.. ولكن، إلى من؟؟

كتب إلى الأستاذ ميخائيل نعيمة الأديب.. والبحاثة.. والفيلسوف على المستوى العالمي يستطلع رأيه فيما عقد عليه عزيمته..

وجاء الجواب نفحة غبطة.. وبهجة رضى، وروعة تشجيع...

قال له: (نِعم ما أقدمت عليه في وضع كتاب عن الإمام علي، حالفك التوفيق).

ثم يقول له: (تسألني رأيي في الإمام كرم الله وجهه، ورأيي أنه - بعد النبي - سيد العرب على الإطلاق بلاغة، وحكمة، وتفهماً للدين، وتحمساً للحق، وتسامياً عن الدنايا.

فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلاً دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية، متوهجة ببوارق الإيمان الحي، ومدركة من الجمال في البيان حد الإعجاز، فكأنها اللآلئ بلغت بها الطبيعة حد الكمال، وكأنه البحر يقذف بتلك اللآلئ دونما عنت أو عناء.

ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء الإمام علي، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال..

حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو أنها هبطت على الشاعر من السماء، فهي ما اتخذت مكانها في أواخر الأبيات إلا لتقوم بمهمة يستحيل على غيرها القيام بها، إنها هناك لتقول أشياء لا تستطيع كلمات غيرها أن تقولها، فهي كالغلق في القنطرة).

ثم يقول: (إن علياً لمن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومكان)اهـ(9).

ذلكم هو رأي ميخائيل نعيمه في الإمام علي بن أبي طالب...

لقد عرف الكثير من العرب بأنهم جهابذة البلاغة، وأفذاذ الحكمة...

وعرف كثير من المسلمين بفهم الإسلام دين الله، وبالتعصب المر للحق، والترفع عن كل خسيس، ولكن علياً هو الملك المتوج عليهم جميعاً في كل ذلك.. بل هو من السابقين حتى في الحلبة العالمية...

وهو في كل ما نطق به يتدفق سلساً عذباً فراتاً يلقيه بلا ومضة تكلف، ولا إيماءة جهد، وكأنما هو البحر يقذف ما يخبئه في جوفه من لؤلؤ ومرجان... أما ما يقذف به علي من بحر علومه وفصاحته فإنه أكثر نفاسة من اللآلئ والمرجان، ذلك لأنه كلمات محكمات تكسو الإنسان حلل الخير بمعناه الشامل روحياً...ومادياً...

أما اللغة فإنها تأتيه طيعة، تتبين ذلك بما يبدهك به من حذاقة عجيبة في تشقيق المعاني وإلباسها الصور النابضة بأنفاس الحياة، فإذا بك أمام عبقرية باهرة تجعلك تلمس القدرة الفائقة على التعبير الدقيق للمعنى الأبهج دقة..

وينتهي الأستاذ جرداق - الذي وصف قلمه بأنه ساحر دافئ - من كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) فيعصب جبينه الأستاذ نعيمة بمقدمة يتحدث فيها عن الكتاب ومؤلفه، فيقول عن الكتاب:

(إنه مكرس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام، وإلا فكيف لحياته الفذة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان.. فيتصدى لها بالدرس، والتحليل، والتمحيص... )

ثم يتحدث عن الإمام علي فيقول: (وبطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحروب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبده للحق أينما تجلى له الحق، وهذه البطولات مهما تقادم بها العهد، لا تزال معلماً غنياً نعود إليه اليوم، وفي كل يوم، كلما أشتد بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة).

ثم يتحدث عن الأستاذ جرداق فيقول: (إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، أن يأتيك، حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام، كالحقبة التي عاشها.

فالذي فكَّره وتأمله، وقاله، وعمله، ذلك العملاق العربي، بينه وبين نفسه وربه، لمما لم تسمعه أذن، ولم تبصره عين، وهو أكثر بكثير مما عمله بيده، أو أذاعه بلسانه وقلمه، وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة، وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة).

ثم يقول: (ويقيني أن مؤلف هذا السّفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها إلا أن تشهد بأنها الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي) (10).

وهذا شبلي الشميل المشهود له بعمق التفكير، وسعة الاطلاع أدباً.. وفلسفة.. يتصدى لنا ليقول: (الإمام علي بن أبي طالب، عظيم، نسخة مفردة، لم ير لها الشرق صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً)اهـ(11).

ويواكب الفيلسوف شبلي الكاتب الإسلامي المصري الأستاذ أحمد عباس صالح فيقول: (لو لم يسر علي سيرته المثالية، أكانت تبقى الجذوة - أي جذوة الحق - مشتعلة كامنة في النفوس، وكأن دور علي الوحيد أن يكون مثالاً في التاريخ، كأنه علامة فارقة من علامات الطريق) اهـ(12).

تلكم لمحات مضيئات مما قاله نفر من أنبه مفكري العالم في الغرب والشرق.

يبقى أن نلم بما قال فيه رسول الله(ص) الذي وصفه ربه جل وعلا بقوله: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(13).

لقد قال فيه أقوالاً كثيرة تزهو بها كتب الحديث كما تزهو الأرض برياحين الربيع وخضرته ونضارته..

نأخذ منها حديثاً واحداً متفقاً عليه، هو قوله (ص):

(يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)اهـ.

بهذا الحديث النبوي المتواتر المعجون بأنفاس الوحي أخذ أحمد بن حنبل بأعناق جلسائه بأن علياً قسيم الجنة والنار...

فهذا محمد بن يوسف الكنجي، الشافعي المذهب، يبسط لنا بأسانيده من ثقات المحدثين الحوار الهادئ الخاطف الذي جرى بينه وبينهم.

قال: (أخبرنا القاضي العلامة أبو نصر محمد بن هبة الله بن محمد الشيرازي بدمشق، أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الدمشقي، أخبرنا أبو القاسم الواسطي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا محمد بن أبي نصر النرسي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن معروف القاضي، حدثنا سهل بن يحيى، حدثنا حسين بن هرون الصايغ، حدثنا ابن فضيل عن الأعمش، عن موسى بن طريف عن عباية، عن علي بن أبي طالب، قال: (أنا قسيم النار يوم القيامة، أقول:خذي ذا، وذري ذا) (14).

يعلق الكنجي على الحديث فيقول: (هكذا رواه أبو القاسم الدمشقي (ابن عساكر الشافعي المذهب) في تاريخه، ورواه غيره مرفوعاً إلى النبي(ص) ) (15).

أقول: ويبدو أن معترضاً وقف من الحديث موقفاً سلبياً مع وثاقته، فرد عليه الكنجي رداً قاطعاً، قال: (فإن قيل: هذا سند ضعيف، قلت: قال محمد بن منصور الطوسي: كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في هذا الحديث الذي يروي أن علياً قال: (أنا قسيم النار).

فقال أحمد: وما تنكرون من هذا الحديث؟!.

أليس روينا أن النبي (ص)قال لعلي: (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق)؟.

قلنا: بلى.

قال: فأين المؤمن؟؟.

قلنا: في الجنة.

قال: فأين المنافق؟؟.

قلنا: في النار.

قال: فعلي قسيم النار)اهـ.

يوثق الكنجي الحديث فيقول: (هكذا ذكره في طبقات أصحاب أحمد رحمه الله)اهـ(16).

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:09 PM
الإمام علي(ع) في مواكب الشعر والشعراء
أيها المتعب..

كل الدروب تقود خطاك إليه.. أو أن خطاك تقودك إلى دروبه.. لا فرق.. فالوصول حتى اعتابه ثمرة المسير والتطواف المتواصل..

أيها المتعب..

أينما تلفّت في كل عمرك.. في الماضي أو الحاضر.. أو المستقبل لا تطالع إلا وجهه، لفحته الشمس، وحفرت الأيام والأصحاب ندوبها فوقه..

وأينما تلفت تقرأ سيرته، وحياة لا تكتنفها السطور.. تمتد منذ أول حرف في ميثاق ربك، إذ أخذها من ظهورنا إلى آخر حرف من قيامته الموعودة..

أيها المتعب..

تتساءل، ومثلك الملايين عن روضات الفضائل والقيم، صبوت ونصبو إليها..

عن الشهامة، عزة النفس وسموها، حين كان يتعالى فوق الصغائر ويرفض المساومة في المبادئ الإنسانية التي التزم بها..

عن المروءة، كرم الأخلاق والتعالي فوق الانتقاص، والتعاطف مع الضعيف..

عن النزاهة، أمانة وصدقاً وعفة ضمير معاً..

عن الكرم، سخاءاً وجوداً في العطاء..

عن التهذيب، حرصاً على أدبيات الحياة الإسلامية في المجتمع أقوالاً وممارسات.

عن الشجاعة، بسالة وجرأة واقداماً وجسارة في مواجهة المخاطر..

عن الصدق، خلوص النية والتعبير عن حقيقة الذات بصراحة واستقامة..

عن الاستقلالية، اخذاً بمصيره بيده، وتحديد ما يرتبط به مع غيره وبمحيطه..

عن المسؤولية، تأكيداً على المشاركة في أخذ القرار في كل ما يعنيه بالنسبة لنفسه ولمحيطه، والالتزام بهذا القرارِ وتحمل اعباء هذا الالتزام..

عن الصبر، طول بال وهوادة وقدرة على التحمل والسيطرة على الذات..

عن التضحية، فداءاً وجوداً بالنفس..

عن الايثار، انفتاحاً انسانياً على الآخر المغاير من منطلق المساواة بالذات والنضال من اجل هذه المساواة كحق انساني مطلق..

عن الود، لطفاً ومودة في العلاقة مع الأخير من منطلق الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..

عن الاعتدال، رفقاً وانصافاً..

عن الشفقة: تحنناً وتعاطفاً مع المعذبين والمتألمين.. عن الرحمة، رأفة وقدرة على العفو..

أيها المتعب..

وكان أن سكن وجهه وصوته في نبضك ونبضنا.. وامتدت يداك وأيدينا نحوه.. متلفعاً ببرديه الباليين، نلمح فيهما ثقوب الحاجة والعوز لأنه آثر غيره من اليتامى والأرامل والفقراء والمساكين على نفسه وأهل بيته.. واكتفى من هذه الدنيا، طلقها ثلاثاً وغرت غيره، بهذين الطمرين، وبرغيف خبزه المتكسر على ركبته وهو يجلس جلسة العبد تواضعاً وتذللاً للسيد الماجد القاهر الأوحد...

في هذه السطور، سنحاول أن نواكب الشعراء في مسيرتهم إلى الاعتاب العلوية، في ابتهالاتهم وصلواتهم وفي ما جاشت به صدورهم حباً وشغفاً لصاحب تلك الاعتاب..

وستكون هذه السطور مقتصرة على الشعراء المعاصرين أو الذين عاشوا قبلهم بفترة قصيرة.. ولن نعود إلى شعراء القرون السابقة، لأن الكثير من المقالات والبحوث والدراسات قد أحاطت بهم وبابتهالاتهم..

وأبدأ بأحدث نص بين يدي، وهو للشاعر اللبناني جودت فخر الدين يحمل عنوان (ثلاثة وجوه لعلي)

نقرأ الوجه الأول..

خانته الأرض،

فلم تجلس هانئة بين يديه،

ولم تسبح في سرّ خطاه،

خانته الأرض،

وكان يعاتبها كأب،

يبدد فيها أشجار يديه،

فتذهب عنه،

خانته الأرض،

فسار وحيداً في الأرض،

وكان الناس يرون إلى وحدته،

فيثوبون إلى شُحّ بصائرهم،

كان عليٌ يجترح الخطو على ارض الناس،

ليرفع أيام الناس،

فيجحده الناس،

وكان يضيء، فيطفئه الناسُ،

سار عليٌّ في ارض جاحدة،

هل كان له أن ييأس أو يترددْ؟

ما كان ليطفئه الناس، توهج فيهم، ومضى برقاً

يتوقدْ

ينأى محتجباً، لكن لا يلبث أن يتجددْ

خانته الأرض،

فسار وحيداً في الأرض،

يقود سماء خرجت من ثوب محمدْ..(1)

اختار الشاعر وجه الحاكم الإسلامي المثالي، فيما سبق، وكيف أن الجميع، ممن توحدت مصالحهم، قد اتحدوا ضده، وخانوا تعاليم ابن عمه(ص)..

وجه الحاكم المثالي، حين يعطي ويمنح لرعاياه وفقاً لمرضاة الرب ويقابله الآخرون بالخيانة والجحود والنكران..

ولكنه لا ييأس ولا يتردد.. لأنه لا يعرف غير عدالة الحكم، مطلق العدالة التي تعلمها من الرسول الأكرم(ص)..

في الوجه الثاني، نطالع بصيرته النافذة للغيب، مستشرفاً أفاق المستقبل، يحدث المحيطين بما تنفذ إليه بصيرته، هذا الوجه هو وجه الرائي والباصر، كاشفاً مدلهمات الفتن التي يحذّر منها، ولكن لا حياة لمن تنادي..

يسكن في كلمات تسكنه

يحيا في لغة بكر

تحتضن الأشياء كأم،

تسمو بالاشياء، فترفعها نحو سماء دانيةٍ..

كان عليٌّ يحيا في أسرار اللغة البكر

انفاسُ عليٍّ كلماتٌ،

كان عليٌّ يحيا متقداً بالكلمات،

يجتذبُ الموت بها، ويلاطفه

يجعل للقول مضاء السيف

ويجعله ينضح بالاسرار،

ويخفق بالحسرات..

كان علي يحيا متقداً بالكلماتْ

يجتذب الموت، يلاطفه بالكلماتْ

وبما يرسم للناس دروباً

يطلق فيهم آياتٍ وعلامات

وجه الأيام متاهاتْ

وكلام عليٍّ أبوابٌ وحقولٌ، وجهاتْ(2)..

الوجه الثالث، وجه الشهيد في محراب عبادته، يبث مرارات الأيام والأحزان لربه المعبود..

هو يستشعر دنو خطوات الموت منه في آخر فجر كوفي تبصره عيناه، لكنه لا يبالي، فالرحيل عن هذه الدنيا، سجن المؤمن، هو ما يبحث عنه ويسرع بالوصول إليه.. ليلقي برأسه المتعب فوق صدر ابن عمه كي يستريح..

يبكي قتلاه،

ويمشي في ليل الكوفة،

جفناه نخيل محترقٌ،

ويداه نهران حبيسان،

وحيداً يمشي في ليل الكوفة،

والأرض خوارج أو أمويون،

علي في ليل الكوفة وهج مراراتٍ

علي يبكي قتلاه

ويمشي غابة آمال مكسورة

غابة آمال مهجورة

كان عليٌّ يبكي قتلاه،

وحين هوى في المحراب،

تعالت أشجار يديه،

وغابت في أفق لا يظهر للناس،

ولكن ظلالاً منها سارت في الأرض،

لتخرج آفاقاً تسنح للملأ المفتونْ

يتلقفها الملهوفون، التوابون، المنتظرونْ(3)..

في قصيدة (سيد الكلمات والملاحم) للشاعر محمد شمس الدين، نرى الشاعر قد وظف سيرة الإمام علي(ع) في سبعة مقاطع وكان المقطع الثامن صوت الشاعر المعبر عن لسان حال الجميع لظهور المنتظر(ع) من أبناء علي(ع)...

لتكون مملكة الوجود،

ليكون صوتٌ ما،

يسبّح باسمه

وإلى الأبدْ..

ليكون من اخشاب هذا الفُلكِ

والطوفان

نوحُ

ليكون دون محمدٍ باب

وشرفته حجاب

ليكون آدمُ أول الاسماء

مبتدأً

وجملته الكتاب

خلق الالهْ

سراً

واغلقه طويلاً(4)..

في هذا المقطع استفاد الشاعر من المأثور الإسلامي حول بداية الخلق، وكيف أن الله اودع نور محمد وعلي سراً رافق آدم في أول خلقه، ونوحاً في فلكه في قصة الطوفان الشهيرة،. وكان السر مغلقاً حتى شاء الله وأظهره..

قالوا بأن سحابةً

هطلت على أرض الجزيرة

في ليلةٍ ذُعِرتْ ملائكها قليلاً

قالوا بأن دماً ثقيلاً

من جرح مكة ايقظ الأوثان فارتجفتْ

وارّقها المُقام..

ولد الإمامُ(5)..

وذكر الملائكة اشارة لانشقاق جدار الكعبة حين دخلت فاطمة بنت اسد لتلد الإمام علياً(ع) داخلها..

قالوا إن (احمد) هجّرتْهُ يدُ الفتنْ

من (عبد شمسٍ)

فاستبدّ به المقامْ

وطوى صحيفته ونامْ

ولكن من نام العشية في فراش محمدٍ

لبس الكفنْ

لينام اجمل ما ينام فتى

على جفن الردى

لبس الكفنْ..(6)

أشار الشاعر إلى هجرة الرسول الكريم(ص) في ليلة اتفق المشركون على قتله وأخبره ربه، رب العزة بذلك، فنام الفتى علي(ع) على فراشه مفتدياً رسول المحبة والسلام بروحه، مستعداً لطقوس الموت، تهجم عليه في ساعة ما من تلك الليلة.. ولكن الله نصر رسوله وفتاه..

في المقطع الرابع نطالع لوحة الوصول إلى يثرب، المدينة التي تنورت بوجه محمد(ص)، وبعدها بأيام يتبعه الإمام علياً(ع) مع قافلة الفاطميات، نساء البيت الهاشمي

قمرين في فلك الجزيرة

يطلعان من الوداعْ

وسجدتُ ما سجد الرعاة الخاشعون

وما دعا لله داعْ(7)

المقطع الخامس يشير إلى حروب الإمام علي(ع) في صفين والنهروان، دفاعاً عن راية الإسلام التي ما انفك حاملاً إياها، ودفاعاً عن الإنسان الذي أراد دعاة القتل والتدمير أن يكون وقوداً لحروبهم التي توقد نيرانها مصالحهم الدنيوية البائسة..

ليكون سيفك داخل الصلوات،

خلّ السيف يلمع في ظلام نحورهم ويسيل منه دم الطغاة

وسيفك يقطع الامواج:

هذا حدّ من خرجوا

وماتوا دون وجه الماء/ منْ خرجوا

فكن لتكون ثأر الله

منشوراً على ميراثهم

وكن ليكون سيفك

طائراً كالسهم

من (كوفان)

حتى اخر الازمانْ

وكُن

لتكون آخر قلعة الانسانْ(8)..

في المقطع السابع، نرى الإمام عليا(ع) هو الملاذ الآمن، وهو الطمأنينة التي ينشدها الجميع، جميع المتعبين والمنهكين والمنكوبين، وهو من يتمتع الجميع بعدله، ومن تكون كلماته بلسماً لآلامهم وعذاباتهم وجراحات ارواحهم..

وجمال وجهك آيةٌ

في الصمت واقفةٌ

وفي الكلمات

وجهك آية الكلماتْ

يا كلمات كوني جنة الفقراء

في بيداء من رحلوا

ومن نزلوا على الرمضاء

يا كلماتُ

يا كلماتُ

يا كلماتْ(9)

في المقطع السابع يوظف الشاعر حدث الشهادة في محراب مسجد الكوفة، ويتتبع خطى الإمام(ع) وهو يسير إلى ساعة حتفه الموعودة..

ورايت خطوتك الأخيرة

وهي تدنو في الطريقِ

وصوت نعلك

وهو يفترع المدينة

مسجدٌ في الصمت يطفو

أو يغيبُ

كأنه القمر الغريبُ

كأنه قمر السفينة في الظلامِ

وفي الظلامْ

يا سيدي..

خُتِمَ الكلامْ

فعليك من دمِكَ السلامْ

وعليك من دمك السلامْ(10)..

في المقطع الثامن والذي حمل عنواناً جانبياً هو (صوت2) نرى الشاعر يتكئ على الموروث الإسلامي الذي بشر بظهور المهدي المنتظر(عج)، وكيف سيدخل محراب الكوفة الذي استشهد فيه علي(ع)، وكيف سيعيد فجرهم الذي اغتالوه في حالكات الخيانة والغدر..

لعليٍّ جنةٌ أخرى

ومحراب المدينةْ

لم يزل ينتظر الآتي

من الأرض إليها

وعليٌُّ أجمل الموتى

إذا ما ذكروا في غدٍ اسماءه

واستذكروا سيد الناس

وربان السفينةْ

وعليٌّ مات مطعوناً على محرابه

ومضى

لكنهم لم يعلموا

أنه يعبر في هذا السحابْ

وجهه:

يصعد من هذي القبابْ

صوتُه...

حتى إذا ما نظروا في مراياهم غداً

وانتظروا

ارجع الفجر مع الفجر

عيونه(11)...

وللشاعر خليل فرحات، وهو شاعر لبناني مسيحي ينتمي إلى الطائفة المارونية، قصيدة حملت عنوان (في محراب علي) وقد نظم الشاعر هذه القصيدة بعد أن أصيب في رجله بداء استعصي شفاؤه فتوسل بالامام علي(ع) حتى شافاه الله تعالى ببركته..

يقول خليل فرحات..

دريت، وكلُّ الناس قبلك لـــم تدر فقد صُبّتْ الأعصارُ عندك في عصر

وكنت أمير الحدس تدرك غورها وتسبُر اخفاهـا العصـيّ على السبـر

وتنشرُ مطواها وتفجر خيــرهـــا كما يفجر الحفار نجنــاجـــة البئـــر

وحاشاه أن يعيا حصائك طـــافراً على قمم المجهول أو مــارج الغمـر

ويقول في موضع آخر..

يزجي إليك الناس أغلى نذورهم وما همّك المنذور بل صاحب النذر

ترفع من تابوا فتبـــت عــــليهـم وتهلـــك إذ تشجـــي عمالقة الفُجـر

ويقول عن شجاعته:

وقالوك في الهيجاء اوزن فارس تُداري الألى فرواً وتألف من فرِ

وعندك كان القتل خلوا من الأنـا فسيفــك قوّامٌ على الخير والشر

ويقول واصفاً الإمام(ع) ونهجه:

سواك، سوى رب الدروب جميعها عسيرٌ عليه السيرُ في الأدرب العُسر

تجليـــت نهاجـــاً تــؤجُ نهــــوجــه كمـــا أجَّ فـــي الارياح مُشتعل الجمر

ويشير الشاعر إلى عودة الشمس للإمام(ع) ليؤدي صلاة العصر:

خذ الشمس إذ كفاك قالا بعــــودة: فشمس غروب تلك عادت إلى العصر

وعن كون الإمام علي(ع) هو عدل القرآن، وهو باب مدينة العلم، وهو الإمام المبين الذي ذكره القرآن، يقول الشاعر:

ولمـــا كتــــاب الله اعجــز قومه واغلق لم يفتـــح علـــى الجلة الكبر

فتحت عليه الباب فالضوء مبهر ولكن فتى الأضواء ما ضـــجّ للبهــر

كأنكما من قبل قــد كنتـمـا معـــاً ومـــــر زمـــان بعـــــد آذن بالهجـــر

وعاد لقـــاء النيريـــن بــأحمــــد وعزّ بك الإسلام كالشمس في الظهر

فمصحف رب الناس قوله وفعله إمــأم ومـــــن لم يـــدر ذلك فليـــــدر

وعن علمه الذي أودعه الله في قلبه، وعن كونه يحاسب الخلق بعد النشر يوم القيامة، وأنه قسيم الجنة والنار، يقول الشاعر:

عيال على سلسال نبعك علمهــم وليس يخف النبع من نقرة القمري

وإن قامت الاموات للبعث مثلما يقال فقد جاءت مقامــــك تستقـــري

وتستغفر الاعمار عندك جهلهــا وتبقى كمــا يا أنت في الحلم والغفر

وأخيراً يختتم الشاعر قصيدته محاولاً تفسير هذا الحب لعلي(ع):

حببت علياً، بل عبــدتُ صفاتــــه بلى، تعبُد العطار قارورة العطر(12)..

وشاعر نصراني آخر هو بولس سلامة في رائعته الملحمة (عيد الغدير)...

تبرز هذه الملحمة، اعجاب الشاعر وافتتنانه بشخصية الإمام علي(ع) وانحيازه إلى جانب الخط العلوي وما يمثله، فاستحق لذلك أن يكون من شعراء الغدير..

والشاعر واحد من أبناء الرسالة العيسوية التي بشرت بالخير والمحبة والسلام.. فلا عجب أن نجده اميناً مندفعاً وراء الاشعاعات المتجسدة في كل رجل عظيم تعبق في روحه روحانية العقيدة السماوية وتتملكه عقلاً وروحاً وممارسة..

التزم الشاعر جانب المظلومية في ملحمته دفاعاً عن المظلوم ضد الظالم، وبهذا الالتزام لا تعد المظلومية نقيصة، فمثل هؤلاء الرجال يظلمون في كل زمان ومكان.. ولكن تبقى سير جهادهم منارات شامخة وشاهدة على المبادئ العظيمة التي ظلموا من اجلها، فيهواهم كل من نبذ العصبية وطيّب شعاع المحبة قلبه وعرف الألم..

وحب الشاعر لهذا التيار حر جريء، يقع في زمن تنهض فيه الجاهلية من جديد، وتجتاح العصبية النفوس، وتنهار القيم وتتراجع التعاليم السماوية، فكأنما وجد الشاعر في أهل البيت رموزاً مسيحية فضلاً على كونها رموزاً اسلامية..

لا يخفي الشاعر اعجابه بالامام علي(ع)، ويعلن ذلك في المقدمة (أما إذا كان التشيع حباً لعلي واهل البيت الطيبين الأكرمين، وثورة على الظلم وتوجعاً لما حل بالحسين وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ فإنني شيعي)(13) وهو يحب علياً(ع) لأنه الرجل الرسالي الذي تعالى عن موبقات الدنيا والتزم هدفاً ساميا وأخلاقاً عليا:

هو فخر التاريخ لا فخر شعب يدّعيـــه ويصــطفـــيـــه وليّــــا

لا تقـــل شيعــــة هـــواة علـي إن في كل منصف شيعيا(14)

ولا شك في أن المرض الذي ألم بالشاعر واقعده طريح الفراش والألم الممض الذي عاناه، زاد دفعه الى التأسي بكل العظماء المعذبين:

كدت أقضي لو لا النُهى والتأسي ونعيـــــم أصـــوغـــه وهمــيــــا

أتـــأسى بابـــن البتـــول فيوليني عــــزاء وبلسمــــاً معنـــــويــــا

أتأسى بــــالأكـــرميـــن خصـــالاً لم يسيغوا في العمر شُرباً مريـاً

جلجل الحــق في المسيحي حتى عـــدّ مــــن فـــرط حبــــه علـويّا

أنا من يعشــق البطولـة والإلهام والعدل والخلاق الرضيّـــا(15)

تقع ملحمة الغدير في سبعة واربعين نشيداً استأثر الإمام علي(ع) منها بأربعة وعشرين نشيداً وهي:

1) موقع علي(ع) في البعثة ومآثره البطولية الأناشيد من 9 إلى 21.

2) عيد الغدير، النشيدان 22و23.

3) علي والخلافة، الأناشيد من 24 إلى 32.

وتشتمل الملحة إضافة إلى تلك الاناشيد على قصيدتين وجدانيتين تشكلان المطلع والخاتمة..

الأولى بعنوان (صلاة) يدعو فيها الشاعر، الله مده بالقوة والعزيمة والإلهام الشعري من أجل علي(ع) (زين العصور ـ رب الكلام ـ ليث الحجاز)..

والثانية هي الخاتمة، يكمل فيها الشكوى من الداء المرير فيتأسى بما حاق بعلي(ع) (فخر التاريخ) وبآل بيته من الظلم... ويتابع مدح علي وبنيه وهجاء بني أمية ويفتخر بحبه لعلي وبشاعريته ومزاياه وينسب هذه الشاعرية إلى عبير الامام..

يصف الشاعر بيعة الغدير التي اكمل الله فيها الدين:

كان وهج الشروق يوم حراء وجلال المغيب يوم الغدير(16)

وقبلها يسجل الشاعر حادثة الهجرة الشريفة، ومبيت علي(ع) في فراش النبي(ص) قائلاً:

رقد الليـــــل ناعمـــاً بـفـــراش حشــوه الموت فالوساد مخاطر

بات فوق الخناجـر الزرق ليث دون اظفــــاره رهيــف الخناجر

يستطيب الردى فداء ابــن عـم فهو يسعى إلى المنيــــة حاسر

إن ينم في مضاجع الموت حباً بالنبي العظيم فالله ساهر(17)

ويختتم الشاعر ملحمته قائلاً:

يا سماء اشهدي ويا ارض قري واخشعــي، إنني ذكرت عليّا(18)

ولا يضيرنا أن نعود إلى العام 1772، وإلى ألمانيا تحديداً، حيث نظم شاعرها الشهير (يوهان جوته) قصيدة المديح الشهيرة باسم (نشيد محمد)..

تقوم هذه القصيدة على فكرة مفادها أن العبقري الرباني يرى الآخرين اخوة له يأخذ بأيديهم ويشدهم معه، منطلقاً بهم كالسيل العارم الذي يجرف كل ما يصادفه في طريقه من جداول وانهار إلى البحر المحيط.. والقصيدة تفصح عن الولاء الذي كان الشاعر يكنه لشخصية النبي محمد(ص) حيث تصوره القصيدة بصفته هادياً للبشر، في صورة نهر يبدأ بالتدفق رفيقاً هادئاً، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد ويتحول في عنفوانه إلى سيل عارم.. وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظافر الرائع لتصب أخيراً في البحر المحيط، رمز الالوهية..

وسوف نستشهد هنا بالصيغة الأولى من قصيدة المديح هذه، اعني صيغتها التي جاءت على شكل حوار يدور بين فاطمة(ع) ابنة النبي الحبيبة وزوجها علي(ع) (19)..

علي: انظروا إلى السيل العارم القوي، قد انحدر من الجبل الشامخ العلي، ابلج متألقاً كأنه الكوكب الدري..

فاطمة: لقد أرضعته من وراء السحاب ملائكة الخير في مهده بين الصخور والادغال.

علي: وانه لينهمر من السحاب، مندفعاً في عنفوان الشباب، ولا يزال في انحداره على جلاميد الصخر، يتنزى فائراً، متوثباً نحو السماء، مهللاً تهليل الفرح..

فاطمة: جارفاً في طريقه الحصى المجزع، والغثاء الأحوى..

علي: وكالقائد المقدام، الجرئ الجنان، الثابت الخطى، يجر في اثره جداول الربى والنجاد..

فاطمة: ويبلغ الوادي فتتفتح الأزهار تحت اقدامه، وتحيا المروج من انفاسه.

علي: لا شيء يستوقفه، لا الوادي الوارف الضليل، ولا الازهار تلتف حول قدميه وتطوق رجليه، وترمقه بلحاظها الوامقة.. بل هو مندفع عجلان صاعد إلى الوهاد..

فاطمة: وهذه انهار الوهاد تسعى إليه في سماح ومحبة، ومستسلمة له مندمجة فيه. وهذا هو يجري في الوهاد، فخوراً بعبابه السلسال الفضي..

علي: الوهاد والنجاد كلها فخورة به.

فاطمة: وانهار الوهاد، وجداول النجاد تهلل جميعاً من الفرح متصايحة:

علي: وفاطمة (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك..

فاطمة: خذنا معك إلى البحر المحيط الأزلي، الذي ينتظرنا باسطاً ذراعيه.. لقد طالما بسطهما ليضم ابناءه المشتاقين إليه.

علي: وما كان هذا الفيض كله ليبقى مقصوراً على الصحراء الجرداء.. ما كان هذا الفيض ليفيض في رمال الرمضاء، وتمتصه الشمس العالية في كبد السماء، ويصده الكثيب من الكثبان، فيلبث عنده غديراً راكداً من الغدران.. ايها السيل، خذ معك انهار الوهاد..

فاطمة: وجداول النجاد.

علي وفاطمة: (في صوت واحد): خذنا معك.. خذنا معك.

علي: هلمَّ جميعاً، هوذا العباب يطمّ ويزخر، ويزداد عظمة على عظمة. هو ذا شعب بأسره، وعلى راسه زعيمه الاكبر، مرتفعاً إلى اوج العلا، وهو في زحفه الظافر، يجوب الآفاق ويخلع أسماء على الاقطار، وتنشأ عند قدميه المدائن والأمصار..

فاطمة: ولكنه ماض قدماً لا يلوي على شيء، لا على المدائن الزاهرة، ولا على الابراج المشيدة، أو القباب المتوهجة الذرى، ولا على صروح المرمر، وكلها من آثار فضله.

علي: وعلى متن عبابه الجبار تجري منشآت السفن كالأعلام، شارعة اشرعتها الخافقة إلى السماء، شاهدة على قوته وعظمته.. وهكذا يمضي السيل العظيم إلى الأمام بأبنائه.

فاطمة: ويمضي إلى الأمام ببناته.

علي وفاطمة (في صوت واحد): إلى أبيهم، ذلك البحر العظيم، الذي ينتظرهم ليضمهم إلى صدره، وهو يهلل ويكبر زاخراً بالفرح العميم.(20)

ونبقى في أوربا، وتحديداً في ألبانيا حيث عاش الشاعر الألباني الشيخ سليمان تيماني، وكان شيخ الطريقة الخلوتية في مدينة بيرات، من قصيدة له يمدح فيها الإمام علي(ع) ويشيد بشجاعته في القتال يقول:

حين يمتطي علي الدُلدل

تهلع قلوب الكفار من الرعب

أنت صاحب (ذو الفقار)

الذي يحتقر كل منكر

ويقطع رأس كل كافر(21)..

وإذا يمننا وجهنا إلى باكستان وجدنا الشاعر محمد اقبال لا ينفك يذكر علياً(ع) في الكثير من اشعاره، لأن علياً عند اقبال صورة الإنسان القرآني الكامل الذي يرنو إليه محاولاً اقتداءه والتأسي به.. والشاعر يغترف الكثير من المأثورات الصوفية في اشعاره..

يقول اقبال:

اجعل القلوب مركز الحب والاخلاص

لتعرف الحرم الإلهي

هذا الذي اعطيته رغيف الشعير

اعطه أيضا قوة حيدر(22)..

وحيدر من أسماء الإمام(ع)..

وله أيضا..

عليٌّ قلب يقظان

القلب اليقظان مثل حجر الفلاسفة يحول هذا النحاس إلى إنسان

ابدع لك قلباً يقظان،

فما دام القلب غافيا

فستبقى ضربة عصاك دون جدوى

وستبقى ضربة عصاي دون جدوى(23)..

وله أيضا..

هذا النزاع بين الدين والدولة أشد قسوة من نزاع خيبر

هل فينا الآن مثل علي ذي الكرّات التي تتجدد كل حين؟(24)

وله من قصيدة في بيان أن سيدة النساء فاطمة الزهراء(ع) اسوة كاملة للنساء المسلمات يذكر فيها علياً(ع)

وهي زوج المرتضى ذا البطل أســـد الله الحكيـــم الفيــصــل

ملكٌ في الكوفة زهداً قد أقــامْ كلّ ما يملك درعٌ وحسام(25)

ونعود إلى الشعراء الناطقين بالضاد، ونقرأ للشاعرة العراقية آمال الزهاوي من قصيدة لها حملت عنوان (جدران الزنبق) في ديوانها الطارقون بحار الموت.. تقول الشاعرة..

لكن الأرض برائحة الاثم تفوح

تهتز على ظلامتها، فتنوح

حيدر.. حيدر.. حيدر

نحن الماشين على الاحزان صباحاً

نجتر نيوب الدنيا

تتوهج مثل كرات الدمع

تبحث عن ألم الوقع

عن رؤيا تهتز جراحاً

كي نبكي موت الصدفة

ونهيل الليل بأرض الشهداء

حيدر.. حيدر.. حيدر

في القصيدة اسقاط للرمز العلوي، وما يعنيه من دلالات حول الشهادة،

وعلاقته بالإنسان المعاصر والواقع المعاش..

وللشاعر محمد علي حسن من قصيدة حملت عنوان (الدم الفرقان) واصفاً فيه واقعة الطف، يذكر علياً(ع) بقوله:

يخطّ الفداء الصرف فكرَ محمــــد وسيفُ عليٍّ.. فالوغى السيف والفكر

لئن شابت الأيامُ، والزمن انحنى فنزف عليّ المرتضى أبـداً بكــرُ(26)

وللشاعرة الكويتية سعاد الصباح من قصيدة تصف فيها أطفال الحجارة في فلسطين..

افرشوا السجاد.. والورد لأطفال الحجارة

واغمروهم بالزهر

إن اسرائيل بيت من زجاج وانكسر

ولقد يظهر فيما بينهم

وجه علي...

قاومي أيتها الأيدي الجميلة

قاومي أيتها الأيدي التي بللها ماء الطفولة(27)..

وللشاعر اللبناني الأمير (أمين آل ناصر الدين) من قصيدة يذكر فيها الإمام علي(ع):

سالت نفوس زكت إذ سال منك دم والكعبة انصدعت واسترجــع الــحـــرم

يا هذا (النجف) المحمي من بلــــد فيـــه ضــريحــــك للــــزوار معــتصــــم

كأنما النور يبـدو مـــن جــوانبــــه وحولـــه مكـــرمـــات العــرب تنتـظــــم

وما (البلاغة) إلا مــا سننــتَ بـــه (نهجاً) عليه المعاني الغر تزدحم(28)

وللشاعر السوري انور العطار من قصيدة حملت عنوان (سلام على النجف الأطيب) يقول فيها:

(علي) ويــا سحـر هذا النـداء واعجب بروعــــــــتـــه اعجـــــب

تحن إليك القلـــوب اللهـــــاف حنيـــن الصغــــار لجنــــــح الأب

إذا اغطش الليل كنت الشعاع وكنـت رجـــاء الغـــــد الأصعــــب

وكنت الحنان ورمـــز النـــدى وكنـت المعيـــن علـــى المذهـــب

ولم لا وأنــت رفيـــق النبــــي وأنت شــذا الطهـــر مـــن يثــرب

وأنت قريش العلى والبطـــاح وأنت مدى السؤل والمأرب(29)

وللشاعر البحريني قاسم حداد من قصيدة طويلة حمل الديوان اسمها وهي (النهروان) يقول فيها..

...رأيته يتداعى وينداح في بريق نصل غير ملجوم

رايته يوزع اطفاله للسم والعطش، ولا ينحني لغير

الصلاة

على الأرض يطوي وشيعته..

ورأيت الفجيعة تركض في بيت عليّ

سمعت الفجيعة سجادةً للصلاة

حكوا/ سوف يحكون

عن نهروان يجر السقيفة في موكبٍ خارجٍ

عن رماد مشى في تراث الخليفة

/ويحكون

فاصغوا

ولكن اعدوا جواباً لمؤودة سوف تسأل(30)..

ونختم هذه المختارات بقصيدة عنوانها (أنبيك عليّاً) للشاعر العراقي مظفر النواب.. يقول:

يا طير البرق القادم من جنات النخل بأحلامي

يا حامل وحي الغسق الغامض في الشرق

على ظلمة أيامي

أحمل لبلادي

حين ينام الناس سلامي

للخط الكوفي يتم صلاة الصبح

بأفريز جوامعها.. لشوارعها.. للصبر..

لعليٍّ يتوضأ بالسيف قبيل الفجر

أنبيك علياً!

ما زلنا نتوضأ بالذلّ

ونسمح بالخرقة حدّ السيفْ

ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيفْ

ما زالت عورة عمرو بن العاص معاصرةً

وتقبّح وجه التاريخ

وما زال كتاب الله يُعلّق بالرمح العربية

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:18 PM
الإمام علي صوت الحق والعدالة الإنسانية

يُعرف من الإنسان أنه سرعان ما يمل مما عنده وبين يديه من أي شيء حصّله أو امتلكه، فلا يلبث أن يبحث عن جديد وجديد أبداً. وما ذلك إلا لإشباع نفسه من توق ولهف إلى الأفضل أو رغبة في الأكمل وعندما لا يجد ما يروي ظمأه يبحث عن غيره لعله يجد ما يبل فؤاده به وهكذا حتى يصل إلى مطلوبه ومقصوده من الكمال كل بحسب طاقته وعقله وتفكيره ووعيه، أما الباحثون عن الكمال المطلق والذين لا يوقفهم المواقف الجيدة بل يتطلعون إلى الأرقى والأسمى ولا يرضون دون القمة العالية هم القلة القليلة من الناس ويستحقون إطلاق العظماء عليهم.

والإسلام يعطينا نماذج عن الإنسان الكامل الذي يعشق الكمال المطلق ولا يروق له إلا كل كامل ويجاهد ويكدح ويكد ويتعب ويتحمل ويبذل نفسه وماله وولده في سبيله، فتراه هادئاً مطمئناً بذكر حبيبه يتلذذ بمناجاته ويستعذب خلوته ويجتهد في التخلق بأخلاقه ومراعاة أحكامه وتطبيق شريعته.

وهو نموذج اعترف به أصحاب جميع الديانات والمذاهب وجميع العقلاء والمفكرين من أي ملة كان لما فيه من مزايا إنسانية وأخلاقية وروحية وشمائل جسمية عالية بل هو رحمة للعالمين وهو النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام) وأولاده الأئمة الطاهرون. وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين (عليها السلام).

والحديث عن شخصية الإمام علي (عليه السلام) كالحديث عن نور الشمس.

فبأي لفظ يعبر عنه؟ فإن كلمة علي وحدها تكفي لترسيم كل الفضائل الإنسانية أمام أعيننا. فهو سواء كان أمير المؤمنين وإمام المتقين أو الخليفة الراشدي الرابع أو إيليا أو طابا أو غيره من أسمائه وصفاته عند أصحاب الملل والمذاهب فهو إنسان كامل وعظيم لا أحد يستطيع إنكار فضله.

وهو الذي رفد الإنسانية بتركة علم غزير وثقافة إنسانية عالية وأخلاق رفيعة فهو القائل (عليه السلام) الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وهو القائل: (سلوني قبل أن تفقدوني).

وهو القائل: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا...

وله المواقف العظيمة والآثار الحميدة في حماية حقوق الإنسان من أي ملة أو دين كان وحرية الرأي وحقوق المرأة والطفل وتطور الحضارة الإنسانية، فما نقول في شخص أخفى أعداؤه فضائله حسداً، وأخفى أولياؤه فضائله خوفاً وحذراً، وظهر فيما بين هذين ما طبقت الشرق والغرب.

وعن الخليل الفراهيدي (احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل).

وعن الجاحظ قال: سمعت النظام يقول: (علي بن أبي طالب (عليه السلام) محنة للمتكلم، إن وفى حقه غلى، وإن بخسه حقّه أساء، والمنزلة الوسطى دقيقة الوزن، حادة اللسان صعبة الترقي إلا على الحاذق الزكي).

وعن ميخائيل نعيمة: بطولات الإمام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم، وتعبّده للحق إينما تجلى له الحق، هذه البطولات لا تزال غنياً نعود إليه اليوم وفي كل يوم..).

وعن شبلي شميل (الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة لم ير لها الشرق ولا الغرب، صورة طبق الأصل لا قديماً ولا حديثاً).

وعن عامر الشعبي قال تكلم أمير المؤمنين (عليه السلام) بتسع كلمات أرتجلهن ارتجالاً فقأن عيون البلاغة وأيتمن جواهر الحكمة وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن. ثلاث منها في المناجاة وثلاث منها في الحكمة وثلاث منها في الأدب. فأما اللاتي في المناجاة فقال: إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً أنت كما أحب فأجعلني كما تحب، وأما اللاتي في الحكمة فقال: قيمة كل أمرء ما يحسنه وما هلك امرء عرف قدره والمرء مخبوء تحت لسانه، واللاتي في الأدب فقال: امنن علي من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره..)

وعن جبران خليل (مات الإمام علي (عليه السلام) شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس بلدهم، والى قوم ليس بقومهم، في زمن ليس بزمنهم).

وهو لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان..

وعن جورج جرداق: في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها، مات علي شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه الشوق إلى ربه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى).

فموت مثل هذا الرجل تعتبر خسارة فادحة للإنسانية كلها، إذ تفقد الإنسانية من يرعى حقوقها ويسعى إلى كمالها ويتجه بها إلى العلى ويسرع خطاها نحو التكامل فمولده ببيت الله تعالى واستشهاده في بيت الله ومكان عبادته.

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:20 PM
لأول مرة في الأمم المتحدة الإمام علي مثال في حقوق الإنسان والعدالة يجب اتباعه


دعت الأمم المتحدة الدول العربية إلى اتخاذ القائد الإسلامي الإمام علي مثالاً لتشجيع المعرفة وتأسيس الدولة على مبادئ العدالة واحترام الإنسان، جاء ذلك في تقرير باللغة الإنجليزية اشتمل على أكثر من 160صفحة صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الخاص بحقوق الإنسان وتحسين البيئة والمعيشة والتعليم.

واشتمل التقرير على مقتطفات من الوصايا التي أوصى بها الإمام علي بن أبي طالب بن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال التقرير أن هذه التعاليم التي جاء بها الإمام علي كانت قبل أكثر من 1000سنة، لنشر العدالة المعرفة حقوق الإنسان.

وجاء في التقرير أن الدول العربية: لا تزال بعيدة عن عالم الديمقراطية ومنح تمثيل السكان، وعدم مشاركة المرأة قي شؤون الحياة، وبعيدة عن التطور وأساليب المعرفة...

وقال في التقرير السنوي لعام 2002م الخاص بتطوير الدول العربية والذي وزع على جميع دول العالم، وقد احتوى على (6) نقاط رئيسية أوصى بها الإمام علي بن أبي طالب حول كيفية الحكم المثالي.

واشتملت تلك التعاليم على ضرورة المشورة بين الحاكم والمحكوم، ومحاربة الفساد الإداري والمالي، والقضايا السيئة الأخرى وأن تمنح العدالة لجميع الناس، وتحقيق الإصلاحات الداخلية.

وأخذ التقرير الدولي مقتطفات من وصايا الإمام علي التي جاءت في الجزء الأول من نهج البلاغة الخاص برئيس الدولة، حينما أكد على:

أن مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، وَ لْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ، فمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَ مُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَ مُؤَدِّبِهِمْ ص672.

وفيما يخص فرض الضرائب واستصلاح الأراضي، وضرورة التنمية، ومحاربة الفقر، استعار التقرير الدولي نصائح الإمام التي وردت في النهج:

وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلابِ الْخَرَاجِ، لأَنَّ ذَلِكَ لا يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ، وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلادَ وَ أَهْلَكَ الْعِبَادَ … ص38.

أما عن التعليم فقد ورد في التقرير نصيحة الإمام إلى ممثله: وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ…ص605. وجاء في التقرير أيضا عن ضرورة الإفصاح عن قول الحق وعدم السكوت عن الباطل:

لا خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ،كَمَا أَنَّهُ لا خَيْرَ فِي الْقَوْلِ بِالْجَهْلِ … ص699.

وأما عن الصالحين وتواضع الحكام والنهي عن الإسراف في صرف الموارد، وضرورة تبيان الحقائق للشعب:

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، وَ مَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ، وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، وَ لا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ … ص440-441.

وعن أهمية التقدم العلمي أشار التقرير إلى نصيحة الإمام علي: ولا وعاء أفضل من العلم

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:21 PM
علي المرتضىبين الثنايا والولاء
د. محمود عكام

عليٌّ علا عند الله وعند رسوله، ومَنْ في العُلى كعليٍّ ؟.

والحديثُ عنه حديثٌ عن أمَّة قائمةٍ لله وبالله، فلا والله ما أفلحت الأمةُ إن عدَلت عن الوصيِّ الرضيِّ، ولا سعدت البريَّة إن تولَّت بعد النبيِّ(ص) غير علي أولاً، ولا علَتْ قيادةٌ إنسانيةٌ إن اتخذت سوى (ذو الفقار) راية.

وما الكلام هنا، يا سيِّدي الإمام، من محض عاطفة، بل العقل في غاية التفاعل والنشاط والقلب معهما في اطمئنان جم.


1) فاتحة:

- سؤالي الذي أردده هنا:

ما طبيعة الموقف الذي يجب تبنيه حيال الإمام المرتضى؟

وهو نفس السؤال الذي حوَّرتُه في داخلي عن الزَّهراء سيدة نساء العالمين، وكانت الإجابة يومها(ثناء) و(ولاء) وهي ذاتها - بلا ريب - هنا فلن يكون موقفنا مع زوج البتول إلا الثناء والولاء أيضاً.

والثناء: ذكر المحامد والمحاسن والتغني بها وتعبئة الوجدان والعاطفة بها.

والولاء: اقتداء نسيجه حب، وتضحية، وفداء، ونصرة للشخص والمنهج، وعهدٌ على الاتباع والوفاء.

- وها أنا هنا أستعرض ما ورد من(ثناء) على المرتضى(ع) على لسان سيِّد الناس وأفضلهم محمَّد(ص) ومن ثم سأحكي حكاية (الولاء) ضرورةً دينية إيمانية، لا مناص منها ولا محيد عنها.

2) شعاعٌ من ضياء الثناء:

لست في ذي الفقرة جامعاً لكل ما ورد عن النبي(ص) ثناءً في حق علي، لكنني اكتفيت بلُمَع وسردت بعضاً مما ورد، إقامةً للحجة على من قصَّر، ودعماً لمن ابتغى الرفعة في مقام الإيمان أكثر.

1- عن سهل بن سعد، أن النبي(ص) قال في غزوة خيبر: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) فتطاول الصحابة لها فقال النبي(ص) (أدعوا علياً) فأتي به أرمداً فبصق في عينيه ودفع الراية إليه(1).

2- عن سعد بن أبي وقاص أن النبي(ص) لما نزلت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب: 33).

دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي) (2).

3- عن زيد بن أرقم أن النبي(ص) قال لأصحابه يوماً: (إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن). وفي رواية (ألست أولى بكل مؤمن من نفسه) قالوا: صدقت يا رسول الله، ثم أخذ بيد علي فرفعها وقال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (3).

4- عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي(ص) قال لعلي: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي) (4).

5- عن البراء بن عازب، أن النبي(ص) قال لعلي: (أنت مني، وأنا منك) (5).

6- عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله(ص) قال لعلي(ع): (أنت أخي في الدنيا والآخرة) (6).

7- عن عائشة، أن محمداً رسول الله(ص) قال: (أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب) (7).

8- وقال رجل لسلمان الفارسي: ما أشدّ حبك لعلي؟ فقال سلمان: إن رسول الله(ص) قال: (من أحب علياً فقد أحبني ومن أبغض علياً فقد أبغضني) (8).

9- عن حبشيّ بن جُنادة، أن رسول الله(ص) قال: (علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي) (9).

10- وعن علي(ع) أن النبي(ص)قال: (يا علي أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي) (10).

3) الولاء لعلي(ع) المضمون والمؤيد:

هذا الولاء مضموناً ذو مستويين:

المستوى الأول: عاطفي إيماني يعني حباً وارتباطاً وتعلقاً ووداً، فلا والله ما تحقق إيمان بغير حب علي، ولا حسن إسلام من دون ارتباط بعلي، ولا جَمُل إحسان إن لم يود القلب علياً، ولا اتسمت عاطفتنا بالقرب من الله إن لم يكن في صفحة موضوعاتها علي.

من أجل هذا فلنعلن عهد الحب والارتباط والوداد لعلي، ولنقل إثر ذلك:

ليتنا في(صفين) لنقف في صفك يا أبا الحسن، وليتنا كنا في (الجمل) لنتجمل بالانتساب إلى ركن أبي تراب، وليتنا كنا في خلافتك يا والد السبطين، لنبايعك أميراً وخليفة وهادياً وإماماً، ليتنا كنا في عهدك وعصرك لنقول بملء أفواهنا: سلامٌ عليك يا عبد الله، ويا أخا رسول الله، ويا أيها الصدّيق الأكبر.

نعم، ليتنا كنا معك، لنفديك بأرواحنا يا وليَّ أولياء المسلمين.

المستوى الثاني: عمليٌ سلوكيٌ حركيٌ، يعني اعتماد قوله، وقبول رأيه، وطاعة أمره، والتزام فقهه، وكيف لا؟ وهو من قال عن نفسه: (بعثني رسول الله(ص) إلى اليمن وأنا شاب فقلت: يا رسول الله إنك تبعثني وأنا حديث السن لا علم لي بالقضاء، فقال الرسول(ص): (انطلق فإن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك) (11).

- وعلي(ع) أيضاً من قضى أمام رسول الله(ص) بأمر رسول الله(ص) فقد ورد أنه(ص) كان جالساً مع ثلة من أصحابه، فجاءه خصمان فقال أحدهما: يا رسول الله إن لي حماراً وإن لهذا بقرة، وإن بقرته قتلت حماري، فبدأ رجل من الحاضرين وقال: لا ضمان على البهائم، فقال النبي(ص): (اقضِ بينهما يا علي) فقال علي لهما: (أكانا مرسلين أم مشدودين، أم أحدهما مشدوداً والآخر مرسلاً؟) فقال: كان الحمار مشدوداً والبقرة مرسلة، وصاحبها معها، فقال علي(ع): (صاحب البقرة ضامن) فأمضى رسول الله(ص) قضاءه(12).

- وعلي(ع) كذلك من قال فيه المصطفى(ص): (أقضاكم علي) وفي رواية: (أقضى أمتي عليٌ) (13).

- وعلي(ع) هو المشهود له بالأعلمية بالسنة، فقد قالت عنه عائشة: (أما إنه لأعلم الناس بالسنة) (14).

وقال عمر بن الخطاب: (لا أبقاني الله في أرض ليس فيها أبو الحسن) و(أعوذ بالله من معضلة ولا أبو الحسن لها) و(علي أقضانا) (15).

- وعلي(ع) قال عنه النبي(ص) يوم عرضه على البتول(ع): (يا فاطمة أو ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً) (16).

- ولما سئل التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح: أكان أحد من أصحاب النبي أعلم من علي؟ أجاب قائلاً: لا والله ما أعلمه(17).

أفبعد هذه المؤيدات يماري عاقل في ضرورة الولاء العملي السلوكي لعلي(ع).

فيا علماء الأمة ويا فقهاءها: هيا معاً، أجمعوا أمركم على جمع فقه علي ومنهاجه وطريقته، وسنته، جمعاً موثقاً محققاً، واعتبروه، واتبعوه، وخذوا به مدعوين من قبل سيد الناس محمد(ص).

لا نفرق في ندائنا هذا بين أحد من فقهائنا، سنِّيهم وشيعيِّهم (فعليٌّ) يجمعنا، وهديه يوحدنا، وفقهه يمّتن أواصر الأخوة فيما بيننا.

(علي) يريد من الأمة اجتماع كلمة ووحدة صفّ.

فتعالوا يا قوم إلى (علي) لنعلو، وإلى (علي) لنسمو، وإلى(علي) لنصفو، وإلى (علي) لنختم سجل التفرقة ونغلقه، ونفتح صفحات اللقاء والتعاون والتباذل والتناصر، غير ناسين قول الحق جل شأنه: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) (آل عمران: 103).

فجزاك الله يا إمام الأئمة عن المسلمين كل خير، أديت الأمانة، ونصحت الناس، وها أنت ذا تقول واثقاً: (ركزت فيكم راية الإيمان، ووقفتكم على حدود الحلال والحرام، وألبستكم العافية من عدلي، وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي، وأريتكم كرائم الأخلاق من نفسي).

ونحن نقول: اللهم نعم، اللهم نعم، قولك صدق، وفعلك عدل، وجهادك إرضاء للديّان، فسلام الله عليك في الأولين، وفي الآخرين، وفي الدنيا، ويوم الدين.

4) نفحة من سيدي الإمام علي(ع):

يا صهرَ سيدِ ولدِ آدمَ، يا زوجَ سيِّدةِ نساء العالمين..

يا والد سَيدَيّ شباب أهل الجنة، يا إمامَ الأئمة..

في رحابكَ تلتحمُ الفضائل صفّاً يخدم شخصَك..

وتحت راياتك تتزاحم القيمُ، لتَشْرُفَ بالانتساب إلى جنابك..

وحولك تهفو الرجولةُ، راجيةً أن تنفخَ فيها بعضاً من روحك..

لتكونَ في سدْرَة الكمال إذ تكون وصفَك..

سيدي أيُّها الإمام:

أنتَ الحكمةُ عينُها، والشجاعةُ كلها، والبلاغةُ رأسُها، والأمانة أسُّها،

وأنت لا شكَ محكُّ إيمان المؤمنين، فمَن أحبَّكَ فهو المؤمنُ،

ومَنْ لا، فالنفاقُ رداؤه والذلُّ ركابُه.

حظيتَ بالوصاية فما أروعَكَ! ونلتَ كمالَ الولاية فمَا أعظمك!

منك نَسْلُ ختامِ النبَّوة، وفي ظلالك تحتمي الفُتوَّة،

فالفتى الحقُّ أنت، وموئلُ الشهامة والمروءة كذلك أنت.

سيدي:

لقد ولدتَ كبيراً، ولُذتَ بحمَى الرِّسالةِ كثيراً..

عبدتَ ربَّك حقاً منذ نشأتك..

ولجأت إليه وحدَه دون سواه في رخائك وشدَّتك..

ما توجهتَ أبداً إلى السِّوى، ولا كانت لك هفوةٌ لها سمَةُ الهَوَى..

فحاشاكَ حاشاكَ يا مُختارَ المختارِ، وسيِّدَ آلِ بيتِ النُّبوَّةِ الأطهار..

مدينةُ العلم أنتَ بابُها، وأمينُ سرها، والإمامةُ أبَتْ بتقدير اللهِ..

إلا أن تكون رُبَّانَها

فيا سيّدي يا نورَ العُيون، ويا سيِّدي يا زوجَ البَتول:

اقْبَلْ (محموداً) خادماً في عَتباتك، وأَملْهُ بعض بعضٍ مِنْ نظراتك..

فوَربِّ السَّماء والأرض إنِّي بك مكين..

وإذ أفديكَ بروحي وأهلي ومالي فإنّي لدَى الحقِّ من الفائزين..

سلامُ اللهِ على ذاتك، وبركاتُه على صفَاتك، وصلواته على سِرِّك..

يا روحَ أرواحِ الأولياء، وحقَّ حقيقة الأصفيَاء..

ويا بهجةَ وفاءِ الأوفياء..

وعليٌّ العُلا في عالم الإمامة والطهر والنَّقاء

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:23 PM
قراءة في كتاب: الإمام علي (ع) من المهد الى اللحد http://www.annabaa.org/nbanews/34/images/012.jpg(إن الله تعالى الذي هو على كل شي قدير، ولا يعجزه شيء شاء أن يظهر لعباده الفرد الكامل من خلقه ليريهم قدرته على الإبداع في الصنع ويبرهن لهم على أن من الممكن أن يقرب الله البشر الى أعلى درجة من الشرف يمكن للوجود أن يبلغها، فخلق الله محمداً (ص) وعلي بن أبي طالب (ع) ليكون كل واحد مثالاً كاملاً للقدرة الإلهية، وشاهداً حياً لأرقى موجود في مراتب الصعود).
نقرأ في (المقدمة) هذه السطور:
لا أعرف في قاموس اللغة العربية ألفاظاً كافية في التعريف والتعبير عن شخصية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أكتب هذا بقلم الواقع والحقيقة ويتجلى الحق الواضح لكل من يقرأ هذا الكتاب مجردّاً عن الاتجاهات.
كلمة (العظيم) لا تكفي لبيان عظمة الرجل، وخاصة بعد أن استعملت هذه الكلمة في الكثير ممن يستحق ذلك أو لا يستحق، مع العلم أن العظمة تتفاوت من حيث القلة والكثرة والضعف والشدة وكذلك سائر الصفات الحميدة التي يعبر عنها بالفضائل وينعت بها الرجال.
فكيف أستطيع أن أصف الإمام حق الوصف وأودي واجب المقام حق الأداء وأرفع في البيان درجة في الأداء، مع ذلك كله فالعجز عن التعبير لا يفارقني والأفضل أن نذكر حياة الإمام بكل بساطة، وتخيل إدراك الموقف وأهمية الحال الى فكرة القارئ وذهنه وفهمه الفطري.
ونقرأ تحت عنوان (الليلة الأولى) ضمن فقرة (علي وليد الكعبة) هذا التفصيل لما حدث من معجزة إلهية:
أحست السيدة فاطمة بنت أسد بوجع الولادة وهي في الشهر التاسع من الحمل وأقبلت الى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة ثم وقفت للدعاء والتضرع الى الله تعالى ليسهل عليها أمر الولادة، قائلة: يا رب أني مؤمنة بك وبكل كتاب أنزلته وبكل رسول أرسلته.. ومصدقة بكلامك وكلام جدي إبراهيم الخليل (ع) وقد بنى بيتك العتيق وأسألك بحق أنبيائك المرسلين، وملائكتك المقربين وبحق هذا الجنين الذي في أحشائي إلا يسرت عليّ ولادتي.
انتهى دعاء السيدة، وانشق جدار الكعبة من الجانب المسمى (بالمستجار) ودخلت السيدة فاطمة بنت أسد الى جوف الكعبة، وارتأب الصدع، وعادت الفتحة والتزقت وولدت السيدة ابنها علياً هناك.
من المعلوم أن للكعبة باباً يمكن منه الدخول والخروج ولكن الباب لم يفتح بل انشق الجدار ليكون ابلغ وأوضح وأدل على خرق العادة، وحتى لا يمكن إسناد الأمر الى الصدفة.
والغريب: أن الأثر لا يزال موجوداً على جدار الكعبة حتى اليوم بالرغم من تجدد بناء الكعبة في خلال هذه القرون، وقد ملأوا أثر الانشقاق بالفضة والاثر يرى بكل وضوح على الجدار المسمى بالمستجار والعدد الكثير من الحجاج يلتصقون بهذا الجدار ويتضرعون الى الله تعالى في حوائجهم.
وتطرق السيد الحميري في نظمه الى هذه المفخرة وهو من شعراء القرن الثاني وهو قوله:
وَلَدَتْهُ في حَرَمِ الإلهِ وأمْنِهِ والبيت حيث فناؤه والمسجدُ
بيضاءُ طاهرةُ الثياب كريمةٌ طابتْ وطابَ وليدُها والمولدَ
ما لُفَّ في خِرَقِ القوابل مثْلُه إلاّ ابن آمنة النبي محمدُ
ثم نقرأ تحت عنوان (الليلة السادسة) تحت عنوان (علي (ع) والجهاد) ضمن فقرة (علي (ع) يوم الخندق) هذا الموقف الجهادي الاسلامي الشهير:
تحزبت الأحزاب ضد رسول الله (ص) في مكة ضواحيها وقصدت المدينة لمحاربة رسول الله، ونزل جبرائيل على النبي وأخبره فاستشار النبي أصحابه فأشار عليه سلمان بحفر الخندق حول المدينة، فأقبل رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار، وحفروا الخندق، فلما فرغوا من حفر الخندق، وصل المشركون ونزلوا بالقرب من الخندق.
وخرج فوارس من قريش منهم: عمر بن عبد ودّ... وكان اسم الموضع الذي حفر فيه الخندق: المداد، وكان أول من طفره عمره وأصحابه..
وركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض وأقبل يجول حول، ويرتجز.
وذكر ابن اسحاق أن عمرو بن عبد بن ود كان ينادي من يبارز؟ فقال رسول الله (ص): من لهذا..؟ فلم يجبه أحد فقام علي (ع) فقال: أنا له يا نبي الله، فقال إنه عمرو، أجلس ونادى عمره: ألا رجل؟ وجعل يؤنبهم ويسبهم، ويقول أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ فقام علي (ع) فقال: أنا له يا رسول الله، فأمره النبي بالجلوس رعاية لابنته فاطمة التي كانت تبكي على جراحات علي (ع) يوم أحد، ثم نادى الثالثة فقال:
ولقد بححتُ من النداء بجمعكم هل من مبارز؟
إن السماحة والشجاعة في الفتى خير الغرائز
فقام علي (ع) فقال: يا رسول الله أنا فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمراص وأنا علي بن أبي طالب!! فاستأذن رسول الله (ص) فأذن له، وألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه سيفه ذو الفقار وعممه عمامة السحاب على رأسه تسعة أكوار (أدوار) ثم قال له: تقدّم فقال لما ولى: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه).
ثم قال: برز الإيمان كله الى الشر كله.
فقال عمرو: من أنت؟ وكان عمرو شيخاً كبيراً قد جاوز الثمانين، وكان نديم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي له.
فقال عمرو: أجل، لقد كان أبوك نديماً لي وصديقاً، فأرجع فإني لا أحب قتلك! فقال علي (ع): لكني أحب أن أقتلك! فقال عمرو: أرجع وراءك خير لك، ما آمن ابن عمك حين بعثك إلي..
فقال له علي (ع): قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة وأنت في النار، وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة.
فقال عمرو: كلتاهما لك يا علي؟
فقال علي (ع) إن قريشاً تتحدث عنك أنك قلت: لا يدعوني أحد الى ثلاث إلا أجيب، ولو إلى واحدة منها؟ قال: أجل
قال: فإني أدعوك الى الإسلام..
قال: دع هذه!!
قال: فإني أدعوك الى أن ترجع بمن يتبعك من قريش الى مكة..
قال: إذن تتحدث نساء قريش عني: أن غلاماً خدعني وأني جبنت، ورجعت على عقبي من الحرب، وخذلت قوماً رأسوني عليهم. قال فإني أدعوك الى البراز راجلاً، فجمى عمرو وقال: ما كنت أظن أحداً من العرب يرومها مني.
ثم نزل فعفر فرسه. وقيل ضرب وجه فرسه ففر ثم قصد نحو علي (ع) وضربه بالسيف على رأسه فأصاب السيف الدرقة فقطعها، ووصل السيف الى رأس علي (ع) فضربه علي (ع) على عاتقه فسقط، وثار العجاج والغبار، وأقبل علي ليقطع رأسه فجلس على صدره.. فقتله.
وجاء علي برأس عمرو الى رسول الله (ص) فتهلل وجه الرسول (ص) فقام أبو بكر وعمر بن الخطاب وقبلا رأسه، وكان علي (ع) يقول:
أنا علي وابن عبد المطلب الموت خير للفتى من الهرب
ولما قتل علي (ع) عمراً انهزم المشركون وانكسرت شوكتهم وكفى الله المؤمنين القتال بعلي (ع).
المؤلف: السيد محمد كاظم القزويني (قدس سره)
التوثيقات: الطبعة الخامسة عشر 1420هـ - 2000م
(289) صفحة من القطع الكبير
الناشر: دار القارئ للطباعة والنشر والتوزيع (بيروت – لبنان)

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:33 PM
اللهم صل على فاطمه وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك.......

هذا كم هائل من ابداعات امير المؤمنين ولكنه لايساوي قطرة في بحر من ابداعات هذا العملاق
لقد وجدت في الموضوع الكثير ولقد استفدت منه الكثير وعرفت الكثير
لذلك احببت ان انقله واطرحه هنا لتعم الفائده على الجميع

امل من ان تكونوا قد استفدتم

دمتم برعاية الزهراء

Dr.Zahra
05-10-2007, 04:35 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
مشكورين على الطرح الرائع عن الامام علي عليه السلام
الامام علي بن أبي طالب- عليه السلام- و ثقافة اللاعنف والتعايش من هنا (http://www.siironline.org/alabwab/derasat(01)/035.htm)
اللهم صل على فاطمه وابيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد مااحاط به علمك.......

الشكر لله اخي الكريم
شاكره مشاركتكم الكريمه في هذا الموضوع

دمتم برعاية الزهراء